كتاب «كشف القناع عن تواتر الطرق العشر النافعية في المغرب
ورَدّ ما رُمِيَت به مِن شذوذ أو انقطاع»
للدكتور عبد الهادي حميتو
عرض وتعريف
الحمد لله ربّ العالمين، الملك الحقّ المبين، والصلاة والسلام على مَن بُعث رحمة للعالمين، سيدنا محمد خير الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد، فإن عِلم القراءات مِن أشرف وأجلّ العلوم؛ لأن موضوعه هو كلام الله تعالى وكيف يؤدَّى أصولًا وفرشًا، وقد سخّر اللهُ لهذا العلم أئمةً أعلامًا أنفقوا أوقاتهم وكرّسوا أعمارهم لطلبه وتعليمه والتأليف فيه، فبهؤلاء العلماء صان اللهُ القرآن الكريم عن التحريف والتبديل والتغيير، فتناقله الخلف عن السَّلَف على الوجه الذي بلّغه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصحابته رضوان الله عليهم، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نـَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ويعدّ كتاب (كشف القناع عن تواتر الطرق العشر النافعية في المغرب ورَدّ ما رُمِيَت به مِن شذوذ أو انقطاع) لمؤلِّفه الدكتور/ عبد الهادي حميتو -حفظه الله- من المصنفات الحديثة في التأريخ للقراءات القرآنية التي تدخل في هذا المجال، وخاصّة قراءة الإمام نافع وطرقها التي اشتهرت في المغرب. وسنحاول من خلال هذه المقالة التعريف بهذا المؤلَّف من خلال عدد من الجوانب، وسيأتي الكلام موزعًا على قسمين؛ يستعرض الأول التعريف بالمؤلِّف واسم الكتاب وسبب تأليفه ومصادره، ويعمل الثاني على بيان محتويات الكتاب.
القسم الأول: التعريف بالمؤلِّف، والكتاب ومصادره وسبب تأليفه:
1) مؤلِّف الكتاب في سطور:
هو عبد الهادي بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله حميتو، من مواليد 1362هـ= 1943م، بمنطقة الكريمات ضواحي مدينة الصويرة بالمملكة المغربية، حاصل على دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية والشريعة من دار الحديث الحسنية سنة 1995م، عمل كأستاذ مكون بالمركز التربوي الجهوي محمد الخامس بآسفي إلى أن تقاعد سنة 2008م، وله باعٌ في القراءات القرآنية وعنايةٌ خاصّة بقراءة الإمام نافع، وترأّس لجنة مراجعة المصحف الشريف بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، وتقلّد عدّة مهام ومسؤوليات، وشارك في عدد من المؤتمرات العلمية، ومسابقات حفظ وتجويد القرآن الكريم وتفسيره داخل المغرب وخارجه، وله عدّة مؤلَّفات وإنتاجات علمية في الدراسات القرآنية، منها :قراءة الإمام نافع عند المغاربة من رواية أبي سعيد ورش: مقوماتها ومدارسها الأدائية إلى نهاية القرن العاشر الهجري، معجم شيوخ أبي عمرو الداني إمام القرّاء في الأندلس والمغرب، معجم مؤلّفات الحافظ أبي عمرو الداني وبيان الموجود منها والمفقود، وكتاب (كشف القناع عن تواتر الطرق العشر النافعية في المغرب) موضوع هذه المقالة.
2) الكتاب ومصادره:
كتاب (كشف القناع عن تواتر الطُّرق العشر النافعية في المغرب ورَدّ ما رُمِيَت به مِن شذوذ أو انقطاع) لمؤلِّفه الأستاذ الدكتور عبد الهادي حميتو، صدر عن مكتبة دار الأمان للطباعة والنشر والتوزيع بالرباط (الطبعة الأولى: 1442هـ= 2021م)، وجاء هذا المؤلَّف في مجلدين، بلغتْ عدد صفحاته 1300 صفحة شاملة فهارس المراجع والموضوعات والإجازات والمحتويات.
اعتمد المؤلِّف على مصادر ومراجع كثيرة ومتنوعة؛ شملت مؤلّفات أبي بكر بن مجاهد، وأبي عمرو الداني، وابن الجزري، وغيرهم من العلماء المشارقة والمغاربة القدامَى والمحدَثِين، حيث وصل عدد المصادر والمراجع المعتمدة إلى 305 ذكرت في فهرسة المصادر والمراجع من الصفحة 1245 إلى الصفحة 1281. كما استند المؤلِّف إلى مجموعة من الروايات والأسانيد والإجازات المغربية في الطرق العشر النافعية عبر العصور بلغ عددها 167 ذكرها في الفهرس ابتداءً من الصفحة 1282.
3) سبب التأليف:
عنوان الكتاب يكشف عن سبب تأليفه، وهو ردّ ما رُمِيَت به الطرق العشر النافعية مِن شذوذ أو انقطاع؛ ذلك أنّ اللجنة العلمية لمراجعة مصحف المدينة النبوية بالمملكة العربية السعودية أصدرت بلاغًا بتاريخ 25/ 5/ 1434هـ ذكرت فيه أنّ في كتاب التعريف في اختلاف الرواة عن نافع لأبي عمرو الداني «أوجهًا شاذة لا يُقرأ بها اليوم، ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلِّف إلى عصرنا هذا، ولإجماع علماء المشرق والمغرب على عدم تلقِّي هذه الوجوه بالقبول، ومخالفتها للمتلقَّى بالأسانيد المتواترة عن أهل الأداء الثقات، عن الإمام نافع المدني، نرى الاقتصار على قراءة الإمام نافع من روايتي قالون وورش...»[1].
فبسبب هذه الواقعة ردّ الأستاذ عبد الهادي حميتو في حينه على بيان اللجنة من خلال تعقيب نُشر على (ملتقى أهل التفسير) اعتبَره بمثابة القِسم الأول من الردّ، على أن يأخذ من الوقت ما يكفي لجمع المادة العلمية لكتابة القسم الثاني. وقد تطلّب إتمام هذا العمل وإخراجه للوجود حوالي ثمان سنوات، ويصف المؤلِّف هذا المخاض في مقدّمة كتابه بقوله: «ولقد كنتُ أقدِّر أنّ ما سمّيته بالقسم الثاني من الردّ سوف يكون على أكثر تقدير في حجم القسم الأول أو يزيد قليلًا، ولكن وفرة المادة -كما أدّت إلى تأخيري عن إخراجه- أدّت إلى الفسح في الكتابة والتوسّع في العَرْض، حتى تجاوز عدد الصفحات ألفًا، فكان لا بدّ من أخذِ الوقت الكافي، وجمعِ المزيد من الوثائق لإغناء البحث، وسدّ الفجوات، وتوزيع الاهتمام بمكونات الموضوع حتى يغطي الحقب التاريخية من جهة، ويعرِّف بالآثار المكتوبة الممكنة، لإعطاء صورة ولو مقاربة عن المراد، علمًا بأنّ المسافة في الزمان والمكان شاسعة وفسيحة، والمواد المساعدة على وفرتها في الخزائن العامة والخاصة متناثرة ومبعثرة، والجهد الفردي مهما يكن فهو مظنّة قصور، وإلى الله عاقبة الأمور»[2].
القسم الثاني: محتويات الكتاب:
قسّم الكتاب إلى ثلاثة أبواب، اشتمل كلّ باب منها على عدّة فصول، إضافةً إلى مقدّمة وتمهيد، وخاتمة تضمّنت نتائج الدراسة، وتلتها الفهارس.
مقدمة المؤلف:
بسط فيها المؤلِّف بواعث التأليف، وعرَض بلاغ لجنة المجمع التي أثارت موضوع الطرق العشر النافعية وطعنَتْ في تواترها ورَمَتْها بالشذوذ والانقطاع.
تمهيد:
ناقَش فيه المؤلِّف بيان اللجنة العلمية للمجمع، من خلال إعادة نشر ما ردّ به على بلاغ اللجنة وسمّاه بالقسم الأول من الردّ، بعد إعادة تنقيحه وإضافة بعض المتمّمات إليه.
ونظرًا لأهمية هذا التمهيد، باعتباره يلخّص ردّ المؤلِّف على بيان اللجنة وأنّ ما سيأتي بعده من أبواب وفصول هي تعبئة للحُجج والبراهين لتفنيد ما تضمّنه هذا البيان من ادّعاءات، سنقف عنده لتبيان حيثيات إصدار اللجنة المذكورة لبيانها، ومنهجية المؤلِّف في الردّ عليه.
- حيثيات بيان/ فتوى اللجنة العلمية للمجمع:
مما ذكره الأستاذ حميتو في كتابه أنّ إصدار اللجنة لفتواها على عجل جاء «بمثابة ردّ فعل على زيارة مفاجئة لأحد قرّاء المغرب النابهين من الذين قرؤوا بالطرق العشر النافعية منذ أَزْيَدَ من ثلاثين عامًا[3]، ورحل إليه مؤخرًا بعض طلبة القراءات من المدينة المنورة ومن مدينة الرياض في ذلك، فوجدوا فيه ضالتهم، وأقبلوا ينهلون مما عنده من روايات يرويها عن بعض شيوخه بسند يذكره، وقد كتبه عنه بعض مَن استكملوا العَرْض عليه بهذه الطرق وغيرها من أهل المشرق وغيرهم، وأنّ مناقشةً حامية الوطيس ثارت في أحد المجالس بالمدينة حضرها مَن حضرها من أعضاء اللجنة الموقرة، احتدّ فيها الأخذ والردّ بين المقرئ الزائر وبين بعض المذكورين دون الوصول إلى تسليم أحد من كِلا طرفي السجال، ثم بعد يوم أو يومين وقع ما وقع من صدور الفتوى عن اللجنة باسم المجمع المحترم موقعًا من سبعة أعضاء، ممهورًا بذِكْر أسمائهم»[4].
- منهجية الأستاذ عبد الهادي حميتو في الردّ على الفتوى:
بعد تبيانه لحيثيات صدور الفتوى والضجة التي خلّفتها، شرع في الردّ على البيان منبهًا في البداية إلى جملة من الأمور المنهجية، قبل أن يتتبع كلام اللجنة ويعرضه على المحك، ويردّ على ادّعاءاتها بما يتطلّبه الموقف من دلائل وحُجج.
ففي الجانب المنهجي أشار المؤلِّف إلى إخلال اللجنة بمبدأ التؤدة حتى تستوفي عناصر الموضوع؛ حيث أصدرت بيانها بشكلٍ متسرّع ودون احتياط ولا تتبّع ولا استقصاء، وأصدرت حكمًا تستعدي فيه أولي الأمر وأهل العلم قبل استماع حُجّة الطرف الآخر. كما نبّه على أنّ ملف اللجنة جاء خاليًا من وسائل إثبات الدعوى، وعدم تحديد القضية التي هي موضع الاعتراض، ولم تأتِ بأمثلة من الكتاب المذكور لتلك الأوجه التي وصفتها بالشذوذ أو الانقطاع[5].
أمّا فيما يتعلّق بتتبّع المؤلِّف لكلام اللجنة فسنذكر أهم ما ردّ به على ادّعاءاتها:
-قول اللجنة عن كتاب التعريف: «تبين أنّ في الكتاب أوجهًا شاذة لا يُقرأ بها اليوم»:
تساءَل الكاتب: هل معنى ذلك أنّ كلّ ما لا يُقرأ به اليوم فهو شاذ؟ وإذا كان كذلك فهل يقصدون كلّ ما لا يُقرأ به اليوم عندهم أم مطلقًا؟ الظاهر أنهم يقصدون الإطلاق، وإذا كان كذلك كان هذا استدراكًا على الأركان الثلاثة للقراءة الصحيحة التي ذكرها ابن الجزري، فيكون الركن الرابع: أن تكون مما يُقرأ به اليوم؛ وهذا ظاهر الفساد والبطلان[6].
- قول اللجنة عن الأوجه الشاذة المذكورة: «ولم تتواتر القراءة بها من لدن عصر المؤلِّف إلى عصرنا هذا»:
يقول المؤلِّف إنّ في هذا قضاءً بظهر الغيب، وتكذيب لمؤلِّف التعريف، فإنه قال بعد أن ذكر الروايات الأربع، أي: رواية قالون وورش وإسماعيل الأنصاري وإسحاق المسيبي: «وهذه الروايات هي المشهورات عن هؤلاء الأربعة، وبها يأخذ أهل الأداء في جميع الأمصار»[7].
- قول اللجنة: «ولإجماع علماء المشرق والمغرب على عدم تلقي هذه الأوجه بالقبول»:
وصف الكاتب هذا القول بأنه بلية أخرى ما كان يليق أن تصدر عن هيئة مسؤولة محترمة عارفة بمعنى إجماع العلماء، وأنها فلتة جَرّ إليها التعجّل في الأحكام وعدم تقدير المسؤولية. وفرض جدلًا أنّ إجماع أهل المشرق انعقد على ما زعموا، فكيف انعقد إجماع أهل المغرب على عدم تلقيها بالقبول، مع أنها متضمّنة في كتب إمامهم أبي عمرو الداني نجدها في كتاب التعريف، وجامع البيان، والمفردات السبع، وكتاب التمهيد، ...إلى أن ذكر اثني عشر كتابًا كلّها مؤلّفات في قراءة نافع واختلاف الروايات والطرق عنه[8].
واسترسل المؤلّف في بيان ما وقعت فيه اللجنة من المحظور في اعتراضها على بعض الروايات عن نافع، ومما ذكره: «ثم إنّ اعتراض اللجنة إن كان على تضمن كتاب (التعريف) لرواية عبد الصمد العتقي عن ورش، ورواية القاضي إسماعيل عن قالون، ورواية إسحاق المسيبي عن نافع من طريق ولده محمد، وطريق محمد بن سعدان الضرير، ورواية إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري عن نافع، فهذه الروايات كلّها مسندة عند أبي عمرو الداني في كتابه (جامع البيان في القراءات السبع) وهو مطبوع معروف، كما أنه ثالث المصادر التي صدّر بها ابن الجزري في النشر»[9].
ثم ذكر المؤلّف من الحُجج ما ردّ به رأي اللجنة بالاقتصار على قراءة نافع من روايتي قالون وورش بما تضمّنته كتب التيسير، والشاطبية، والنشر، والدرر اللوامع: إذ اعتبر أن حملة اللجنة على كتاب (التعريف) مصادرة للمصادر المشرقية من كتب القراءات التي جعلها ابن الجزري من مصادره في النشر، وسرد عددًا من هذه المصادر التي اشتملت على جميع ما في كتاب التعريف:
- كتاب الغاية في القراءات العشر للحافظ النيسابوري (ت: 381هـ).
- كتاب السبعة في القراءات وكتاب جامع القراءات لابن مجاهد (ت: 324هـ).
- كتاب المنتهَى لأبي الفضل محمد بن جعفر الخزاعي (ت: 408هـ).
- كتاب الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها لأبي القاسم يوسف بن عليّ بن جبارة الهذلي (ت: 465هـ).
- كتاب المستنير لأبي طاهر بن سوار البغدادي (ت: 496هـ).
- كتاب الروضة في القراءات الإحدى عشرة لأبي عليّ الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي المالكي (ت: 438هـ).
- كتاب المبهج في القراءات السبع المتممة بابن محيصن والأعمش ويعقوب وخلف، تأليف: عبد الله بن عليّ بن أحمد بن عبد الله المعروف بسبط الخياط البغدادي (ت: 541هـ).
- كتاب المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر، للإمام المبارك بن الحسن أبي الكرم الشهرزوري (ت: 550هـ).
- كتاب التذكرة في القراءات، لأبي الحسن طاهر بن عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي (ت: 399هـ) وهو شيخ أبي عمرو الداني.
- غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار، للحافظ أبي العلاء بن أحمد الهمداني العطار (ت: 569هـ).
وتتبع المؤلِّف الروايات المذكورة في هذه المصادر فألفاها تصدِّق ما ذكره الداني من تنوّع طرقه فيها ما بين مصرية وشامية وعراقية، مستنتجًا أنّ الطعن في الأوجه التي في (التعريف) هو طعن في مصادر مؤلّفه وهو في النهاية طعن في مصادر ابن الجزري في النشر[10].
بعد ما بيَّن المؤلِّف اتصال طرق الروايات عن نافع من المؤلّفات في القراءات، أكَّد على اتصالها واشتهارها أيضًا من طرق أكابر النحاة الذين ألّفوا في إعراب القرآن وتوجيه القراءات، مستشهدًا بعدد منها:
- كتاب الحجة للقراء السبعة، لأبي عليّ الفارسي (ت: 377هـ).
- كتاب إيضاح الوقف والابتداء، لأبي بكر بن الأنباري (ت: 328هـ).
- كتاب إعراب القراءات السبع وعللها، لابن خالويه (ت: 370هـ).
- كتاب الموضح في وجوه القراءات وعللها، لنصر بن أبي مريم الشيرازي النحوي.
وختم تتبعه لهذه المؤلّفات وما ورد فيه من ذكر طرق نافع التي جاءت في كتاب التعريف، باستنتاجٍ مفاده أنّ طرق التعريف لم تندثر أو تنقطع بموت أبي عمرو الداني كما جاء في البيان، بل ظلّت معروفة متواترة في المشرق والمغرب، ودليل ذلك وجودها واشتهارها في بلاد الشام حيث موطن ابن خالويه، وفي العراق حيث موطن ابن الأنباري، وفي بلاد فارس حيث موطن أبي عليّ الفارسي وابن مريم وشيخه أبي الحسن السعيدي[11].
ولم يكتفِ المؤلِّف بذِكْر تواتر هذه الروايات بل جاء بما يفيد قراءة ابن الجزري بها، موجهًا سؤاله إلى اللجنة عن قولها «في قراءة الإمام ابن الجزري نفسه بكلّ هذه الروايات، وفي ضمنها الروايات الأربع التي تضمّنها كتاب التعريف...»[12].
وختم المؤلِّف هذا القسم بتعقيب تساءل فيه تساؤلًا تقريريًّا: أليس في كلّ هذا ما يكفي لإثبات تواتر ما في التعريف من روايات وطرق عند المشارقة؟ وفرض أن اللجنة بقولها: «ولم تتواتر القراءة بها من عصر المؤلِّف إلى عصرنا»، تريد بذلك انقطاع التواتر بتلك الروايات في المغرب لا في المشرق، ضاربًا الموعد في القسم الثاني مع إثبات هذا التواتر في المغرب من غير طرق التعريف ثم من طرقه[13].
الباب الأول: تواتر العشر النافعية من الإمام نافع (القرن الثاني) إلى عصر ابن الجزري (القرن التاسع):
جاء هذا الباب في فصلين؛ تحدّث الكاتب في الفصل الأول عن تواتر النقل بقراءة نافع ورواياتها وطرقها عبر العصور في المشرق والمغرب على السواء قراءةً وعرضًا وروايةً وتأليفًا من عصر الإمام نافع (ت: 169هـ) إلى عصر الحافظ ابن الجزري (ت: 833هـ)، وخصّص الفصل الثاني للحديث عن المدرسة المغربية في قراءة نافع والطرق النافعية وإمامها الحافظ أبي عمرو الداني وآثاره فيها.
الفصل الأول: في هذا الفصل توسّع المؤلِّف في ذكر رواة نافع والرواة عنهم، مفصلًا في بعض ما سبق ذِكره في القسم الأول ومضيفًا إليه. إِذْ لم يكتفِ بذِكْر رواة نافع من خلال كتاب التعريف بل أضاف إليهم رواةً كثرًا، ليصل عدد ما ذكر 51 راويًا، بدأ بإسحاق المسيبي (ت: 206هـ)، وختم بأبي يحيى زكرياء بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الله الملقّب بالوقار -بتخفيف القاف- من موالي قريش. وقد روَى عن هذا الأخير محمد بن برغوت المقرئ، الذي نبّه المؤلِّف إلى أنه يرجع إليه الفضل في ترسيم قراءة نافع في إفريقية وعاصمتها القيروان، وذلك فيما نقله عياض عن أبي عمرو الداني في ترجمة أبي العباس عبد الله بن طالب الفقيه المالكي قاضي القيروان، من كتابه (طبقات القراء والمقرئين)، أنّ ابن طالب أيام قضائه أمر ابن برغوث المقرئ بجامع القيروان ألا يقرئ الناس إلا بحرف نافع[14].
ثم تتبّع الكاتب المسار الذي سارت فيه الرواية عن طريق نافع من طرقها التي تتصل بهؤلاء الأعلام الذين ترجم إليهم، انطلاقًا من مصادر الإقراء التي صنّفها أئمة القرّاء وذكروا فيها رجالهم وأسانيدهم وطرقهم، مشيرًا إلى محاولته ترتيب هذه المصادر -أكثرها هو من مصادر ابن الجزري في كتاب النشر- بحسَب تواريخ وفيات أصحابها. والغرض -حسب المؤلّف- هو إثبات تواتر هذه الطرق في المشرق والمغرب من الصدر الأول قراءةً وروايةً وتأليفًا إلى عصر ابن الجزري وما بعده، وأنّ عدم إدخال ابن الجزري لها في النشر بجميع رواياتها وطرقها إنما سببه التزامه بروايتين فقط عن كلّ قارئ من العشرة، وعلى طريقين فقط عن كلّ راوٍ، وإلا فإنه كان عارفًا بها أتمّ المعرفة، قارئًا بها القرآن على مشيخته بمضمن كتب أئمتها، وهي الكتب التي اقتصر منها على ما ذكره في النشر من روايات وطرق التزامًا منه بمنهجه في التأليف، وليس طعنًا منه أو تضعيفًا لما تركه من تلك الروايات[15].
ويبين الجدول الآتي أهم الكتب والإجازات التي ذكرها المؤلِّف لتتبع المسارات التي سلَكَتْها الرواية عن نافع في المشرق والمغرب[16]:
القرن الهجري | الكتب والإجازات حسَب تواريخ وفيات أصحابها |
القرن الثالث | - كتاب القراءات لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت: 224هـ). - كتاب القراءات لأحمد بن جبير (ت: 258هـ). - كتاب القراءات للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي البغدادي (ت: 282هـ). |
القرن الرابع | - كتاب القراءات لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310هـ). - كتاب القراءات لأبي بكر الداجوني (ت: 324هـ). - كتاب السبعة في القراءات لأبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد (ت: 324هـ). - كتاب الغاية في القراءات العشر وكتاب المبسوط في القراءات العشر لأبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري (ت: 381هـ). - كتاب الإرشاد في القراءات عن الأئمة السبعة لأبي الطيب عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي (ت: 389هـ). - كتاب التذكرة في القراءات الثمان لأبي الحسن طاهر بن عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي (ت: 399هـ). |
القرن الخامس | - كتاب المنتهَى في قراءة الخمسة عشر لأبي الفضل الخزاعي (ت: 408هـ). - كتاب الهادي في القراءات لأبي عبد الله محمد بن سفيان القيرواني الفقيه المالكي (ت: 415هـ). - كتاب المجتبى لأبي القاسم عبد الجبار الطرسوسي (ت: 420هـ). - كتاب التبصرة في القراءات السبع لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ). - كتاب الروضة في القراءات الإحدى عشرة لأبي عليّ البغدادي المالكي (ت: 438هـ). - كتاب القاصد في القراءات لأبي القاسم الخزرجي (ت: 446هـ). - كتاب الجامع في القراءات العشر لأبي الحسين الفارسي الشيرازي (ت: 461هـ). - كتاب التعريف في اختلاف الرواة عن نافع، وكتاب جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني (ت: 444هـ). - كتاب النُّبَذ النامية في أسانيد القرآن العالية لأبي الحسن يحيى بن إبراهيم اللواتي المرسي، المعروف بابن البياز (ت: 496هـ). - كتاب سوق العروس (الجامع)، وكتاب التلخيص في القراءات الثمان لأبي معشر عبد الكريم الطبري، إمام الحرم المكي (ت: 478هـ). - المستنير في القراءات العشر لأبي طاهر أحمد بن عليّ بن سوار البغدادي (ت: 496هـ). |
القرن السادس | - كتاب الروضة في القراءات لموسى بن الحسين بن إسماعيل الحسيني المعدّل المصري (ت: نحو 500هـ). - كتاب الناهج للقراءات بأشهر الروايات لابن مزاحم الأنصاري الطليطلي (ت: 502هـ). - كتاب التجريد لبغية المريد في القراءات السبع لأبي القاسم عبد الرحمن بن عتيق بن الفحام الصقلي (ت: 516هـ). - كتاب إرشاد المبتدِي وتذكرة المنتهِي في القراءات العشر، وكتاب الكفاية الكبرى في القراءات العشر لأبي العز محمد بن الحسين بن بندار الواسطي القلانسي (ت: 521هـ). - كتاب المبهج في القراءات السبع المتممة بابن محيصن والأعمش ويعقوب وخلف، وكتاب الإيجاز في القراءات لعبد الله بن عليّ المعروف بسبط الخياط (ت: 541هـ). - كتاب الإقناع في القراءات السبع، وكتاب الطرق المتداولة في القراءات لأبي جعفر أحمد بن عليّ بن أحمد بن خلف بن الباذش الأنصاري الغرناطي (ت: 541هـ). - كتاب المنهاج لبغية المحتاج للإمام عمر بن ظفر المغازلي (ت: 542هـ). - كتاب المصباح في القراءات العشر للشهرزوري (ت: 550هـ). - كتاب بستان الهداة لأبي الحسن عليّ بن محمد بن عليّ بن هذيل البلنسي (ت: 564هـ). - كتاب غاية الاختصار في قراءة العشرة أئمة المصار لأبي العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني العطار (ت: 569هـ). - رواية الراوية ابن خير الإشبيلي (ت: 575هـ) لكتاب الكافي بإشبيلية وقراءته بمضمنه. - إجازة أبي الحسن بن هذيل البلنسي صاحب «بستان الهداة» للشاطبي (ت: 590هـ). |
القرن السابع | - أبو زكرياء يحيى بن محمد بن خلف الهوزني الإشبيلي نزيل سبتة (ت: 602هـ) من أعلام الطرق العشر النافعية من امتدادات مدرسة ابن شريح صاحب الكافي. - كتاب الإعلان في القراءات الثمان لأبي القاسم الصفراوي (ت: 636هـ). |
القرن الثامن | - رواية الإمام قاسم بن يوسف التجيبي السبتي (ت: 730هـ). - نموذج من القراءة بالطرق في «الخلاف الكبير»: أبو عبد الله محمد بن يوسف اللوشي خطيب غرناطة (ت: 773هـ). - الدرر اللوامع في مقرأ الإمام نافع لأبي الحسن عليّ بن محمد بن بري (ت: 730هـ). - كتاب الكنز في القراءات العشر للإمام عبد الله بن عبد المؤمن بن الوجيه الواسطي (ت: 740هـ). - كتاب بستان الهداة في اختلاف الأئمة والرواة في القراءات الثلاث عشرة، واختيار اليزيدي لأبي بكر بن الجندي (ت: 769هـ). |
القرن التاسع | - رواية الإمام المنتوري (ت: 834هـ) للكافي في غرناطة وفاس وإجازته وطرقه. - رواية ابن الجزري (ت: 833هـ) للكافي لابن شريح ومشاركته للمغاربة في القراءة بمضمنه وبطرقه، وكذلك لكتاب المصباح للشهرزوري، وكتاب بستان الهداة لعليّ بن هذيل البلنسي. - كتاب النشر في القراءات العشر لابن الجزري (ت: 833هـ). |
ويخلص الكاتب في نهاية هذا الفصل بعد عرض حوالي خمسين كتابًا من أمهات الكتب التي اشتملت على الطرق النافعية، وذكرها ابن الجزري في مصادره في النشر أو في غاية النهاية ما بين مشرقية ومغربية =إلى نتيجة لا سبيل لردّها ودفعها، وهي ثبوت تواتر هذه الروايات النافعية، واتصال النقل لها بالقراءة والأخذِ والعرض والرواية والتأليف، لا فرق فيها بين ما يَقرأ به المشارقة منها وما يَقرأ به المغاربة من طرق أبي عمرو الداني أو غيرها[17].
الفصل الثاني:
تناول الكاتب هذا الفصل من خلال خمسة مباحث؛ في المبحث الأول أشار إلى بداية الاستقلال المذهبي والقرائي في الغرب الإسلامي عن المشرق، بتوازٍ مع الاستقلال السياسي الذي ظهرَت بوادره منتصف المائة الثانية مع قيام الإمارات الناشئة في القيروان؛ كإمارة بني الأغلب، وإمارة بني أمية في قرطبة. فتحقّق تدريجيًّا في إفريقية والقيروان وقرطبة وفاس الانتقال في المذهب الفقهي من مذهبي الإمام الأوزاعي وأبي حنيفة إلى مذهب مالك وأصحابه بالمدينة ومصر، وفي القراءة من قراءة حمزة التي شاعت في إفريقية في المائة الثانية إلى قراءة الإمام نافع بالمدينة ورواية ورش عنه بمصر. وفي هذا الصدد كان الإمام أبو محمد الغازي بن قيس (ت: 199هـ) أوّلَ مَن أدخلَ الأندلسَ قراءةَ نافع ومذهبَ مالك بعد منتصف المائة الثانية. ثم ذكر الكاتب أعلام وأئمة القراءة الذين كانت لهم مدارس خاصة ومؤلّفات جامعة، وكثر تلاميذهم والرحلات إليهم من الأندلس والمغرب؛ ومنهم: أبو الحسن بن بشر الأنطاكي نزيل قرطبة ومقرئ أهلها (ت: 377هـ)، وأبو عمر الطلمنكي (ت: 429هـ)، وأبو عمرو الداني (ت: 444هـ)، وأبو القاسم الخزرجي القرطبي (ت: 446هـ)، وأبو القاسم عبد الوهاب القرطبي (ت: 461هـ)، وأبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي (ت: 476هـ)، ...وغيرهم.
وخصص المبحث الثاني للحافظ أبي عمرو الداني (ت: 444هـ) باعتباره إمام المدرسة المغربية، وصَلَت في عصره المدرسة القرائية في الأندلس أوجَهَا وذروة رقيّها ونضجها في جميع مجالات القراءة وعلومها. فنقل المؤلّف بعض ما ذكر في ترجمة الداني من إشادة بسماحة خُلقه، وكثير علمه، وغزير روايته، وغيرها من المناقب التي جعلته يستحق موضع الريادة في القراءات. ثم ذكر الكاتب مؤلّفات الداني وهي كثيرة، خاصة في روايات قراءة نافع وأصولها، ولا سيما في أصول رواية ورش، وأشار إلى اعتماد الإمام ابن الجزري لما في كتاب (التمهيد لاختلاف قراءة نافع) للداني واستدلاله بالنقل عنه.
وجاء المبحث الثالث في التأليف في رواية ورش والمؤلّفات المعتمد فيها عند المغاربة. حيث ألّفت في هذه الرواية مؤلّفات كثيرة؛ نثرًا ونظمًا مفردة عن غيرها، ومقرونة إلى رواية قالون، سواءٌ من طريق أبي عمرو الداني، أو من طرق غيره من الأئمة في القيروان وإفريقية والأندلس والمغرب. وبدأ هذه المؤلفات بكتاب هجاء السنّة وهو كتاب في الرسم وهجاء المصاحف للغازي بن قيس (ت: 199هـ) مؤسِّس المدرسة النافعية في الأندلس والمغرب، وراسِم إطارِها العام ذي المياسم المدنية في الخط والرسم والضبط وعدّ الآي على وفاق ما تلقّاه عن نافع وعلماء المدينة. وقد اعتمد الحافظ الداني على هذا المؤلَّف ونقل عنه كثيرًا في كتاب المقنع. ثم شرع المؤلِّف في سرد مؤلّفات قراءة نافع ورواية ورش وأصول أدائها، ورواية قالون والخلاف بينهما عنه من طريقهما إلى أن ذكر ستين تأليفًا، ذكر بعدها مؤلّفات في التجويد، وفي العدد.
أمّا المبحث الرابع فكان تحت عنوان الطرق العشر النافعية في المغرب الأقصى أو ما يعرف عند المغاربة باسم «العشر الصغير»؛ والمراد الطرق التي تضمنها كتاب (التعريف في اختلاف الرواة عن نافع) لأبي عمرو الداني، وهو المراد عند شرّاح ابن بري باسم «الجمع الصغير». وهذه الطرق عشر عن رواة أربعة نبينها في الجدول الآتي:
الرواة | الطرق |
ورش | أبو يعقوب الأزرق |
عبد الصمد العتقي | |
محمد بن عبد الرحيم الإصبهاني | |
قالون | أبو نشيط المروزي |
أحمد الحلواني | |
القاضي إسماعيل بن إسحاق | |
المسيبي | ولده محمد بن إسحاق |
محمد بن سعدان الكوفي الضرير | |
الأنصاري | أحمد بن فرح المفسر |
أبو الزعراء عبد الرحمن بن عبدوس |
وذكر الكاتب أنّ المغاربة رووا هذه الطرق قبل أبي عمرو الداني وبعده من غير طريقه مما يدل على سعة انتشارها في جميع الجهات والأقطار المغربية، وأنّ من أسباب شهرتها عن طريقه هو إفراده لها بالتأليف في التمهيد والتعريف وغيرهما من كتبه، ونظم المغاربة لها في جملةِ ما نظموه من تراث الداني من قصائد تعليمية ما تزال محفوظة متداولة. ثم ذكر مجموعة من الأسانيد والإجازات في قراءة نافع بطريق التعريف وغيرها.
وعني المبحث الخامس بالمنظومات المغربية في الطرق العشر النافعية في عهد الوحدة بين المغرب والأندلس؛ منها: (نظم التعريف أو مختصر التعريف أو التعريف الصغير) لأبي الحسن بن سليمان القرطبي، وقد ذكر المؤلّف وقوفه على شرح باسم (الكوكب المنير في شرح التعريف الصغير) لعمر بن إبراهيم القرشي في مخطوطة في خزانة خاصة في قبيلة حاحة بالجنوب المغربي[18]. وذكر منظومات أخرى للزواوي، والصفار، والوهراني، والقيسي الضرير شيخ الجماعة لفاس، ...وغيرهم[19].
الباب الثاني: تواتر العشر النافعية من ابن غازي (القرن العاشر) إلى مدرسة ابن عبد السلام الفاسي (ق13):
في الباب الثاني تحدث المؤلّف عن تواتر العشر النافعية من ابن غازي في القرن العاشر إلى مدرسة ابن عبد السلام الفاسي في القرن الثالث عشر الهجري، وجاء هذا الباب مقسمًا إلى أربعة فصول:
في الفصل الأول جاء الحديث عن مدرسة شيخ الجماعة أبي عبد الله بن غازي (ت: 919هـ) مجدّد العشر الصغير في المائة العاشرة وإشعاعها العلمي، حيث تتبع المؤلّف أسانيد تلقِّي ابن غازي للقراءات وتنوّع طرقها، والتزامه بما في كتاب التعريف لأبي عمرو الداني في القراءة بالطرق العشر النافعية، ممثلًا لذلك بطائفة «من الإجازات الخاصة بها، ومنها إجازة الشيخ ابن غازي نفسه التي أجاز بها الشيخ عليّ بن هارون تلميذ ابن غازي في طرق قراءة نافع لسلطان عصره أبي العباس أحمد الوطاسي كما سنراها فيما يلي في أرجوزةٍ مِن نظمِ الشيخ ابن هارون المذكور، وكما سنقف عليها بعدها في إجازات مماثلة نظمًا ونثرًا»[20].
وأفرد الفصل الثاني لمدرسة أبي زيد عبد الرحمن بن القاضي المكناسي (ت: 1082هـ) الذي اعتبر المؤلفُ ظهوره بمدينة فاس تتويجًا لإشعاع مدرسة ابن غازي في المائة الحادية عشرة، وعمل على تجديد هذه المدرسة ونشر أعلامها في المغرب الأقصى والأقطار المجاورة. فبعد ذِكْر شيوخه في القراءات والطرق النافعية وأسانيده وإجازاته، ذكر عددًا كبيرًا من الذين رووا عنه تحت عنوان: «مشاهير رواة الطرق العشر عن ابن القاضي» بلغ عددهم 36 راويًا[21].
وخصص الفصل الثالث للمدرسة المنجرية بفاس في العشر النافعية في المائة الثانية عشرة لأبي العلاء إدريس المنجرة (ت: 1137هـ)، التي يرجع إليها الفضل في استمرار الرواية للعشر النافعية وبلوغ إشعاعها إلى مختلف جهات المغرب، ووصول هذا الإشعاع باتصال القراءة إلى وقتنا. وقد جمع أبو العلاء المنجرة في رحلته إلى المشرق بين الطرق المشرقية والمغربية، واعتُبر أوّل مَن أدخلَ القراءات العشر الكبرى حسَب الاصطلاح المغربي إلى مدينة فاس، أي بالقراءة بطرق الحافظ ابن الجزري في كتاب الدرة والتحبير. وذكر الكاتب أنّ لأبي العلاء مؤلفات عدّة ذكر منها ما له صلة بالطرق العشر النافعية نظمًا ونثرًا، وأشار إلى دفاعه عن تواتر هذه الطرق في وجوه المخالفين، كما ذكر إجازات شيوخه وإجازاته لمن قرأ عنه ومشاهير الرواة عنه.
وتناول المؤلّف في الفصل الرابع شيخ الجماعة محمد بن عبد السلام الفاسي (ت: 1214هـ) إمام عصره في أواخر المائة الثانية عشرة وأول الثالثة عشرة وأسانيده في الطرق العشر الصغرى والكبرى؛ فذكر أنّ جمهرة الأسانيد القرائية الباقية إلى اليوم في أيدي مشايخ القراءة وتلامذتهم في هذه الطرق جاءت من جهته حتى لا يوجد ما ينافسها في ذلك، حيث إن الإسناد منها قد عمّ أطراف البلاد نظرًا إلى نباهة شأنه في هذا العلم، وكثرة تنقله في البلاد طلبًا للعلم وتدريسًا وتأليفًا وإفادة، مما أسهم في إشعاع مدرسته في مختلف أنحاء البلاد.
وذكر المؤلف أنّ للشيخ عبد السلام الفاسي مؤلفًا تحت عنوان: «المحاذي» أو «إتحاف الأخ الأود المتداني بمحاذي حرز الأماني»، حسَم فيها المتواتر من القراءات في: القراءات السبع من أربع عشرة رواية وأربعة عشر طريقًا هي التي تضمّنها كتابَا التيسير والشاطبية، والقراءات الثلاث من ستّ روايات وستة طرق، وهي التي أدخلها الحافظ ابن الجزري في كتاب التيسير، وسمّى الجميع: «التحبير في إدخال العشر في التيسير»، فهذه العشر قراءات من عشرين رواية من عشرين طريقًا «فيها انحصر التواتر في زماننا هذا مع طرق نافع التي تضمنها (التعريف) و(التفصيل) كما سبق، فما خرج عنها فليس بمتواتر»[22].
الباب الثالث: تواتر العشر النافعية عند المغاربة في العصر الحديث:
انتظم الكلام في هذا الباب حول تواتر العشر النافعية عند المغاربة في العصر الحديث من خلال أربعة فصول:
تناول المؤلف في الفصل الأول الحديث عن إشعاع مدرسة الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي (ت: 1214هـ) في الجنوب المغربي، من خلال مدرسة الشيخ إبراهيم الماسي (ت: بعد 1360هـ) مجدّد الإقراء بالطرق العشر النافعية في جهات مراكش في القرن الرابع عشر الهجري. فذكر شيوخه وأسانيده في القراءات، ومناقبه وثناء العلماء عليه، وتصدّره للإقراء بمدرسة آيت أورير. ومما ذكره المؤلِّف عن سبب تصدّره للإقراء بهذه المنطقة، أنّ الشيخ أبا شعيب الدكالي كان يُلقِي دروس التفسير في مسجد المواسين بمراكش، وكان يحضر التهامي الكلاوي باشا مراكش وأعوانه، فبينما هو يفسر قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] قال: قُرئ (تُرهبون) في السبع بالتخفيف للهاء، وقرئ خارج السبع بتشديدها، ولكن لا أدري مَن قرأ بها؟ ثم نظر إلى مَن في المجلس من طلبة مراكش وعلمائها لعله يجد من يعلم ذلك، فلم يجبه أحد، وإذا برجل في أقصى الحلقة يرفع أصبعه ويقول: قرأ بها من الرواة العشرة رويس عن يعقوب الحضرمي، فالتفت الشيخ أبو شعيب إلى الباشا وقال: عليك بهذا الرجل، فقال: وما أصنع به؟ قال: تبني له مدرسة، وتجمع له حفّاظ القراءات السبع من القبائل ليستكملوا عليه القراءات، فإنه إذا مات هذا لم يبق أحد يعرف ما رأينا وسمعنا. وكان هذا الشيخ قارئًا يحفظ العشرين الكبير والصغير، وهو الشيخ إبراهيم الماسي، فأمَر باشا مراكش ببناء مدرسة بآيت أورير بقبيلة مسفيوة، وأمَر القوّاد من القبائل أن يبعثوا إلى هذه المدرسة مَن عندهم مِن القرّاء[23].
ثم ذكر تلاميذ الماسي وإشعاع مدرسته بحوز مراكش، وذكر جِلّة من الشيوخ، ممن تتلمذوا على تلامذته، وسندهم وإجازاتهم من مناطق عبدة وأحمر والشياظمة والسراغنة وغيرها، منهم مَن لا يزال على قيد الحياة. ومِن هؤلاء الشيخُ محمد بن الشريف السحابي العبيدي الزعري الذي قرأ على شيخه الفقيه علال العشراوي، الذي أخبره أنه أخذها عن شيخه إبراهيم الماسي، ومنه بالإسناد المتصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أمّا الفصل الثاني فتمحور حول الطرق العشر النافعية في الأقطار المغربية المجاورة، واتصال أسانيدها بأصولها في المغرب إلى اليوم. أشار المؤلِّف بدايةً إلى أنّ دراسة أحوال الطرق العشر النافعية في الأقطار المغربية المجاورة يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لاستيفاء البحث فيه، مؤكدًا أنّ ما وقف عليه يدل دلالة واضحة على أن الطرق العشر النافعية، وإن ضعف الاهتمام بها ضعفًا ظاهرًا، إلا أنها لم تنقطع بالمرة، كما أنّ الأسانيد والإجازات بها قد بقيت محفوظة متصلة متواصلة إلى يومنا هذا. فذكر مجموعة من الإجازات والمؤلَّفات والأراجيز والتقييدات والأسانيد في الطرق النافعية بتونس والجزائر وموريتانيا، تؤكّد امتداد المدرسة المغربية وطرقها في هذه المناطق وخاصة في الصحراء المغربية وبلاد موريتانيا.
وعقد الفصل الثالث للحديث عن استعمال الرموز والرمزيات في المدرسة المغربية في الإشارة إلى القرّاء والرواة عنهم، واعتماد أسلوب الجمع والإرداف في جمع الروايات والطرق النافعية؛ فذكر المؤلِّف الرموز كمجموعة من العلامات الاصطلاحية دعت الحاجة إليها تبعًا لتطور مناهج التعليم، فاستعملت في علم القراءات في القرون الإسلامية الأولى في صورة بسيطة يرمز فيها لبعض الظواهر الصوتية في التجويد؛ كالرمز لأحرف المد الثلاثة برمز (واي) ولأحرف القلقلة برمز (قطب جد)، وأشار إلى رموز الشاطبي للقرّاء السبعة ورموز الثلاثة المتممين للعشرة، ثم تحدّث على اصطلاح المغاربة على رموز خاصّة بقرّاء العشر النافعية؛ منها حروف (أبا جاد) للدلالة على أسماء القرّاء، ورموز كلمية دالة على أسماء القرّاء إذا اشتركوا في حروف القراءة من أهل رواة العشر الصغير والطرق عنهم. بعد ذلك تحدّث عن استعمال المغاربة في تعليم القراءات والروايات أسلوب الجمع بين أكثر من قراءة ورواية في أداء واحد اختصارًا للزمن، وذكر مجموعة من المؤلّفات في هذا المجال، وبَيَّن كيف يتمّ الجمع والإرداف ومَن يبدأ به في القراءة من العشرة.
وفي الفصل الرابع عاد المؤلِّف إلى بيان تواتر الطرق النافعية وما أثير حوله من كلام؛ ليردّ بكلّ أدب على ما جاء فيه، مؤكدًا على أنه لا يشك في غيرة اللجنة على القرآن الكريم، ويعبّر عن اختلافه معها في كثير مما ذكرته، وأنّ ما تم عرضه يثبت أن القراءة بهذه الروايات المذكورة في كتاب التعريف، كانت قبل الداني، وفي زمانه، وفي جميع العصور بعده، سواءٌ مِن طرقهِ في التعريف، أو مِن طرقِ غيره، كما أنّ الأسانيد بها إلى نافع ما تزال معروفة في المغرب والأقطار المجاورة كالجزائر وموريتانيا، ومنها طرق لا تمر عبر كتب الداني أصلًا، كما بيَّن بالوثائق وعشرات الإجازات عبر العصور[24]. ثم ختم هذا الفصل بتذييلات في الدفاع عن كتاب التعريف والطرق النافعية، وهي:
1- تجدد الدعوى في المشرق على كتاب التعريف لأبي عمرو الداني من جهة الدكتور الشيخ أيمن سويد المقرئ.
2- تعقيب على نشرة المجمع للشيخ المقرئ الحسن بن محمد ماديك من موريتانيا.
3- تعقيب على نشرة المجمع للدكتور عليّ الغامدي من مكة المكرمة.
4- تحرير بعض الأسانيد في القراءات الصغرى لنافع للباحث محمد أحمد ححود التمسماني من المغرب.
5- سلسلة الذهب في القراءة النافعية للمؤلِّف.
خاتمة:
نبّه المؤلِّف في الخاتمة على حدود وصعوبات الدراسة، وأنّ التأريخ للمدرسة المغربية في القراءات، وخاصة قراءة نافع، أوسع بكثير من أن يحيط به عرض كهذا، وجهود المغاربة في الأقطار المغاربية في هذه القراءة ورواياتها خلال أزيَد من اثني عشر قرنًا هي جهود لا يستوعبها حصر؛ فالقرّاء بها والمؤلّفون وأصحاب الإجازات والأسانيد كثر، والرقعة الجغرافية ممتدة في بلاد الأندلس وأقطار تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وما حاذاها. فهذه الصعوبات وقلّة إمكانات الفرد الواحد اضطرت المؤلّف إلى الحديث عن القرّاء المغاربة من خلال مدارس خاصة؛ كمدرسة فاس باعتبارها العاصمة العلمية والسياسية للمغرب منذ قيام دولة بني مرين بها في أواخر المائة السابعة، وفيها ازدهرت مدرسة ابنِ بري، وأبي الحسن بن سليمان القرطبي، وأبي وكيل الفخار، وأبي عبد الله بن غازي، وأبي زيد بن القاضي، وأبي العلاء إدريس المنجرة، وولده أبي زيد عبد الرحمن وتلميذه محمد بن عبد السلام الفاسي. وكذلك بعض مدارس الجنوب المغربي، وبخاصّة مدرسة سيدي الزوين، وإبراهيم الماسي وبعض مظاهر إشعاع هذه المدارس، وخاصة مدرسة ابن القاضي في الدول المجاورة تونس والجزائر وموريتانيا.
ثم قدّم تلخيصًا لأهمّ ما وقف عليه واستنتجه من خلال هذه الدراسة، ومما ذكره:
- رحلة المغاربة إلى الحج وزيارة المدينة بعد الفتح الإسلامي كان لها الأثر الكبير في ترسيم قراءة نافع بسائر طرقها المشهورة ومذهب مالك بن أنس.
- المدرسة المغربية وإنْ بدأَت في قراءة نافع وعلوم المصحف مع الغازي بن قيس في قرطبة في النصف الثاني من المائة الثانية، فإنها تجدّدت وقوِي ساعدها مع الحافظ الداني في دانية من شرق الأندلس في النصف الأول من المائة الخامسة من الهجرة حتى عمّت أقطار المغرب ووصل صداها إلى المشرق.
- ظهور أئمة كبار في القراءات أنجبتهم المدرسة المغربية إلى جانب أبي عمرو الداني؛ كالمهدوي صاحب الهداية في القراءات، ومكي بن أبي طالب صاحب التبصرة في القراءات، ...وغيرهم.
- اعتماد المغاربة في القراءة الرسمية رواية ورش عن نافع في التعليم والتلاوة الرسمية، لكنهم توسعوا في قراءة نافع ورواياتها وطرقها.
- إكثار المغاربة من التأليف في قراءة نافع من عدّة طرق، وخاصة على اختيارات الإمام الداني من خلال كتاب التعريف، وهذا هو أشهر الطرق وأكثرها جمهورًا، وأنّ التأليف فيها استمر من عهده إلى اليوم.
- أنّ الأسانيد والإجازات بالطرق النافعية لم تنقطع قط طوال العصور، والقراءات بها متصلة، يدلّ على ذلك ما وصل إلينا منها ومن المؤلّفات في مسائل الخلاف فيها وكيفية جمع رواياتها ومراتب رواتها مِن خلال الجمع والإرداف، ومِن تضمين حروف القراءة التي يُقرأ بها في الطرق العشر النافعية في عشرات «الرمزيات» و«الرسميات» التي في أيدي المشيخة، وتوزُّع واستمرار المعرفة بها في جهات المغرب شمالًا وجنوبًا ووسطًا وشرقًا.
- مظاهر التواتر في المدرسة المغربية في الطرق النافعية تتجسّد إلى عصرنا في اتصال القراءة بها تلاوةً وحفظًا وعرضًا على المشايخ المختصين، وفي بقاء الكثير من أسانيدها محفوظة أو مكتوبة بأيديهم إلى اليوم، وفي صدور الإجازات المتضمّنة لصحة الرواية لها من المشايخ الحفّاظ إلى اليوم، وقد أحصى المؤلِّف منها ما يجاوز المائة والخمسين إجازة في مختلف العصور إلى عصرنا.
- عودة الاهتمام بالطرق النافعية في الدراسات الجامعية، وتحقيق المؤلّفات فيها ونشرها، والكتابة في الدفاع عن تواترها وبيان عدم انقطاع القراءة بها من طرف مغاربة وجزائريين وموريتانيين ومشارقة من دول مختلفة.
ودعا المؤلِّف في الأخير إلى تجديد الصلات بين المدرستين المشرقية والمغربية ونشر التراث القرائي وتبادله، وتنظيم الندوات وعقد المؤتمرات بما يساعد على إعادة تمتين صلات الوصل بين الأقطار المشرقية والمغربية وغيرها في هذا المجال، مشيرًا إلى أنّ تأكيده على تواتر هذه الطرق في المغرب إلى اليوم لا يزعم من خلاله أنها مزدهرة وواسعة الجمهور كما كانت في العهود الغابرة، وإنما لينبه على وجودها كاملة معروفة عند المختصين، مضبوطة بقواعدها، محفوظة بواسطة المنظومات والرمزيات والرسميات، ولا افتخار في هذا على إخواننا في المشرق بما بقِي عند أهل المغرب من هذه الروايات وطرقها إلى اليوم، فإنها في الحقيقة رواياتهم وطرقهم قرأ بها أئمتهم بالمدينة المنورة، وتحمّلها عنهم سلفهم من أهل الحجاز والشام والعراق ومصر، وعنهم تلقّاها أهل المغرب والأندلس من أسلافنا رحمهم الله.
[1] كشف القناع عن تواتر الطرق العشر النافعية في المغرب، ص9- 10.
[2] كشف القناع عن تواتر الطرق العشر النافعية في المغرب، ص10- 11.
[3] هو الشيخ محمد بن الشريف السحابي من مدينة سلا، وقد ذكره المؤلِّف ضمن المسندين للطرق النافعية ممن هم على قيد الحياة.
[4] كشف القناع عن تواتر الطرق العشر النافعية في المغرب، ص13- 14.
[5] كشف القناع، ص14- 15.
[6] كشف القناع، ص35.
[7] كشف القناع، ص35.
[8] كشف القناع، ص36.
[9] كشف القناع، ص28- 29.
[10] كشف القناع، ص48- 75.
[11] كشف القناع، ص78- 81.
[12] كشف القناع، ص100.
[13] كشف القناع، ص101.
[14] كشف القناع، ص103- 121.
[15] كشف القناع، ص122.
[16] كشف القناع، ص124- 339.
[17] كشف القناع، ص341.
[18] كشف القناع، ص431.
[19] كشف القناع، ص434- 457.
[20] كشف القناع، ص463.
[21] كشف القناع، ص593- 595.
[22] كشف القناع، ص820- 822.
[23] كشف القناع، ص912- 913.
[24] كشف القناع، ص1163- 1165.