كتاب (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم)
تأليف: أ.د. محمد عمارة
عرض وتقويم

يُعَدّ كتاب (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم) للدكتور/ محمد عمارة من الكتب المعاصرة التي اعتنت بردِّ الشبهات حول القرآن والدِّفاع عنه، وهذه المقالة تعرِّف بهذا الكتاب، وتسلِّط الضوء على منهجه ومحتوياته، كما تعرض لأبرز مزاياه والملاحظات حوله.

تمهيد:

  من القضايا اللافتة للنظر في القرآن الكريم التي تستحقّ الدراسة وتعميق التفكير فيها= ما يتعلق بالدفاع والذبّ عنه إثباتًا لصدقه وإعجازه، ولحاظُ المنهج الرباني في ذلك وجوانبه. فمنذ أنْ بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، والشبهات حول ما ينزل عليه من القرآن تترى لا تتوقف: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 4- 5]. لكنّه تحدى كلّ ذلك مثبتًا حقائقه حتى أعجز، يقول سبحانه مثلًا: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41- 42]، وتحدى سبحانه أن يستطيع أحد الإتيان بمثله كتابًا كاملًا قائلًا: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [القصص: 49]، وقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]. أو عشر سور فحَسْب: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: 13]، أو سورة واحدة على الأقل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 23].

ولم يقدر أحد أن يأتي بمثله أو قريبًا منه، فصدق سبحانه لمّا قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: 24]، وهذا القول وحده معجزة كما يقول ابن كثير؛ إِذْ إنه تعالى «أخبر أنّ هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدًا، وكذلك وقع الأمر، لم يُعارَض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وَأنَّى يتأتَّى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله خالق كلّ شيء؟! وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!»[1].

وظلّ القرآن يتعرض للهجوم بمختلف الشبهات وعديد الهذيانات على مدار التاريخ، ولم يتوقف ذلك إلى يومنا هذا، وقد حكى سبحانه زمن النزول قول المشركين: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26]، «أي: تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه، بل فيه المضرة، ولا تمكنوا -مع قدرتكم- أحدًا يملك عليكم الكلام به، وتلاوة ألفاظه ومعانيه»[2].

ولا شك أنّ إثارة الشبهات للطعن في القرآن من هذا اللغو، تعبيرًا عن صورة من صور الصراع بين الحقّ والباطل الذي لا ينتهي، سُنّة الله قد قضاها وشأن قديم في الناس، ومن النواميس التي جُبِلَ عليها النظام البشري[3]، مصداقًا لقوله عزّ وجلّ: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ [الرعد: 17]، وهو ما يستلزم الدفاع والمدافعة عملًا بـ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: 96]، و: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، و: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]، و: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49]؛ فالدفع بقوة الحقائق والبراهين وبأحسن القول وأحكمه هو الأسلم والأنصر.

وقد دأب العلماء المسلمون على مَرّ العصور على الدفاع عن دينه، ودحض الشبهات حول كتابه. ونتناول في مقالنا كتابًا من الكتابات المعاصرة، الذي يندرج في هذا السياق الدفاعي الممتد عن القرآن، وهو كتاب: (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم)[4] للدكتور/ محمد عمارة[5] -رحمه الله-. وفيما يأتي محاولة عرضه وتقويمه، سائلين اللهَ تعالى التوفيق والسداد.

أولًا: كتاب (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم)؛ عرض وبيان:

1- محتويات الكتاب:

يبتدئ الكتاب بفهرسٍ لمحتوياته، ليفتتح بعده بافتتاحية معنونةٍ بـ(آيات .. وكلمات) لها تعلّق بموضوع الكتاب عن إعجاز القرآن الكريم، ثم انطلق المؤلِّف بمقدمة تقدم لموضوعه بشكل عام ومركّز؛ مُشعِرة باتجاهه العام، وفكرته المحورية التي سيدور عليها.

والكتاب مقسم إلى قسمين؛ الأول موسومٌ بـ: (الإعجاز القرآني ... وشهادات على هذا الإعجاز)، تطرّق فيه إلى سبع مسائل متعلّقة بقضية الإعجاز القرآني؛ فبدأ بما عنوانه: «الإعجاز المتحدي» وما يدلّ على ذلك من القرآن، ثم قدّم شهادات لشخصيات عاصرت زمن النزول، وأخرى حديثة تحت عنوان: «شهادات». وانتقل بعد ذلك إلى بيان حقيقة القرآن العليا بوسم «المحفوظ حفظًا إلهيًّا» من خلال جمعه عبر المراحل المعلومة، وقد ساق لذلك شهادةً للشيخ أمين الخولي صاحب كتاب (عن القرآن الكريم) في عنوان: «شهادة شيخ الأمناء»، التي أثبتت ما يتعلّق بتدوين القرآن وجمعه. ورغم وضوح هذه الحقيقة، بقي القرآن يتعرّض للهجوم والطعن بمختلف الصور، وهو ما تناوله الكاتب في المسألة التالية، عنون لها بـ: «مسيلمة وأحفاده»، مركِّزًا على جهود المستشرقين من الحضارة الحديثة، وهم الذين خرج منهم مَن يدحض مطاعنهم ويُفشل جهودهم، فوضع ذلك معنونًا بــ: «وشهدَ شاهدٌ مِن أهلها».

ولا يقتصر الطعن في القرآن على المنتسبين للحداثة الغربية، بل يحصل ممن يُسمَّون بالإخباريين من الشيعة الذين لهم جهود في هذا السياق، وتعارضها جهود أخرى لعقلائهم ومنصفيهم. وهو ما تناوله الكاتب وختم به القسم الأول بـعنوان: «الشيعة والقرآن».

أمّا في القسم الثاني: (الشبهات .. والردّ عليها)؛ فقد أتى على ذِكر إحدى وعشرين شُبهة، ومناقشتها، وساق عدّة أدلة تردّها وتبيِّن ضعفها، وهي كما جاءت في الكتاب:

- هل تَناقَض القرآن في مادة خلق الإنسان؟

- حول موقف القرآن من الشرك بالله.

- حول عصيان إبليس وهو من الملائكة الذين لا يعصون الله.

- حول عصيان البشر مع أنهم من المخلوقات الطائعة القانتة لله.

- حول مدة خلق السماوات والأرض.

- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس في أسماء بعض الشخصيات التاريخية.

- حول تسمية القرآن الكريم مريم {أخت هارون} واختلافه في ذلك مع الكتاب المقدس.

- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس في عصر نمرود.

- حول الإسكندر ذي القرنين .. وهل كان عبدًا صالحًا أو من عبدة الأوثان؟

- حول غروب الشمس في عين حمئة .. ومخالفة ذلك للحقائق العلمية.

- حول حفظ الله للذِّكْر .. وهل الذِّكْر هو كلّ القرآن أو بعض القرآن؟

- حول تاريخية أو خلود القرآن الكريم.

- حول تَناقُض النقل -القرآن- مع العقل، وقسم هذه المسألة إلى عنصرين:

* علاقة العقل بالنقل.

* مقام العقل في الإسلام ومذاهب الإسلاميين .. رؤية مقارنة.

- حول عقلانية الإيمان الإسلامي.

- حول حروف فواتح بعض السور القرآنية.

- حول الاستغناء بالقرآن عن السنّة وعلاقة السنّة بالقرآن.

- حول عصمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وموقف القرآن من العصمة.

- حول دعوى وجود أخطاء لغوية في القرآن الكريم.

- حول غيبة القانون عن الشريعة القرآنية.

- حول تعميم التأويل لكلّ القرآن الكريم.

- حول الربا .. والنظام المصرفي المعاصر.

واختتم الكتاب بما يمكن اعتباره مقارنة بما حصل من تحريف للكتب المقدّسة لدى الآخرين، وكأنّه عمل بمقولة «وبضدها تتميز الأشياء»، مصاغًا في السؤال: «فماذا على الضفة الأخرى؟ شهادات على حال العهدين: القديم والجديد»، دون التسمية بالخاتمة، لينتهي بفهرس للمصادر والمراجع، وكذا سيرة المؤلّف الذاتية التي تتضمّن ثبتًا بأعماله الفكرية، بلغت (242) عملًا.

2- هدف الكتاب:

يمكن صياغة هدف الكتاب وتحديده في عنصرين متكاملين على الشكل الآتي:

- إثبات وبيان إعجاز القرآن الكريم، ووجوه تحدّيه به من خلال شهادات القدامى والمعاصرين.

- الردّ على الشبهات المثارة حول القرآن الكريم وإقرار حقائقه.

ومؤلِّفنا د. محمد عمارة لم ينصّ على هدف دراسته صراحةً في مقدّمة الكتاب، كما جرت عادة الكُتّاب؛ ولهذا استشففناه من خلال تقسيماته، ومن تعبيره في آخر المقدمة: «هكذا مَثَل القرآن الكريم .. ولا يزال، وسيظلّ .. (الإعجاز المتحدي) و(التحدي المعجز)، وبذلك شهد الحكماء .. العلماء .. البلغاء على امتداد العصور، وصدق الله العظيم: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]»[6].

وفي الختام قال: «وبذلك يتميّز القرآن الكريم (الإعجاز المتحدي) و(التحدي المعجز) .. والذي خشعت له وشهدت مَلَكات الإبداع بأنه وحي الله المباشر الذي لم يصبه أيّ تحريف أو تغيير أو تبديل .. يتميز عن الكتب التي تدخّلَت في كتابتها أيدي البشر، ثم زعموا أنها من عند الله .. يتميز الكتاب الذي ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: 2]، عن الكتاب الذي قال الله في أهله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ [البقرة: 79]»[7].

ثانيًا: كتاب (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم)؛ نقد وتقويم:

1- أبرز مزايا الكتاب:

يمكن إرجاع تميّز الكتاب إلى ما يأتي:

أولًا: العناية الواسعة بالنصوص القرآنية:

وهي صفة ظاهرة وبارزة في كتاب مؤلِّفنا، وفي كتبه عامة، فلا يكتفي بمجرّد عرض الفكرة وإقرار الحقيقة، ودحض الشبهات وردّها، بل يفعل ذلك من خلال القرآن الكريم، باستقراء الآيات في الفكرة محلّ النقاش، حتى ليستشعر القارئ كأنه أمام صورة من صور التفسير الموضوعي؛ إِذْ يطرح الموضوع، ويستقرئ له الآيات العديدة، ويناقشه على ضوئها، متطرقًا إلى مختلف أبعاده وجوانبه من خلال الآيات.

وهذا النّفَس القرآني الذي صاحَبَ الكتاب، يمثل عملًا بفريضة الاستمداد من الهدي القرآني، والبحث فيه عن معالجة الإشكاليات المختلفة التي تعرِض للإنسان فردًا وجماعةً، فكرًا وسلوكًا وعمرانًا، وكما أخبر -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9].

ولدعم هذه الملاحظة نأخذ مثلًا الشبهة الأولى المتعلقة بدعوى تناقض القرآن في مادة خلق الإنسان: «يعطي القرآن معلومات مختلفة عن خلق الإنسان: ﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [المرسلات: 20]، ﴿مِنَ الْمَاءِ﴾ [الأنبياء: 30]، ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ [يس: 77]، ﴿مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: 7]، ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق: 2]، ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26]، ﴿وَلَمْ یَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 67]، فكيف يكون كلّ ذلك صحيحًا في نفس الوقت؟»[8].

وفي الردّ على هذه الشبهة جزم أنْ لا تناقض بين هذه الآيات، وحدّد منهجه في كيفية بيان ذلك، القائم على «جمع هذه الآيات، والنظر إليها في تكاملها، مع التمييز بين مرحلة خلق الإنسان الأول (آدم عليه السلام)، ومرحلة الخلق لسلالة آدم التي توالت وتكاثرت بعد خلق حواء، واقترانها بآدم، وحدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران والزواج»[9].

ثم شرع في ذِكْر أنّ مراحل خلق آدم: التراب فالماء فالطين فالحمأ المسنون فالصلصال، فنفخ الله تعالى في (مادة) الخلق هذه من روحه، فغدَا (إنسانًا) هو آدم عليه السلام، بدلالة الآيات التي «تصور تكامل هذه المراحل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: 59]؛ فبالتراب كانت البداية: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: 7]، وذلك عندما أُضيف الماء إلى التراب: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾ [الصافات: 11]، وذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين فأصبح (لازبًا)، أي: جامدًا.

* وفي مرحلة تغير الطين، واسوداد لونه، ونتن رائحته، سمّي حمَأً مسنونًا؛ لأنّ الحمَأ هو الطين الأسود المنتن، والمسنون هو المتغيِّر، بينما الذي {لَمْ يَتَسَنَّه} هو الذي لم يتغيَّر. وعن هذه المرحلة عبّرت الآيات: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الحجر: 26- 35].

تلك هي مراحل خلق الإنسان الأول، توالت فيها وتتابعت وتكاملت المصطلحات: التراب، والماء، والطين، والحمأ المسنون والصلصال.. دونما أيّ شبهة للتعارض أو التناقض»[10].

ثم انتقل إلى مراحل خلق السلالة والذرية: «بدءًا من (النطفة) التي هي الماء الصافي -ويعبّر بها عن ماء الرجال (المنيّ)- إلى (العَلقة) التي هي الدم الجامد، الذي يكون منه الولد؛ لأنه يعلق ويتعلق بجدار الرحم .. إلى (المضغة) -وهي قطعة اللحم التي لم تنضح، والمماثلة لما يمضغ بالفم- إلى (العظام)، إلى (اللحم) الذي يكسو العظام، إلى (الخلق الآخر) الذي أصبح بقدرة الله في أحسن تقويم.

ومن الآيات التي تحدّثت عن توالي وتكامل هذه المراحل في خلق وتكوين نسل الإنسان الأول وسلالته، قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: 5]، وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12- 14].

وإذا كانت (النطفة) هي ماء الرجل، فإنها عندما تختلط بماء المرأة توصف بأنها (أمشاج) -أي مختلطة- كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: 2]. كما توصف هذه (النطفة) بأنها (ماء مَهِين) لقلّته وضعفه، وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 7- 8]، ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات: 20- 23]. وكذلك، وصفت (النطفة) -أي ماء الرجل- بأنه (دافق)؛ لتدفّقه واندفاعه، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق: 5- 7].

هكذا عبّر القرآن الكريم عن مراحل الخلق؛ خلق الإنسان الأول، وخلق سلالات وذرّيات هذا الإنسان، ...شواهد على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم»[11].

ثانيًا: البيان الواضح والترتيب:

جاءت قضايا الكتاب المتعددة والكثيرة بعبارة واضحة، وأسلوب سلس وسهل، يوجّه بشكل جليّ إلى الغرض بلا غُموضِ مضمونٍ، ولا تعقُّدِ تركيبٍ، ولا حَشْوٍ لا داعي له، مع حُسن ترتيب أفكاره وتماسكها؛ يتجلّى أولًا في بناء تصميمه العام من قسمين: الأول الذي يمكن اعتباره أنه نظري يقرّر حقيقة الإعجاز القرآني، وما يشهد لذلك من القرآن، ومِن شهادات البشر قديمًا وحديثًا؛ حيث تم بعد ذلك التمهيد لمسألة تعرضه للشبهات والمطاعن، ليأتي القسم الثاني بمثابة التمثيل والاستعراض لمجموعة من تلك الشبهات التي تطعن في هذا القرآن وحقائقه، لكنه يتحدى كلّ ذلك، ويظل البشر عاجزين عن النيل منه، وهو ما عمل الكاتب على بيانه وإثباته فيه.

ويتجلّى ثانيًا في طريقة بناء أفكار كلّ مسألة؛ حيث تأتي مؤسسة على مقدمات ممتدة عنها، ثم يسير بها متسلسلة ومترتبًا بعضها عن بعض، وآخذًا بعضها برقاب بعض، في اتساق وتلاؤم، مما يستشعر معه القارئ بوجود تفاعل وترابط بينها، وكذا في تدرج هادئ دون استعجال أو ارتجال. وهو في عرضه للحقائق، وردّه على الشبهات ومناقشتها، لا يستغرق طويلًا بشكلٍ مملٍّ، بل بتركيز غير مخلٍّ، مع بيانٍ واضح، وحُجّةٍ ظاهرةٍ موهنةٍ لأدلّة مثيري الشبهة، حتى ليُستغرب كيف تغيب عنهم.

ولعلّ أبرز مثال على ما سبق ما ورَدَ في عرض الشبهة العاشرة التي تدّعي أن القرآن يتناقض مع الحقائق العلمية الثابتة في ذكر غروب الشمس في عين حمئة في آية الكهف (86)[12]. ليأتي البيان الواضح، بتركيز غير متعجّل، وسلاسة وترتيب للأفكار، بالقول: «في حكاية القرآن الكريم لنبأ (ذي القرنين) حديث عن أنه إبَانَ رحلته: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا﴾ [الكهف: 86]. والعين الحمئة: هي عين الماء ذات الحمأ، أي: ذات الطين الأسود المنتن. ولمّا كان العلم الثابت قد قطعت حقائقه بأنّ الأرض كروية، وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس؛ فإنّ غروب الشمس ليس اختفاء في عين أو غير عين، حمئة أو غير حمئة... حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس -غروبها- في هذه البحيرة -العين الحمئة- ...فالحكاية هنا عن ما يحسبه الرائي غروبًا في العين الحمئة، أو في البحر المحيط، وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس، وعن ماذا يعنيه العلم في مسألة الغروب. وقد نقل القفّال... عن بعض العلماء تفسيرًا -لهذه الرؤية- متسقًا مع الحقيقة العلمية، فقال: (ليس المراد أنه [أي: ذا القرنين] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جرمها ومسّها... فهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [أي: البقاع المعمورة والمأهولة] من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأى العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ولهذا قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف: 90]، ولم يُرِد أنها تطلع عليهم بأنْ تماسّهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول مَن تطلع عليهم)[13]. فالوصف هو لرؤية العين، وثقافة الرائي، وليس للحقيقة العلمية الخاصة بالشمس في علاقتها بالأرض ودورانها، وحقيقة المعنى العلمي للشروق والغروب؛ فلا تناقض بين النصّ القرآني وبين الثابت من حقائق العلوم»[14].

ثالثًا: تعدّد قضايا الكتاب وتنوّع موضوعاته وغزارة مادته:

مما نعتبره من مميزات الكتاب أنه غني زاخر بالقضايا من خلال تنوّعها واختلافها، يتجلّى ذلك خاصّة في القسم الثاني؛ إِذْ تناول العديد من الشبهات، وكلّ شبهة تمثّل موضوعًا مستقلًّا. والرابطة الجامعة بين هذه الشبهات، تعلّقها بالقرآن الكريم كموضوعات فيه، كما أن المناقشات والردود عليها سيقت لتخدم هدف الكتاب، وهو ما يبرز مدى تعدّد الطُّرُق والسُّبُل والأدوات الممكنة في بيان وإثبات إعجاز القرآن الكريم، وتنوع جوانب التحدي فيه.

ومن هذا التنوع الموضوعاتي الموجود في الكتاب، وغزارة مادته ما احتواه من:

- إشارات في مباحث من علوم القرآن مثل حفظ القرآن وجمعه في العهد النبوي، وعهدي أبي بكر وعثمان[15]، ومسألتي الأحرف السبعة[16] وترتيب السور[17]، وحروف فواتح بعض السور[18]، وما يتعلّق بأساليب البلاغة القرآنية وأوجه من تناسب نَظْمه[19].

- موضوعات فكرية معاصرة كـ: تناقض النقل والعقل، وعقلانية الإيمان الإسلامي[20]، وتاريخية أحكام القرآن أو خلودها[21].

- وإشارات فيما يتعلّق بمجال مقارنة الأديان حينما تطرق إلى شبهات مخالفة القرآن للكتاب المقدس في جوانب معينة (الشبهات السادسة والسابعة والثامنة)[22].

2- أبرز الملاحظات على الكتاب:

من أهم ما يلاحظ على الكتاب مما لا يقدح في أهميته وقيمته الكبيرة، ما يأتي:

أولًا: عمومية عنوان الكتاب وخصوصية محتواه:

يتسم عنوان الكتاب بالعموم والشمول، وهو (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم)، لكنه في متنه ومحتواه يتناول موضوعًا خاصًّا ومحددًا، متعلقًا بحقيقة القرآن الكريم الكبرى، وهي أنه معجِز متحدٍّ لكلّ البشر على مرّ العصور، وما اتصل بذلك من مسائل وموضوعات تثبت ذلك وتدور حوله. لكن بالتأمل نجد أن ما يتعلّق بالقرآن الكريم كحقائق ليست كلّها تندرج في قضية الإعجاز بحدّ ذاته، والحديث عنه لا يجري من جانب الإعجاز وحده، بل هناك جوانب وزوايا أخرى للنظر إليه، وقُل نفس الشيء عن الشبهات؛ كقضية (الوحي) مثلًا، باعتبارها ظاهرة وقعت في العالم البشري تثير التساؤل والاستغراب في الفكر الإنساني، فضلًا عن إثارة الشبهات، كما تناوله المفكر مالك بن نبي في كتابه: (الظاهرة القرآنية).

وإذًا، لم يخصّص الكاتب في عنوان كتابه كما هو محتواه وهدفه، وقد ذكر في المقدمة خاصّة عبارتي: «المعجز المتحدي» و«التحدي المعجز»[23]، بما يُشير إلى أن هذا هو موضوع الكتاب بالتحديد، أي موضوع الإعجاز، وكذلك في تقسيمه إلى قسمين حين جعل القسم الأول معنونًا بـ: «الإعجاز القرآني .. وشهادات على ذلك»، والقسم الثاني بـ: «الشبهات .. والردّ عليها»، وكأنّ مؤلفنا قصد أن عبارة: (القرآن الكريم) تساوي عبارة: (الإعجاز القرآني)، وهذا على صحّته جزئيًّا إلا أنه منهجيًّا ينبغي أن يأتي عنوان الدراسة عاكسًا بشكل محدّد لمحتواها، وتصميمها العام، وكذا موافقًا لهدفها ومحورها.

ثانيًا: غياب الإحالة على المصادر والمراجع التي أُخذت منها الشبهات:

مما لفت نظري في عرض الكاتب لجُلّ الشبهات أنه لا يحيل على المراجع أو المصادر؛ فمثلًا في عرض الشبهة الخامسة عشرة نجده يستخدم الإبهام دون ذكر أسماء القائلين ولا مصدرها، قائلًا: «هناك مَن يقولون: إنّ القرآن الكريم يحتوي على طلاسم لم تفسّر، كما جاء في سورة البقرة (الم)، وغيرها مما ذكر في السور الأخرى. ويسألون: كيف لم يسأل الصحابة عن معاني هذه الحروف، وهم الذين عايشوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يومًا بيوم، وسألوه عن أتفه الأشياء! فكيف لم يسألوا عن هذه الرموز؟! ويَصِلون بذلك إلى أن الصحابة -رضي الله عنهم- إمّا أنهم قد سألوا الرسول وأجابهم عن ذلك، ولم يَصِلنا ذلك الجواب في حديث من الأحاديث التي فُقِدَت (حَسَب اعتقادهم)، أو أنه لم تكن قد فكّت هذه الرموز أصلًا، وتلك مصيبة أكبر؛ حيث إنّ معنى ذلك إتيان القرآن بطلاسم لا معنى لها. اهـ»[24].

والحال نفسُه في الشبهة التاسعة عشرة، يقول: «هناك مَن يدّعي أن الشريعة التي جاء بها القرآن الكريم هي شريعة (رحمة)، وليست مثل شريعة موسى -عليه السلام- شريعة (قانون) .. فهي -بالأساس- (رحمة) كما أن شريعة عيسى -عليه السلام- شريعة (محبة)، وليست شريعة (قانون). ويدعمون هذه الدعوى بدعوى أخرى... ويضيفون... اهـ»[25].

ففي هذين المثالين لا نعثر على مَن قال، لا في متن النص ولا في حاشيته! وسلبية هذا الأمر من وجهة نظري -فضلًا عن مسألة ما جرَت به العادة في مناهج البحوث والدراسات- تكمن في عدم السماح للقارئ بالاطلاع على الشبهة من مصدرها للرجوع إليها للفهم أكثر لوجهة النظر الأخرى، واستيعاب مختلف جوانبها، وإشباع الفضول المعرفي حولها، وما قد يساعد في تنمية الحس النقدي البناء.

ويمكن استثناء حالتين:

- في الشبهة الثامنة عشرة «حول وجود أخطاء لغوية في القرآن الكريم»[26]، أرجعنا الكاتب إلى كتاب آخر له؛ حيث يحيل على مرجعه؛ يقول: «لقد ادّعى أحد الكتاب -ومن قبله بعض المنصِّرين- أن القرآن الكريم «ما زالت توجد به حتى الآن بعض الأخطاء النحوية واللغوية» [آية 69 من سورة المائدة]، و[آية 38 من سورة المائدة]، و[آية 69 من سورة طه]. كما ادّعى هذا الكاتب أن الحجّاج بن يوسف الثقفي... قد سبق وغير في مصحف عثمان أحد عشر حرفًا. ا.هـ»[27].

- وفي الشبهة الرابعة عشرة، ذكر قائلها مكتفيًا بالقول: «في (12 سبتمبر 2006م) ألقَى بابا الفاتيكان (بنديكتوس السادس عشر) محاضرة -بالجامعة الألمانية (ريجنسبورج)- عن (علاقة العقل بالإيمان في المسيحية)، وفيها تحدّث عن لا عقلانية الإيمان الإسلامي .. مقارنًا بعقلانية الإيمان المسيحي .. الأمر الذي أثار الشبهات حول هذا الموضوع. ا.هـ»[28]، هكذا بدون ذكر أيّ مرجع نرجع إليه للاطلاع أكثر على الشبهة وسياقها، وما يتصل بها.

خاتمة:

قدّمنا في هذه المقالة عرضًا وتقويمًا لكتاب: (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم) للدكتور محمد عمارة -رحمه الله-. وهو كتاب مهم ومفيد، لا يخفى جهدُ المؤلِّف العلمي فيه، وغنى مادته جلي لا تخطئه العين.

وهو يندرج في مجال فن المناظرة؛ حيث جاء خطابًا متسلسلًا ومرتبًا في أفكاره، مبنيًّا بإحكامٍ في مسائله، متوجهًا إلى هدفه الإقناعي بموقفٍ ما، من خلال بناء حقائق القرآن الكريم وإثبات مقرّراته، بردّ الشبهات عنه ودحضها، عبر توظيف الحجج والاستدلالات الصحيحة، والشهادات المعززة، فضلًا عن توظيف الحسّ النقدي، والفكر الحساس، والتنبيه على الثغرات والنقصان. مما يجعله كتابًا مفيدًا ومغنيًا لمكتبة الدراسات القرآنية، الذي يحتاج إلى أن يُبنى عليه، وتوسّع أفكاره، لترسخ الحقائق أكثر، وتخبو الأباطيل، تطبيقًا للسنّة الإلهية: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49]، ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]، خاصّة وأنه يطرح موضوعًا أصيلًا من الموضوعات القرآنية، يحتاج إلى مزيد العناية والاهتمام، وطول نفَس الدرس في سبيل سبر جوانب أخرى فيه، وذلك على ضوء القرآن الكريم، ومن منظوره، وهو منذ أول نزوله وإلى اليوم، لم يتوقف الهجوم عليه والتشكيك فيه، لكنه تحدى كلّ ذلك بما يثبت إعجازه وصدقه، ومفارقته للطاقة البشرية.

وما ذكر من ملاحظات أو تقويمات على الكتاب في حدّ ذاته، لا يقدح في قيمته، ولا ينقص من أهميته، بل ترنو أن تحفز القارئ ليرجع إليه، ويطالعه لإغناء رصيده المعرفي والعلمي، والتزوّد به لترسيخ المعرفة بدينه وكتاب ربه، فضلًا عن الدفع عنه؛ لِما يوفره من مادة محكمة ومهمة في هذا الاتجاه.

والله تعالى نسأل أن يكون هذا المقال قد أنصف هذا الكتاب وكاتبه بلا غُلُوّ أو جَفْوٍ؛ فإنْ كان مِن صواب فمِن الله تعالى وتوفيقه، وإن كان من خطأ فمِن تقصير وسوء فهم: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].

وصلّى اللهُ وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

[1] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1999م، (1/ 199).

[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحيق، ج24، دار السلام، السعودية، ط، 2000م، ص880.

[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور، محمد الطاهر، الدار التونسية للنشر، تونس، ط 1984م، (12/ 192).

[4] صدرت الطبعة الأولى للكتاب سنة (1431هـ= 2010م)، من دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، في القاهرة، وهو من تأليف الدكتور/ محمد عمارة.

[5] هو محمد عمارة مصطفى عمارة، مفكر إسلامي ومؤلّف ومحقق مصري، ولد بريف مصر عام (1350هـ= 1931م)، وكان عضوًا في العديد من المؤسسات العلمية والفكرية والبحثية؛ كالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، وهيئة كبار علماء الأزهر بمصر، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، ومركز الدراسات الحضارية بمصر، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، مؤسسة آل البيت بالأردن، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، كما كان رئيس تحرير مجلة الأزهر حتى 16 يونيو 2015م. ألّف العديد من الكتب والدراسات متجاوزًا المائتين؛ تأليفًا وتحقيقًا، تتناول مختلف الجوانب المميزة للحضارة الإسلامية، ودافعَ عن المشروع الحضاري الإسلامي، وعن العقلانية الإسلامية والعدل الاجتماعي الإسلامي، كما له صولات في مواجهة الفكر الوافد وتيارات التغريب والعلمنة المخالفة للثقافة الإسلامية، وعُرِف بموسوعيته وتحقيقه للتراث الإسلامي وتيارات الفكر الإسلامي القديمة والحديثة، وجمعه ودراسته وتحقيقه للأعمال الكاملة لأبرز أعلام اليقظة الإسلامية الحديثة؛ كرفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي. وكتب عن أعلام التجديد الإسلامي؛ كرشيد رضا، وخير الدين التونسي، وأبي الأعلى المودودي... إلخ. والرجل عَرَف تحولات فكرية نقلته من الاتجاه الماركسي إلى الفكر الإسلامي، حتى اشتهر بكونه من (الإسلاميين المستقلين) الذين دافعوا عن رسالة الإسلام وأمّته وقضاياها المعاصرة، وتُوفي -رحمه الله- يوم السبت 4 رجب 1441هـ الموافق لـ 28 فبراير 2020م. تراجع تفاصيل سيرة المؤلف الذاتية مفصلة في آخر الكتاب (حقائق وشبهات حول القرآن الكريم)، ص189- 192، وفي جميع مؤلفاته، وما كُتِب عنه.

[6] حقائق وشبهات، ص15.

[7] حقائق وشبهات، ص180.

[8] حقائق وشبهات، ص71.

[9] حقائق وشبهات، ص71.

[10] حقائق وشبهات، ص72.

[11] حقائق وشبهات، ص73- 74.

[12] حقائق وشبهات، ص96.

[13] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت، ط1، 2006م، (13/ 370).

[14] حقائق وشبهات، ص96- 97.

[15] حقائق وشبهات، ص27- 46، 47- 50.

[16] حقائق وشبهات، ص44- 45، 50.

[17] حقائق وشبهات، ص45، 48.

[18] حقائق وشبهات، ص134- 138.

[19] حقائق وشبهات، ص21- 23.

[20] حقائق وشبهات، ص116- 133.

[21] حقائق وشبهات، ص104.

[22] حقائق وشبهات، ص87- 89، 90- 91، 92- 93.

[23] حقائق وشبهات، ص9.

[24] حقائق وشبهات، ص134.

[25] حقائق وشبهات، ص153.

[26] حقائق وشبهات، ص147.

[27] كتاب سقوط الغلوّ العلماني، دار الشروق، القاهرة ط2، 2002م، ص33. حيث يردّ على هذه الشبهة لمحمد سعيد العشماوي، محيلًا في الهامش على كتابه: الخلافة الإسلامية، طبعة القاهرة، 1990م.

[28] حقائق وشبهات، ص116.

الكاتب

الدكتور فاطمة الزهراء دوقيه

حاصلة على الدكتوراه في الآداب من جامعة مولاي إسماعيل مكناس - المغرب، ولها عدد من الأعمال العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))