حديث القرآن عن اللغو
حديث القرآن عن اللغو[1]
ما أكثر الكلام بين الناس، وما أهون شأنه على الثرثارين الفارغين، وما أقلّ الأعمال الطيبة عند هؤلاء، وخاصّة في المجتمعات الضعيفة المتحلّلة التي تقنع باجترار الألفاظ، وترديد الكلام، وتشقيق الأماني، وقد راعت هذه الحقيقةُ كثيرًا من المصلِحين والحكّام منذ أقدم العصور، وجسّمها أبو العلاء في بيتٍ موجِعٍ له، فقال:
لو غُربِلَ الناسُ كيما يُعدموا سَقَطًا ** لَما تحَصَّل شيءٌ في الغَرابيل!
وللقرآن الكريم حديث عن «اللغو» له عِظته وعِبرته، وفيه فائدته وثمرته؛ ويحسُن بنا قبل عرض حديث القرآن عن «اللغو» أن نستأنس بمعاني المادة الكثيرة المتقاربة في معاجم اللغة.
فمِمَّا جاء في لسان العرب عن مادة «اللغو» قوله: «اللغو واللغا: السَّقَط، وما لا يُعتَدّ به من كلام غيره، ولا يُحصَل منه على فائدة ولا نفع. وعن الفرّاء: ولد الشاة المبيعة يُسمّى لغوًا لأنه تبع لها، ولا ثمن له مسمّى. وقال الأصمعي: هو الشيء الذي لا يُعتَدّ به. وجماعُ اللغو هو الخطأ إذا كان اللجاج والغضب والعجلة. وكلمة لاغية: فاحشة، وفي التنزيل العزيز: ﴿لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً﴾، هو على النسب، أي: كلمة ذات لغو، وقيل: أي: كلمة قبيحة أو فاحشة. وقال قتادة: أي: باطلًا ومأثمًا. وقال مجاهد: شتمًا؛ ونباح الكلب: لغو أيضًا. وقال الفرّاء في قوله تعالى: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾، قالت كفّار قريش: إذا تلا محمدٌ القرآن فالْغَوا فيه، أي: اغلطوا فيه يُبَدَّل أو يَنْسَى فتَغلِبُوه، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾؛ أي: مرُّوا بالباطل. ولغَا فلانٌ عن الصواب وعن الطريق: إذا مالَ عنه».
وفي معجم «مقاييس اللغة» لابن فارس في مادة «لغو»[2] هذه العبارة: «اللام والغين والحرف المعتل -الواو- أصلان صحيحان؛ أحدهما يدلّ على الشيء لا يُعتَدّ به، والآخر على اللهج بالشيء. فالأول اللغو: ما لا يُعتدّ به من أولاد الإبل في الدية، قال العبدي:
أو مائةٌ تُجعَلُ أولادُها ** لغوًا وعُرْض المائةِ الجَلْمَدِ
يُقال منه لغَا يلغو لغوًا، وذلك لغو الإيمان. واللغا هو اللغو بعينه. قال الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾، أي ما لم تعقدوه بقلوبكم. والفقهاء يقولون: هو قول الرجل: لا واللهِ، وبَلَى واللهِ. وقوم يقولون: هو قول الرجل لسوادٍ مقبلًا: واللهِ إنّ هذا فلان، يظنُّه إيّاه، ثم لا يكون كمَا ظَنّ. قالوا: فيمينه لغو؛ لأنه لم يتعمّد الكذب.
والثاني قولهم: لَغِيَ بالأمر، إذا لهج به، ويُقال: إنّ اشتقاق اللغة منه، أي: يلهج صاحبُها بها».
والقاعدة العامة التي نفهمها من حديث القرآن الكريم عن «اللغو» أنّ اللغو باطل، وأمر قبيح مكروه، لا يليق بالمسلم ولا يَحسُن منه، وأنّ الله يبغض اللغو ويكرهه، ويُبعِدُه عن ساحة عبادِه المكرمين في الدنيا والآخرة، وأنّ هذا «اللغو» سواء أكان قولًا أم عملًا، مِن شأنِ الذين كفروا، وأنّ المؤمنين يفرُّون منه، ويُعرِضُون عنه، وأنهم إذا وقعوا فيه خطأ، فإنما يقعون فيه عن طريق السهو والنسيان، وسرعان ما يتذكّرون ويرجعون؛ ولذلك لا يحاسبهم الله عليه، ولا يؤاخذهم به، وأنّ الجنة -وهي موطن الراحة والتنعُّم- ليس فيها هذا «اللغو»... ولتوضيح ذلك نقول:
قال الله -تبارك وتعالى- في الآية السادسة والعشرين من سورة فصلت: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾. وهذا هو المظهر الأول من مظاهر تنفير القرآن الكريم من اللغو؛ إِذْ جعله عملًا من أعمال الذين كفروا التي يتواصَون بها، فهي إذن أدخَلُ في باب الكُفران والعناد من غيرها. ومعنى الآية الكريمة أنّ الكفار قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يتلوه محمد، وتشاغلوا أثناء تلاوته عنه برفع الأصوات وإحداث الضجّات وترديد الهذيان والخرافات، حتى تخلطوا على القارئ، وتغلبوه على قراءته، وبذلك تغلبونه وتنتصرون. وأيّ امرئ مسلم يقبل أن يلغو فيكون بمظنّة الإضافة إلى حمى هؤلاء؟
وانظر -هُديت الصواب- إلى الآية التالية للآية السابقة، تراها إنذارًا مخيفًا لهؤلاء اللاغِين، وعيدًا مفزعًا لهم، إنها تقول: ﴿فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 27].
والله -تبارك وتعالى- يقول في الآية الثالثة من سورة المؤمنون: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾. وهذا الوصف قيل في شأن المؤمنين؛ لأن السورة الكريمة بدأت هكذا: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ*وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [المؤمنون: 1- 4]، وبالآية الثالثة هنا يبدأ المظهر الثاني من مظاهر تنفير القرآن من «اللغو».
ولنتذكر هنا أنّ اللغو هو ما لا يَعني من قولٍ أو عمل، وأنّ «اللسان» يقول: إنّ جماع اللغو هو الخطأ إذا كان اللجاج والغضب والعجلة، فكأنَّ القرآن يقرّر حقيقة من حقائق النفس المؤمنة التي لا تكون مؤمنة إلا بها، وهي إعراضها عن اللعب والهزل والباطل من القول والفعل، وكلّ ما توجِب المروءة إلغاءه واطّراحه؛ لأنّ النفس المؤمنة تجد من ميادين العمل المثمر والسعي الواجب ما يشغلها عن لغو القول والعمل.
ولنلاحظ كيف وصف الله المؤمنين أولًا بالخشوع في الصلاة، ثم بالإعراض عن اللغو؛ ليجمع لهم بين الفِعْل والتَّرْك الحميدَين الشاقَّين على الأنفُس، اللذَين هما قاعدتا بناء التكليف؛ لأنّ هذا التكليف لا يخرج عن الأوامر والنواهي، والأوامر تُطالِب بأعمالٍ تؤدَّى، والنواهي تُحذِّر من أمورٍ تُترَك. وإنه لشأنٌ جليل أن يوضَع الوصف بالإعراض عن اللغو هنا، وقبله ذِكر الصلاة، وبعده ذِكر الزكاة!
ويلحق بهذا الموطن قوله تعالى في الآية الثانية والسبعين من سورة الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾، وهذه آية من آيات وصف «عباد الرحمن»، ومعناها أنّ عباد الرحمن هم الذين يتباعدون عن مجالس الكذب والبهتان من القول، فلا يشهدونها ولا يقربونها؛ تنزّهًا عن مخالطة الشّر، ومصاحبة أهله؛ وإذا مَرُّوا باللغو -وهو كلّ ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح- أو مَرُّوا بأهله، مَرُّوا مُعرِضين عنهم، مترفِّعين بأنفسهم عن مشاركتهم؛ وقد يدرك الذوق البياني شيئًا مِن جمعِ شهادة الزور مع اللغو، فلا يحسبنّ خاطئ أنّ أمر اللغو ميسور، بل إنّ إتيانه واعتياده من أخطرِ الأمور.
ويقول الله تعالى في الآية الخامسة والخمسين من سورة القصص: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾؛ والحديث عن عباد الله الطيبين. و﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾، أي: توديع لكم ومتاركة[3]. وعن الحَسَن: هي كلمة حِلم من المؤمنين، و﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾، أي: لا نريد مخالطتهم أو صُحبتهم. وما أشدّ التعريض حينما يقول القرآن عقب هذه الآية: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: 56].
ويقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 225]؛ ويقول أيضًا في الآية التاسعة والثمانين من سورة المائدة: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ﴾، وهنا يأتي الموطن الثالث من مواطن تنفير القرآن من اللغو، فاللغو من الأيمان والأقسام هو الساقط الباطل الذي لا يُعتدّ به، ولا يتعلّق به حُكم، ولا عقد معه؛ ولـمّا كان باطلًا وليس داخلًا في همة المسلم أو قصده، وليس مما يحسُن به الالتفات إليه، أو الاعتماد عليه، جعله الله لغوًا، وعفَا عنه فيما يعفو عنه، والله غفور حليم.
وقد أفاض المفسرون والفقهاء في الحديث عن لغو اليمين، وتعددت آراؤهم فيه تعددًا مبينًا، ولكنك تستطيع أن تلمح فيها بسهولة جامعًا يجمع بين أغلبها، وهو عدم القصد لهذه اليمين، وعدم عقدِ القلب عليها، أو اعتبارها مِن كسبِ المرء المراد له، وإنما هي فلتات اللسان، أو هزات الغضب، أو توابع الخطأ والسهو والنسيان؛ وإليك ما نعرفه من وجوه اختلاف العلماء في تحديد اللغو:
عن ابن عباس: هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا واللهِ، وبَلَى واللهِ، دون قصد لليمين. وعن عائشة: أيمانُ اللغو هي ما كانت في الـمِراء والهزل والمزاح والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب. وعن أبي هريرة: إذا حلفَ الرجل على شيء لا يظنّه إلا أنه إيّاه، فإذا ليس هو، فهو اللغو، وليس فيه كفارة؛ ورُوِي أنّ قومًا تراجعوا القول عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم يَرمُون بحضرته، فحلف أحدهم قائلًا: لقد أصبتُ وأخطأتَ يا فلان، فإذا الأمر بخلاف ذلك؛ فقال الرجل: حَنَثَ يا رسول الله. فقال النبي: «أيمانُ الرُّمَاة لغو، لا حِنْثَ فيها ولا كفّارة»، وعن سعيد بن المسيب: هو يمين المعصية، كالذي يُقسِم ليشربَنّ الخمر، أو ليقطعَنّ الرحم؛ وبِرُّه تَرْكُ ذلك الفعل ولا كفّارة عليه، وقيل: إنّ الحجة في ذلك قول الرسول كما في سنن ابن ماجه: «مَن حلفَ على يمينٍ فرَأى غيرَها خيرًا منها فلْيَتركْهَا، فإنَّ تَرْكَها كفّارة». وعن ابن عباس: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان؛ وذلك لقول الرسول كما في صحيح مسلم: «لا يمينَ في غضب». وعن سعيد بن جبير: لغو اليمين تحريم الحلال، مثل: مالي عليَّ حرام إنْ فعلتُ كذا. وعن زيد بن أسلم: لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه، مثل: أعمَى اللهُ بصرَه، أذهَبَ اللهُ مالَه. وعن مجاهد: هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: واللهِ لا أبيعك كذا، ويقول الآخر: واللهِ لا أشتريه بكذا. وعن النخعي: هو الرجل يحلف ألّا يفعل الشيء ثم يَنسَى فيفعله. وعن ابن عبد البر: اللغو أيمانُ الـمُكْرَه. وعن ابن العربي: أمّا اليمين مع النسيان فلا شك في إلغائها؛ لأنها جاءت على خلاف قصده، فهي لغو محض. وقال الضحّاك: لغو اليمين هي المكفَّرة؛ أي إذا كُفِّرَت اليمين سَقَطَتْ وصارت لغوًا.
الأقوال كثيرة كما ترى، والجامع بين أكثرها أنها غير مُعتبَرة أو مقصودة، فهي لغو، ولا يؤاخَذ صاحبها عليها، والله هو ذو المغفرة، وأقرب الآراء إلى القبول هنا هو القول الأول، أي: ما يحدث في درج الكلام واستعمال المحاورة.
ثم يأتي الموطن الرابع من مواطن تنفير القرآن عن اللغو، وتصويره له بصورة الشيء المكروه المرغوب عنه. فالجنة وهي دار الثواب والنِّعَم، وهي محلّ الزينة والمتعة، تخلو من «اللغو»، وكأنَّ في هذا إشارةً بليغةً من القرآن، ورمزًا دقيقًا للمؤمنين الطالبين لنعيم الجنان، بأنْ يتجنبوا لغو القول ولغو العمل، حتى في لهوهم وتمتُّعهم وسمرهم؛ لأنّ الجنة -وهي مَثَلُهُم الأعلى في المتاع والنعيم- خاليةٌ من هذا اللغو الذي لا يليق. يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا* إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا﴾ [الواقعة: 25- 26].
أي: لا يسمعون في الجنة شيئًا من اللغو أو التأثيم، ولكن يقولون ويسمعون: سلامًا سلامًا، أي: يُفشُون السلام بينهم، فَيُسَلِّمُون سلامًا بعد سلام. ويقول: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 62]؛ أي: لا يسمعون فضول الكلام وما لا طائل تحته، ولكن يُسَلِّمُون سلامًا، ويأتيهم رزقهم فيها رَغَدًا صباحًا ومساءً، ويتكلمون كلامًا يَسْلَمُون فيه من النقيصة والعيب.
ويقول: ﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً﴾ [الغاشية: 11]؛ أي: لا تسمع فيها لغوًا، أو كلمة ذات لغو، أو نفْسًا تلغو؛ إِذْ لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمةِ، وحمدِ الله على ما رزقهم من النعيم الدائم، ويقول: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا﴾ [النبأ: 35]. أي: لا يَكْذِب بعضُهم على بعض، ولا يُكَذِّب بعضُهم بعضًا، ومن الممكن أن نلحظ من طريق الذوق اقتراب اللغو من الكذب، إذا اجتمعا في موطن واحد.
ويقول: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور: 23]، حتى الخمر في الجنة ليس فيها لغو. أي: يتعاطى المؤمنون ويتبادلون هم وجلساؤهم وإخوانهم كأسًا من الخمر لا لغو في شربها؛ فلا يتكلّمون أثناء تناولها بسقط الحديث، أو ما لا نفع فيه، كما يفعل اليوم المجرمون الآثمون المتنادمون على الشراب في عربدتهم وسفههم، ولا يأتون إثمًا كالكذب أو الشتم أو الفواحش، وإنما يتكلمون بالحِكَم والكلام الحسَن، متلذّذين بذلك؛ لأنّ عقولهم ثابتة، وهم علماء حكماء.
وهكذا يُنزِّه الله عبادَه عن اللغو حتى في الآخرة، وهي الدار التي لا تكليف فيها، نعوذ بالله من الخوض فيما لا يعنينا من قولٍ أو عمل.
وقد يكون من مقتضيات الحال أن نعرف شيئًا عن استعمال كلمة «اللغو» في الحديث النبوي الشريف. يقول ابن الأثير في كتاب النهاية: «قد تكرّر في الحديث ذِكْر لغو اليمين، قيل: هو أن يقول: لا واللهِ، وبَلَى واللهِ، ولا يعقد عليه قلبه، وقيل: هي التي يحلفها الإنسان ساهيًا أو ناسيًا، وقيل: هو اليمين في الغضب، وقيل: في الـمِراء، وقيل: في الهزل، وقيل: اللغو سُقوط الإثم عن الحالف إذا كفَّر عن يمينه. يقال: لغا الإنسان يلغو، ولَغِيَ يَلْغَى، إذا تكلّم بالـمُطَّرَح من القول وما لا يَعني، وألغى إذا أسقط... وفيه: (مَن قال لصاحبه والإمام يخطب: أنصِتْ؛ فقد لَغَا). والحديث الآخر: (مَن مسّ الحصا فقد لَغَا)؛ أي: تكلّم، وقيل: عَدَلَ عن الصواب، وقيل: خاب، والأصل الأوّل، وفيه: (والحَمُولةُ المائرةُ لهم لاغيةٌ)؛ أي: مُلغاة، لا تُعَدُّ عليهم، ولا يُلزَمُون لها صدقة، فاعلة بمعنى مُفْعَلَة، والمائرةُ من الإبل: التي تَحمِل الـمِيرة، ومنه حديث ابن عباس: (أنه ألغى طلاق الـمُكْرَه)؛ أي: أبطله. وفي حديث سلمان: (إيّاكُم ومَلْغَاةَ أوَّلِ الليل)؛ الـمَلْغَاة مَفْعَلَة، من اللغو والباطل، يريد السهر فيه؛ فإنه يمنع من قيام الليل».
أمّا بعد، فاللغو في القول والعمل شيء قبيح باطل، وقد صوّره القرآن بصورة منفِّرة في جميع أحواله، وليس من شأن المسلم أن يألفه أو يميل إليه، فلنسأل اللهَ أن يأخذ بنواصينا إلى الجد، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل.