المنتفعون بهدى القرآن
المنتفعون بهدى القرآن[1]
سأل سائل عمّا ورَدَ في وصف القرآن الكريم من مِثل قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ مما يفيد أنّ القرآن ليس له تأثير إلّا على صنف خاصّ من الناس: هم المؤمنون أو المتقون، أمّا غيرهم فلا تأثير له عليهم، ولا ينتفعون بهَديه، ولا تشرق على قلوبهم أنواره؛ وإذا كان القرآن كذلك فهو كتاب خاصّ لقوم مخصوصين، لا يصلح أن يكون (عالميًّا) قادرًا على هداية الناس أجمعين.
وقبل أن نُجيب على هذا السؤال تتبّعنا ما ورَدَ في القرآن الكريم من مِثل ذلك، فوجدناه على ما قرّر السائل؛ فإنّ كلمة ﴿هُدى﴾ أو ﴿مَوعِظة﴾ أو ﴿ذِكرَى﴾ أو ﴿شفاء﴾، لم يوصف بها كتاب الله إلّا مضافة ﴿للمُتَّقِين﴾ أو ﴿المؤمِنِين﴾ أو ﴿الـمُحسِنِين﴾، أو ما إليها من الأوصاف الخاصة. وإذن فما بُني عليه السؤال صحيحٌ، وعلينا أن ننظر في الجواب:
إنّ هذا الوصف للقرآن الكريم وصفٌ متّفق مع الواقع وحقيقة الأمر في الناس، فليس كلُّ إنسان مستعدًّا لقبول الهداية الإلهية والانتفاع بها، فإنّ النفوس تختلف؛ فمنها نفوس غلبت عليها المادية المظلمة، فصار أصحابها أجسادًا ليس للروح سلطان عليها، وليس للمعنويات حظّ فيها، ومنها نفوس صافية راقية تعلم أنّ الحياة ليست مُـحسَّات فحسب، وتثق فيما وراء هذه المادة أكثر من وثوقها بالمادة، وتتقبّل في اطمئنان حكم الشعور القلبي، والإحساس الداخلي، كما تتقبل المرئيات أو المسموعات أو الملموسات.
والصنف الأول من الناس أقرب إلى البهائم، بل فيهم شبه من الجماد الذي لا يعي ولا يعقل، أمّا الصنف الثاني فهو مثال الإنسانية، وكلّما ارتقَى فيه هذا الشعور الروحي، والإحساس المعنوي؛ اقترب إلى الكمال، حتى يصل إلى (المثل الأعلى) في الإنسانية، والقرآن الكريم يصف لنا الصنف الأول في كثير من الآيات، فيقول: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾، ﴿لهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾،﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾، ويقول: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾.
وهو يَبني على هذه الطبيعة التي يقرّرها عنهم، ما يذكره من انصرافِهم عن الذِّكْر، والْتِوَائِهم عن الحقّ، وإعراضِهم عمّا فيه صلاحهم، فيقول: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾، ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ﴾.
وقد صوّر اللهُ لنا هذه الطبيعة الجامدة في عدّة آيات تصويرًا رائعًا يبين لنا أمرها أتمّ بيان، فمِن ذلك قوله جلّ وعلا: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون﴾، ولا شك أنّ صورة المغلول الذي أحاطت الأغلال بعنقه، ووصلت بعرضها إلى ذقنه، فأقمحته -أي تركَتْ رأسه مرفوعًا لضيقها فلا يستطيع له حراكًا- وقد حُشر في مكان ضيّق قد سُدَّت مِن دونه المنافذ فليس له عنه متقدّم ولا متأخّر، وغُشِّي على بصره فهو غير قادر على رؤية ما حوله؛ لا شكّ أنّ صورة كهذه الصورة البيانية البليغة تدلّ على مقدار فساد الفطرة وجمود الطبيعة، ومن ذلك قوله تعالى على لسان رسوله نوح -عليه السلام-: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾، فهذه أيضًا صورة واضحة في بيان معنى الإعراض والالْتِواء، يصور فيها قومًا فسدت طبائعهم، فلم يتقبّلوا الهُدى على أيّ نحوٍ جاءهم، فإذا أسمعهم الداعي وضعوا أصابعهم في آذانهم، وإذا تعرّض لهم استغشوا ثيابهم، وإذا حاول أن يعالجهم من نواحيهم النفسية بالجهر لهم تارةً والإعلان تارةً والإسرار تارةً، أفسدوا عليه سائر محاولاته إصرارًا واستكبارًا، فهم كالوحوش الكاسرة، أو القِرَدَة العاصية، أو النمور الشرسة، ومن ذلك قوله تعالى، وقد صرح فيه بطبيعتهم الوحشية النافرة: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
أمّا الصنف الثاني من الناس فهو صنف طيِّع حسّاس مرهف الشعور، فيه صفات الإنسانية: يخاف ويرجو، ويسمع، ويعقل، ويتدبر، ويُدْرِك، وتهزّه الذكرى، وتنفعه الموعظة، ويتفتح قلبه للهُدى، ويهوَى فؤاده للإيمان، وينشرح به صدرًا، ويطمئن إليه نفسًا، ولا تزيده حوادث الخير والشر إلا ثباتًا، هذا الصنف هو الذي يعدّه القرآن حيًّا، ويوجّه إليه الدعوة، ويخاطب فيه ضميره وقلبه: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾، ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
وكما صوّر اللهُ الصنف الأول بما ذكرنا، صوّر الصنف الثاني في كثير من الآيات، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، فهذه صورة المتنقل في رياض الذِّكْر؛ تمرّ به آية تخويف فيقف عندها خائفًا وجِلًا يقشعر لها بدنه، ويرتجف مِن هول وعيدها فؤاده، ثم تمر به آية تُرَجِّية فيلين ويرجو ويُقْبِل على الله ﴿فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾.
ومن ذلك قوله جلّ علاه: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾، وهذه الآية في وصفِ بعض النصارى وبيانِ استعدادهم لِتَقبُّل الحقّ والإيمان به؛ لِما في قلوبهم من الرقّة والخشوع، ويقول الله تعالى في وصف قوم آخرين من أهل الكتاب: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وكلّ ذلك تصوير للطبيعة الصافية المواتية مِن أيّ ملّة كان صاحبها، فليس الأمر في ذلك خاصًّا بدِين، ولا مقصورًا على طائفة بعينها من الناس، وإنما هو أمر الطبيعة البشرية حيثما كانت، وفي أيّ زمان وُجِدَت.
* * *
تبيَّنَ بهذا موافقةُ التعبير القرآني للواقع الطبيعي، وأنّ القرآن حين يقول: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وما إلى ذلك؛ يصفُ الناسَ على حقيقتهم، ويشير لأرباب الدعَوات وأصحاب الأفكار إلى تلك الطبيعة فيهم، حتى لا يُضيِّعوا أوقاتهم، ولا يُشتِّـتوا جهودهم في تطلُّبِ الماء إلّا مِن ينابيعه، وفي استنبات الخَطِّيّ إلا مِن وَشِيجِه:
وَهَلْ يُنبِتُ الخَطِّىَّ إلّا وَشِيجُهُ ... وتُغرَسُ إلّا في مَنَابِتِها النَّخْلُ
وهذه حقيقة إذا فُهمت وتَقرّرت في نفوس الدعاة والمصلحين كان لها في رسالتهم أعظم الجدوَى، وكانت لأشخاصهم نِعْمَ السّلوَى، أمّا جدواها ففي أن تسير القافلة قُدُمًا لا تلوي على مَن نَدّ أو شَذّ، ولا تُنْظِر مَن تخلّفَ أو كَلَّ؛ فإنه من الخير كلّ الخير للإنسانية أن تخطو في سبيل الإصلاح خطواتها غير عابئة بمن يحاولون تعويقها، ويعملون على إثقالها وتكبيلها، فَلْتَدَعْهُم فيما هُم فيه، وَلْتَمْضِ لطـيِّها راشدةً قويةً فسوف تحملهم بذلك على مجاراتها، وتجذبهم -ولو على الرغم منهم- إليها، وأمّا سلواها ففي أنها تطرد عن العاملين دواعي الحزن والأسف، فإنّ صاحب الفكرة إذا جُوبِهَ بالعداوة في سبيلها، وعُونِد فيها؛ رانَ على قلبه رَيْنٌ من الحزن والأسى، فإذا علمَ أنّ الذين يعادونه ويعاندونه هم أصحاب الطبائع الملتوية، والنفوس الفاسدة. سُرِّي عنه وذهب ما يُلاقِي من الأسف والحزن.
وقد أرشد القرآن الكريم إلى الجدوى والسلوى جميعًا، ذلك أنه أمَرَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بالسَّيْر في سبيله دون اكتراثٍ بمن حقَّت عليهم الكلمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾، ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾، ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾، ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، كما أنه سَلّاه واستلّ ما في نفسه من اللّوعة بمثل قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾، ﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾.
* * *
أمّا بعد فإنّ القرآن الكريم آية من آيات الله الكبرى، فيه للعقول تبصرة، وللقلوب موعظة، ولكن لمن أراد أن يَذّكَّر: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «الأزهر»، المجلد الثاني والعشرون، سنة 1370هـ، ص28. (موقع تفسير).