وقفات مع آيات الصيام في سورة البقرة
مقدمة:
لقد أقبل علينا شهر رمضان المبارك بنفحاته وبركاته، هذا الشهر الذي تتوقُ إليه أفئدة الموحِّدين، ويُقْبِل فيه الناس على ربهم بالطاعات ويقومون بعبادة الصوم لله عزّ وجلّ، ولا شك أنّ الصوم عبادةٌ من أجَلّ العبادات، وعملٌ من أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ؛ و«الصيام حكمٌ عظيم من الأحكام التي شرعها اللهُ تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردًا فردًا؛ إِذْ منها يتكون المجتمع»[1]. ولذا جعله اللهُ فرضًا واجبًا وركنًا ثابتًا من أركان الإسلام الخمسة كما في الحديث الصحيح[2].
وقد عالج القرآنُ أمر الصيام وتحدّث عنه في عدد من الآيات في سورة البقرة كما هو معلوم، وهي الآيات [من 183 إلى 187] من السورة الكريمة.
وفي ضوء أهمية حديث القرآن عن العبادات واستجلاء ما فيه من دلالات وعِبر لها أهميتها في حُسن التعامل مع هذه العبادات فقد آثرنا أن نقف هذه الوقفات التدبرية مع هذه العبادة السامية (عبادة الصيام) من خلال الآيات الكريمات من سورة البقرة التي سلّطَت الضوء على هذه العبادة الجليلة، مستنبطين منها بعض الدروس العملية والفوائد والهدايات.
الصومُ في اللغة: الإمساكُ عن الشيء والتركُ له[3]، وأمّا في الشرع: «فهو التعبد لله -سبحانه وتعالى- بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطّرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس»[4]. ومن أهمّ ما يتعلّق بالمعنى الشرعي للصيام أنه عبادة محضة لا ينبغي للعبد أن يبتغي بها إلا وجه الله عزّ وجلّ، ويجب على العبد أن يستصحب مع الإمساك عن المفطرات نيّةَ التقرُّب إلى الله ربّ العالمين، نيّة التعبُّد لله وامتثال أمره؛ فيصوم من الفجر إلى المغرب لأنّ الله أمره بذلك، فيمتثل الأمر ولسانُ حالِه ومقالِه يقول: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]. وفيما يأتي نشرع في ذكر هذه الوقفات والتأمّلات التي لاحَت لنا من خلال النظر في آيات سورة البقرة التي عالجت أمر الصيام، فنقول وباللهِ التوفيق:
الوقفة الأولى: رفعة عبادة الصيام وشريف مقامها:
لا يخفى على كلّ ذي لُبّ ما لعبادة الصوم في الإسلام من منزلة رفيعة ودرجة عالية، حتى إننا نجد الآية الأولى من آيات الصيام تقرّر أنه عبادة فُرِضَت على جميع الأمم مِن قَبْلِنا؛ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183]، ولا شك أنّ العبادات التي تُفرَض على كلّ الأمم يكون لها شأنٌ عظيم وخَطْبٌ جليل ومنافع كثيرة.
يقول القاسمي معدّدًا فوائد الصيام: «واعلم أنّ مصالح الصوم لَمّا كانت مشهودة بالعقول السليمة والفِطَر المستقيمة؛ شرعه اللهُ لعباده رحمةً لهم، وإحسانًا إليهم، وحمية، وجُنّة..! فإنّ المقصود من الصيام: حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوّتها الشهوانية؛ لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به ممّا فيه حياتها الأبدية. ويكسر الجوع والظمأ من حدّتها وسورتها، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين. وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرّها في معاشها ومعادها، ويسكن كلّ عضو منها وكلّ قوّة عن جماحها، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتّقين، وجُنّة المجاهدين، ورياضة الأبرار والمقرّبين. وهو لربّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإنّ الصائم لا يفعل شيئًا، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده. فهو ترك محبوبات النفس وتلذّذاتها إيثارًا لمحبة الله ومَرضاته، وهو سرّ بين العبد وربّه، ولا يطّلع عليه سواه.
والعباد قد يطّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة. وأمّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطّلع عليه بَشَر، وذلك حقيقة الصوم!
وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها الموادّ الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها. واستفراغ الموادّ الرديّة المانعة له من صحّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى»[5].
كما أنّ فرضَ الصيام على جميع الأمم يدلّ -فيما يدلّ عليه أيضًا- على أنه من أحبِّ العبادات إلى الله، ومن أقربِها لِنَيْل مرضاته، ويكفي في بيان شرف الصوم وعظيم أمره أن ينسبه اللهُ -سبحانه وتعالى- إلى نفسه العليّة، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ [وفي روايةِ مسلم: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عزّ وجلّ: إِلَّا الصَّوْمَ]، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)[6]، وقد تعدّدت أقوال أهل العلم في تفسير هذه الإضافة الكريمة لهذه العبادة الجليلة، حيث ذكر الإمامُ ابنُ حجر العسقلاني جُلَّ أقوال أهل العلم في ذلك، فقال: «وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: (الصيام لي وأنا أجزي به) مع أنّ الأعمال كلّها له وهو الذي يجزِي بها، على أقوال؛ أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره...؛ لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب... ثانيها: أن المراد بقوله: (وأنا أجزي به) أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأمّا غيره من العبادات فقد أطلع عليها بعض الناس... ثالثها: معنى قوله: (الصوم لي) أي: إنه أحب العبادات إليَّ والمقدَّم عندي... رابعها: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، كما يُقال: بيت الله، وإن كانت البيوت كلها لله... خامسها: أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب -جل جلاله- فلمّا تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه... سادسها: أن المعنى كذلك لكن بالنسبة إلى الملائكة؛ لأن ذلك من صفاتهم. سابعها: أنه خالص لله وليس للعبد فيه حظّ... ثامنها: سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يُعبَد به غيرُ الله بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك... تاسعها: أن جميع العبادات تُوَفَّى منها مظالم العباد إلا الصيام... عاشرها: أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحَفَظَة كما تكتب سائر الأعمال... فهذا ما وقفتُ عليه من الأجوبة، وقد بلغني أن بعض العلماء بلغها إلى أكثر من هذا... وأقرب الأجوبة التي ذكرتُها إلى الصواب الأول والثاني، ويقرب منهما الثامن والتاسع»[7].
هذا فضلًا عمّا ثبت في كثير من الأحاديث الصحيحة من فضلٍ عظيم لهذه العبادة، وثوابٍ جزيل لمَن قام بها حقّ قيامها، وأدّاها إيمانًا واحتسابًا فيُغفَر له ما تقدّم من ذنبه[8]، حتى إذا جاء هذا الصائمُ يومَ القيامة وجدَ بابًا خاصًّا بالصائمين من أبواب الجنة، يسمَّى (باب الريّان) لا يدخل منه إلا الصائمون، دون سواهم، فـ«عَنْ سَهْلِ بنِ سَعدٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»[9].
فحريّ بالمؤمن وهو مُقدِمٌ على شهر رمضان أن يستحضر منزلة هذه العبادة الكريمة وعظيم أمرها، فهذا مما يُعِينه -بلا شك- على حُسْن التعاطي معها والإقبال عليها والاستعداد لها والاجتهاد في تأديتها على الوجه اللائق بها.
كما يجب على المسلم الصائم أن يستحضر معنى التعَبُّد في فريضة الصوم، فهي عبادة يتقرب بها العبد إلى الله عزّ وجلّ، وليست مجرّد عادة يعتادُها كلَّ عام؛ فيصوم لأنه يرى الناسَ مِن حوله يصومون، بل يجب استحضار نية التقرب إلى الله وامتثال أمره وتحقيق عبادته؛ لأنه لا قيمة لعمل بغير نية صالحة خالصة لله ربّ العالمين؛ حيث يقول سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 2- 3]، ويقول: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)[10]، وقوله: (إنّ اللهَ لا يَقبَلُ من العمَلِ إلا ما كانَ له خالصًا، وابتُغِيَ به وجهُه)[11].
فاستحضِر أخي الصائم كلّ هذه المعاني قبل شروعك في عبادة الصيام؛ حتى تنشط على العبادة، وتُقْبِل عليها بنفسٍ طيبة راضية.
الوقفة الثانية: نداء الإيمان لأهل الصيام:
صدّر اللهُ -عزّ وجلّ- آيات الصيام في سورة البقرة بهذا النداء العظيم الذي يصف فيه المنادَى عليهم بوصف (الإيمان)، فكان من رحمته وحكمته -سبحانه وتعالى- أنْ «يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكِّر لهم بحقيقتهم الأصيلة»[12]، فيقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وهو فيه ما فيه من التكريم لهم والرفعة لدرجتهم؛ ففضلًا عن كون الإيمان أرفعَ درجةً من الإسلام، فإنّ في النداء بوصف الإيمان في أول آيات التكليف بالصيام إشارةً إلى أنهم أَوْلَى وأجدر مِن غيرهم باستماع كلام الله وامتثال أمره، يدعوهم إلى هذا الامتثال ما يتصفون به من إيمان، وعلى قدر إيمان العبد تكون استجابته، فكلّما كان أقوى إيمانًا كان أسرع استجابةً وأتَـمَّها، فلقد قال الله في شأن المؤمنين: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51]، وأثنى اللهُ على النبيّ والمؤمنين معه حيث كان جوابُهم أمام أمرِ الله عزّ وجلّ: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]. هذا، مع ما في هذا النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده.
فيا أيها المؤمن الصائم، لا يفوتنّك أن تلحق برَكْبِ الصالحين القانتين المتّقين، الذين يعلمون أن أحبّ الأعمال إلى الله ما افترضه على عباده[13]، ومنه فرضُ الصوم؛ فهَلُمَّ لتنال الغاية الكُبرى من الصوم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، واحرِص عليها والْزَمْهَا، واعلم أنّ التقوى هي التي تستيقظ حقيقةً في قلبك حين تؤدّي هذه الفريضة على أكمل وجه؛ فإذا فعَلْتَ فُزْتَ -من بينِ ما فُزتَ- بأمرين؛ أولًا: أن تكون مكرَّمًا عند الله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. ثانيًا: أن يكون أرجَى لقَبُولِ عملِك: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27].
الوقفة الثالثة: الصيامُ يُسْرٌ لا عُسْر:
آيات الصيام في سورة البقرة تدلّ دلالة واضحة على يُسْرِ هذه الشريعة، وأنّ الصيام عبادة تدلّ على اليُسْر الذي اتصفت به هذه الشريعة الغرّاء، على عكس ما قد يظنه بعضهم، مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الدِّينَ يُسر)[14]، ونستشعر هذا اليُسْر من بداية الحديث عن فريضة الصيام في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، فتذكير الأمة بأنها ليست الفريدة بهذه الفريضة فيه تسلية لها وتنشيط لأبنائها، يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: «يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فَرَضَ عليهم الصيام، كما فَرَضَه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلّ زمان. وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تُنافِسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة، التي اختصَّيتم بها»[15].
ثم لَمّا ذكر أنه فَرَضَ الصيام، أخبر أنه ليس إلا ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، أي: قليلة محددة في غاية اليُسْر السهولة. ثم زاد الأمرَ يسرًا وسَهّلَه تسهيلًا آخر، فقال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وذلك لتجاوُز المشقة وتخفيف المعاناة، فرخّص اللهُ في الفطر لأصحاب الأعذار، على أن يُقْضَى في أيام أُخَر، إذا زال المرض أو انقضى السفر وحصلت الراحة، على أنه يجوز لمَن أفطر بعذر أن يقضي أيامًا قصيرة باردة، عن أيام طويلة حارة كالعكس، ولا حرج.
وقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ وهذه إشارةٌ إلى بعض ما في هذا التكليف مِن يُسْرٍ، ورِفْقٌ آخر كان في ابتداء فرض الصيام، لَمّا كانوا غير معتادين للصيام، وكان فيه مشقّة عليهم، تدرّج الربّ الحكيم معهم بأسهل طريق، وخيَّر مَنْ يقدر على الصوم بين أن يصوم -وهو أفضل- أو يُطْعِم؛ ولهذا قال: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾.
ثم بيّن أنّ هذه الأيام المعدودات ما هي إلا شهر واحد فقط من اثني عشر شهرًا في السَّنَة، مع أنّ الله يحب هذه العبادة. وأحبُّ الصيام إليه سبحانه صيامُ نبيّ الله داود؛ حيث كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، فكان مقتضى ذلك أن يفرض الله صيام ستة أشهر من السَّنَة في مقابل الإفطار ستة أشهر، إلا أنه سبحانه ما فرض على عباده إلا شهر رمضان لا غير.
ولَمّا نسخ التخيير السابق بين الصيام والفداء في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾، أعاد الرخصة للمريض والمسافر؛ كي لا يتوهّم أحد أن الرخصة أيضًا قد نُسِخَت. ثم بيّن العلّة الأساسية لهذا التيسير الشامل، وأنه مراد الله من عباده، فقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، أي: «يريد الله تعالى أن ييسّر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أبلغ تسهيل؛ ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله»[16].
ثم يختم هذه الطائفة من صور اليُسْر بالتخفيفِ عن عباده، حيث كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين إذا ناموا من الليل -حتى لو ناموا في أوّله- الأكل والشرب والجماع بعد النوم، فحصلت المشقّة لبعضهم، فخفّف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلّها الأكل والشرب والجماع، سواء ناموا أم لا، فتاب الله عليهم بأن وسّع لهم الأمر، وعفا عنهم ما قد سلف من الإثم. ووسّع وقت الإباحة هذا ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، وفيه دليل على استحباب تأخير السحور أخذًا من معنى رُخصة الله وتسهيله على العباد؛ ليكون عونًا لهم ويُسرًا على مواصلة الصيام بأدنى مشقّة وأقلّ تعب ممكن، فالحمد لله أولًا وآخرًا.
وبعد كلّ هذا السَّيْل العميم من اليُسْر، أيَحْسُن بك أن تستقبل هذا الشهر الكريم بشيء من الضجر، أو أن تشعر مع قدومه بالسأم والملل، أو أن تضيق ذرعًا به ولا تتحمّل مشقّاته، أو أن تكره قدومه فتكون معرَّضًا لحُبُوط عملِك، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 9].
إنّ استحضارك لمعاني اليُسْر التي تحفّ فريضة الصوم يجعلك تستعذب هذه العبادة، وتلتذّ بمشقّاتها، وترى فيها استعذاب العذاب في سبيل رضا المحبوب الوهّاب؛ فحلاوةُ أجرِها تُنْسِيكَ مرارةَ ألَمِهَا، واحتسابُ وَعْدِها يجعلك تستهينُ بمشقّاتها، وتتحمّلُ لَأْوَاءَها، وتستخِفُّ أثقالَها. وإنها لَعِبادة عظيمة، لكنها يَسِيرة على مَنْ يسّرها اللهُ عليه.
الوقفة الرابعة: شهرٌ مع القرآن:
من المعلوم لكلّ ذي بصيرة الترابطُ الشديد بين القرآن والصيام، فشهر رمضان هو شهر القرآن: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185]، فما كان لشهر رمضان هذه المنزلة من بين الشهور، ولا لليلة القدر هذه المنزلة من بين الزمان؛ إلّا لإنزال القرآن فيهما. ومن هنا فلا يمكن أن يُفْصَل بين الصيام والقرآن، ولا يمكن أن يُتخيَّل شهر رمضان بدون الإقبال على القرآن، ولقد أدرك السَّلَف الصالح هذه العلاقة الوطيدة فكانوا يتركون طلب العلم والتدريس وغير ذلك، وينكبُّون ليلَ نهار على تلاوة القرآن والقيام بالقرآن. ولا غرو أن تجد هذا الترابط الشديد بين الصيام والقرآن دون سواهما من العبادات في الحديث الشريف، الذي يجمع بينهما في الشفاعة للعبد يوم القيامة، فـ«عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الصِّيَامُ وَالقُرآنُ يَشْفَعَانِ لِلعَبدِ يَومَ القِيَامَةِ؛ يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ؛ قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ»[17].
ولقد كان لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة، فقد كان يلتقي جبريلَ في كلّ ليلة من رمضان فيتدارسان القرآن، وذلك كلَّ ليلة، فلا ينبغي للمسلم أن يضيّع هذه الفرصة وهذه الساعات الغالية التي لا تتكرّر إلا كلّ عام، بل يستثمرها في تلاوة القرآن وتدبّره وقيام اللّيل به، كيف لا وهو رُوح ونور أفاض علينا به ربُّ العالمين: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: 52]، والجسد بلا روح هو جسد ميّت وإن كان يمشي بين الأحياء؛ لذا فقد ضرب اللهُ هذا المثل لمَن كان مُعرِضًا عن القرآن ثم اهتدى به، فقال: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: 122]. والعبدُ بلا نور يتخبط في الظلمات -شاء أم أبَى- ولا محالة حينئذ أنه يُلقي بنفسه إلى التهلكة، ويجلب لنفسه الشقاء بعيدًا عن ذكر الله عزّ وجلّ، ولا هداية للمسلم إلا به: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ: 50]. مع ما لقارئ القرآن من ثواب عظيم مضاعَف عند الله -جلّ جلاله- لا يخفى على مسلم.
فاغتنم هذه السويعات الغاليات في رمضان، واعلم أنّ الأجر أضعافٌ مضاعفة، واقتدِ بـمَنْ قد سلَف، فلعلك لا تَلقَى رمضانَ بعد عامِك هذا، فاقرأ -على الأقلّ- ختمة كاملة، إن لم تكن ختمات متعاقبة، وفرِّغ نفسك للقرآن واجعَل له أفضلَ أوقاتك، لا ما فَضَلَ من وقتك، واجعل نصب عينيك قول رسولك -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ)[18]، ولا تكن ممن يشكوهم الرسول الكريم لربّه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].
الوقفة الخامسة: غاياتٌ ثلاث يجب الحرص عليها:
لا ريب أنّ الغاية العظمى من الصيام هي التقوى، وهي صفوة الغايات من العبادة، غير أنها ليست الغاية الوحيدة من هذه العبادة الجليلة، فـثَمَّ غايات أخرى أعرَبَت عنها الآيات الكريمة، وتتمثل في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]؛ ثلاث غايات أُخرى يخرج بها الصائم من رمضان، بالإضافة إلى الغاية الكبرى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وبيان هذه الغايات كما يأتي:
فالغاية الأولى: إكمال عدّة الشهر وإتمام الصيام، قال ابن عطية -رحمه الله-: «معناه: وليكمل مَن أفطر في سفره أو في مرضه عدّة الأيام التي أفطر فيها...، ولأنْ تكملوا العدة رخّص لكم هذه الرخصة»[19]، وفي الحرص على هذه الإكمال إشارةٌ إلى الحضّ على إتمام الأعمال الصالحة على خير وجه، بأن يكون العمل خالصًا لله أولًا، ثم يكون موافقًا لهَدْي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثانيًا، فإذا فعل ذلك استحق الأجر -بفضل الله ورحمته- الذي بيّنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)[20]، فتعلّق هذا الثواب العظيم بإكمال صيام رمضان كلّه. فليحرص المسلم على تصحيح صيام كلّ يوم من أيام رمضان، وإن عرَض له عارض فأفطر معذورًا، فليحرص على إكمال ما نقص من الشهر في أقرب وقت يتيسّر له فيه ذلك، فإنّ العمر قصير والعمل قليل.
والغاية الثانية: تتمثّل في قوله: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾، والتكبير هنا وإن كان يعني فيما يعني تكبيرات العيد، فإنّ من معاني تكبير الله تعالى تعظيمَه سبحانه وتعظيمَ أوامره، ومن هنا يقول الإمام الطبري: «يعني تعالى ذكره: ولتعظِّموا الله بالذِّكْر له بما أنعم عليكم به، من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثلَ الذي كتب عليكم فيه، فضلُّوا عنه بإضلال الله إيّاهم، وخصَّكم بكرامته فهداكم له، ووفّقكم لأداء ما كتبَ اللهُ عليكم من صومه»[21]، فتكبير الله -عزّ وجلّ- يكون بتوقير أمره وإجلاله وتعظيمه، فيا أيها المؤمنون «تذكّروا عظمَتَه وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده، وأنه يربّيهم بما يشاء من الأحكام، ويؤدّبهم بما يختار من التكاليف»[22]؛ ولذا عابَ نوحٌ -عليه السلام- على قومه واستنكر عليهم قائلًا: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ [نوح: 13]، أمّا المؤمنون فإنهم يعظِّمون شعائر الله، لأنهم أصحاب القلوب التقية، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، وهذه التقوى تتحصل بالصيام، وهذا التعظيم إذا ملأ قلب العبد المؤمن كان خيرًا له، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].
لذا كانت الطاعات -ومنها صيام رمضان- من الأمور التي تجعل العبد يعظِّم الرّبَّ -سبحانه وتعالى- ويستجيب لأمره، وكلّما ازداد من الطاعات ازدادت الخشية من الله وازداد تعظيمُ الله في القلب، ومن هنا كان رسولُ الله أشدَّ الناس خشية لربه، حيث يقول: (فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً)[23].
أمّا الغاية الثالثة: فهي شكر الله -جلّ جلاله-، فهو وحده الذي يستحقّ الشكر، لكن كيف يكون الشكر؟ إنّ الشكر إنما يكون بالمداومة على صالح العمل، ومصداقُ ذلك قولُ الله عز وجل: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]، «أي: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه دليل على أنّ العبادة يجب أن تؤدَّى على طريق الشكر... من حيث أنّ العمل للمنعِم شكر له. و﴿الشَّكُورُ﴾ المتوفر على أداء الشّكر، الباذل وسعه فيه: قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه، اعتقادًا واعترافًا وكدحًا، في أكثر أوقاته. وعن ابن عباس -رضى الله عنهما- من يشكر على أحواله كلها. وعن السدى: مَن يشكر على الشكر. وقيل: مَن يرى عجزه عن الشكر»[24].
فالعبد الشكور بحقّ يتّهم نفسه دائمًا بالتقصير في حقّ واهب النِّعَم، فيُكْثِر من الطاعات والقربات، «ومع ذلك لا يوفي حقّه؛ لأنّ توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرًا آخر إلى ما لا نهاية»[25].
وخيرُ الشاكرين من العباد سيّدُ الأوّلين والآخرين، وخليلُ الرحمن محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يقوم من الليل حتى تورّمَت قدماه وتشقّقت من طول القيام، فقالت عائشة: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رسول اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لك مَا تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قَالَ: (أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)[26]، وهذا تصديق للآية الكريمة في آل داود، حيث إنّ رسول الله طبّق شكر الله قولًا وعملًا، ولنا فيه -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، لا سيما ونحن في شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن. فلْنَغْتَنِم، ولْنَقْتَدِ! ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90].
الوقفة السادسة: الدعاء والصيام صِنوان لا ينفصلان:
يجب أن تتوقّفَ -أخي المسلم- متدبِّرًا ومتأمِّلًا لهذا التداخل العجيب لآية الدعاء في قلب آيات الصيام، حيث تتخلّلُ آياتِ الصيام هذه الآية الكريمة التي تحمل كثيرًا من عبق هذه الصِّلَة السامية بين الله -سبحانه وتعالى- وعبادِه المؤمنين؛ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186]، وفيها ما فيها من الرحمة والعناية والتيسير على العباد الذين لا حول لهم ولا قوة إلا باستعانتهم بربهم، ولجوئهم إليه وتوجّههم إليه بالدعاء إذا حلّت بهم ضائقة أو نزلت بهم نازلة؛ ليفرّج عنهم الكَرْب ويزيل عنهم الهمّ، مع ما تحويه من البُشريات التي بشّر بها القرآن في مثل قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62]، وقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وغيرها من الآيات التي تُشعر العبد أنه إذا لجأ إلى ربه فإنه يأوي إلى ركن شديد، يُيَسِّرُ له العسير، ويقرِّب له البعيد.
والجمع بين الصيام والدعاء هو جَمْع بين عبادة قال الله سبحانه فيها كما في الحديث الإلهي الجليل: (إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)[27]، وجعل صاحبَ هذه العبادة -أعني الصيام- مستجاب الدعوة ما دام صائمًا، فثبت في الحديث الشريف: (ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ)[28]. وبين وعبادة جعَلَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هي حقيقةَ العبادة، حيث قال: (الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)[29].
وهذه إشارة إلى أهمية الإكثار من الدعاء أثناء الصيام وعند الإفطار، بل في الشهر كلّه، فهو في النهار صائم وفي الليل قائم؛ وكلتا الحالتين أرجى لقبول الدعاء.
الوقفة السابعة: التقوى؛ أوّلُ الأمرِ وآخرُه:
من بديع مناسبات القرآن أن تُبتدَأ آيات الصيام بالتقوى وتُختتَم بالتقوى، حيث خُتمت الآية الأولى بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وختمت الآية الأخيرة بقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 187]؛ لِما في الصيام من تدريب عظيم ومجاهدة للنفس تصل بالعبد إلى منزلة التقوى، وهي الغاية العظمى من هذه العبادة؛ «فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأنّ فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى: أنّ الصائم يترك ما حرّم اللهُ عليه من الأكل والشرب والجِمَاع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقرّبًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابَه، فهذا من التقوى.
ومنها: أنّ الصائم يدرِّب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه؛ لعلمه باطّلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيِّق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقلّ منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغنيّ إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى»[30].
وخصال التقوى أوسع من أن تُحْصَر، لكن الصيام يأتي على معظمها لو صام العبد كما ينبغي لله إيمانًا واحتسابًا، وعندئذٍ «تبرز الغاية الكبيرة من الصوم، إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم. وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها. ومِن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتّجهون إليه عن طريق الصيام»[31].
فعليك -أخي الصائم- أن لا تخرج من رمضان إلّا وقد حقّقْتَ هذه المنزلة العظيمة، وتحقَّقَتْ فيك هذه الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، فتتقي محارمَ الله، وتتجنّب التفريط في فرائض الله، ثم أنْ تَلْزَمَ ذلك وتحيا به حتى تلقَى الله غدًا مسلمًا تقيًّا، وقد أخذتَ بأصولِ أسبابِ النجاةِ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88- 89]، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْثَرِ ما يُدْخِلُ النّاسَ الجَنَّةَ، فقال: (تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ)[32].
واحذر أن تخرج من رمضان خالي الوفاض، قليل الزّاد، ليس لك مِن صيامِه إلا الجوع والعَطش، ولا مِن قيامِه إلا التّعب والسَّهَر! وتذكّر قول نبيّك الكريم: (شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ)[33]. نسأل اللهَ العافية والسلامة.
خاتمة:
هذه بعض وقفات كغيضٍ من فَيْض، ونقطةٍ من بحر الفوائد والعِبَر والعِظَات والهدايات التي يمكن أن تُستنبط وتُستفاد من آيات الصيام في هذه السورة المباركة، سورة البقرة، وحريّ بنا أن نُطيل الوقفة مع القرآن ونتأمّل خطابه عن هذه العبادة الجليلة حتى نستشعر أهميتها وأهمية القيام بها، وأن يكون شهر رمضان فرصةً للمؤمن لتجديد صِلَته بربِّه سبحانه وتعالى، وبالقرآن الكريم، وزادًا لإصلاح نفسه وتزكيتها بالأعمال الصالحة، والسعي إلى ما ينفعها في دنياها ويوم المعاد.
فاللهم اجعلنا من المتقين، وأعِنَّا دائمًا وأبدًا على ذِكْرِك وشُكْرِك وحُسْن عبادتك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر- تونس، 1984م، (2/ 154).
[2] من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ)، رواه البخاري، بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ)، (ح: 8). ورواه مسلم [واللفظ له]، بَابُ قول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ) (ح: 16).
[3] لسان العرب، لابن منظور، طبعة دار المعارف- القاهرة، (4/ 2530).
[4] الشرح الممتع على زاد المستقنع، لابن عثيمين، دار ابن الجوزي- القاهرة، 1430هـ= 2009م، ط1، (3/ 4).
[5] محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، ت: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 1418هـ، (2/ 16- 17).
[6] رواه البخاري، باب: هل يقول إني صائم إذا شُتِمَ (ح: 1904)، ورواه مسلم باب: فضل الصيام، (ح: 1151).
[7] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، الناشر: دار المعرفة- بيروت، 1379، (4/ 107- 109) بتصرف.
[8] مصداقًا لِما ثبتَ مِن حديثِ أَبِي هُرَيرَةَ -رضي الله عنه- قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). رواه البخاري، (ح: 38، 2014). ورواه مسلم، (ح: 760).
[9] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب: الريّان للصائمين، (ح: 1896)، ومسلم، كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، (ح: 1152).
[10] صحيح البخاري، [واللفظ له]، باب: بدء الوحي، (ح: 1). وصحيح مسلم، باب قولِهِ صلّى الله عليه وسلّم: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ)، (ح: 1907).
[11] سنن الترمذي، كتاب الجهاد، باب: مَن غزا يلتمس الأجر والذِّكر، (ح: 3140)، وقال: «حديث حسن صحيح».
[12] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، (1/ 168).
[13] مصداقًا للحديث القدسي الجليل: (...وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)، صحيح البخاري، (ح: 6502).
[14] صحيح البخاري، باب: الدين يسر، (ح: 39).
[15] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ= 2000م، ص86.
[16] تفسير السعدي، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص86- 87.
[17] أخرجه الإمام أحمد في المسند (6626)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/554)، والبيهقي في شعب الإيمان (1994)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/181)، وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال الطبراني رجال الصحيح.
[18] رواه الإمام مسلم، (ح: 804).
[19] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1، 1422هـ، (1/ 255).
[20] رواه البخاري، (ح: 38، 1601)، ورواه مسلم، (ح: 760).
[21] جامع البيان = تفسير الطبري، لمحمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ= 2000م، (3/ 478).
[22] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د/ وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر- دمشق، ط2، 1418هـ، (2/ 130).
[23] رواه البخاري، (ح: 6101)، ورواه مسلم، (ح: 2356).
[24] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، دار الكتاب العربي- بيروت، ط3، 1407هـ، (3/ 573).
[25] التفسير المنير، للزحيلي، (22/ 152).
[26] رواه البخاري [واللفظ له]، (ح: 4837)، ورواه مسلم، (ح: 2820).
[27] رواه البخاري ومسلم، وسبق تخريجه.
[28] رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
[29] رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وإسناده صحيح.
[30] تفسير السعدي، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص86.
[31] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، (1/ 168).
[32] رواه الإمام الترمذي في سننه، (ح: 2004)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ»، وحسّنه الألباني.
[33] رواهُ البخاريُّ في الأدب المفرد من حديث جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَقَى الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقَى الدَّرَجَةَ الْأُولَى، قَالَ: آمِينَ، ثُمَّ رَقَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: آمِينَ، ثُمَّ رَقَى الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: آمِينَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَمِعْنَاكَ تَقُولُ: آمِينَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: لَمَّا رَقِيتُ الدَّرَجَةَ الْأُولَى جَاءَنِي جِبْرِيلُ -عليه السلام- فَقَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ». الأدبُ المفردُ، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط3، 1409هـ= 1989م، (ح: 644)، وصححه الألباني.