علم علوم القرآن في ضوء إشكالاته
قراءة تحليلية
تقديم:
تتطلّب المعرفةُ الشرعية في عدّة جوانب منها في سياقنا الراهن بحوثًا معمّقة في أُسسها النظرية والمنهجية؛ للكشف عن نقائصها وإشكالاتها، والسعي إلى تجاوزها وتطويرها. ويُعَدّ علمُ علوم القرآن -بوصفه عِلْمًا جامعًا للعلوم القرآنية المختلفة، يروم التعريف بها والحديث النظري عن بعض مبادئها بما يعين على تقريبها وتبسيطها- أحدَ أهمّ العلوم التي تتطلّب نظرًا نقديًّا في بنائها المعرفي والمنهجي، خاصّة في ظلّ الإشكالات التي تلوح في بناء هذا العلم، وهو ما يتطلّب تقويمًا للمنجز الراهن له بغية تطويره وتجاوز إشكالاته.
وقد لاحظ الدارسون أنّ هذا العلم ينطوي على إشكالات متعدّدة؛ كسعة مباحثه وموضوعاته، وحاجته إلى الاستقلال بموضوعه وحصر مباحثه، وغيرها من الإشكالات. وقد سعى عددٌ من الدارسين المعاصرين إلى العمل على تطوير العلم والدفع به إلى الأمام، والعمل على تنظيم موضوعات هذا العلم وترتيبها ووضعها تحت أزمّة كلية. بيدَ أنّ بعض الباحثين ذهب إلى الاستشكال الجذري لهذا العلم، والمطالبة بإلغائه وأنْ لا يكون عندنا حقل علمي اسمه (علوم القرآن)، وذلك تبعًا لإشكالات وثغرات منهجية عديدة أثارها على هذا العلم، ومِن ثَمّ حكم ببطلان عِلْميته في ضوئها[1]. وقد جاءت هذه المقالة في قسمين؛ يهدف الأول إلى النظر في الإشكالات التي أثارها الباحثُ، ويروم الثاني تقديم رؤية تقويمية لهذا العلم في ضوء هذه الاستشكالات.
القسم الأول: استشكالات الباحث خليل اليماني على عِلمية علوم القرآن:
استشكل الباحث خليل اليماني عِلْم علوم القرآن، وذلك في سياق كتاب صدر له مؤخرًا بعنوان: (علوم القرآن؛ نقد العِلْمية ومقاربة في البناء)، وهذا الكتاب يشتمل على دراستين؛ إحداهما بعنوان: علم علوم القرآن، قراءة تقويمية في اعتبار علوم القرآن علمًا. والثانية: بناء علوم القرآن، قراءة تقويمية للمنجز، مع طرح مقاربة منهجية لبناء علوم القرآن. وقد عملت الدراسة الأولى على تقويم عِلْمية علم علوم القرآن، والبحث في تشكّله التاريخي، وعملت الثانية على تقويم عِلْمية علوم القرآن وطرحَت رؤية جديدة لبناء هذه العلوم في ضوء استشكالها لعلميتها في سياقها القائم، وما يعنينا هاهنا هو الدراسة الأولى، لا سيما ما يتعلق بالجانب الخاصّ بتقويم عِلمية علوم القرآن، حيث سننظر في كيفية تحديد الباحث لقضية علم علوم القرآن، ثم في الإشكالات التي أنتجها اختلال قضيته وفق تصور الباحث.
أولًا: اختلال قضية العلم:
قد استهلّ الباحثُ دراسته بتمهيد بَيّن فيه الأُسس المنهجية لاشتغاله وكيفيات تقويمه لعلم علوم القرآن، وبَيّن أنّ قضية العلم وموضوعه هي الأساس في النظر لعلمية العلم وأن هذه القضية الشرط فيها أن تكون كلية لا جزئية، لكون القضايا الكلية هي القادرة وحدها على تشقيق حالة بحث هائل قابلة لدوام الاشتغال، بخلاف القضايا الجزئية التي لا ينتج عنها حركة بحث كبيرة وتسير بكتابات محدودة جدًّا ويمكن اعتبارها مسارات بحث لا غير؛ وذلك لكون القضايا الجزئية إن اعتُبرت علومًا -كما بيّن الباحث في دراسة أخرى- سيقود إلى توسّع هائل في العلوم، وهو ما يجد شاهده الأمثل في علوم القرآن نفسها، وأيضًا، فإنّ هذه القضايا الجزئية غالبًا ما تكون مندرجة في إحدى القضايا الكلية، وبالتالي، فقد يؤدي الانشغال بالجزئيات إلى الغفلة عن أصولها الكلية[2].
وفي ظِلّ هذا النظر، انطلق الباحثُ في ضبط وتحرير قضية علم علوم القرآن فرأى -من خلال استقراء بعض النقول عن المؤلّفين في علوم القرآن- أنها تتلخّص في الإيراد الجمعي لأنواع علوم القرآن والحديث النظري عنها. وزيادةً في تأكيد محورية فكرة الإيراد الجمعي في علم علوم القرآن، فقد استدلّ الباحثُ بعدّة أمور تؤكّد هذا المسعى في العلم، ومنها:
- تعريف العلم:
حيث حرصَت تعاريف العلم على تعريفه من خلال تعديد موضوعاته، بدل تحديد قضية كلية جامعة تنضوي تحتها هذه المباحث[3].
- تأمّل التآليف المؤسّسة للعلم:
وذلك لكون هذه المؤلّفات هي الحامل لمفهوم العلم الذي جرى التتابع عليه في الدرس المعاصر؛ وهذه الكتب هي: فنون الأفنان في علوم القرآن لابن الجوزي، والبرهان في علوم القرآن للزركشي، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي. وبالنظر في المقدمات التي وضعها مؤلِّفوها، فقد صرّحوا فيها بغرضهم من التأليف، وهو جمع أنواع علوم القرآن على غرار علوم الحديث[4]. كما أنّ الواقع التطبيقي لهذه الكتب يعزّز ما ورد في مقدّماتها؛ إِذْ حرصوا على ذِكْر الأنواع وتخصيص باب أو فصل لكلّ نوع والحديث عنه منفردًا[5].
بعد هذا التحرير لقضية العلم، انتقل الباحثُ لتقويم هذه القضية ومدى صلاحيتها لأن تكون عِلْمًا مستقلًّا، وقد ذهب الباحثُ إلى عدم صلاحيتها لتأسيس علم؛ لأنها قضية ليست كلية وإنما هي جزئية تسدّ بكتابات محدودة، كما أنّ غاية الجمع تخلو من أيّ اشتغال بحثي نحو موضوعٍ ما على القرآن الكريم يحصل من ورائه إنتاج معرفي خاص، وإنما الأمر مقتصر فقط -في ضوء هذه الغاية الجمعية- على إيراد بعض المضامين وانتخابها من علوم أُنتجت باستقلالٍ عن هذا العلم[6].
إنّ جوهر اعتراض الباحث على عِلمية علوم القرآن قائم على استحالة أن يكون محض الجمع بمفرده مشغلًا علميًّا، يصير بموجبه مستحقًّا لأن يُفرد بعلمٍ خاصّ؛ لأن هذا الصنيع الجمعي ينتهي ببعض الكتابات، فضلًا عن أنه لا يمكن أن يؤسّس لمعرفةٍ خاصة، فليس له نقطة عمل على القرآن الكريم.
ثانيًا: إشكالات علوم القرآن:
بناء على تحديد الباحث لقضية علم علوم القرآن المركزية، وهي قيامه على فكرة الإيراد الجمعي فحسب، لاحظ الباحثُ أنّ إشكالات هذا العلم نتجت عن افتقاده لقضية مركزية تصلح لأن يُبنى عليها العلم، وأنّ دورانه حول الإيراد الجمعي فحسب أدّى إلى وقوعه في إشكالات جذرية يصعب معها استمرار العلم في صورته الحالية؛ وفي ما يأتي إجمال بعض استشكالات الباحث:
- إشكال دلالة الاصطلاح على اشتغالٍ محدّد للعلم:
أشار الباحثُ إلى غموض تسمية العلم، وأنّ لفظة علوم لا تدلّ على اشتغالٍ محدد لهذا العلم، ولا على قضية كلية تنتظم موضوعاته وقضاياه؛ وهو ما يجعل الدلالة الاصطلاحية لِلَقب العلم غائمة وغير واضحة. كما أنّ لفظ (علوم) عام جدًّا، وهو ما يتناسب وحالتي الاتساع والجمع اللتين تَسِمان هذا العلم[7]. والحاصل أنّ هذا الغموض في دلالة لقب العلم قد أدّى إلى إشكالين:
- اتساع دلالة الاصطلاح على مضمون العلم: فكلمة علوم تشير إلى كلّ ما يستنبط من القرآن، وهو ما لا يتعلّق به هذا العلم.
- غرابة التسمية: فليس من المعهود أن يكون هناك عِلْمٌ يسمّى بعلوم كذا، وبتتبع تعليلات الدارسين لهذه التسمية يخلص الباحث إلى أنها تتضمن ما قد يجرح علمية هذا العلم؛ فقد علّلها الزرقاني بكونه سُمِّي بعلوم القرآن لتضمّنه خلاصات علوم أخرى، وهو ما يغفل عن أنّ العلم يجب أن يكون منتجًا لمعرفته الخاصة ومستقلًّا بقضية اشتغال محدد لا مجرد تجميع لخلاصات باقي العلوم[8].
- إشكال تعريف العلم:
لاحظَ اليماني عند تتبّعه للتعاريف المقدّمة لعلم علوم القرآن أنها تتسم في مجملها بذِكْر بعض الموضوعات والمواد والقضايا الداخلة تحته، وهنا بعض النماذج التي ذكرها:
- الزرقاني: «مباحث تتعلّق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه وجمعه وقراءته وتفسيره وإعجازه وناسخه ومنسوخه ودفع الشُّبَه عنه، ونحو ذلك»[9].
- ضياء الدين عتر: «علم يضم أبحاثًا كلية مهمّة تتصل بالقرآن من نواحٍ شتى، يمكن اعتبار كلّ منها علمًا متميزًا»[10].
- عبد المجيد غزلان: «علم يتألف من مباحث تتعلّق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وجمعه وترتيبه وبيان الوجوه التي نزل عليها وأسباب نزوله وشرح غريبه ودفع الشبهات عنه، وغير ذلك من كلّ ما له اختصاص به»[11].
- مساعد الطيار: «جملة من أنواع المعلومات المضبوطة ضبطًا خاصًّا، المتعلقة بالقرآن الكريم من حيث نزوله وجمعه وقراءاته ومكيه ومدنيه وأسباب نزوله، وما إلى ذلك»[12].
- مناع القطان: «العلم الذي يتناول الأبحاث المتعلّقة بالقرآن من حيث معرفة أسباب النزول، وجمع القرآن وترتيبه، ومعرفة المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، إلى غير ذلك مما له صلة بالقرآن»[13].
فهذه التعاريف -كما هو ملاحظ- متواطئة في طريقة التعريف، وهي التمثيل بذِكْر بعض المباحث، مع الإشارة إلى مباحث أخرى بعبارة: ونحو ذلك؛ وما إلى ذلك؛ وغير ذلك... والخلل المركزي في هذه الطريقة -حسب اليماني- راجع إلى عدم قدرتها على حصر موضوعات العلم، فتظلّ كثير من المباحث خارجة عن التعريف، وبالتالي، تفتقد هذه التعاريف صفتي: الجمع والمنع؛ ومعها تصبح حدود العلم غائمة وغير واضحة، ويصعب معها تمييز الموضوعات الداخلة في حقيقة هذا العلم، والخارجة عنه. وقد فسّر الباحث عجز الدارسين عن وضع تعريف جامع مانع للعلم، بكون العلم نفسه غير واضح الحدود، و«أنه بلا مفهوم خاصّ؛ كون قضيته ليست قضية علمية... ناهيك عن أن كثرة أنواع العلوم في هذا العلم تجعل من غير الممكن الإحاطة بحدوده في التعريفات، وإنما النزع فقط لذِكْر بعض القضايا والاكتفاء بها في التعريف»[14].
- إشكال غياب الثمرة المنضبطة:
أثّرت طبيعة هذا العلم -من حيث هو جمع لخلاصات علوم أخرى- في الثمرة المرجوة من دراسته، وحاصلها في نظر الباحث أنّ دارس العلم يكتفي بالتعرّف على أنواع علوم القرآن؛ وبالتالي، تكون المحصلة «نُتَفًا من المعلومات المتنوّعة حول قضايا بالغة الكثرة وعظيمة التباين والاختلاف»[15].
كما أنّ هذه الثمرة في ذاتها -كما يلاحظ الباحث- ليست كافية؛ لكونها ليست سوى مدخل يؤهّل الطالب إلى التوسع في تلك العلوم المفردة حتى يستطيع تحصيل تلك العلوم والمشاركة فيها، أمّا الفوائد المحصلة من علم علوم القرآن فلا تؤهله للتخصّص في هذه الأنواع بله الإضافة والإسهام فيها.
- إشكال غياب الموضوع:
لما كان موضوع العلم -كما يؤكد اليماني- هو أهمّ ما يميز العلوم بعضها عن بعض ويمنحها هويتها المستقلة، فقد كان من المنتظر أن يكون لعلم علوم القرآن موضوعه البحثي المستقلّ، لكن ما يلاحظه الباحثُ أننا في هذا العلم نقف أمام موضوعات كثيرة ومتعددة لا رابط بينها سوى اتصالها بالقرآن؛ إضافة إلى غياب قضية بحثية كلية بسبب غاية الاكتفاء بالإيراد الجمعي[16].
- إشكال غياب المباحث والموضوعات:
إنّ حيازة العلم لموضوع محدّد يؤدي إلى تفريع القضايا والمباحث والموضوعات التي تتصل اتصالًا وثيقًا بالقضية الكلية للعلم؛ وما يلاحظه اليماني أنّ مصنفات علوم القرآن انشغلت بالجمع لأنواع علوم القرآن، وهذه الأنواع موضوعات متمايزة ولها استقلالها الخاص، وليست موضوعات موحدة الجهة والهدف والغاية. كما يلاحظ الباحث أنّ التقريرات الواردة في الأنواع ليست وليدة البحث في هذا العلم، وإنما هي ناتجة عن حركة البحث في تلك العلوم حال استقلالها. وقد أورث هذا الإشكال علم علوم القرآن ضعفًا في حركة البحث؛ حيث لا نجد -كما يلاحظ الباحث- تيارات أو مدارس أو اتجاهات بحثية داخل العلم كما هو الحال في العلوم الأخرى، إلى جانب غياب اصطلاحات للعلم ومسالك منهجية في البحث والنظر، وعجزًا عن توليد معرفة مستقلة خاصّة بهذا العلم؛ إذ يعتمد في الأساس على خلاصات مستلّة من علوم أخرى...
- إشكال الاتساع الهائل وغياب سياج ضابط للمباحث:
يرى الباحثُ أنّ علم علوم القرآن يتسم باتساع بالغ في فروعه ومباحثه، إلى حدّ استعصاء حصر هذه الفروع؛ وذلك لغياب الضابط المنهجي الذي من خلاله يمكن تحديد المسائل الداخلة في العلم من الخارجة عنه؛ إِذْ كلّ مسألة تتصل بجانب من جوانب القرآن يمكن عدّها من مسائل العلم، خاصّة مع تصريح بعض المؤلّفين بإمكان تفريع علوم جديدة، وجعلوا ضابطهم في هذا التفريع أن تكون المسألة صالحة لإفرادها بالتأليف؛ وهو ما سيجعل إمكان حصر موضوعات العلم شبه مستحيل. ورغم محاولات بعض الدارسين وَضْع معايير لتحديد مسائل العلم وحصرها، إلّا أنّ الباحث رأى أنها تفتقد إلى الدقة المنهجية اللازمة؛ ومن هذه الضوابط:
- معيار دلالة القرآن على موضوع العلم: وذلك لكون كثير من العلوم المندرجة فيه لم يدل عليها القرآن؛ كالخط والرسم وعدّ الآي والجمع...
- معيار خدمة العلم للقرآن: وذلك لصعوبة ضبط وجوه الخدمة لكثرتها...
- معيار الاستقلالية: أي أنْ لا يكون العلم جزءًا من علم آخر؛ وهو معيار دافعَ عنه عبد الله الجديع، ويرى الباحث أنه غير دقيق؛ لكون الجديع أدخل النَّسْخ في علوم القرآن رغم أنه مستقلّ أيضًا. كذلك فقد تكون لهذا المبحث خصوصية جديدة في علوم القرآن لم تكن له في علمه الأصلي[17].
- إشكال غياب خدمة الممارسة المعرفية الإنتاجية:
يذهب الباحثُ إلى أن العلوم هي حركة بحث خادمة للممارسات بالأصالة؛ تقنينًا للممارسات أو صناعةً للوعي بواقعها القائم، وهذا تصنيف للعلوم استمدّه بالأساس من الساحة الفقهية الأصولية وطريقة بناء علومها[18].
وفي ضوء هذا التقرير، يلاحظ الباحثُ أن علوم القرآن تتضمن مداخل متعددة لعدّة ممارسات معرفية يتعذّر توحيد جهتها؛ فمدخل التفسير مثلًا يختلف عن جمعه وترتيب سوره؛ كما يلاحظ أن المعرفة المتضمنة في أبواب علوم القرآن لا تسعى إلى خدمة الممارسة في ذلك النوع وتقنينها، أو إلى صناعة الوعي بها؛ إِذْ تكتفي بسرد بعض القواعد دون استقصاء، مع التمثيل لها ببعض النتائج... كما يذهب الباحث إلى نقد تصوّر شائع عن العلم باعتباره إطارًا نظريًّا لتقنين الممارسة التفسيرية؛ لكون هذا الإطار يتطلّب جردًا لموارد التفسير وكيفيات توظيفها، بل إنّ الناظر في علوم القرآن -بحسب الباحث- «يعجز عن مجرّد ضبط موارد التفسير ضبطًا محررًا وبيان الثابت منها والمتغير في الممارسة التفسيرية وكذا الكلي والجزئي؛ ما يجعل القول بأن علم علوم القرآن ومشتملاته تعمل على تقنين الممارسة التفسيرية ظاهر الغلط»[19].
وأخيرًا، فإنّ ما في علوم القرآن -حسب الباحث- من تأطير للممارسة التفسيرية لا ينطلق مِن تأملِ واقعها التطبيقي كما تجسد في كتب التفسير؛ لذلك يظلّ تنظيرًا منفصلًا عن التطبيق؛ وهو ما يفضِي لطرح تنظيرات مباينة لواقعها التطبيقي[20].
- إشكال غياب المقرّرات التعليمية الضابطة للعلم:
تحتاج العلوم إلى وضعِ برامج لتحصيلها بكيفية متدرّجة، وتراعَى في هذه البرامج أن تحيط بالمحاور الكلية للعلم، فيتشكّل وعي الطالب بالعلم كلّه، ثم يحصل له التعمّق فيه تباعًا. وبالنظر في ما كتبه الدارسون لعلم علوم القرآن، يلاحظ اليماني أنها كتابات تقوم على تخيّر بعض المباحث وانتقائها والحديث عليها، مع تباينها في الاختصار والتوسع. والجامع بينها -حسب الباحث- أنها لا تحيط بجميع أبواب علوم القرآن. كما يلاحظ أن هذه المؤلَّفات لم تراعِ التدرج في المستوى؛ إِذْ يقرّر الكتاب الواحد على عدد من السنوات الدراسية. ولما كانت أبواب علوم القرآن بالغة التعدّد، فقد استعصى طرحها في مقرّر تعليمي واحد، وتبعًا لذلك استعصى وضع مقرّرات على الطريقة المعهودة في باقي العلوم. وأيضًا، فثمة عائق أساسي يقف في وجه بناء مقرّرات متدرجة في العمق المعرفي؛ ذلك أن جوهر علم علوم القرآن قائم على تبسيط المعرفة الواردة في علومه حال استقلالها، وبالتالي، فالتوسّع لو حصل سيكون بالخروج عن هذا العلم والانتقال لساحات تلك العلوم نفسها حال كونها مستقلة.
القسم الثاني: استشكالات الباحث خليل اليماني على علمية علوم القرآن؛ تحليل وتقويم:
إنّ الناظر أولًا في الأُسس المنهجية التي قام عليها النقاش لعلمية علوم القرآن يجدها وجيهة، فهي تضبط النظر للعلم؛ ذلك أن قضية العلم هي العلم فعلًا، ومتى نظرنا إليها فقد نظرنا للعلم من حيث هو، بعيدًا عن مضامينه المتشعّبة ومسائله الكثيرة، كما أنّ اشتراط كلية قضية العلم اشتراط وجيه يرتّب النظر لمسألة العلمية، ويفصل بين العلوم ومسارات البحث بطريقة مناسبة ليس فيها إشكال.
ويظهر للمتأمّل في الحُجج التي قدمها اليماني صواب ما ذهب إليه من افتقار علم علوم القرآن إلى قضية علمية منضبطة، وأنّ القضية التي يقوم عليها هذا الحقل مشكلة في ذاتها. وفي ما يأتي مناقشةٌ وتحليل لبعض الحُجج التي قدّمها في بيان إشكالات العلم في ظلّ قضيته، وسعيٌ إلى تعميق النظر في بعضها:
أولًا: استحالة التعريف:
مما يؤكّد استنتاج الباحث حول تأثير غياب قضية منضبطة للعلم على بروز إشكالاته النسقية؛ مسألةُ استحالة التعريف، وهي مسألة شديدة الارتباط بغياب قضية سديدة للعلم. إِذْ في حضور مثل هذه القضية، سيُكتفَى في التعريف بربط العلم بالنظر في هذه القضية، لكن في غيابها، لجأت التعاريف إلى طريقة أخرى، وهي التمثيل -كما رأينا- ببعض المباحث والموضوعات التي يدرسها العلم. لكن هذه الطريقة اصطدمت بإشكال آخر يتعلّق بطبيعة القضية وأنها محض تجميع للعلوم، وهو إشكال سعة الموضوعات وكثرتها، إلى حدّ استحالة جمعها في قضية أو موضوع مركزي يستقلّ العلم بمعالجته. ولذلك، ففي بعض التعاريف التي قدّمت للعلم، يُلاحَظُ أنها كانت تُضيف قيدًا إضافيًّا لتحديد موضوعات العلم؛ فالقطان يُضيف: «إلى غير ذلك مما له صِلَة بالقرآن»، وعبد المجيد غزلان يضيف: «وغير ذلك من كلّ ما له اختصاص به -أي القرآن-». ومعنى ذلك أن كلّ قضية تتصل بالقرآن بوجه من الوجوه يصح دخولها في هذا العلم. وهو ما يؤكّد سمة التشعّب في علوم القرآن، الأمر الذي يجعل حصرها شبه مستحيل.
ثانيًا: صلة إشكال الاقتراض والتشعّب بغياب مفهوم مركزي للعلم:
إنّ الناظر في علم علوم القرآن لا شك سيلاحظ مع الباحث أنّ موضوعات هذا العلم تتسم بتشعّب شديد، وقد نتج هذا التشعب عن كون هذا العلم بلا مفهوم خاصّ كما استخلص اليماني. وما يمكن إضافته هنا أن هذا العلم لمّا كان مجرّد تجميع للعلوم القرآنية والكلام عليها، ولمّا كان القرآن كتابًا مركزيًّا دارت حوله علوم كثيرة درسته من مختلف جوانبه؛ فقد اتجه بعض العلماء إلى جمع كلّ ما له صلة به، فجُمعت كثير من موضوعات هذا العلم من علوم أخرى. وقد يعترض هنا بالقول إنّ هذا الاقتراض مسألة طبيعية في العلوم، فكثير من العلوم تستمد بعض قضاياها من علوم أخرى تأخذها مسلّمة ثم تبني عليها. والحال أن هذا الاعتراض كان سيُقبل لو أنّ علوم القرآن وسّعت من اشتغالها على هذه القضايا المستمدة من تلك العلوم؛ بيدَ أن طبيعة علم علوم القرآن القائمة على محض الجمع جعلت من هذا الاستمداد غاية لها، ولم تضف إليه إنتاجًا معرفيًّا جديدًا.
ومن أمثلة الوقوف عند مسألة الاقتراض وعدم تجاوزها إلى الإنتاج المعرفي، ما نجده عند العلّامة محمد الطاهر بن عاشور[21] في مقدّمة تفسيره، وتحديدًا في المقدمة الثانية المتعلقة باستمداد علم التفسير، حيث يذكر أنّ الآثار المروية عن الصحابة ليست من العلوم التي يستمد منها علم التفسير مسائله؛ لكون هذه المرويات هي من صميم علم التفسير؛ يقول: «اعلم أنه لا يعدّ من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير آيات، ولا ما يُروى عن الصحابة في ذلك؛ لأن ذلك من التفسير لا من مدده»[22].
والملاحظ وفق هذا التصوّر أنّ مرويات أسباب النزول في أصلها تندرج ضمن هذه المرويات التفسيرية، فهي بهذا الاعتبار من صميم علم التفسير، وليست علمًا مستقلًّا عنه. ويعضد هذا أن مرويات أسباب النزول إنما استُلّت من مؤلَّفات التفسير ثم أُفردت لاحقًا بالتصنيف، فلم تكن عند نشأتها منفصلة عن التفسير. ثمإذا نحن وسّعنا نظرنا في طائفة أخرى من علوم القرآن، وجدناها لا تخرج عن وضع أسباب النزول؛ فهي أيضًا علوم مُستَلّة من التفسير، وقد أخذت منه؛ فمثلًا، إذا نظرنا إلى علوم المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، فسنجد أن هذه الأبواب تتضمّن عددًا من المرويات التي تخبرنا عن أماكن نزول هذه الآيات، أو عن الآيات التي نزلت ناسخة لآيات سابقة لها. وهذه الروايات استقراها العلماء وجمعوها من مرويات مفسِّري السَّلَف ومحدّثيهم. وإذا ذهبنا إلى حضور هذه العلوم في علوم القرآن، فسنجد أنها تضمّنت بعض الأمثلة لمرويات أسباب النزول والناسخ والمنسوخ التي ذُكرت في كتب التفسير الأولى. ووجه الإشكال هنا أن علم علوم القرآن اكتفى بمحض الاستمداد، ولم يَبْنِ على هذه المعرفة المستمدة معرفةً جديدة. وذلك أن الهدف من الاستمداد أن تكون القضايا المستمدة مقدمات تُبنى عليها وتتولّد منها معارف جديدة، وهذا ما لم نلحظه.
ومن الأمثلة التي تعزّز ما ذكرناه من أنّ كتب علم علوم القرآن في تفريعها لأنواع العلوم لم تزد على محض الاستمداد؛ فقد ذهب الطاهر بن عاشور -تبعًا للسكاكي ولغيره من القدماء- إلى جعل علمي البيان والمعاني من أهم أدوات المفسِّر للوقوف على معاني ألفاظ القرآن وتراكيبه وأسراره ودقائقه[23]. وبالنظر إلى كثير من علوم القرآن التي عدّها الزركشي ثم السيوطي، نجد أنها مجرّد تطبيق لعلوم اللغة والبلاغة على القرآن، وبالتالي فهي من مسائل علم التفسير؛ فإذا نظرنا مثلًا إلى علم الغريب وإلى علم المعَرَّب؛ وإلى ما نزل في القرآن بغير لغة قريش، فهي علوم مستقلّة تابعة لعلوم اللغة، وبالتحديد لعلم متن اللغة (أو المعجم بالتعبير المعاصر)... وكذلك علم حقيقة القرآن ومجازه، وخبره وإنشائه، وكالكنايات، والاستعارة والتشبيه، والأمثال، والإيجاز والمساواة والإطناب، فهو تطبيق لمباحث البلاغة على القرآن، وأمّا العلم بعامّه وخاصّه، فهو تطبيق لأحد مباحث أصول الفقه... وهذا التطبيق يتم داخل علم التفسير؛ إِذْ يستمد هذا العلم أدواته من علوم اللغة والبلاغة والأصول، ثم يطبقها على آيات القرآن ليستخرج هذه القضايا؛ ولذلك، فهي في أصلها من صميم مسائل علم التفسير الصريحة... وعلى هذا النحو قس كثيرًا من أنواع علوم القرآن، فهي علوم أُخذت من التفسير ثم أُفردت بمؤلَّفات مستقلّة لجمع النظائر مع بعضها.
وهذا عمل بلا شك لا يخلو من فائدة، ويمكن البناء عليه وتوسيع البحث فيه للكشف عن طبيعة لغة القرآن وإعجازه وفرادة أساليبه، ويمكن البناء عليها أيضًا لتحليل آليات انتظامه وترتيب معانيه، والوقوف على طرائقه في تأدية المعاني، وصِلَة هذه الطرائق بأساليب العرب في كلامها؛ لأجل الكشف عن أوجه التلاقي والافتراق بين القرآن وسائر الكلام العربي زمن النزول شعرًا ونثرًا، وغيرها من الأغراض العلمية... لكن ما يهمنا هنا أنّ دمج هذه المباحث المستلّة من التفسير في علم علوم القرآن لم يؤدِّ إلى تطوير هذه المباحث في الاتجاهات التي ذكرنا، وإنما أُوردت بكيفية مختصرة ومنتقاة؛ ومنع من توسيعها طبيعة العلم، من حيث هو جمع محض.
بقي أمر أخير، متعلّق بتوضيح إشكال وقوف علوم القرآن عند حدّ الاستمداد دون مجاوزته إلى تطوير هذه المباحث بعد استمدادها، وبيانه أنّ لكلّ علم نوعين من المسائل:
- الأولى: المسلّمات التي يستمدها من علوم أخرى على أن تبرهن في تلك العلوم؛ يقول الغزالي: «وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مبادئ تؤخذ مسلّمة بالتقليد في ذلك العلم، ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر»[24].
- الثانية: المسائل التي يبرهن عليها في ذلك العلم.
فإذا اعتبرنا قضايا بعضٍ من علوم القرآن -كالخاص والعام والحقيقة والمجاز والغريب- مبادئ ومسلّمات مستمدة من التفسير (وقد نشأت في التفسير بتطبيق آليات علوم الأصول والبلاغة واللغة على القرآن)، فأين مسائل علم علوم القرآن التي يبرهن عليها فيه إذن؟ إننا نجد جميع هذه المسائل مستمدة من تلك العلوم. فبقي أنها مجرّد تطبيقات جزئية لتلك العلوم، وليست علومًا مستقلة -بالمعنى الصناعي للعلم-. وبناءً على هذا الأساس، يتضح أن هذه التطبيقات الجزئية للغريب والحقيقة والمجاز والخاص والعام هي في الأصل من مسائل علم التفسير، أُخذت منه ثم أُفردت بالتصنيف، بناءً على وحدة الموضوع؛ فصرنا أمام محضِ تنظيمٍ للمسائل المتشابهة في علم التفسير، وجمعِ النظائر إلى بعضها دون إضافةٍ معرفية حقيقية. والحاصل أن طبيعة العلم القائمة على الاكتفاء بجمع العلوم القرآنية والكلام عليها على نحوٍ مختصر، أدّى بهذا العلم إلى أن تقف حركة نموّه وإنتاجه المعرفيَّين، وإلى أن يصير عِلْمًا بغير موضوع مستقلّ. على أننا إن سِرنا على هذا النهج، فسنصل إلى عدد هائل من علوم القرآن: منها علم الفصل والوصل في القرآن، علم التقديم والتأخير في القرآن، الحذف والذِّكْر في القرآن، أجناس البديع في القرآن... وبهذا، ستمتد العلوم القرآنية وتتشعّب ويصعب حصرها.
ثالثًا: غياب التجانس في موضوعات العلم:
أشار اليماني في تحليله إلى إشكال تعدّد القضايا المركزية في علوم القرآن عند إشارته لسعة هذا العلم كما رأينا، وبناءً على ملاحظته، يمكن الوقوف على إشكال آخر من إشكالات هذا العلم، وهو غياب التجانس في مباحثه، وهو ناتج أيضًا عن طبيعته القائمة على الإيراد الجمعي؛ إِذْ لم يشترط في الجمع أن تكون الموضوعات خادمة لقضية مركزية محدّدة، فنتج عنه جمع لقضايا متنافرة بطبيعتها، وفي ما يأتي بيان هذا الإشكال؛ فنقول: إنّ لكلّ علم موضوعه الذي يستقل به؛ وعن هذا الموضوع تتفرّع المسائل وتعالج ويبرهن عليها. لكن، ثمة إشكال آخر يعوق علوم القرآن عن أن تصير علمًا، وهو أن تعدّد الموضوعات التي تندرج تحته جعلها غير متجانسة، وليست متحدة في الجهة. ولذلك، يلحظ الناظر في الدراسات التقويمية لعلوم القرآن وَعْيها بهذا التشعّب والاتساع والتنافر -أحيانًا- بين مكونات هذا المجموع، فسعَت إلى تجميعها في محاور وأقطاب كبرى جامعة لهذه الأنواع، بغية إسباغ نوع من التجانس والاتساق بينها. وقد ساعدنا الباحث خليل اليماني في جمع هذه المحاولات، ونكتفي منها بما يأتي:
بيدَ أن لنا ملاحظات على هذه المساعي؛ فبرغم أهميتها في ترتيب مباحث علوم القرآن وجمعها في معاقد كبرى؛ إلا أن تجميع هذه المعاقد بدورها في علم واحد يطرح نفس الإشكال الأول. إِذْ تظل هذه الموضوعات الكبرى بدورها غير متمايزة وغير متحدة الجهة[25]، وبهذا لا يمكن عدّها علمًا واحدًا؛ فما يتصل بالتأويل مثلًا، موضوعه الفهم؛ أمّا ما يتصل بالجمع والتدوين والتواتر، فهي موضوعات من طبيعةٍ تاريخية؛ وبالتالي، فمنهج النظر والبحث والاستدلال فيها مختلف عن منهج النظر والاستدلال في مباحث التأويل. وبما أننا أمام تمايز في الموضوع، فلا حاجة إلى جعلهما تحت علم واحد. لكن قد يعترض المعترض بأنهما يشتركان في انشغالهما بالقرآن وتعلقهما به. بيدَ أن هذا لا يكفِي في عدّهما علمًا. فالاشتراك في المادة لا يعني الانتماء إلى نفس العلم[26]؛ فعلم الاجتماع مثلًا وعلم التاريخ وعلم الفقه تشترك في المادة المدروسة، وهي أفعال الإنسان، لكنها تختلف باختلاف الموضوعات أو جِهات النظر: فالتاريخ ينظر إلى الأفعال الإنسانية الماضية، وبالتالي فمنهجه استردادي قائم على تتبّع الشواهد والروايات الباقية من الماضي؛ وعلم الاجتماع يدرس أفعال الإنسان بلحاظ تفاعله مع محيطه الاجتماعي وعيشه مع الآخرين وقوانين هذا التفاعل وأنماط علاقاته...؛ والفقه يدرس أفعال الإنسان لكن من زاوية معيارية قائلة على ما يجب فعله وما يجب تركه... فهنا، رغم اتحاد المادة، إلا أننا أمام علوم متمايزة. وهنا مثال آخر؛ فإذا نظرنا إلى علم اللسانيات والمنطق مثلًا، فإنهما عِلْمان مختلفان ومستقلّان عن بعضهما؛ إِذْ لكلّ منهما موضوعه البحثي الخاص، بيدَ أنّ هذا لم يمنع اشتراكهما في المادة المدروسة -اللغة-؛ فاللساني يهمّه من هذه المادة أنساقها التي تنتظم أصواتها ومفرداتها وتراكيبها ودلالاتها وغيرها... وأمّا المنطقي، فيهمّه منها الأنساق الصورية التي تضبط عمليات الاستدلال فيها والتدرج من المقدمات إلى النتائج... وكذلك الشأن في علوم القرآن؛ فهي وإن اشتركت في المادة، لكنها اختلفت في زوايا النظر وجِهاته. ولذلك، لم يَسُغ أن تندرج ضمن علم واحد.
ولا يسع الباحث هنا إلّا أن يُرجِع عِلّة هذا التنافر في الموضوعات إلى كون طبيعة علوم القرآن قائمة على جمع كلّ ما يتصل بالقرآن، فلم يُشتَرَط في الموضوعات أن تكون من طبيعة واحدة، أو منضبطة من جهة واحدة، بل اشتُرِطَ محض التعلّق بالقرآن بوجه من الوجوه. وهو نفس الإشكال الذي أدّى إلى التشعّب الذي أشرنا إليه في الأعلى، وإلى الوقوف عند الاستمداد دون إضافة معرفية حقيقية، وإلى أن يكون ذا طابع تلخيصي وانتقائي.
رابعًا: إشكال التداخل بين علم علوم القرآن وعلم أصول التفسير:
أشرنا إلى إشكال غياب التجانس في مباحث علم علوم القرآن؛ ولذلك، يجد الناظر كثيرًا من أنواع علومه مسائلَ مأخوذة من ممارسة التفسير، وعلومًا أخرى يمكن عدّها خادمة للتفسير (يمكن استثمارها لبناء علم أصول التفسير). وثمة قسم ثالث مستقلّ عن التفسير (خاصة المباحث ذات الطبيعة التاريخية كالجمع والتدوين والتواتر، والمتعلّقة بالمصحف كالرسم وغيرها، والمتعلقة بالأداء كالقراءات والتجويد والوقف والابتداء). وهذه الأقسام بطبيعتها غير متجانسة؛ فالقسم الخادم للتفسير يفترض فيه أن يكون كليًّا قواعديًّا، يحدد آليات الفهم السليم للآيات، وقواعد الترجيح، وغيرها، وهو من حيث الرتبة سابق على علم التفسير... وأمّا القسم الثاني، فهو عبارة عن مسائل مأخوذة من التفسير بعد أن تطبق على القرآن الآليات السابقة كالبلاغة وعلوم اللغة وأصول الفقه؛ ولذلك، فهي قضايا جزئية ناتجة عن تشغيل القضايا الأولى، فلا يمكن أن تجتمع مع القسم الأول. وأمّا القسم الثالث، فمستقل عن التفسير تمامًا. وقد أدّى غياب التجانس هذا إلى إشكالِ التداخل بين علم أصول التفسير وعلوم القرآن؛ ذلك أن الناظر في كتب علوم القرآن يلحظ اختلافًا في العلاقة بين علم علوم القرآن وعلم أصول التفسير؛ وكما لاحظ الباحث محمد الحيرش، فإنّ المؤلفين الأوائل في علوم القرآن كانوا يرون أنها تندرج في أصول التفسير، وأنّ الزركشي كان يسعى إلى الكشف عن الأصول والقواعد التأويلية التي تنتظم معرفة المفسِّرين بالنصّ القرآني[27]؛ وإلى الموقف نفسه ذهب مناع القطان وفهد الرومي، حين جَعَلَا علوم القرآن وأصول التفسير اسمين مترادفين لنفس العلم. بيدَ أن الدكتور مساعد الطيار ذهب إلى اعتبارهما عِلمين متمايزين، وجعل علوم القرآن أعمّ من أصول التفسير.
يقول مناع القطان عن علاقة علوم القرآن بـأصول التفسير: «وقد يسمّى هذا العلم بأصول التفسير، لأنه يتناول المباحث التي لا بد من معرفتها للاستناد إليها في تفسير القرآن»[28].وأمّا فهد الرومي، فيذهب إلى نفس موقف مناع القطان، ويعتبر هذا العلم مرادفًا لعلم أصول التفسير، فيقول: «ويسمَّى هذا العلم بأصول التفسير؛ لأنه يتناول العلوم التي يُشترط على المفسِّر معرفتها والعلم بها»[29].
وخلافًا لهما يذهب مساعد الطيار؛ حيث نجده يفصل بين العلمين، فيقرّر أن: «أصول التفسير هي المبادئ العلمية الأولى التي يحتاجها مَن يريد تعلّم علم التفسير والتبحّر فيه، وهي جزء من علم التفسير. وعلم التفسير جزء من علوم القرآن. فكلّ معلومة من أصول التفسير هي من علوم القرآن وليس كلّ معلومة من علوم القرآن هي من أصول التفسير»[30].
والناظر في هذا الخلاف سيجد أنه راجع إلى البنية المتداخلة لعلوم القرآن؛ إِذْ سيجد فيها كلّ طرف ما يؤيّد دعواه؛ فبالنسبة إلى مناع القطان وفهد الرومي، فقد نظرَا إلى القسم الأول من علوم القرآن الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة، حيث تحضر طائفة من المباحث التي تعين المفسِّر على التفسير، والتي تصلح أن تكون مباحث من أصول التفسير؛ فقواعد العام والخاص، ومتى يُحْمَل العام على عمومه، ومتى يُخَصّ، ومتى يدلّ على خاصّ؛ ومتى يُحمل اللفظ على إطلاقه ومتى يُقيَّد؛ وحدّ المحكم والمتشابه، وكيف يتم التعامل مع المتشابه وغيرها... هي قواعد يمكن البناء عليها لتأطير عملية التفسير والتأويل؛ وتبعًا لذلك يمكن أن تسلك في أصول التفسير. وكذلك القواعد البلاغية؛ وذلك لكون البلاغة والأصول من أبرز أدوات المفسِّر التي يستند إليها. لكن أنواع القسمين الثاني والثالث لا تخدم دعواهما؛ فهي إمّا مباحث من مسائل التفسير لا من أصوله، أو مباحث لا تعلّق لها أصلًا بعلم التفسير.
وأمّا مساعد الطيار، فقد علّل موقفه من كون علوم القرآن أعمَّ من أصول التفسير، بأمرين: الأول: أنّ في علوم القرآن علومًا لا صلة لها بالتفسير مطلقًا؛ كعلم عدّ الآي (وهي من القسم الثالث الذي أشرنا إليه). والثاني: أن كثيرًا من علوم القرآن كما رأينا ليست نظرية، بل هي مسائل مستلّة من التفسير، وهي ناتجة عن تطبيق المفسِّر للقواعد البلاغية والأصولية على القرآن (القسم الثاني). ويُستفاد من قوله أيضًا دليل ثالث، وهو أنّ أصول التفسير يجب أن تكون كلية لا جزئية، تمامًا كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه؛ ففي الأصول نظر في الأدلة الإجمالية لا في التفصيلية. بيدَ أنّ واقع الحال في كثير من علوم القرآن أنها قضايا جزئية ناتجة عن تطبيق قواعد أصول التفسير على آحاد الآيات.
وتبعًا لموقف الطيار، فإننا إنْ ذهبنا في هذا الاتجاه فسنجعل علم أصول التفسير تابعًا لعلوم القرآن وجزءًا منها وليس متميزًا عنها. لكن، في الواقع التأليفي للعلم، يبدو أصول التفسير علمًا مستقلًّا، بدليل أن له مؤلَّفات مستقلة، ولأننا لا نجد في كتب علوم القرآن بابًا خاصًّا بأصول التفسير، كما أنّ المباحث التي تصلح لأن تكون قواعد تفسيرية لم تحرَّر -كما لاحظ اليماني- تحريرًا كافيًا، ولم تُجْمَع وتُنسَّق في مبحث مستقلّ.
وإذا سلّمنا باستقلال علم أصول التفسير عن علوم القرآن فسنكون مضطرّين إلى القول بأنهما عِلمان متداخلان، وهذا التداخل يجب أن يعلّل: لِـمَ اشترك العِلْمان في هذه المباحث؟ وما الخصوصية التي يمنحها علوم القرآن لهذه المباحث حتى يشارك فيها أصول التفسير؟ وما الفائدة التي يضيفها العِلمان فوق القواعد التفسيرية المأخوذة من علم الأصول والبلاغة؟ ويعضد هذه النتيجة ما انتهى إليه الباحث خليل اليماني في دراسته التحليلية لعلم أصول التفسير، وذلك حين حلّل موقف السيوطي من إنشاء علم خاصّ بالتفسير على نحوٍ نظري يضبط فهم القرآن وتحديد معانيه؛ إِذْ بيّن أنّ السيوطي قد صرّح في كتابه: (التحبير في علم التفسير) باستفادته من عمل جلال الدين البلقيني في: (مواقع النجوم)، رغم أنه كتاب في علوم القرآن لا في أصول التفسير. ثم في كتابه: (الإتقان) وسّع من عمله السابق، وهذا ما يجعل الحدود بين العِلمين غير واضحة، «ما يسهل معه اعتبار التآليف في علم التفسير (المراد هنا علم أصول التفسير) ضمن علوم القرآن»[31].
والحاصل أن غياب التجانس بين أقسام علوم القرآن الثلاثة أدّى إلى هذا التداخل بين العلمين، وهذا التنافر في الموضوعات كما أسلفنا سببه افتقار العلم لقضية مركزية واضحة، واعتماده على محض الجمع، دون مراعاة التجانس بين الموضوعات الداخلة في هذا العلم. وهو الأمر الذي يعزّز النتيجة التي انتهى إليها اليماني، مِن أنّ العلوم القرآنية تتطلب إعادة بناء وتنظيم، يزيلان عنها هذا التداخل، ويضفيان عليها قدرًا من التجانس في الموضوعات والمباحث، وتتضح الحدود بينه وبين علم أصول التفسير، فيستقلّ كلّ علم بموضوعاته وحدوده.
خامسًا: إشكال التلخيص والانتقاء:
يمكن الإشارة هنا إلى سمة أخرى تفرّعت عن اقتراضِ علم علوم القرآن من العلوم الأخرى مسائلَها دون الإضافة الحقيقية، بفعل قيامه على الإيراد الجمعي والاكتفاء به، وهي سمة التلخيص التي نبّه إليها اليماني وأشرنا إليها في الأعلى. وذلك لكون هذا العلم لمّا كان محض إيراد وجمع لعلوم القرآن، فقد اكتفى بتلخيص بعض القضايا وانتخاب بعضها الآخر، وحتى القضايا النظرية التي تتطلّب تحريرًا وتقعيدًا، فقد اكتُفِي فيها بالإشارة إلى العلوم الأصلية؛ لكونها نُوقشت هناك بتفصيل. وهنا ملاحظتان: الأولى: أنّ كثيرًا من قضايا أبواب علوم القرآن مستمدة من علوم الحديث وأصول الفقه والبلاغة؛ لكنها كُيِّفَت وجُمعت على نحو مختصر يليق بطبيعة كتبِ علوم القرآن، من حيث هي كتبٌ جامعة، لا بد فيها من التلخيص والإيجاز. والثانية: أن هذه القضايا هي بمثابة قوانين وقواعد كلية، حرّرت في مواضعها من علوم الحديث وأصول الفقه والبلاغة؛ ولذلك، فإنّ مدوِّني كتب علوم القرآن لا يفصلون القول فيها، ولا يحرّرونها تحريرًا كافيًا، ويكتفون بالإشارة إلى أطرافٍ من هذه المسائل، والإحالة إلى مواضعها في العلوم الأصلية. والسؤال هنا: إذا كنّا بصدد علم جديد: فلِمَ لم تُتناول هذه القضايا بصورة متوسعة وبسياقات جديدة؟ ولا شك أن الجواب هو في طبيعة العلم نفسه، فهو مجرّد إيراد جمعي لعلوم القرآن؛ وبالتالي، فليس من وظيفته أن يتوسّع فيها؛ ومن ثم فالإشكال هنا في قدرة العلم على تطوير المعرفة وإنتاجها وتوليد المسائل، لكونها أمورًا تقتضي التوسّع، إلى جانب ما يتحقّق من تراكمٍ معرفي. ولمّا كان هذا العلم بطبيعته مختصرًا، فإنّ بنيته تقف عائقًا أمام النمو المعرفي...
ومما يعزز هذه النتيجة -أعني سمة التلخيص الناتجة عن محض الجمع- ما حصل من اضطراب في تحديد طبيعة هذا العلم؛ إِذْ يَظهر للناظر في كتابات الدارسين لعلم علوم القرآن اضطرابُهم في تحديد طبيعة علم علوم القرآن، ففي حين جعله الدكتور مساعد الطيار أعمّ من التفسير، وأنّ التفسير داخلٌ فيه كما رأينا، ذهب آخرون إلى جعله مدخلًا أو مقدمة لعلم التفسير. وبالقول بكونه مدخلًا لعلم التفسير، فإنّ ثمة أمورًا مشكلة على هذا القول: منها أنه يتنافى مع كون بعضِ مباحثه -أصلًا- مستلةً من التفسير ومفردةً عنه؛ في حين أن مداخل التفسير ومقدماته يجب أن تكون سابقة على التفسير بالرتبة، وبالتالي مستقلّة عنه؛ لكونها من أدواته التي بها يُكشف عن معاني القرآن... ومنها أنّ كونه مدخلًا يتنافى مع تضمّنه مباحث لا تفيد أصلًا المفسِّر؛ كعلم عدّ الآي مثلًا، وكتاريخ جمع القرآن وتدوينه، وكمباحث القراءات وطرُق الأداء... ومنها أنّ القول بكونه مدخلًا -بلحاظ أنه مختصر وجيز- سيجعله متنافيًا مع كونه علمًا؛ إِذْ طبيعة العلوم أنها تنمو ويتحقّق فيها التراكم المعرفي، وتنحو نحو التفصيل والتوسّع، خلافًا للمقدّمات التي تكون وجيزة ومختصرة. وقد أشار كثيرٌ من المؤلِّفين في علوم القرآن في مقدمات كتبهم إلى هذا الإشكال، حيث أبرزوا سعة موضوعات هذا العلم وتشعبها واستحالة الإحاطة بها في مصنفات جامعة، كما أشاروا إلى أنّ حضور أنواع علوم القرآن في هذه المؤلّفات حضور مختصر وجيز، وأنه ليس استقصائيًّا... كما يذكر بعضهم أن هذه العلوم ليست سوى مدخلٍ إلى علم التفسير، وأنها مقدّمات مهمّة لا بد من العلم بها...
فصبحي الصالح مثلًا يبدو أنه لم يسعَ لتأسيس علم خاصّ بعلوم القرآن[32]، وقد اعترف بسعة موضوعاتها، ورأى أنّ تأليفه يروم التعريف بأهمّ القضايا القرآنية؛ ويقول معترفًا بسعة هذه المباحث: «فإنّ آفاق الدراسة القرآنية واسعة متشعّبة رحيبة، وإنّ ألوف المجلدات لا تفي بمعشار ما قيل وما يمكن أن يُقال في هذه العلوم؛ إنما حاولتُ بهذا الكتاب تبسيط طائفة من أمهات المسائل القرآنية قبستها غالبًا من آثار علمائنا الأبرار القدامَى، غير متجاهل أطرف ما جاء به بعض الأتقياء المعاصرين. وما أبرح في هذه الطبعة الرابعة -رغم الزيادات الكثيرة التي أضفتُها- أُقِـرّ بأني تناولتُ أمهات المسائل ولم أُفصِّل القول في شيء منها تفصيلًا»[33].
ويقول فضل عباس: «أمّا بعدَ أن أصبح هذا العلمُ ذا موضوع خاصّ كما هو الآن -وهو المعبَّر عنه بالمعنى اللقبي- فإنه أصبح أضيق نطاقًا وأكثر تخصيصًا؛ فلم يَعُد يشمل التفسير والإعراب ومسائل القراءات، بل إنّ هذه الأمور إنْ بُحثت فيه فإنما تُبحث موجزة من حيثيات خاصّة، فيُبحث في التفسير مثلًا عن تاريخه وتطوره وَمَن اشتهر من المفسِّرين في الأعصُر المختلفة، ويُبحث في القراءات عن القرّاء المشتهرين وأقسام القراءات وما يتعلّق بالأحرف السبعة. ويُبحث في الإعراب عن أشهر الكتب في هذا الموضوع؛ وهكذا صار موضوع هذا العلم أكثر تحديدًا وأقلّ شمولًا مما كان عليه قبل أن يصبح علمًا مستقلًّا»[34].
ويقول السيوطي في خاتمة مقدمة (الإتقان) أنه ألّف كتابه ليكون مقدمة بين يدي تفسيره الكبير: «وسمّيته بالإتقان في علوم القرآن. وسَترى في كلّ نوع منه -إن شاء الله تعالى- ما يصلح أن يكون بالتصنيف مفردًا، وستروى من مناهله العذبة ريًّا لا ظمأ بعده أبدًا. وقد جعلتُه مقدمة للتفسير الكبير الذي شرعتُ فيه، وسمّيته مجمع البحرين، ومطلع البدرين، الجامع لتحرير الرواية وتقرير الدراية»[35].
فبارزٌ هنا أنّ العلماء والدارسين يقرّون بالطبيعة المختصرة والوجيزة لمصنفات علوم القرآن، وواضحٌ أيضًا إقرارهم بأنّ مباحثه كثيرة وتستحقّ أن يُفرد كلّ واحد منها بالتأليف. وبالتالي، ففيه إقرار ضمنيّ بأنّ كتب هذا الفنّ لا تستوعب كلّ القضايا القرآنية، وما تثيره من أسئلة وإشكالات تتطلّب تعميق البحث والنظر، وهو الأمر الذي لا تساعد عليه الصورة الحالية للعلم من حيث هو علم قائم على الجمع لكلّ ما يتّصل بالقرآن والتوسّع فيه.
الموقف من علم علوم القرآن:
ذهب الباحثُ اليماني إلى عدم الحاجة لعلم علوم القرآن؛ لأنه علم تجميعي، وبيّن أنّ قضيته فاسدة في ذاتها، وليست قضية كلية كما الشأن الواجب في العلوم، وأنها لا تصلح أبدًا لأن تكون عِلْمًا. وذكرَ أنّ علم علوم القرآن في صورته الحالية واقع في إشكالات جذرية لا يمكن حلّها، وأننا لو نظرنا لهذا العلم بعيدًا عن شرط كلية قضيته فلن يتغير الحال؛ لأن العلم بلا مفهوم ولا ثمرة، وليست لديه قدرة على إنتاج معرفة خاصة، وغير ذلك مما لا يجعل فائدة من وراء حضوره.
والحقّ أننا نوافق الباحث فيما ذهب إليه؛ فالعلم هو القضية والموضوع، ومتى فسدَت القضية فسد العلم ولا بد. وعليه، فإنّ علم علوم القرآن في ضوء الصورة الحالية غير قادر على تجاوز هذه الإشكالات، وقد وصلنا إلى هذه النتيجة من خلال تأمُّل الأُسس المنهجية للنقاش وشرط نجاعة الحكم بعلمية قضية العلم، وهو أن تكون قضيته كلية، وكذلك تأمّل الحُجج التي قدّمها، مع السعي إلى تعميق النظر في بعضها، خاصّة وأن الدارس لا يعدم الشواهد المعزّزة لهذه النتيجة. ومن بين هذه الشواهد أنه يتعذّر على (علوم القرآن) في صورته الحالية أن يتعامل مع إشكال الاتساع الشديد في المباحث؛ لكون هذا الاتساع ناتجًا عن فكرة الإيراد الجمعي، وهي الفكرة التي قام عليها في الأصل، فإنْ تخلّى عنها فسيُبنى بناءً جديدًا يغاير الصورة التي هو عليها.
وأيضًا، فهذا التعذّر ناتج عن كون علم علوم القرآن لا يستطيع أن يتعامل مع إشكال الاكتفاء بالاستمداد دون الإضافة والإنتاج المعرفيَّين وهو في صورته الحالية، لكونه قائمًا على سِمَتي: الجمع والتلخيص. والتلخيص يتنافى مع الإضافة المعرفية التي تتطلب تعميقًا في البحث والنظر، كما تؤدِّي إلى النموّ المطرد في العلم بفضل ما يتحقق من تراكم معرفي بمرّ الزمن.
خاتمة:
في نهاية هذه المقالة، نخلص إلى أنّ علم علوم القرآن في صورته الراهنة، كما هو قائم في ساحة الدرس القرآني يعاني من إشكالات جذرية، وقد استشكل الباحثُ خليل محمود اليماني في دراسته هذا العلمَ جذريًّا، ونبّه فيها على فساد أُسُسه، ودعا إلى ضرورة تجاوزه. ومن خلال درسنا لهذه الإشكالات، فقد تبيّن لنا وجاهة طَرْحه، كما سعينا إلى تدعيمه ببعض الشواهد من واقع العلم وحالته الراهنة، وأننا لسنا بحاجة لهذا العِلْم المشكل والمأزوم، الذي يقوم على قضية مشكلة عمادها جمع العلوم القرآنية في مصنَّف جامع، دون أيّ اشتغال بحثي إضافي. وقد أنتج هذا الإشكال المركزي في قضية العلم مجموعة من الإشكالات المعرفية والمنهجية التي يتعذّر على العلم في صورته الحالية تجاوزها والتغلب عليها؛ لذا فلا محيد مِن تجاوزه، هذا التجاوز الذي لا يؤثّر على ساحة الدرس القرآني في شيء؛ فعلومها قائمة ولا حاجة لحاضنة جمعية لها ممثلة في عِلم علوم القرآن، بل ينبغي للساحة القرآنية أن تتحرّر منه، فهذا أدعى للنظر للعلوم القرآنية ككلّ وإعادة ترتيب مشهدها على أُسس معرفية مغايرة، أشدّ إحكامًا، حتى تستأنف هذه العلوم مسيرة التطور والنموّ والتجديد[36].
[1] ذهب لذلك النظر الباحثُ خليل محمود اليماني، وذلك في دراسته المنشورة بمركز نماء، تحت عنوان: (علوم القرآن: نقد العلمية ومقاربة في البناء). وهي دراسة جادة، سعت إلى الكشف عن أبرز الإشكالات التي يعاني منها هذا العلم، وإلى مساءلة دعوى علميته. وقد خلص الباحثُ إلى ضرورة إلغاء هذا العلم، وكذا استشكل الصورة الحالية للعلوم القرآنية ككلّ، وبيّن أنها مجرّد قضايا جزئية لا تصلح أن تكون علومًا، وثوّر بعض الإشكالات المنهجية بشأنها، وطرحَ رؤيةً تفصيلية لإعادة بناء العلوم القرآنية.
[2] تصنيف أنواع العلوم، قراءة في المنجز، وتصنيف معياري مقترح، خليل محمود اليماني، مركز نماء، ص20 فما بعدها. للاطلاع على البحث، ينظر الرابط: https://nama-center.com/Articles/Details/41477
[3] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، خليل محمود اليماني، مركز نماء، القاهرة، ط1، 2023، ص35.
[4] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص37 فما بعدها.
[5] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص42.
[6] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص46.
[7] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص48.
[8] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص51.
[9] مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الزرقاني، طبعة عليّ البابي الحلبي وشركاؤه، (1/ 27).
[10] فنون الأفنان في عيون علوم القرآن (من مقدمة التحقيق)، ابن الجوزي، تحقيق: حسن ضياء الدين عتر، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1، 1987، ص71.
[11] البيان في مباحث من علوم القرآن، عبد الوهاب عبد المجيد غزلان، طبعة دار التأليف، ص31.
[12] المحرر في علوم القرآن، مساعد الطيار، مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي، جدة، ط2، 2008، ص23.
[13] مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، بدون تاريخ نشر، ص11.
[14] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص56.
[15] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص58.
[16] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص63.
[17]علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص77- 78.
[18] اقترحَ الباحثُ في دراسة مستقلّة أحلنا عليها سابقًا بعنوان: (تصنيف العلوم، قراءة في المنجز، وتصنيف معياري مقترح)، تصنيفَ النظر في العلوم إلى: ممارسات معرفية، وعلم ضابط لقوانين هذه الممارسات، وعلم يصنع الوعي بواقع هذه الممارسات. وقد قدّم اقتراحه بعدما نظر في التصنيفات المقدّمة في التراث وأظهر نقص كفايتها في النظر إلى العلوم وعدم إفادتها في تصورنا لها. وقد وسع الباحثُ في هذه الدراسة النظر لهذا التصنيف ودلّل عليه، ودعا إلى طرده في النظر للعلوم بعامة.
[19] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص92.
[20] علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص93.
[21] التحرير والتنوير من علم التفسير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، ط1، 1984، (1/ 12- 14).
[22] التحرير والتنوير، (1/ 27).
[23] التحرير والتنوير، (1/ 20).
[24] المستصفى في أصول الفقه، أبو حامد الغزالي، تح: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993، ص7. وللتوسع في علاقة التفسير بالعلوم الأخرى، انظر فقرة المعرفة التفسيرية ومقوماتها البرنامجية، من: النص وآليات الفهم، محمد الحيرش، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2013، ص90 فما بعدها. حيث استفدنا من الباحث مسألة استمداد التفسير من العلوم الأخرى وصلته بها.
[25] يقول الباحث خليل اليماني: «وحتى وإن اجتمع بعضها موضوعيًّا في نقاط اشتغال وجِهات عمل واحدة؛ كأنْ يتعلّق بعضها مثلًا بنزول النص وبعضها بجمعه وتدوينه وبعضها بقراءاته وهكذا، فإننا نظلّ في نهاية الأمر بإزاء مسارات بحث ومجالات اشتغال مستقلة بعضها عن بعض في جوانب اشتغالها وغاياتها المعرفية، ولسنا أمام عدة موضوعات تخدم غاية واحدة». علوم القرآن، نقد العلمية ومقاربة في البناء، ص64.
[26] انظر: اللسانيات وأُسسها المعرفية، عبد السلام المسدي، الدار التونسية للنشر، تونس، ط1، 1986، ص41. وانظر أيضًا فقرة: "بين اللسانيات وعلم النفس" في: اللسانيات العامة، مصطفى غلفان، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2010، ص15.
[27] النص وآليات الفهم، ص78. والموقف نفسه ذهب إليه الباحث خليل اليماني حين بيّن أن الحدود بين علوم التفسير وعلوم القرآن كانت عائمة عند السيوطي. انظر: تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثًا، خليل محمود اليماني، مركز تفسير، ص40.
[28] مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ص11.
[29] دراسات في علوم القرآن، فهد الرومي، ص33.
[30] مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير، مساعد الطيار، دار المحدث وشبكة تفسير، الرياض، ط1، 1425هـ، ص33.
[31] تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثًا: قراءة في منهجية التأسيس مع طرح مقاربة منهجية لتأسيس العلم؛ خليل محمود اليماني، مركز تفسير للدراسات القرآنية، ص42، حاشية رقم 1. للاطلاع على الدراسة: tafsir.net/research/67
[32] لم يسمِّ الدكتور صبحي الصالح علوم القرآن عِلْمًا، ولم يعرِّف العلم أو يحدد موضوعه كما فعلَتْ مؤلَّفات أخرى، بل أطلق عليها اسم: «الدراسة القرآنية»، وهو ما يجعل تصوره لعلوم القرآن أقرب إلى كونها حقلًا بحثيًّا ومعرفيًّا أكثر من كونها علمًا بالمعنى الصناعي والفني. انظر: مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، ط10، 1977، ص9.
[33] مباحث من علوم القرآن، صبحي الصالح، ط10، ص9.
[34] إتقان البرهان في علوم القرآن، فضل حسن عباس، دار الفرقان، الأردن، ط1، 1997، (1/ 42).
[35] الإتقان، في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: مصطفى شيخ مصطفى، مؤسسة الرسالة ناشرون، ط1، 2008، ص24.
[36] سعى الباحث في الدراسة الثانية من كتابه إلى تقويم المنجَز المعاصر في بناء علم علوم القرآن، كما قدَّم تصورًا بديلًا للعلوم القرآنية، نرى من الواجب على الباحثين مناقشته؛ لوجاهته وجدّيته.