نقد الأخبار والإسرائيليات عند ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز)
لقد كانت لابن عطية انتقادات لكثيرٍ من الإسرائيليات، وتنوّعت طريقته معها نقلًا ونقدًا، وسكوتًا وردًّا، تصحيحًا وتضعيفًا، ومن خلال التتبّع لمواطن القصص والأخبار في تفسيره يمكننا تحديد المعالم الرئيسة لطريقته في التعامل مع الإسرائيليات والقصص في النقاط الآتية:
1) انتقاد ما لم يثبت سنده لناقله:
كان الإسناد من أهمّ الأمور التي اعتمد ابن عطية عليها في نقده؛ فقد انتقد كثيرًا من الأخبار والإسرائيليات بسبب ضعفِ إسنادها لناقلها، أو عدم وجود إسنادٍ لها.
ومعلوم أنّ الإسرائيليات يكتنفها جانبان: جانب الناقل، وجانب المنقول؛ أمّا الناقل من الصحابة أو غيرهم فيُعنَى ببيان ثبوت إسناد المنقول إليه، أو عدم ثبوته عند الحاجة لذلك. وأمّا المنقول فلا يؤثّر فيه ثبوت الإسناد لقائله، أو عدم ثبوته؛ لكون المقياس الذي يُحكم به عليه هو موافقة المنقول للشرع أو عدم موافقته، وليس الإسناد.
وهذا أمر ضروري جدًّا لفهم المحلّ الذي يتنزّل عليه انتقاد ابن عطية للإسرائيليات خاصّة.
والمتأمّل في صنيعه يلحظ أنّ ضَعْف بعض أسانيد الإسرائيليات لم يكن مانعًا له من الاستفادة منها، أو من بعض ما اشتملت عليه وتضمّنته؛ فقد قال في موطن من المواطن: «وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية، وذلك كلّه ليِّن الأسانيد؛ فلذلك انتقيت منه ما تنفَكّ به الآية، وتُعْلَم به مناقِلُ النازلة، واختصرتُ سائر ذلك»[1].
فهو رغم معرفته بضعفِ أسانيدها، بل ونصّه على لِينها، إلا أنّ ذلك لم يكن مانعًا له من الاستفادة منها فيما تنفَكّ به الآية وتتضح به معانيها، وفي هذا دليل على تفريقه بين ضعفِ السند وضعف المعنى.
والأمثلة التي تبيِّن اعتباره للإسناد في انتقاد الأخبار كثيرة؛ منها:
ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: 34]؛ قال: «ورُوي أنّ الله تعالى خَلَقَ خلقًا وأمَرَهُم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار، ثم خَلَقَ آخرين وأمَرَهُم بذلك فعصوا فأحرقهم، ثم خَلَقَ الملائكة فأمَرَهُم بذلك فسجدوا.
قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-: والإسناد في مثل هذا غير وثيق»[2].
ولـمّا حكى اختلاف المفسّرين في المراد من الأوّلية في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96]؛ قال: «واختلف المفسِّرون في معنى هذه الأوّلية التي في قوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾؛ فقال عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: معنى الآية أنّ أوّل بيت وُضع مباركًا وهُدًى هذا البيت الذي ببكة، وقد كانت قبله بيوتٌ لم تُوضَع وَضْعَهُ من البركة والهُدى، وقال قوم: بل هو أوّل بيت خَلَقَ اللهُ تعالى، ومن تحته دُحِيَت الأرض.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: ورُوِيَت في هذا أقاصيص -من نزول آدم به من الجنة، ومن تحديد ما بين خلقهِ ودَحْوِ الأرض، ونحو ما قال الزجاج: من أنه البيت المعمور- أسانيدها ضعاف؛ فلذلك تركتها»[3].
٢) انتقاد ما خالف القرآن والسُّنة:
كان ابن عطية ينتقد من الأخبار والقصص ما خالَف القرآن والسُّنّة؛ فقد كان ينقل بعض الروايات والقصص، ثم يستبعدها أو يستبعد بعض ما تضمّنته من المعاني والأقوال؛ لكون الآيات والأحاديث النبوية تفيد خلاف ما أفادته الروايات، أو لكونها لا تدلّ على المعنى المذكور؛ لا مطابقةً، ولا تضمُّنًا، ولا لُزومًا.
فمن ذلك: ما ذكره في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: 127]؛ قال: «قال عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «رفعها إبراهيم، وإسماعيل طفل صغير.
قال القاضي أبو محمد: ولا يصح هذا عن عليّ رضي الله عنه؛ لأنّ الآية والآثار تردُّه»[4].
وفي قوله تعالى عن موسى -عليه السلام-: ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾[الأعراف: 150]؛ قال: «وأخذه برأس أخيه ولحيته من الخُلُق المذكور -يعني: الغضب- هذا ظاهر اللفظ، ورُوي أن ذلك إنما كان ليُسَارّه، فخشي هارون أن يتوهّم الناظرُ إليهما أنه لغضب؛ فلذلك نهاه ورغب إليه.
قال القاضي أبو محمد: وهذ ضعيف، والأول هو الصحيح؛ لقوله: ﴿إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: 94][5].
وفي قوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ [يوسف: 26]؛ قال ابن عطية: «وقيل: إنّ الشاهد كان طفلًا في المهد فتكلّم بهذا، قاله -أيضًا- ابن عباس، وأبو هريرة، وابن جبير، وهلال بن يساف، والضحّاك». قال القاضي أبو محمد: «ومما يُضعِف هذا أن في صحيح البخاري ومسلم: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء الذي تمنّت له أن يكون كالفاجر الجبّار»[6].
3) انتقاد ما خالف الإجماع:
انتقد ابن عطية بعض الأخبار والإسرائيليات التي خالفت الإجماع، ولم أقف له في تفسيره إلا على هذا المثال في سياق الحديث عن سجود الملائكة لآدم -عليه السلام-؛ فقد قال: «وقال قوم: سجود الملائكة كان مرتين، والإجماع يردُّ هذا»[7].
4) انتقاد ما خالف منطق العقل:
من أهم المقاييس النقدية التي اعتمدها ابن عطية في انتقاد الإسرائيليات والقصص =انتقاد ما خالف دلالة العقل؛ فانتقد المبالغات والخرافات التي تتفق العقول على استحالتها، وردّ المرويات التي يأباها منطق العقل السليم ويمنعها.
فمن أمثلة ذلك:
انتقاد ابن عطية للإسرائيليات المروية في وصف عصا موسى -عليه السلام-، قال: «ورُوي أن موسى -عليه السلام- لـمّا كان يوم الجمع خرج متّكئًا على عصاه، ويده في يد أخيه، وقد صُفَّ له السحرة في عدد عظيم حسبما ذُكر، فلما ألقوا واسترهبوا أَوْحَى الله إليه، فألقَى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فعَظُمَ حتى كان كالجبل، وقيل: إنه طال حتى جاز النيل، وقيل: كان الجمع بالإسكندرية وطال حتى جاز مدينة البحيرة، وقيل: كان الجمع بمصر، وإنه طال حتى جاز بذَنَبه بحر القُلزم. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول بعيد من الصواب، مُفرِط الإغراق، لا ينبغي أن يُلتفَت إليه»[8].
فقد بَيَّن ابن عطية أن هذه الإسرائيليات بعيدة تمامًا عن الحقّ، وأنه لا ينبغى لطالب العلم الالتفات إليها، فضلًا عن الاغترار بها.
وفي قصة (قارون) قال: «وأكثرَ المفسِّرون في شأن (قارون)؛ فرُوي عن خيثمة أنه قال: نجد في الإنجيل مكتوبًا أنّ مفاتيح (قارون) كانت من جلود الإبل، وكان المفتاح من نصف شبر، وكانت وِقر[9] ستين بعيرًا أو بغلًا، لكلّ مفتاح كنز.
قال الفقيه الإمام القاضي: ورُوي غير هذا مما يقرب منه، وذلك كلّه ضعيف، والنظر يشهد بفساد هذا، ومَن كان الذي يميز بعضها عن بعض، وما الداعي إلى هذا، وفي الممكن أن ترجع كلها إلى ما يُحصَى ويُقدَر على حصرِه بسهولة؟!»[10].
5) انتقاد ما خالف الواقع المُشاهَد:
انتقد ابن عطية بعض الإسرائيليات لمخالفتها للواقع الـمُشاهَد، وجعل هذا دليلًا على بطلانها وتهافتها؛ ففي قصة الجبارين وما رُوي في شأنهم قال: «وحَكَى الطبري أن طول عُوج[11] ثمانمائة ذراع، وحُكِيَ عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: لما خرّ كان جسرًا على النيل سَنة. قال القاضي أبو محمد: والنيل ليس في تلك الأقطار، وهذا كلّه ضعيف، والله أعلم»[12].
وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: 46]؛ قال ابن عطية: «وحَكَى الطبري عن بعض المفسِّرين أنهم جعلوا هذه الآية إشارة إلى ما فعل نمرود؛ إذ علّق التابوت من الأنْسُر ورفع لها اللحم في أطراف الرماح بعد أن أجاعها، ودخل هو وحاجبه في التابوت فعَلَتْ بهما الأنسُر حتى قال له نمرود: ماذا ترى؟ قال: أرى بحرًا وجزيرة -يريد الدنيا المعمورة- ثم قال: ماذا ترى؟ قال: أرى غمامًا ولا أرى جبلًا، فكأنّ الجبال زالت عن نظر العين بهذا المكر، وذكر ذلك عن عليّ بن أبي طالب.
وذلك عندي لا يصح عن عليّ رضي الله عنه، وفي هذه القصة كلِّها ضعفٌ من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسُر كما وَصَف، وبعيد أن يغرّر أحد بنفسه في مثل هذا»[13].
6) ذكر الاختلاف بين الروايات والقصص وتوجيهه:
كان ابن عطية ينقل الاختلاف بين الروايات الإسرائيلية، وينسب كلّ رواية لناقلها، ويُوازِن بين الروايات، ويوجّه ما يُشكِل منها، ويعدّد الاحتمالات التي تحتملها الآية بناء على الأخبار المنقولة، وينتقد ما استبطنته بعض الروايات من معانٍ مُستنكَرة. ومن أهمّ ما أَوْلاه ابن عطية عناية واهتمامًا في ذكر الاختلاف بين الروايات الإسرائيلية:
● تعديد الاحتمالات في الآية بحسب اختلاف الروايات الإسرائيلية:
فمن ذلك: ذِكر عدّة معانٍ للاستفهام بحسب اختلاف الروايات والأخبار المنقولة؛ ففي قوله تعالى إخبارًا عن الملائكة قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30]؛ نقل ابن عطية عدّة روايات، ثم ذكر في رواية منها عدّة معانٍ للاستفهام، فقال: «قال ابن زيد وغيره: إنّ الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يُفسِدُون ويَسفِكُون الدماء؛ فقالوا لذلك هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: فهذا إمّا على طريق التعجّب مِن استخلاف الله مَن يعصيه، أو مِن عصيان مَن يستخلفه الله في أرضه ويُنعِم عليه بذلك، وإمّا على طريق الاستِعظام والإكبار للفصلَيْن جميعًا: الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأَت وعلمَت ما كان من إفساد الجنّ، وسفكهم الدماء في الأرض؛ فجاء قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ الآية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة على طريقة مَن تقدّم من الجنّ أم لا؟ وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقًا يُفسِدُون ويَسفِكُون الدماء، فلمّا قال لهم بعد ذلك: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾، قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ الآية، على جهة الاسترشاد والاستعلام، هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلَمَهُم به قبلُ أو غيرُه؟»[14].
● ومن ذلك أيضًا: توجيه الاستثناء بحسب اختلاف الروايات المنقولة:
ففي قوله تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]؛ قال: «﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ نصبٌ على الاستثناء المتصل؛ لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازنًا ومَلَكًا على سماء الدنيا والأرض، واسمه (عزازيل) قاله ابن عباس، وقال ابن زيد والحسن: هو أبو الجنّ كما أنّ آدم أبو البشر، ولم يكن قط مَلَكًا، وقد رُوي نحوه عن ابن عباس -أيضًا- قال: واسمه (الحارث). وقال شهر بن حوشب: كان من الجنّ الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسَبَوْه صغيرًا وتعبَّد وخُوطب معها. وحكاه الطبري عن ابن مسعود، والاستثناء على هذه الأقوال منقطع»[15].
● بيان أنّ كثيرًا من الإسرائيليات ليس له ما يستند إليه:
اعتنى ابن عطية بعد ذكر الاختلاف بين الروايات الإسرائيلية ببيان أن كثيرًا من الإسرائيليات لا يستند إلى شيء يعضده أو يقويه.
فمن ذلك: قوله بعد حكايته الاختلاف في عدد سحرة فرعون: «وهذه الأقوال ليس لها سند يوقَف عنده»[16].
وقال بعد حكايته لبعض ما رُوي في كيفيات نزول المائدة: «وكثر الناس في قصص هذه المائدة بما رأيتُ اختصاره لعدم سنده»[17]. وقال بعد حكايته للاختلاف في اسم فرعون: «ولا صحة لشيء من ذلك»[18].
7) ترجيحه بين الروايات والقصص أو توقّفه عن الترجيح:
لقد سَلَكَ ابنُ عطية عند تعدّد الروايات الإسرائيلية وتعارضها مسلك الترجيح بينها عند وجود مسوِّغات وقرائن يستند إليها ترجيحه؛ فإنْ تعذَّرَ ذلك توقَّفَ عن الترجيح، ويمكننا بيان هذا المسلك عند ابن عطية من خلال ما يأتي:
● ترجيح ما أيّدته القرائن من الروايات:
ففي قصة نزول المائدة أورد خلافًا حول قول الـحواريـين لعيسى -عليه السلام-: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: 112]، وهل كان هذا قبل إيمانهم بعيسى وما معه من آيات أم كان بعد إيمانهم؟ وذلك لِمَا يُشعِر به ظاهر اللفظ من أن يكون إنكارًا منهم لقُدرة الله، فسَاق الاختلاف في ذلك ثم قال: ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾، معناه: يَسكُنُ فِكرُنا في أمرك بالمعاينة لأمرٍ نازل من السماء بأعيُننا، ﴿وَنَعْلَمَ﴾ عِلْم الضرورة والمشاهَدة ﴿أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾، فلا تعترضنا الشُّبَه التي تَعْرِض في علمِ الاستدلال. قال القاضي أبو محمد: «وبهذا يترجّح قول من قال: كان هذا قبل عِلمهم بآياته، ويدلّ -أيضًا- على ذلك: أنّ وَحْيَ الله إليهم أنْ آمِنوا إنما كان في صدرِ الأمر، وعند ذلك قالوا هذه المقالة، ثم آمَنوا ورَأوا الآيات واستمرّوا وصبروا، وهَلك مَن كَفَر»[19].
وفي قوله -تعالى- عن إسماعيل -عليه السلام-: ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ [مريم: 54]؛ قال ابن عطية: «ووَصَفَه الله تعالى بـ(صِدْقِ الوَعْدِ)؛ لأنه كان مُبالِغًا في ذلك، رُوي أنه وَعَدَ رجلًا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء الرجل فقال له: ما زلت هنا في انتظارك منذ أمس. وفي كتاب ابن سلام[20] أنه انتظره سنة، وهذا بعيد غير صحيح، والأول أصحّ، وقد فعل مثله نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يُبعث. ذكره النقاش وخرّجه الترمذي وغيره[21]، وذلك في مبايعة وتجارة»[22].
● الاستئناس ببعض الأخبار والقصص المروية لترجيح قول من الأقوال:
أيّد ابن عطية صحة بعض الأقوال ببعض الأخبار والمرويات، ورجّحها على أقوال أخرى مغايرة لها؛ ففي قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: 15]؛ قال: «وقوله: ﴿أَلْقَى﴾ الآية، قال المتأوِّلون: أَلْقَى بمعنى خَلَقَ وجَعَل. قال القاضي أبو محمد: وهي عندي أخَصُّ من (خَلَقَ وجَعَل)؛ وذلك أن (أَلْقَى) تقتضي أنّ الله أحدثَ الجبال ليس من الأرض لكن من قُدرته واختراعه، ويؤيّد هذا النظر ما رُوي في القصص عن الحسن عن قيس بن عباد: أن الله تعالى لـمّا خَلَقَ الأرض، وجَعَلَتْ تَمُور، فقالت الملائكة: ما هذه بمقِرَّة على ظهرها أحدًا، فأصبحَتْ ضُحًى وفيها رواسيها»[23].
● ترجيح معنى مغاير لما تضمّنته الروايات الإسرائيلية:
ذكر ابن عطية اختلافًا بين الروايات الإسرائيلية في السبب الذي مِن أجلِه أُمِرَ موسى -عليه السلام- بخلع نعليه، ثم ذكر قولًا آخر غير وارد في الإسرائيليات مرجحًا له.
فقد ذكر قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ [طه: 12]، ثم ذكر اختلاف المتأوِّلين في السبب الذي من أجلِه أُمِرَ بخلع النعلَيْن؛ فقالت فِرقة: كانتا من جلدِ حمارٍ ميِّت فأُمِر بطرحِ النجاسة، وقالت فرقة: بل كانت نعلاه من جلدِ بقرةٍ ذُكِّي، لكن أُمِر بخلعهما لينال بركة الوادي المقدّس وتمسّ قدماه تربة الوادي، ثم ذَكَر احتمالًا آخر لم تأتِ به تلك الإسرائيليات، ورجّحه عليها؛ فقال: «وتحتمل الآية معنى آخر هو الألْيَق بها عندي، وذلك أنّ الله -تعالى- أمَرَهُ أن يتواضع لعِظَمِ الحال التي حصل فيها، والعُرْفُ عند الملوك أن تُخلَع النعلان، ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأنّ موسى بذلك على هذا الوجه، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتةٍ أو غيرها»[24].
● التوقّف عن الترجيح:
كان ابن عطية يتوقف في الحُكم على بعض الأخبار والإسرائيليات؛ بعدم قيام القرائن الكافية التي ترجّح صدقها أو كذبها، وكثيرًا ما كان يفعل ذلك في الأخبار التي لا يمكن تصديقها ولا تكذيبها.
ففي قوله -تعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: 260]؛ نقل ابن عطية عن ابن جريج والسدّي: أنه -عليه السلام- أُمِرَ أن يجعلها على الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابّة تطير إليها، وتسير نحوها وتتفرّق فيها، قالا: وكانت سبعة أَجبُل، فكذلك جزَّأ ذلك المقطَّع من لحم الطير سبعة أجزاء، وقال مجاهد: بل أُمِر أن يجعل على كلّ جبل يليه جزءًا.
قال الطبري: معناه دون أن تُحصَر الجبالُ بعددٍ؛ بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وَقْت تكليفِ الله إياه تفريقَ ذلك فيها؛ لأنّ الكلّ لفظٌ يدُلّ على الإحاطة.
قال القاضي أبو محمد: وبعيد أن يكلَّف جميع جبال الدنيا؛ فلن يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيدًا متمكنًا، والله أعلم أي ذلك كان»[25].
وفي قصة موسى -عليه السلام- مع سحرة فرعون قال: «والظاهر من الآيات والقصص في كتب المفسِّرين أنّ الحِبال والعصِيّ كانت تنتقل بحِيَلِ السحر، وبدَسِّ الأجسام الثقيلة الميّاعة فيها، وكان تحرُّكُها يشبه تحرُّك الذي له إرادة كالحيوان، وهو السعي؛ فإنه لا يوصَف بالسعي إلا مَن يمشي من الحيوان، وذهب قوم إلى أنها لم تكن تتحرّك، لكنهم سحروا أعين الناس، وكان الناظر يخيّل إليه أنها تتحرّك وتنتقل، وهذا يحتمل، والله أعلم أيّ ذلك كان»[26].
8) بيان عدم ثبوت المعاني المُستنكَرة عن الصحابة أو مَن دونهم من الأئمة:
كان الإمام ابن عطية حريصًا على بيان ضعف المرويات المنسوبة لأحد السَّلَف، خاصّة عند كون الرواية مشتملة على معانٍ مُستنكَرة شرعًا أو عقلًا؛ لِـما في تركها دون بيان لذلك من تلبيس على قارئها؛ إِذْ يتوهّم ثبوتها عن الصحابي أو عمّن دونه، فيقبلها على عواهنها، أو يستبعد ويستبشع معناها فيُشنِّع على راويها روايته لها، فكان لزامًا بيان عدم ثبوتها عمّن رواها تبرئةً لمقامه، ودفعًا للاغترار بنسبة الرواية إليه.
ومن الملاحَظ: أنه لم يعتنِ بثبوتها أو عدم ثبوتها عند خلوّها مما يُستنكَر؛ ولذا فقد رَوى كثيرًا من الأخبار والإسرائيليات عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين، ولم يعتنِ ببيان ثبوتها عنهم أو عدم ثبوتها؛ إمّا لكونها موافقةً للشرع، وإمّا لكونها مما لا يُصدَّق أو يُكذَّب.
والأمثلة التي تبيِّن منهجه في ذلك كثيرة؛ منها:
ما ذكره في معرض تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35]؛ فقد ذَكَر أخبارًا كثيرةً في نوع الشجرة، ولم يعلّق عليها بتصحيح أو تضعيف، ثم قال: «ورُوي عن ابن عباس -أيضًا-: أنها شجرة العِلم، فيها ثمرُ كلّ شيء»[27]. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لا يصحّ عن ابن عباس»[28].
ومنها أيضًا: ما ذكَره في قصة هاروت وماروت[29] حيث قال: «...وسألَتْهُما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعَلّماها إياه، فتكلّمَت به فعرَجَتْ، فمُسِخَتْ كوكبًا فهي الزهرة، وكان ابن عمر يلعنها. قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-: وهذا كلّه ضعيف وبعيد على ابن عمر رضي الله عنهما»[30].
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ [الأعراف: 175]؛ ذكَر عدّة أقوال وروايات في هذا الرجل وحاله، منها قوله: «وقال مجاهد: كان رُشِّح للنبوّة وأعطيها، فرشاه قومُه على أن يسكت ففعل. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود لا يصح عن مجاهد؛ ومَن أُعطِيَ النبوءة فقد أُعطِيَ العصمة»[31].
9) الجزم بالمعنى العام الذي تدلّ عليه ألفاظ الآية:
تنطوي الإسرائيليات والقصص على كثير من التفاصيل التي لا دليل عليها من ألفاظ الآية ولا من غيرها؛ ولذا كان ابن عطية يذكر المعنى العام للآية الذي تعطيه ألفاظها، ويصحّح من الإسرائيليات مضمونها العام المتوافق مع ألفاظ الآية، ويبيّن ضَعْفَ ما سوى ذلك، أو يتوقف في الحكم عند تعذُّرِ القرائن الكافية لتكذيب الـخبر الإسرائيلي أو تصديقه.
ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: 63]، أشار الإمام إلى شيء من المرويات في ذلك، ثم قال: «وقد اختصرتُ ما سُرد في قصص هذه الآية، وقصَدْتُ أَصَحَّه الذي تقتضيه ألفاظ الآية»[32].
وفي تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 251]؛ ذكر عدّة روايات في كيفية حصول الـمُلْك ومآله إلى داود بعد طالوت، وذَكَر من ذلك أنّ طالوت وَعَدَ من يَبْرُزُ لجالوت ويقتله أن يزوِّجه ابنته، وأنّ داود قتل جالوت، ثم قال: «ثم إنّ داود جاء يطلب شَرْطَهُ من طالوت، فقال له: إنّ بنات الملوك لهن غرائب من الـمَهْر، ولا بدّ لك من قتلِ مائتين من هؤلاء الجراجمة[33] الذين يؤذون الناس، وطمع طالوت أن يُعرَّض داود للقتل بهذه النزعة، فقَتلَ داود منهم مائتين، وجاء بذلك وطلب امرأته فدفعها إليه طالوت، وعَظُمَ أمرُ داود، فيُروَى أنّ طالوت تخلَّى له عن الـمُلْك وصار هو الـمَلِك، ويُروَى أنّ بني إسرائيل غلَبَت طالوت على ذلك بسبب أنّ داود قتَلَ جالوت، وكان سببَ الفتح، ورُوي أنّ طالوت أخاف داودَ حتى هرب منه، فكان في جبلٍ إلى أن مات طالوت فذهبت بنو إسرائيل إلى داود فملَّكته أمْرَها، ورُوي أنّ نبي الله سمويل[34] أوحَى الله إليه أن يذهب إلى إيشى، ويسأله أن يعرض عليه بنيه، فيدهن الذي يشار إليه بدُهْنِ القدس، ويجعله مَلِكَ بني إسرائيل، والله أعلم أيّ ذلك كان، غير أنه يُقطَع من ألفاظِ الآية على أنّ داود صار مَلِكَ بني إسرائيل»[35].
وفي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ﴾ [البقرة: 127]؛ قال: «البيت هنا الكعبة بإجماع، واختلف بعض رواة القصص؛ فقيل: إنّ آدم أُمِرَ ببنائه فبناه، ثم دُثِر ودُرِس حتى دُلّ عليه إبراهيم فرفع قواعده، وقيل: إن آدم هبط به من الجنة، وقيل: إنّ البيت كان ربوة حمراء -وقيل: بيضاء- ومِن تحته دُحِيَت[36] الأرض، وإنّ إبراهيم ابتدأ بناءه بأمرِ الله ورَفَعَ قواعده. والذي يصح من هذا كله أنّ الله أمَرَ إبراهيم برفعِ قواعد البيت، وجائزٌ قِدَمَه، وجائزٌ أن يكون ذلك ابتداءً، ولا يُرجَّح شيء من ذلك إلا بسندٍ يقطع العُذر»[37].
10) بيان عِلّة انتقاده لِما ينتقده:
اعتَنى ابن عطية عند نقدِه للإسرائيليات والأخبار ببيان العلّة الدافعة له إلى نقدها.
ففي تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ [الأعراف: 117]؛ قال: «ورُوي أنّ موسى لـمّا كان يوم الـجمع خرج متَّكئًا على عصاه، ويده في يد أخيه، وقد صُفَّت له السَّحَرة في عدد عظيم حسبما ذُكِر، فلمّا ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه، فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، فعَظُمَ حتى كان كالجبل، وقيل: إنه طال حتى جاز النيل، وقيل: كان الجمع بالإسكندرية، وطال حتى جاز مدينة البحيرة، وقيل: كان الجمع بمصر، وإنه طال حتى جاز بذَنَبه بحر القُلزم»[38]. ثم عقّب بقوله: «وهذا قول بعيد من الصواب، مُفرِط الإغراق؛ لا ينبغي أن يُلتفَت إليه»[39].
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: 2]؛ قال ابن عطية: «وقال بعض الناس: (ويلٌ) اسم وادٍ في جهنم، يسيل مِن صديد أهل النار. قال القاضي أبو محمد: وهذا خبر يحتاج إلى سندٍ يقطع العُذر»[40].
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ [الملك: 3]؛ قال: «وما ذَكَرَ بعض المفسِّرين في (السماوات) مِن أنّ بعضها مِن ذهبٍ وفضة وياقوت ونحو هذا =ضعيف كلّه، ولم يثبت بذلك حديث، ولا يَعْلَم أحدٌ من البشر حقيقةً لهذا»[41].
11) الاختصار لكثير من القصص والأخبار المروية:
بنى ابنُ عطية كتابَه على الإيجاز والاختصار، وكان هذا أصلًا انطلق منه في تصنيف تفسيره، والمتتبّع للإسرائيليات في تفسير ابن عطية سيظهر له بجلاء عناية ابن عطية باختصار كثير من القصص الإسرائيلي، بحيث يكاد يكون من النادر خلوّ موضع من المواضع التي نقل فيها مثل هذه القصص من بيان اختصاره لها، وانتقائِه منها، وقد نصّ في مواطن كثيرة على اختصاره لتلك القصص، وإن اختلفت علّة اختصاره من موطنٍ لآخر.
ولا شك أن الاختصار نوع منالنقد؛ إِذْ هو عمل يتطلّب انتقاءً واختيارًا وحذفًا ومعرفةً بما يُنقَل وما يُهْمَل، وما تمسّ الحاجة إلىنقلِه وما لا تمسّ... إلخ، وكلّ ذلك من صميم النقد، وقد تتبعتُ المواطن التي نصّ فيها على الاختصار؛ فظَهرَتْ لي أسباب اختصاره، وبيانها كما يأتي:
● حذفُ ما لا تمسّ الحاجة إليه في تفسير الآية وتركُ ما سواه:
كان ابن عطية ينتقي من الإسرائيليات ما يخصُّ الآية ويَصدِفُ عمّا سوى ذلك؛ وقد نَصَّ على ذلك في مواطن متعدّدة من كتابه؛ فقد قال في مقدمة كتابه وبيان منهجه فيه: «...قصدت فيه أن يكون جامعًا وجيزًا محرّرًا، لا أذكرُ من القصص إلا ما لا تنفَكّ الآية إلا به»[42].
وفي قصة قتلِ داود لـجالوت قال في تفسير الآيات المتعلقة بها: «قد أكثر الناس في قصص هذه الآية، وذلك كلّه ليِّن الأسانيد؛ فلذلك انتقيتُ منه ما تنفَكُّ به الآية، وتُعْلَم به مَناقِل النازلة، واختصرتُ سائر ذلك»[43].
وفي قصة إبراهيم -عليه السلام- في نظره للكواكب ذكَرَ قصة مختصرة ثم أتبعها بقوله: «وجَلبْتُ هذه القصص بغاية الاختصار في اللفظ، وقصَدتُ استيفاء المعاني التي تخصّ الآية»[44].
وفي قصة منعِ بني إسرائيل من الصيد يوم السبت، قال بعد عرضه لقصصها المروية باختصار: «وفي قصص هذه الآية رواية وتطويل اختصرتُه، واقتصرتُ منه على ما لا تُفهَم ألفاظ الآية إلا به»[45].
ويلاحَظ أنه رغم لِين أسانيد هذه القصص، إلا أنه نصَّ على استفادته منها بالقَدْر الذي تُفْهَم به الآية، أو يسهم في تجلية بعض متعلقاتها، أو يكون له أثر في زيادة البيان حولها.
● اختصاره كثيرًا من الروايات لقلَّة ثبوتها وتعذُّر صحّتها:
كثيرًا ما كان الإمام ينصّ على أنه اختصر تفاصيل كثير من القصص، واقتصر على بعضها لتعذُّر صحتها؛ ففي كيفية نجاة موسى ومَن معه وغرق فرعون، ذكر بعض القصص، ثم عقّب بقوله: «وحُكِي غيرُ هذا مما اختصرتُه؛ لقلّة ثبوته»[46].
وعند تفسيره لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ﴾ [البقرة: 243]؛ ذكَرَ شيئًا مما رُوي في قصصهم، ثم قال: «هذا قولُ الطبري، وهو ظاهرُ رَصْفِ الآية، ولِمُورِدِي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها؛ لضعفها»[47].
وفي قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: 259]؛ ذكر شيئًا مما رُوي في قصصهم ثم قال: «وكَثَّر أهلُ القصص في صورة هذه النازلة تكثيرًا اختصرتُه؛ لعدم صِحّته»[48].
● اقتصاره على أصحّ الروايات الموافقة لِما تقتضيه ألفاظ الآية:
ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ [البقرة: 63]؛ أشار إلى شيء من المرويات في ذلك، ثم قال: «وقد اختصرتُ ما سُرِد في قصص هذه الآية، وقصَدْتُ أصَحَّهُ الذي تقتضيه ألفاظ الآية»[49].
وفي قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 10]؛ قال: «...وينبغي لكلّ مؤمنٍ أن يجعل دعاءه في أمرِ دنياه هذه الآية فقط... وقد اختصرتُ هذا القصص، ولم أُغفِل من مُهِمِّهِ شيئًا بحسبِ اجتهادي، والله الـمُعِين برحمته»[50].
وفي نهاية تفسيره للآيات الـمتعلّقة بقصة أصحاب الكهف قال: «وفي هذا القصص من اختلاف الروايات والألفاظ ما تضيق به الصحف، فاختصرته، وذكرتُ المهمّ الذي به تتفسَّر ألفاظ هذه الآية، واعتمدتُ الأصحّ، والله الـمُعِين برحمته»[51].
● اختصاره ما كان محتملًا للصدق والكذب:
ففي قوله تعالى عن جهنّم: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ﴾ [الحجر: 44]؛ قال ابن عطية -بعد أن أورَدَ بعض الأقوال في صفة أبواب النار، وهل هي بعضها فوق بعض، أو على خط استواء واحد؟-: «واختصرتُ ما ذكَرَ المفسِّرون في المسافات التي بين الأبواب، وفي هواء النار، وفي كيفية الحال؛ إِذْ هي أقوال أكثرها لا يستند، وهي في حيّزِ الجائز، والقُدرة أعظمُ منها، عافانا الله مِن ناره، وتغمَّدَنا برحمته بِـمَنِّه»[52].
وفي قصة هاروت وماروت أشار إلى بعض الأخبار ثم قال: «وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض، ولا يُقْطَع منه بشيء؛ فلذلك اختصرتُه»[53].
● اختصاره لاشتمال الأخبار والروايات على ما فيه بُعد وغرابة:
ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124]؛ ذكر أقوالًا في المراد من الكلمات، ثم قال: «وقد طوّلَ المفسِّرون في هذا، وذكروا أشياءَ فيها بُعْدٌ، فاختصرتُها»[54].
وفي تفسير الآيات المتعلّقة بطلب موسى -عليه السلام- رؤية ربه؛ قال: «ورُوي في كيفية وقوف موسى وانتظاره الرؤية قصصٌ طويل، اختصرتُه؛ لبُعْدِه وكثرة مواضع الاعتراض فيه»[55].
● الاختصار لكون الآية لا تدُلّ على المرويّ لا تضمُّنًا ولا لُزومًا:
ففي قصة إهباط آدم إلى الأرض وكيفية إغواء إبليس له أشار إلى بعض المرويّ، ثم قال: «وفي هذه القصة من الأنباء كثير اختصرتُها؛ إِذْ لا يقتضيها اللفظ»[56].
وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ [الأعراف: 40]؛ قال ابن عطية: «وذكَرَ الطبري في كيفية قبضِ روح المؤمن والكافر آثارًا اختصرتُها؛ إِذْ ليست بلازمة في الآية، ولِلِين أسانيدها أيضًا»[57].
● الاختصار لكون الناقل للأخبار لم ينتقِ اللائق من ألفاظها:
ففي قوله تعالى: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ﴾ [يوسف: 6]؛ قال ابن عطية: «قوله: ﴿آلِ يَعْقُوبَ﴾ [يوسف: 6]؛ يريد في هذا الموضع الأولاد والقرابة التي هي مِن نسلِه، أي: يجعل فيهم النبوءة، ويُروَى أن ذلك إنما عَلِمَه يعقوب مِن دعوة إسحاق له حين تشَبَّه له بعيصو[58]، والقصة كاملة في كتاب النقّاش لكني اختصرتُها؛ لأنه لم يُنبِّل ألفاظها، وما أظنه انتزعها إلا من كتب بني إسرائيل؛ فإنها قصة مشهورة عندهم، وباقي هذه الآية بيِّن»[59].
كانت هذه أهم المعالم التي ظهرتْ لي من خلال التتبّع لتعامل ابن عطية مع الإسرائيليات، وبها يَبِينُ أنه لم يتّخذ موقفًا واحدًا حيالها، وإنما كان تارة يضعِّفها، وتارة يستفيد بالصحيح منها، وتارة يتوقّف في قبولها وإثباتها، ومن هذه المواقف الثلاثة تشكّلَت طريقته في التعامل مع ذلك النمط من المرويات.
[1] المحرر الوجيز (2/ 17).
[2] المحرر الوجيز (1/ 180).
[3] المحرر الوجيز (2/ 288، 289). وينظر أمثلة أخرى: (1/ 610، البقرة: 243)، (2/ 8، البقرة: 248)، (3/ 516، الأعراف: 8)، (5/ 88، يوسف: 37)، (5/ 200، 201، الرعد: 24)، (8/ 581، البروج: 22).
[4] المحرر الوجيز (1/ 350).
[5] المحرر الوجيز (4/ 53).
[6] المحرر الوجيز (5/ 72)، صحيح البخاري (4/ 165) باب قول الله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا﴾ [مريم: 16]، برقم (3436)، وصحيح مسلم (4، 1976) باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها. برقم (2550). وينظر أمثلة أخرى: المحرر الوجيز (2/ 42، البقرة: 295)، (3/ 228، المائدة: 78)، (4/ 49، الأعراف: 148)، (5/ 226، إبراهيم: 9).
[7] المحرر الوجيز (1/ 178).
[8] المحرر الوجيز (4/ 20).
[9] الوِقْر بالكسر: الحِمْل. يقال: جاء يحمل وِقْرَه. وقد أوقر بعيره. ومثله الوَسْق؛ إلا أن الوِقْر أكثر ما يستعمل في حِملِ البغل والحمار، والوَسْق في حملِ البعير. ينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 848).
[10] المحرر الوجيز (6/ 609، 610). وينظر: (4/ 52، الأعراف: 150).
[11] عوج بن عناق من القوم الجبارين، وهو من أعظمهم خلقًا، وقد قتله نبي الله موسى عليه السلام. ينظر: جامع البيان (10/ 197)، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/ 354)، الكامل في التاريخ (1/ 169).
[12] المحرر الوجيز (3/ 142).
[13] المحرر الوجيز (5/ 262، 263).
[14] المحرر الوجيز (1/ 167).
[15] المحرر الوجيز (1/ 178).
[16] المحرر الوجيز (2/ 438) ط. دار الكتب العلمية.
[17] المحرر الوجيز (3/ 302).
[18] المحرر الوجيز (6/ 90).
[19] المحرر الوجيز (3/ 300).
[20] نقل ابن أبي زمنين هذا المعنى عن أبان العطار في تفسير هذه الآية قوله: «إن إسماعيل وعد رجلًا موعدًا، فجاء للموعد فلم يجد الرجل، فأقام في ذلك الموضع حولًا ينتظره»، تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين (3/ 99).
[21] لم أقف عليه عند الترمذي، وهو عند أبي داود في سننه (ص:754، ح:4996)، كتاب الأدب، باب في العدّة، ولفظه: «عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- ببيعٍ قبل أن يُبعَث وبقيَتْ له بقية، فوعدتُه أن آتيه بها في مكانه، فنسيتُ، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئته فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى؛ لقد شققتَ عليَّ، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك».
[22] المحرر الوجيز (5/ 337، 338)، وينظر: (6/ 114، طه: 77)، (6/ 120، طه: 85).
[23] المحرر الوجيز (5/ 338).
[24] المحرر الوجيز (6/ 82).
[25] المحرر الوجيز (2/ 56).
[26] المحرر الوجيز (4/ 51)، ينظر أمثلة أخرى: (2/ 17، البقرة: 251)، (4/ 19، الأعراف: 114).
[27] المحرر الوجيز (4/ 51)، ينظر أمثلة أخرى: (4/ 17، البقرة: 251)، (4/ 19، الأعراف: 114).
[28] المحرر الوجيز (1/ 183).
[29] قيل: هما ملَكان من ملائكة الله، وقيل: هما رجلان من بني إسرائيل. ينظر: جامع البيان للطبري (2/ 405، وما بعدها). والمحرر الوجيز (1/ 300).
[30] المحرر الوجيز (1/ 187).
[31] المحرر الوجيز: (2/ 476)، وينظر أمثلة أخرى: (1/ 350، البقرة: 127)، (2/ 221، آل عمران: 45)، (5/ 263، إبراهيم: 46)، (8/ 114، النجم: 15).
[32] المصدر السابق (1/ 240).
[33] الجُراجمة أو الجَراجمة بضم الجيم الأُولى وفتحها؛ أُناسٌ أصولهم غير معروفة، يسكنون مدينة على جبل اللكام بالشام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا، يقال لها: الجرجومة، افتتحها المسلمون صلحًا على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين، ثم عصوا وتمردوا عليهم بعد ذلك. ينظر: فتوح البلدان للبلاذري، ص159، الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 326)، معاوية بن أبي سفيان للصلابي، ص405.
[34] النبي صموئيل بن ألقانة بن يروحام، ويقال: شموئيل أو شمويل، وإليه ينسب سفرا صموئيل الأول والثاني في العهد القديم، وهو آخر قضاة بني إسرائيل. وقيل: هو طالوت الذي بعثه الله ملِكًا على بني إسرائيل، وفي سفر صموئيل الأول (8، 4- 7) ما يدل على ذلك. ينظر: هل العهد القديم كلمة الله، لمنقذ السقار، ص33، 34.
[35] المحرر الوجيز (2/ 16، 17).
[36] دحا الأرض؛ أي: سوّاها وبسطها؛ ومنه قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 30]، تهذيب اللغة (5/ 123)، لسان العرب (5/ 1338) (مادة: دحا)، والدر المصون في علوم الكتاب المكنون (10/ 679).
[37] المحرر الوجيز (1/ 349).
[38] المحرر الوجيز (4/ 20).
[39] المصدر السابق نفس الصفحة.
[40] المحرر الوجيز (5/ 220).
[41] المصدر السابق (8/ 352)، وينظر: (1/ 183، البقرة: 35)، (4/ 30، الأعراف: 134)، (4/ 613، هود: 72)، (5/ 147، يوسف: 93).
[42] المحرر الوجيز (1/ 9).
[43] المحرر الوجيز (2/ 17).
[44] المحرر الوجيز (3/ 402).
[45] المحرر الوجيز (4/ 71)، وينظر أيضًا: (5/ 605، الكهف: 32)، (6/ 180، الأنبياء: 69).
[46] المحرر الوجيز (1/ 610).
[47] المحرر الوجيز (1/ 328).
[48] المحرر الوجيز (2/ 45)، وينظر أيضًا: (5/ 443، الإسراء: 5)، (5/ 620، الكهف: 50)، (5/ 660، الكهف: 94)، (6/ 21، مريم: 23)، (6/ 79، طه: 6)، (6/ 615، القصص: 79)، (7/ 172، سبأ: 14)، (7/ 239، يس: 13)، (7/ 242، يس: 21)، (8/ 348، التحريم: 11).
[49] المحرر الوجيز (1/ 240).
[50] المحرر الوجيز (5/ 572).
[51] المحرر الوجيز (5/ 585).
[52] المحرر الوجيز (5/ 294).
[53] المحرر الوجيز (1/ 303).
[54] المحرر الوجيز (1/ 341).
[55] المحرر الوجيز (4/ 41)، وينظر أمثلة أخرى: (7/ 165)، سبأ: 12)، (7/ 172، سبأ: 14).
[56] المحرر الوجيز (3/ 540).
[57] المحرر الوجيز (3/ 562).
[58] عيصو هو أخو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليه السلام- وهو والد الروم، و(يعقوب) وهو: إسرائيل -عليه السلام- والد بني إسرائيل وإليه يُنسَبون، وقد وَضَع الله النبوّة في نسلِ يعقوب، ووَضَع الـمُلك في نسل عيصو، إلى أن جاء خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- فورثهما. ينظر: مفاتيح الغيب (8/ 201)، التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، ص1157.
[59] المحرر الوجيز (5/ 43).