مفهوم (زحزحة الوحي) عند أركون
رصد وعرض من خلال كتابه
"القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"

صدر محمد أركون في كتابه (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني) عن إشكال تأويلي معرفي تمثّل في محاولة "إعادة تقييم مفهوم الوحي"، وتسعى هذه المقالة إلى توضيح مفهوم "زحزحة الوحي" عند أركون؛ من خلال إبراز مرجعياته الفكرية، وأبعاده الدلالية، ومقاصده التأويلية. ‏

المقدمة:

  تسعى هذه المقالة إلى توضيح مفهوم «زحزحة الوحي» عند أركون؛ وذلك بغاية رصد ملامح هذا المفهوم كما ورد عند الباحث في كتابه (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني)، من خلال إبراز مرجعياته الفكرية، وأبعاده الدلالية، ومقاصده التأويلية.

 والهدف من هذا كلّه إثارة انتباه الباحثين خصوصًا المشتغلين بقضايا التراث العربي الإسلامي إلى مرامي وأبعاد هذا المفهوم الذي شغل بال محمد أركون كثيرًا، ولمدة طويلة من الزمن؛ حيث سخّر لبلورته وإقراره في واقع البحث التأويلي كلّ طاقاته المعرفية والفكرية، بل اتّخذه غرضًا طموحًا.

يصدر الباحث محمد أركون عن إشكال تأويلي معرفي صعب في كتابه (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني)، تمثّل في محاولة «إعادة تقييم مفهوم الوحي»، وذلك بـ«أشكلته» و«زحزحته» من التصوّرات التراثية التي أحاطَـتْه بنوع من الاعتبار الخاصّ ووَضَعَتْه موضع التقديس؛ إِذْ نظرتْ إليه نظرة المفارقة المتعالية عن النصوص المتعارف عليها شِعْرًا ونثرًا.

إنّ هذا الإشكال المؤرِّق لا يعدّ بالنسبة إلى الباحث محمد أركون مجرّد طرح نظري تأمّلي عابر بقدرِ ما شكّل لديه هدفًا عامًّا يحاول أن يحقّقه في واقع الممارسة التأويلية، يقول بهذا الخصوص: «نحن نهدف من خلال هذه الدراسة كلِّها إلى زحزحة مفهوم الوحي وتجاوزه، أقصد: زحزحة وتجاوز التصوّر الساذج والتقليدي الذي قدّمته الأنظمة اللاهوتية عنه. نحن نريد أن نزحزحه باتجاه فهم أكثر محسوسية وموضوعية ولكن ليس اختزاليًّا»[1].

 

ويبدو أن هذا الهدف ليس مجرّد وليد لحظة عابرة بقدرِ ما لازَم اهتمامات الباحث زمنًا طويلًا وعمل على تحقيقه، بل وشكّل لديه قناعةً راسخةً ومشروعًا أَعَدّ له العُدّة المعرفية اللازمة، وقد أكّد الباحث ذلك بقوله: «لقد شرعتُ في تطبيق إشكاليات ومناهج اللسانيات والسيميائيات لتحليل الخطاب القرآني منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي»[2].

والظاهر أن مفهوم الوحي الذي يقصده الباحث هو بشكلٍ عامّ لكن المنطلق الأساس والنموذج الأمثل الذي يشتغل عليه هو الوحي القرآني على وجه الخصوص، لذلك يقول: «ومن المعلوم أن طموحي كان يهدف دائمًا إلى القيام بذلك منطلقًا لتحقيقه من مثال الإسلام»[3].

وفي هذا الصدد نصوغ أسئلة مركزية عامة كالآتي:

ماذا يقصد محمد أركون بزحزحة مفهوم الوحي؟

وما خططه المنهجية التي يعتمدها في تحقيق ذلك؟

وما الأُسس المعرفية التي يقترحها للوصول إلى هذه الغاية؟

أولًا: تحديد مفهومي الأشكلة والزحزحة عند أركون:

لقد لخّص مترجِم الكتاب (هاشم صالح) معنى الأشكلة التي يقصدها أركون لمفهوم الوحي في قوله: «نلاحظ أن أركون سوف يقوم أولًا بتفكيك المفهوم التقليدي للوحي، هذا المفهوم المسيطر على البشرية منذ آلاف السنين، وذلك قبل أن ينتقل إلى المرحلة الثانية المتمثّلة بإعادة تقييم هذا المفهوم المركزي وبلورةِ فهمٍ آخرَ جديدٍ له. وعملية التفكيك هي ما يدعوه بالأشكلة، أي: جَعْل المفهوم إشكاليًّا بعد أن كان يفرض نفسه علينا كشيء بديهي غير قابل للنقاش»[4].

فالأشكلة إذن تقوم عند أركون على تفكيك مفهوم الوحي إلى تجلياته المادية المحسوسة، وذلك بمحاولة جَعْل المتعالي المفارق شيئًا عاديًّا قابلًا لأن يحلّل على أساس العلوم الحديثة ومناهجها، وقابلًا أيضًا لكي يخضع لما تخضع له النصوص البشرية من نقاشات وتطبيقات حديثة.

 وللوصول إلى مرحلة (الأشكلة) عَمِل الباحث على اقتراح البدء بعملية (الزحزحة)، أي: «زحزحة مفهوم الوحي»، وتقوم عملية (الزحزحة) عند أركون على أساس الاستبدال، أي: استبدال مفهوم (الوحي) الإلهي بمفهوم (الخطاب النبوي)؛ وذلك لكي «يحقّ لنا أن نتحدّث عن شيء اسمه الخطاب النبوي أو خطاب النبوة أو خطاب الأنبياء le discours prophétiques. وهذا التمييز يتيح لنا أن نتجاوز معرفيًّا الآراء اللاهوتية الشائعة عن مفهوم الوحي»[5].

وللتخفيف من هالة الوحي القرآني وقدسيته العالية المفارقة يقترح الباحث تطبيق خطة الزحزحة التي استلهمها من المستشرقين والتي تقوم على استبدال مفهوم (القرآن) بـ(الخطاب النبوي)؛ أي: نزع صفة الإلهية عن الوحي، من خلال جَعْل النصّ القرآني خطابًا نبويًّا، ومِن ثَمّ بشريًّا؛ وذلك حتى يمكن آنذاك أن يُنْظَر إلى النصّ القرآني على أنه خطاب قابِل لأن يخضع لِما تخضع له النصوص البشرية من نقاشات وتطبيقات وفُهوم.

ويقترح الباحث لهذه الغاية توظيف المنهج الظاهراتي القائم على التعليق؛ لأنه «إذا ما علقنا التحديديات اللاهوتية المفروضة بخصوص المفاهيم، فإننا نستطيع بسهولة أن ندمج الوظيفة النبوية في الآليات التاريخية- النفسانية- الاجتماعية- المنطقية التي تؤدي إلى ظهور (الرجال العظام)»[6].

 إذن خطة الزحزحة عند أركون تقوم على جعلِ النصّ القرآني نصًّا نبويًّا وليس إلهيًّا، وقد اتخذ لذلك إستراتيجية.

فما الخطوة العملية التي يقترحها الباحث لتفعيل خطة (الزحزحة) عبر تقييم مفهوم الوحي وأشكلته؟

ثانيًا: تفعيل خطة الزحزحة عبر نزع الخصوصية النصية المفارقة:

إنّ زحزحة مفهوم الوحي عند أركون تقوم على تفكيك التصوّرات التي بناها علماء القرآن حول النصّ القرآني عمومًا وعلماء الكلام والبلاغة خصوصًا؛ لذلك راح يفكّك سمة (الإعجاز) معتبرًا إيّاها مجرّد تصورات متراكمة موروثة أقامها المفسِّرون والمؤوّلون القدامَى حول النصّ القرآني ليس غير.

 فصفة الإعجاز حسَب أركون غير راجعة إلى البنية النصِّية للخطاب القرآني، أي: غير ذاتية في نَظْم النصّ وبنيته الداخلية النصِّية كما أكّدت ذلك مدونات علوم القرآن، وعلماء الكلام والبلاغة، وإنما هي خارجية عن النصّ أسندها المؤوّلون للنصّ القرآني.

 ومِن ثم فهو يطالِب بتجاوزها وزحزحتها، مستلهمًا في ذلك مسوّغات الأنموذج الأنتربولوجي عند كلود ليفي ستروس القائم على «أنّ الفكر الأسطوري يَبني قصوره الإيديولوجية بواسطة حَصى وأنقاض خطاب اجتماعي قديم»[7].

لهذا فهو يرى أن مقولة (الإعجاز) مقولة نفسانية ثقافية مسقطة على النصّ القرآني من لدن المؤوّلين وليست أصيلة في بنيته؛ ذلك «أنّ معنى العجيب المدهش أو الخارق للعادة بصفته مقولة نفسانية- ثقافية منتشرة في جميع هذه القصص ومنعكس (أو مسقط) على الخطاب القرآني نفسه. وحتى اليوم نلاحظ أن تصوّر الوحي لا يزال مهيمنًا عليه من قِبَل هذا المعنى الخارق للعادة بصفته الأرضية الثقافية القاعدية التي ترتكز عليها المعرفة الأسطورية التي يدعوها المؤمنون بالحقيقة الدينية»[8].

يبدو أنّ تفكيك مقولة الإعجاز تشكّل المدخل الأساسي لتحقيق هدف (الزحزحة)؛ لذلك نلاحظ أن أركون ينظر إليها على أنها عقبة كؤود وحاجز معرفي حقيقي يعيقُ في نظره تطبيقَ المناهج الحديثة على الخطاب القرآني، ومن ثم فهو يؤكّد أن «أوّل صعوبة تعترض طريقنا هي تلك الخاصّة بالعقيدة اللاهوتية القائلة بإعجاز القرآن، ومؤدّاها أنّ الخطاب القرآني يَستخدم العلامات اللغوية طبقًا لمعايير نحوية معنوية وبلاغية تولّد أنماطًا معيّنة من الدلالة والمعنى. وهذه الأنماط المعنوية أو الدلالية لا تختزل إلى أيّ تجليات دلالية في أيّ لغة طبيعية كائنة ما كانت. فهل خصوصيات أنماط الدلالة هذه راجعة فعليًّا إلى بنَى المعاني اللازمة للخطاب القرآني، أم إلى آثار المعرفة التي يولّدها هذا الخطاب أثناء سريانه (أو انتشاره) في المجتمع»[9].

ولكي يتحقّق هذا الطموح الذي يستهدف نزع خاصية الإعجاز عن النصّ القرآني يدعو الباحث إلى ضرورة اتّباع خطوتين مهمّتين: «أولًا: أن نقوم بتحديدٍ تزامني للبنَى المثولية أو الملازمة للدلالة والمعنى والخاصّة بنظام اللغة العربية ما قبل القرآن. نقصد بذلك اللغة العربية التي لم يؤثر فيها بعد الحدث القرآني. وينبغي ثانيًا: أن نبلور تحديدًا بنيويًّا ونشوئيًّا قادرًا على متابعة التوسّع الدلالي للخطاب القرآني وانتشاره داخل الأنظمة الدلالية الثانوية أو الثانية بالأحرى ثم بالدرجة الأولى في الخطابات التي تحتلّ المرتبة الثانية»[10].

ومن أجلِ الوصول إلى الهدف الأكبر المنشود اقترحَ الباحث دراسةً خاصةً لنوعية الخطاب القرآني انطلاقًا من سورة الكهف؛ لأنّ مِن شأن ذلك أن يحقّق هدفين: «فمن جهة نريد تحقيق هدف نظري عن طريق الإسهام في تشكيل تبولوجيا للخطاب الديني. ونريد من جهة ثانية تحقيق هدف عملي عن طريق توليد أدوات جديدة وفعّالة لخدمة الفكر الإسلامي المعاصر»[11].

لقد استلهم الباحثُ خطة (الزحزحة) من أدبيات الدراسات الغربية التي قدّمها بعض علماء الغرب للكتاب المقدّس (التوراة والإنجيل)؛ لذلك فهو يحاول أيضًا أن يجريها في النصّ القرآني أو بالأحرى أن يسقطها على الخطاب القرآني؛ وذلك لكون خطة الزحزحة أو ما سماها بالعملية التحويلية قد نجحت فيما يخصّ التوراة والإنجيل، فـ«العملية التحويلية والأساليب اللغوية والأدبية والبلاغية التي كانت قد استخدمت من أجل خلع الصبغة التنزيهية والتقديسية والمتعالية والأنطولوجية على الكتاب كانت قد أوضحت وبرهن عليها علميًّا في ما يخصّ التوراة والإنجيل، ولكنها لم تحصل حتى الآن في ما يخصّ القرآن، لماذا؟ لأنّ الظروف السياسية والثقافية والتربوية السائدة تحول دون القيام بمثل هذا العمل في كلّ السياقات الإسلامية (أي: في جميع المجتمعات العربية والإسلامية)»[12].

 إنّ المشابهة بين الكتب السماوية على مستوى المضمون العقدي التوحيدي لا يشكّ فيها اثنان ولا ينتطح فيه عنزان، لكن على مستوى البنية اللسانية- السيميائية أو الدلالية، وأيضًا الصبغة التنزيلية، فالأمر مختلف تمامًا ويضع أمام تطبيق هذا الأمر صعوبات جمة، ومن ثم يجعله مستحيلًا؛ ذلك أن القرآن نزل منجمًا ومفرقًا حسَب الوقائع والأحداث، في حين أن التوراة والإنجيل نزَلتَا دفعة واحدة.

 إضافة إلى مستوى التلقي التواتري عبر الأجيال مختلف أيضًا تمامًا؛ وذلك لكون النصّ القرآني وصَلَنا باللغة التي نزل بها، أمّا التوراة والإنجيل فهما مترجمان بلغة غير لغتهما الأصلية؛ ومن ثم فلا تستقيم إقامة أيّ مشابهة بينهما على هذه المستويات اللهم إلا في بعض الموضوعات التي تتعلق بالعقائد فقط؛ إذ حتى على مستوى الأحكام فالقرآن نَسَخَ كلّ الشرائع السابقة وهيمن عليها.

والأكثر من هذا كلّه هو أنّ النصّ القرآني تحدى المتلقين له من داخل بنيته الخطابية بأن يأتوا بسورة من مثله؛ وهي دعوة صريحة وواضحة من النصّ القرآني إلى التحدي، أي أنه اعتبر نفسه معجزًا في ذاته بخلاف التوراة والإنجيل لم يرفعَا هذا التحدي في وجه متلقيهما.

وفي هذا الصدد يؤكّد الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري على جوانب الاختلاف الحقيقية الصارخة المتعلّقة بطبيعة التلقي النصِّي اللغوي بين القرآن والتوراة والإنجيل قائلًا: «إنّ تفوّقَ القرآن على التوراة والإنجيل في هذا المجال راجعٌ إلى أنه مكتوب ومقروء باللغة التي نطق بها نبي الإسلام، في حين أنّ كُتُبَ أهل الكتاب تُقرأ اليوم مترجَمة، والترجمة تخون النصّ المترجَم في لغته ومعانيه»[13].

وكلّ هذا يجعل من مقولة الباحث محمد أركون التي يدّعي فيها أنّ سمة الإعجاز مسقطة على النصّ القرآني من قِبَل المفسِّرين والمؤوّلين القدامَى غير مستندة إلى مرجعية معرفية صلبة، بقدر ما هي سراب توهّمه الكاتب، ومِن ثم فإنّ الباحث هو من يحاول في الحقيقة القيام في قراءته للنصّ القرآني بعملية إسقاط وضعيات تأويلية غير مستقيمة ولا تراعي جوانب الخصوصية النصِّية للوحي القرآني والكتاب المقدس.

وتجدر الإشارة إلى أن الدعوة إلى نزع الخصوصية النصية المفارقة عن النصّ القرآني يشترك فيها أغلب روّاد الحداثة العربية، فقد سبق وأن دافع عنها نصر حامد أبو زيد في كتابه (مفهوم النصّ دراسة في علوم القرآن)، عندما عرّف النصّ القرآني بأنه «منتج ثقافي»[14]. وعلى نفس المنوال سار طيب تزيني الذي كان يلحّ على أنّ إعجازية النصّ القرآني «يجب أن تتراجع وتتبخّر لصالح نزعة إنسانية من شأنها الاستجابة لمصالح الناس، ببساطة وحقيقة وشجاعة. وبذلك فالمفارقة السافرة، التي يلحّ عليها السلفيون ويرون فيها تجسيدًا لعظمة النصّ المعنيّ، تجد حدودها بل ربما كذلك نهايتها؛ نعني بذلك مفارقة المعجز الخارق العادي وإشكالية التواصل فيما بينها»[15].

 فما هي إذن الأُسس المعرفية التي يستند إليها أركون في تفعيل خطة الزحزحة في قراءة النصّ القرآني؟

ثالثًا: الأسس المعرفية المقترحة في إمكان زحزحة مفهوم الوحي:

إنّ اقتناع الباحث محمد أركون بتحقيق هدف (الزحزحة) الذي رام الوصول إليه، جعله يسخّر كل طاقاته المعرفية؛ لذلك نجده يحشد لهذه الغاية كلّ ما استجدّ من أدوات ومناهج في مجال العلوم الإنسانية الحديثة اللسانيات والتأويلية والسيميائيات والأنتربولوجية والتاريخية والفينومولوجية، وغيرها، والغرض من هذا كلّه هو أن يجعل من «الأبعاد التاريخية والأنتربولوجية واللغوية لمفهوم الوحي أكثر وضوحًا، وذلك لكي أفتح إمكانيات جديدة من أجل توضيح مكانته المعرفية»[16].

إنّ من شأنِ تطبيق مناهج العلوم الإنسانية الحديثة بكلّ أبعادها أن يعمل على «ولادة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية. ولكن من دون أن نعزلها أبدًا عن الظواهر الأخرى المشكلة للواقع الاجتماعي- التاريخي الكلّي»[17].

وقد أخذ الباحث نموذجًا عمليًّا من القرآن وحاول أن يطبق عليه المنهج السيميائي والأنتروبولوجي وهو سورة التوبة؛ لكونها «توفّر لنا أفضل مناسبة لكي نعيد تقييم مفهوم الوحي عن طريقِ أخذِ بُعده التاريخي بعين الاعتبار، وليس فقط كشيء متعالٍ، جوهراني، أبَدِيّ يقف عاليًا فوق التاريخ البشري، على الرغم من أنه أرسل لهدايته وقيادته على هذه الأرض»[18].

نلاحظ اعتماد الباحث المنهج السيميائي في تحليله لعملية تلقّي الوحي من خلال تطبيقه على سورة التوبة النموذج العاملي في التحليل؛ حيث وظّف البنية العاملية السردية في تفسير عملية تلقّي الوحي، يقول بهذا الخصوص: و«إذا ما مزجنا بين البنية العاملية والترسيمة القانونية لعملية القول، والترسيمة القانونية للمسار السردي، فإننا نحصل -بالنسبة لكلّ الخطاب القرآني- على المخطط البياني الآتي:

مرسَل إليه أول - مرسِل أول (أنا المتعالية + أنا - النحن) الموضوع (الخطاب النبوي).

مرسَل إليه أول - مرسِل ثان (المتكلم أو القائل).

المرسَل إليه الجماعي (أنصار / معارضون).

وقد عمل أيضًا على تفعيل البُعد الأنتربولوجي في دراسة سورة التوبة، حيث ذهب إلى أنّ «سورة التوبة تتيح لنا أن نتعمّق أكثر في دراسة البُعد الأنتربولوجي للمثلث المفهومي الذي اخترته كعنوان عريض: عنف، تقديس، حقيقة»[19].

إنّ الباحث ينظر إلى مفهوم (التوبة) نظرة أنتربولوجية تاريخية- اجتماعية تحقّقت بفعل التطور التاريخي للمجتمع العربي فهو يفسّر مفهوم التوبة انطلاقًا مما تعرفه عامة البنية الثقافية والاجتماعية الإنسانية من تطور اجتماعي وتاريخي عبر سيرورتها الزمنية، يقول في هذا الخصوص: «هكذا نستطيع الآن أن نلمح القيمة المزدوجة للتوبة. ففي السيرورة الاجتماعية- التاريخية التي تحيل إليها في الأصل، نلاحظ أنها تتمثّل أساسًا في الاستسلام من دون شروط، أقصد استسلام المعارضين. أو قُل إنها تَعنِي في أحسن الظروف عقد (سلام الشجعان) الذي يتيح لمعارضي الأمس أن يصبحوا مناضلين متحمسين من أجلِ الانتصار المطلق للذات الكبرى والمثالية»[20].

إنّ الباحث يفسّر مفهوم (التوبة) بالبُعد الاجتماعي التاريخي المتواضع عليه ثقافيًّا وعرفيًّا؛ ويتمثّل في الاستجابة لسلطة عليا أو أخلاق وضَعَها المجتمع.

 وهو هنا يحاول أن يستبعد مفهوم (التوبة) من إطاره الديني إلى الدنيوي لتحلّ محلّ ما هو إنساني أو ما سمّاه «بالوجه الدنيوي والعملي للتوبة. ونقصد به إطاعة سلطة راسخة، أو إطاعة أحكام أخلاقية وقانونية وثقافية مقبولة من قِبَل أعضاء الجماعة إلى حدّ كبير، لا سيما وأنهم هم منتجوها الفعليون وناشروها»[21].

والنتيجة من كلّ هذه المحاولات المستمرة والطويلة المدى من قِبل محمد أركون التي هدف من خلالها إلى نزع الخصوصية المفارقة عن النصّ القرآني وجعله نصًّا تاريخيًّا عاديًّا غير مفارق، كما حدث بالنسبة للكتاب المقدس في الغرب (التوراة والإنجيل) باعتماد العلوم الإنسانية الحديثة بشتى مناهجها؛ فإنّ الباحث يقر بخيبة أمله في تحقيق هدفه الأكبر، المتمثّل في تفكيك ظاهرة الوحي الإسلامي (القرآن) في بُعدَيها التاريخي والأنتربولوجي، فهما ما زالا مجهولين؛ لأنّ الأمر يتعلّق بغموض حول «نمط الفكر الذي ولد الخطاب القرآني... بمعنى آخر إنّ ظاهرة الوحي لا تزال متجاهلة في بُعديها التاريخي والأنتربولوجي من قِبَل جمهور المسلمين»[22].

ومن ثم فإنّ الصبغة التنزيهية والتقديسية التي خلعَت عن التوراة والإنجيل بواسطة الأساليب اللغوية والأدبية والبلاغية ومناهج الدرس اللساني والفلسفي الحديث -وهو هدف الباحث وطموحه الأكبر- لم تحدث بالنسبة للقرآن حتى الآن حسَب الباحث؛ لأنّ «الظروف السياسية والثقافية والتربوية السائدة تحول دون القيام بمثل هذا العمل»[23].

الظاهر أنّ محاولات الباحث التي هدفَت إلى أشكلة مفهوم الوحي وزحزحته من منظومة الفكر السائد والموروثة جيلًا عن جيل، قد وجدَت في طريقها صخرة لا يمكن التهوين منها أو بالأحرى زحزحتها؛ لكون هذا الأمر ارتبط بقضية يصعب التخلّص منها وهي سمة إعجاز القرآن، التي تقف -حسب الباحث- عائقًا قويًّا في وجه تطبيق مناهج العلوم الحديثة في تحليل الخطاب القرآني.

 ومن ثم يبدو أنّ الهدف الذي رسمه الباحث في بداية الدراسة وهو «زحزحة مفهوم الوحي أو إعادة تقييمه»، قد وجد في طريقه عقبات يصعب القفز عنها أو تجاوزها لتجذّرها في أدبيات المؤوّلين والمفسِّرين، والعقل الثقافي- السياسي- الاجتماعي العربي الإسلامي، بل «لكونها خاصية نصِّية قرآنية لا يمكن القفز عنها أو تجاوزها وتخطّيها»، ومن ثم يجب أن تفهم كما أعلنها النصّ صراحة وأقرّ بها في نَظْمه وخطابه.

لهذا فإنّ كلَّ حديث عن خاصية الإعجاز من غير محاورة النصّ القرآني ذاته ومحاولة الدخول معه في حوار صريح من خلال مساءلة بنيته النصية والاستماع جيدًا إلى بنيته الخطابية؛ يظلّ حديثًا لاغيًا ولا قيمة له في نظرنا من الناحية العلمية؛ إذ الاختفاء وراء خطاب المؤوّلين القدامى واتهامه مجرّد اتخاذ حجاب شفاف وكاشف.

الخاتمة:

لقد بَدَا واضحًا أنّ محمد أركون هدف في كتابه (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني) إلى تحقيق طموح لازَمه طويلًا، وهو محاولة «زحزحة مفهوم الوحي»، و«أشكلته»، و«تقييمه»، عبر استهداف خاصية «الإعجاز» في النصّ القرآني، مستنجدًا في ذلك بكلّ ما استجدّ من مناهج البحث وآلياته في مجال العلوم الإنسانية الحديثة.                                                       

وقد استلهم معالم هذا الطموح على ما يبدو من التراث الغربي الذي استطاع أن يزيح عن الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) مظاهر التعالي والتنزيه كما صرح بذلك الباحث في كتابه، وإن كان هذا الأمر قد وجد في طريق تطبيقه صعوبات جمة، بل مستحيلة بالنسبة للقرآن على جميع الأصعدة النصية والتداولية والثقافية أيضًا والتي حالَت دون تحقيق الباحث طموح الزحزحة كما أقر بذلك.

وختامًا، يمكن القول بأنّ المقالة لمّا سعَت إلى إثارة انتباه الباحثين والدارسين إلى ما سمّاه أركون بـ«زحزحة مفهوم الوحي» كان الغرض الأساس من ذلك هو فتح آفاق للبحث ومدارسة مساعي هذا المفهوم وأبعاده التأويلية لدى الباحث؛ لأنّ من شأن هذا أن يكشف بوضوح ملامح هذا المفهوم عبر إغناء النقاش حوله وإخضاعه للمدارسة العلمية على جميع الأصعدة من قِبَل الدارسين المهتمين بقضايا التراث، خصوصًا وأن كتاب (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني) يثير مجموعة من الإشكالات النصية والتأويلية ذات الصلة بمفهوم «الزحزحة» والجديرة بالاهتمام.

 

[1] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة- بيروت، الطبعة الأولى 2001م، ص76- 77.

[2] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص5.

[3] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص16.

[4] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، هامش ص17.

[5] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، هامش ص78.

[6] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص84.

[7] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، هامش ص168.

[8] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص30.

[9] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص172.

[10] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص173.

[11] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص146.

[12] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص172.

[13] مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول التعريف بالقرآن، محمد عابد الجابري، الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى: 2006م، ص424.

[14] مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، نصر حامد أبو زيد، الناشر: المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، الطبعة الأولى: 2014م، ص24.

[15] النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، طيب تزيني، الناشر: دار الينابيع- دمشق، الطبعة الأولى: 1997م، ص379.

[16] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون، ص17.

[17] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص70.

[18] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص49.

[19] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص62.

[20] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص67.

[21] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص68.

[22] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص105.

[23] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص26.

الكاتب

نور الدين الخرازي

حاصل على الدكتوراه في الآداب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبد الملك السعدي – ‏تطوان.‏

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))