أسلوب الجدل في القرآن
أسلوب الجدل في القرآن[1]
يلاحِظ كلُّ مَن قرأ القرآن الكريم وتدبَّره، وعاش معه بعقله وقلبه فترةً متطاولة، أنّ قواعد الإيمان وأصوله التي هي لُباب الدِّين الحنيف وجوهر الدعوة، لم تُعْرَض في القرآن بشكل تعقيدي جامد، يأخذ الناس بالشدة، ويقسرهم على قبول تلك المبادئ أو الأصول قسرًا دون ما إجالةٍ للفِكر، وإعمالٍ للذّهن، بل على العكس من ذلك تمامًا؛ إِذْ هو ينزل بتلك الأصول المقدّسة إلى منزلة الأخذِ والردّ، أو قُل إلى منزلة الجدل والمناقشة.
فوجود الله -سبحانه وتعالى- ووحدانيته، والحياة الآخرة، والبعث، وما شاكَل ذلك من تلك الأصول نجدها جميعًا تُعْرَض لا بصورة إلزامية وحسب، ولكنها تُعرَض في صورةٍ جدليّةٍ وأسلوبِ حِجَاجٍ لا نقرّر جديدًا إذا قلنا إنه مُفْحِم ومُقنِع وبالتالي يكون مُلزِمًا؛ ولكن الإلزام هنا عن بيّنة وبعد إقناع واقتناع.
ولا نقرّر من صفات القرآن جديدًا إذا قلنا إنّ هذا الجدل يُعْرَض على ذهن كلّ إنسان -مهما اختلف الناس في ثقافتهم بين السذاجة والعمق- فيجد فيه مَقنعًا أيَّ مَقنع؛ بل أكثر من هذا، فظنِّي أنّ هذا الجدل لم يكن في صوره المختلفة لِيُحْدِثَ في العقول الاقتناع فحسب، بل كان يصحبه -وما زال- لون من الإيمان عميق، نتيجة رِضى وارتياح نفسي تحدثهما الحُجّة وأسلوب الحُجّة جميعًا. وما وقع لجبير بن مطعم من أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فقال: لـمّا بلغ الرسولُ هذه الآيات: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾، قال: «كادَ قلبي أن يطير؛ وذلك أوّل ما وقرَ الإسلام في قلبي»[2] -فهذا مَثَلٌ ملموس لِما كان يتركه هذا الأسلوب الجدلي في النفوس مِن أثرٍ، وما كان يُحدِثُهُ مِن تعميق الإيمان في القلوب. وإذا كنّا لا نستطيع أن نقرّر أنّ عقلية العرب إبّان الدعوة كانت آخذة بأسباب الفلسفة والكلام مثلما صارت إليه في العصر العباسي مثلًا، فإنّ صور الجدل التي نزل بها القرآن هي الصور التي كانت توائم عقلية العرب التي لم توغل بعدُ في الفلسفة أو الكلام وإنْ صلحت فيما بعد لأن تكون مادة طيبة عندما تفلسفت العقول وأخذت بأسباب الكلام. وهنا لا يملك الإنسان إلا أن يشهد ويسجّل لونًا من ألوان الإعجاز مِن ربِّ القُوَى والقُدَر. والسيوطي لا يبعد عن هذا حينما يذكر لنزول الجدل بهذه الصورة هذين السببين:
أولًا: بسبب ما قاله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾.
ثانيًا: إنّ المائل إلى دقيق الـمُحاجّة هو العاجز عن إقامة الحُجة بالجليل من الكلام، فإنّ مَن استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحطّ إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقَلُّون ولم يكن مُلغِزًا، فأخرج تعالى مخاطباته في مُـحاجَّةِ خَلْقِهِ في أَجْلَى صورة؛ ليفهم العامة مِن جليِّها ما يقنعهم وتلزمهم الحُجّة، ويفهم الخواصّ من أنبائها ما يربو على ما أدركه فهم الخطباء.
والآيات الجدلية في القرآن معنية بجوانب ثلاثة مهمّة وبارزة: أوّلها وجود الله ومعرفته، وثانيها وحدانيته، وثالثها الخَلْق أو الإنشاء والإعادة أو البعث، وهذه الجوانب -كما سبقت الإشارة- أصول جوهرية في العقيدة نعرض لها فيما يأتي.
أولًا- فيما يختصّ بمعرفة الله وإثبات وجوده تصادفنا تلك الصورة الرمزية الرائعة المتمثلة في قصة إبراهيم -عليه السلام-: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فبهذه الطريقة يرتقي العقل إلى معرفة الله الحقّ؛ فلا هو الكوكب، ولا هو القمر، ولا هو الشمس الأكبر، ولكنه هو الذي فَطرهنّ جميعًا وفطرَ السماوات والأرض. وفي ذلك تصوير دقيق لاستنباطِ العقلِ وجودَ (الثابت) الدائم من (المتغير) الحائل، وإنّنا لَنقرأ هذه الآيات: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، فنقرأ فيها الأدلة المادية والبراهين الملموسة على وجود الخالق المبدع، وهذا من باب معرفة العلّة بطريق المعلول، ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ويهمّنا أنّ هذا الأسلوب السهل البسيط الواضح في التدليل قد انطوى على مادة فلسفية أشبعت عقلية كعقلية ابن رشد بعد ذلك ببضعة قرون، فاستنبط منها ما سمّاه دليل الاختراع والخَلْق، أي: إبداع الأشياء، ودليل العناية Providence، أي: خدمة هذه المخلوقات لتحقيق غاية. وعلى هذا الأساس تدبّر قولَه تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ...﴾ الآية، وقوله (راجع س 31 آية 20، 21).
ثانيًا: وبالمبدأ العليّ البسيط يعرف كلُّ إنسان أنّ لكلِّ موجود مُوجِدًا، ولكن لِـمَ لا يشترك أكثرُ من مُوجِد في إيجاد الشيء؟!
الجواب: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾؛ لأنه لو كان للعالَم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظامٍ، ولا يتّسق على إحكامٍ، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما؛ وذلك لأنه لو أرادَ أحدُهما إحياءَ جسم وأراد الآخرُ إماتتَه، فإمّا أن تنفذ إرادتهما فيتناقض لاستحالة تجزيء الفعل إنْ فُرض الاتفاق، أو لامتناع اجتماع الضدّين إنْ فُرض الاختلاف، وإمّا أن لا تنفذ إرادتهما فيؤدّي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه، والإله لا يكون عاجزًا[3]؛ ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.
ثالثًا: ثم لننظر أخيرًا كيف قدّم الحجج الباهرة لـمَن أنكر البعث كالدهريين القائلين: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾، لقد دلّل -سبحانه وتعالى- على إعادتهم وبعثهم من جديد بأنّ الذي يبدأ الخَلْق في قدرته أن يُعيده، فهنا تقاس الإعادة على الابتداء كما صوّر ذلك تعالى في أول سورة الحج: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾، ففي هذه الآيات دليلان؛ الأول نجده في أنفسنا حيث كنّا ترابًا ثم نصير إلى الموت. والثاني في تلك الأرض الهامدة الميتة حتى إذا نزل عليها الماء دبّت فيها الحياة وأنبتت نباتًا حسنًا. وهكذا في الأرض أدلّة وآيات، وفي أنفسنا أدلّة وآيات لا تترك مسربًا للشك، ولا مجالًا للمكابرة؛ وانظر إلى هذه المقدّمات في سورة ق: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾، فهل يخالج نفسَك شكٌّ في هذا؟ فإذا آمنت -وإنك لا تملك إلا أن تؤمن- بهذا، فكذلك يكون البعث، أو ﴿كَذَلِكَ الْـخُرُوجُ﴾.
وعلى هذا النحو تستطيع أن تتدبّر في قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ...﴾ إلخ الآيات، آخر يس.
هذه هي النواحي الثلاث البارزة في الجدل القرآني. ولا أحسبك وقد أمررتَ عليها ذهنك، ولبثتَ معها قليلًا، إلا قد أدركتَ مغزى قول جبير بن مطعم: «كادَ قلبي أن يطير». وأيّ رِفق بالعقول ذلك الذي طالعه في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ﴾، لقد أخذ بهذه البساطة في الحُجّة وقوّتها مع ذلك ونصاعتها. ولو استطاع الإنسان أن يقرِّب ذلك بصورة من الصور لتمثّلت له صورة مُرَبٍّ كبير يأخذ الأطفال باللِّين والرفق، وإذا اختلفوا معه قال: «يا أبنائي الأعزاء رويدكم! وهيّا نتفاهم»، وجلَّ الله تعالى عن المثيل، وألستَ تحسّ بتلك الشفافية في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾، يقول ابن الأثير معقبًا: «ألَا ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطفه؛ فإنه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم، فقال: لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذبًا، فكذبُه يعود عليه ولا يتعدّاه، أو يكون صادقًا يصيبكم بعضُ الذي يعدكم إنْ تعرّضتم له. هذا، وفي الكلام مِن حُسنِ الأدب والإنصاف»[4]. وأين إذن يكون حسن الأدب في المجادلة، والإنصاف في الحُكْم، إن لم يكن في كتاب الله الكريم؟!
ولْنَتبيَّن مع ابن الأثير قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾، يقول ابن الأثير: «هذا كلام يهزّ أعطاف السامعين، وفيه من الفوائد ما أذكره؛ وهو أنه لـمّا أرادَ إبراهيمُ -عليه السلام- أن ينصح أباه ويَعظه ويُنقذه مما كان متورطًا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل، رتّب الكلام معه في أحسن نظام، مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخُلُق الحسن مستنصِحًا في ذلك بنصيحة ربه؛ وذلك أنه طلب منه أوّلًا العلّة في خطيئته منبّهًا على تماديه موقظًا له من غفلته؛ لأنّ المعبود لو كان حيًّا مميزًا سميعًا بصيرًا مقتدرًا على الثواب والعقاب، وأنّ بعض الخلق يستخفّ عقل مَن أهّله للعبادة، ووصَفه بالربوبية، ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيين؛ فكيف بمن جعلَ المعبود جمادًا لا يسمع ولا يبصر؛ يعني به الصنم. ثم ثنَّى ذلك بدعوته إلى الحقّ مترفقًا به، فلم يَسِمْ أباه بالجهل المطلق ولا نفسَه بالعِلم الفائق، ولكنه قال: إنّ معي لَطائفةً من العلم وشيئًا منه، وذلك عِلم الدلالة على سلوك الطريق؛ فلا تستنكف، وهَبْ أني وإياك في مسير وعندي معرفة بهداية الطريق دونك، فاتَّبِعني أُنْـجِك من أن تَضِل. ثم ثَلَّث ذلك بتثبيطِه عمّا كان عليه ونهيِه، فقال: إنّ الشيطان الذي استعصَى على ربك، وهو عدوُّك وعدوُّ أبيك آدم، هو الذي ورَّطك في هذه الورطة وألقاك في هذه الضلالة. ثم ربَّع ذلك بتخويفه إياه سوء العاقبة فلم يصرِّح بأنّ العقاب لاحقٌ به، ولكنه قال: إني ﴿أَخَافُ﴾ أن يمسّك ﴿عَذَابٌ﴾؛ فنكَّر العذاب ملاطفةً لأبيه، وصدَّر كلّ نصيحة من هذه النصائح بقوله: ﴿يَا أَبَتِ﴾ توسُّلًا إليه واستعطافًا[5].
وأخيرًا، فعَلّه لم يَعُد خافيًا أنَّ من أراد أنْ يتعلّم أسلوب المجادلة وآدابها وطرقها المنطقية والفنية، فعَلَيْه أن يقرأ القرآن، ويتدبّر، ويديم النظر؛ ليستخلص العِبَر وليجد غذاءه العقلي والنفسي موفورين.