تحرير الرأي المنسوب للإمامين الخليل وابن عرفة في معنى الأحرف السبعة
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والَاهُ، أمّا بعدُ:
فإنّ مراجعة أقوال العلماء والتدقيق في صحّة ما يُنْسَب إليهم وتنقية التراث الإسلامي مما لم يَثبت فيه النقل أو مما ثَبت وفُهِم على وجه الخطأ =أمْرٌ مُهِمٌّ جدًّا في البحث العلمي، ولا ريب في أنّ الخطأ في عزو الأقوال أو في فهمها قد يكون له أثـرٌ واختلافٌ في الأحكام، أو ربما نُسِب إلى العلماء الكبار الضعفُ والجهلُ والاضطرابُ بسبب الخطأ في فهمِ المذهب الـمَحْكِيِّ عنهم.
وسوف نَدْرُس في هذه المقالة الرأيَ المنسوبَ لعالِمَيْن كبيرَيْن في تفسير الأحرف السبعة بأنها القراءات السبع، وهَذان العالِمَانِ هما: الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 170هـ)، وابن عرفة المالكي (ت: 803هـ).
وليس غرضنا في هذه المقالة بيان هذا المذهب صحةً أو فسادًا، وإنما التحقيق في صِحَّةِ ما نُسِبَ إلى هَذين العالِمَيْن الجليلَيْن في بيان معنى الأحرف السبعة.
تمهيد:
كان لعلماء القراءات عباراتٌ شديدة في ذَمِّ مَن يقول بأنّ القراءات السبع هي الأحرف السبعة، فَنَجِدُ مكّيَّ بن أبي طالب (ت: 437هـ) يقول بأنّ مَن ظنَّ أن القراءات السبع هي الأحرف السبعة التي نصّ عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- فذلك منه غَلَطٌ عظيم[1]، وَنَسَبَ أبو الفضل الرازي (ت: 454هـ) هذا الرأيَ إلى أغبياء القرّاء والعوام[2].
وقال ابن الجزري (ت: 833هـ): «ونحنُ لا نحتاج إلى الردِّ على مَن قال إنّ القراءات السبع هي الأحرف السبعة؛ فإنّ هذا قول لم يَقُلْه أحدٌ من العلماء، لا كبير ولا صغير، وإنما هو شيء اتّبعه العلماء قديمًا وحديثًا في حكايته والرّدِّ عليه وتخطئة أنفسهم، وهو شيء يظنّه جهلة العوام لا غير؛ فإنهم يسمعون إنزال القرآن على سبعة أحرف وسبع روايات فيتخيَّلون ذلك لا غير، ونحن لا نُتْعِبُ أنفسَنا كما أتعب مَن قبلَنا أنفسَهم في ذِكْره أو الرّدِّ عليه»[3].
وهذا غَيْضٌ مِن فَيْضٍ مِن النقولات التي تدلّ على شناعة هذا الرأي وبطلانه عند علماء القراءات.
الرأي المنسوب للخليل بن أحمد الفراهيدي في معنى الأحرف السبعة:
نَسَبَ بعضُ العلماء المعاصرين إلى الخليل أنه يفسِّر الأحرف السبعة بأنها القراءات السبع المعروفة، ويبدو لي أن مذهب الخليل في تفسير الأحرف السبعة لم يُوَجَّهْ توجيهًا صحيحًا، ولعلِّي أذكرُ جملةً من أقوال العلماء المعاصرين في ذلك:
قال أمير عبد العزيز: «هو أنّ المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، وهو قول الخليل بن أحمد، وهو قولٌ ضعيف؛ فإنّ القراءات لا علاقة لها بالأحرف، بل إنها كلها مندرجة في الحرف الواحد من الأحرف السبعة، وهو الحرف الذي كَتَبَ عليه عثمانُ المصحف»[4].
وقال منّاع القطّان: «قال جماعة: إنّ المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، وحُكِي هذا عن الخليل بن أحمد، وأنه فَسَّر الحرف بالقراءة...»[5].
وقال الشيخ في مناقشة هذا القول: «ويُجاب عن الرأي السادس -الذي يرى أنّ المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع- بأنّ القرآن غير القراءات... قال أبو شامة: وقد ظنَّ جماعة ممن لا خبرة له بأصول هذا العلم أنّ قراءة هؤلاء الأئمة السبعة هى التي عَبَّر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أُنزِلَ القرآنُ على سبعةِ أحرف)؛ فقراءة كلّ واحد من هؤلاء حرف من تلك الأحرف»[6].
وقال عبد الرحمن المطرودي: «القول الثاني: إنّ المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، وهو قول الخليل بن أحمد... ويعتمد على أساسين، وهما؛ الأول: أنّ كلمة حرف تأتي بمعنى قراءة... الثاني: تدوين أبي بكر بن مجاهد، حيثُ اقتصَر فيه على قراءة ابن عامر، وابن كثير، وعاصم، وأبي عمرو، وحمزة، ونافع، والكِسَائي»[7].
ولعلّ هذا الوهم نشَأ بسبب الخطأ في فهم عبارة ابن عبد البر (ت: 463هـ)، والزركشي (ت: 794هـ) حينما نسَبَا هذا الرأي للخليل بن أحمد، فالتبَس على الدارِسين الأمْرُ:
قال ابن عبد البر: «وقد اختلفَ الناسُ في معنى هذا الحديث اختلافًا كبيرًا، فقال الخليل بن أحمد: معنى قوله: (سبعة أحرف) سبع قراءات، والحرف هاهنا القراءة»[8].
وقال الزركشي: «والثاني -وهو أضعفها- أنّ المرادَ سبع قراءات، وحُكي عن الخليل بن أحمد: والحرف هاهنا القراءة»[9].
ومِن الملاحَظ أنَّ المفهوم من ظاهر النصّ في هاتين العبارتين أنَّ الخليل يرى أن معنى قوله: (سبعة أحرف): سبع قراءات، ولم يرِد في كلام ابن عبد البر والزركشي ما يدلُّ على أنَّ مذهب الخليل هو أنَّ الأحرف السبعة هي عينها القراءات التي عُرِفَت فيما بعدُ واشتهرت بالقراءات السبع.
ومن المعلوم أنَّ مصطلح (القراءات السبع) لم يكن معروفًا في زمن الخليل، وأوّل مَن اقتصَر على هؤلاء السبعة أبو بكر بن مجاهد سنة ثلاثمائة. والظاهر أنَّ عِقْدَ القرّاء السبعة لم يكن مكتملًا بعدُ؛ فقد نَصَّت المصادر على أنّ الكسائيَّ أنشأ قراءته في بغداد أيام هارون الرشيد الذي تولّى الخلافة سنة 170هـ[10].
والزركشي نفسُه يقول: «ولا يُتَوَهَّمُ أنّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أُنزِل القرآنُ على سبعة أحرف)، انصرافُه إلى قراءة سبعة من القرّاء يُولَدُون من بعدِ عصر الصحابة بسنين كثيرة؛ لأنه يؤدِّي إلى أن يكون الخبر مُتَعرِّيًا عن فائدة إلى أن يُحدِثُوا، ويؤدِّي إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرؤُوا إلا بما علموا أنّ السبعة من القرّاء يختارونه، قال: وإنما ذكرناه لأنّ قومًا من العامة يتعلّقون به»[11].
فالذي يظهر لي أنَّ الزركشي يفرِّق بينَ الوَهْم الذي وقع فيه قومٌ من العامّة، والرأي المنسوب لإمام العربية الخليل، وإن كان يصفه بالضعف.
ويوضح ذلك قولُ السيوطي (ت: 911هـ): «الثالث: أنّ المراد بها سبع قراءات، وَتُعُقِّبَ بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تُقرأ على سبعة أوجه إلا القليل...»[12].
قال أستاذنا الدكتور غانم قدوري الحمد: «ويبدو لي أنّ قول الخليل في تفسير الأحرف لم يُفْهَمْ على ما أراد، ويترجّح عندي أنه أراد بقوله: (سبع قراءات): سبعة وجوه من القراءة، قال في العَين: (وكلُّ كلمة تُقرأ على وجوهٍ من القراءات تُسَمَّى حرفًا). ولعلّه يكون بهذا التفسير قد فتح بابًا لمَن جاء بعده من العلماء الذين حملوا (الأحرف السبعة) على سبعة أوجه من القراءة»[13].
وهذا الفهم الذي اقترحه شيخنا د. غانم لرأي الخليل هو التوجيه الصحيح اللائق بمكانة الخليل ومنزلته العلمية.
الرأي المنسوب لابن عرفة المالكي في معنى الأحرف السبعة:
لم أقِف على ذِكْرٍ لرأي ابن عرفة في مؤلَّفات العلماء المعاصرين فيما اطّلعتُ عليه، وإنما نَسَب هذا الرأي له تلامِذَتُه!
قال الأبي (ت: 827هـ): «كان شيخُنا أبو عبد الله بن عرفة يختارُ أنّ المرادَ بالأحرف المذكورة في حديث الأحرف قراءاتُ السبع اليوم، وقراءة يعقوب داخلة في ذلك؛ لأنه أخذها عن أبي عمرو...»[14].
وقال البسيلي (ت: 830هـ): «معنى حديث: (إنّ هذا القرآن أُنزِل على سبعة أحرف). قلتُ: كان شيخُنا ابن عرفة يفسِّرُها بالقراءات السبع المشهورة»[15].
وهذا مشكِلٌ لأن تلامِذَة الشيخ أعرف برأيه، ولكن لا يبدو لي لزوم توجيه قول ابن عرفة بفهم تلميذَيْه، ولعلّ ما جاء في النصّ الذي نقله البُرْزُلي (ت: 841هـ) عن شيخه ابن عرفة في مناقشته لابن لُبّ في جواز القراءة بقراءة الأعمش (ت: 148هـ): (وجنّات) بالضمّ، ما يَدْفَعُ ذلك الفهم عنه؛ إذ المفهوم من كلام ابن عرفة فيما نقله عنه تلميذه البُرْزُلي أنه لا يُنْكِرُ قول مَن قال بجواز القراءة بالقراءات الشاذة مما خرج عن النصّ العثماني في غير الصلاة... ويقول بأنّ الشاذّ على المعنى الثاني، (وهو ما لم يَقرأ به السبعة من الطرق المشهورة ولم يكن مخالفًا للنصّ العثماني)، فهذا لا يُقرأ به ابتداءً، وإذا وقع فالصلاةُ مُجزِيَة، واستدلّ بقول القاضي إسماعيل، وأنّ ذلك داخل في نزول القرآن على سبعة أحرف[16].
ويقول: «وأمّا قول الحاكم بينهما: ما خَرَجَ عن القراءات السبع فليس بقرآن، فمردودٌ بما تقدّم من رواية ابن وهب عن مالك، ولا يلزم مِن قول مَنْ قال لا يُقرأ بها في غير الصلاة أن يمنع تسميتها قرآنًا إلا بقيد كونه مُجْمَعًا عليه في مصحف عثمان، ولا يَلزم من صحّة نفيِهِ مقيدًا نفيُهُ مطلقًا ضرورة»[17]، وهذا نَصٌّ صريحٌ من ابن عرفة بعدم صحة القول بأنَّ ما خرج عن القراءات السبع فليس بقرآن، ومعنى قوله: «أن يمنع تسميتها قرآنًا إلا بقيد كونه مُجْمَعًا عليه في مصحف عثمان...»، أي أنّ الممنوع هو تسميته قرآنًا مجمعًا عليه، ولكن لا يَلزم منه عدم تسميته قرآنًا بدون قيد الإجماع، فهو قرآنٌ لكنْ ليس مجمعًا عليه.
ويرى ابنُ عرفة أن عثمان حرق ما خالف المصاحف العثمانية لا لكونه باطلًا، بل لأنه غيرُ مُجْمَعٍ عليه: «فنَسَخ منه عثمان -رضي الله عنه- سبع نُسَخ، وقيل: ستّ، وقيل: أربع، وبَعَث لكلِّ قُطرٍ نسخة، وحرق ما خالفها لا لكونه باطلًا، بل لكونه غيرَ مُجْمَعٍ عليه، ففي الشواذ ما هو صحيح لكنه غير مُجْمَع عليه، كمَا أنّ في الأحاديث الصحاح ما ليس في كتاب مسلم والبخاري...»[18].
وهذه النقول من البُرْزُلي عن ابن عرفة لا تتفق مع ظاهر ما ذكره البسيلي والأبي في أنه كان يرى أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع المعروفة.
وكنتُ قد وقفتُ على كلامٍ صريح لأبي الحسن عليّ القابسي (ت: 403هـ) في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف يشبه النصّ المنقول عن ابن عرفة، يقول فيه: «...فَبَيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (فاقرؤوا ما تيَسَّر منه)، أنها سبع قراءات، في كلِّ واحدةٍ منها ألفاظٌ مخالفة لِما في الأخرى... وقد تختلف الألفاظ في القراءة في كلمة، والمعنى فيها واحد. وقد تختلف المعاني فيها باختلاف الألفاظ في قراءتها»[19]. وهذا النصّ من القابِسي قد يُفْهَم على غير ما أراد أيضًا، وكلامه واضحٌ في الدلالة على أنَّه لم يُرِدْ بقوله: (سبع قراءات): القراءات السبع المشهورة.
وعليه فإنَّ نَصَّ ابن عرفة لا يخرج تفسيره عن ثلاثة احتمالات:
1) أنّ ابن عرفة كان يفسِّر الأحرف السبعة بالقراءات السبع المشهورة بالنسبة إلى زمانه، فالقراءات السبع عنده مُجمَعٌ عليها، فهي تمثِّل ما تبقَّى من الأحرف السبعة، لا أن القراءات السبع هي ذاتها الأحرف السبعة. والدليل على ذلك أنه لا ينفي احتمال صفة القرآنية حتى عن القراءات الشاذة الصحيحة الخارجة عن خط المصاحف العثمانية، والنصّ المنقول عنه صريح في أنّ القولَ بأنّ ما خرج عن القراءات السبع فليس بقرآن؛ قولٌ مردود.
2) أن المقصود بالقراءات السبع سبعة وجوه من القراءة، ولم أقف على نصّ صريح أو دليل يدلّ على ذلك.
3) أنه يرى أنّ الأحرفَ السبعة التي نصّ عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي عينها القراءاتُ السبع المعروفة، وهذا قول مردود، وإذا صحّ ذلك عنه فهذا من زلّاته رحمه الله وغفر له.
ويترجّح عندي الاحتمال الأوّل؛ إِذْ من المعلوم أنَّ القراءات المقطوع بصحّتها هي من الأحرف السبعة، لا أنّ القراءات السبع هي ذاتها الأحرف السبعة، ولا تعارُض بين الاحتمال الأول والثاني، وأمّا الاحتمال الثالث فتنقضه النصوص الأخرى المنقولة عن ابن عرفة، ثم إنَّ هذا الاحتمال الضعيف غير لائقٍ بمنزلةِ عالِـمٍ كبيرٍ كابن عرفة، والله أعلم.
خاتمة:
ناقَشْنا في هذه المقالة الرأيَ المنسوبَ للإمامَيْن الخليل بن أحمد وابن عرفة في معنى الأحرف السبعة، وَبَيَّنَّا خُلاصَةَ ما بَدَا لنا من توجيهٍ لرأي هَذين العالِمَيْنِ الجليلَيْنِ، الأمر الذي يبيّن لنا أهمية متابعة تحرير آراء العلماء في المسائل الكبرى، وأن الأقوال السيَّارة المشتهرة في التعبير عن آرائهم قد تكون مُشْكِلةً أو غيرَ صحيحة النسبة إليهم.
[1] الإبانة عن معاني القراءات، ص38.
[2] معاني الأحرف السبعة، ص323.
[3] منجد المقرئين ومرشد الطالبين، ص181- 182.
[4] دراسات في علوم القرآن، ص86.
[5] نزول القرآن على سبعة أحرف، ص72.
[6] نزول القرآن على سبعة أحرف، ص90- 93.
[7] الأحرف القرآنية السبعة، ص23.
[8] التمهيد (8/ 274)
[9] البرهان في علوم القرآن (1/ 214).
[10] ينظر: الفهرست، ابن النديم، ص45. وتاريخ مدينة السلام، الخطيب البغدادي (16/ 9).
[11] البرهان في علوم القرآن (1/ 330).
[12] الإتقان في علوم القرآن (1/ 165).
[13] الأجوبة العلمية على أسئلة ملتقى أهل التفسير، ص26.
[14] إكمال إكمال المعلم (2/ 427).
[15] نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد (1/ 30).
[16] فتاوى البرزلي (1/ 399- 402)
[17] فتاوى البرزلي (6/ 257)
[18] تفسير ابن عرفة (4/ 278)
[19] الرسالة المفصلة، ص179.