الطير الأبابيل في واقعة الفيل
وما يراه الشيخ محمد عبده في ذلك
الطير الأبابيل في واقعة الفيل
وما يراه الشيخ محمد عبده في ذلك[1]
للإمام المغفور له الشيخ محمد عبده تفسير الجزء الثلاثين من القرآن الكريم، وله فيما كتب على بعض سور هذا الجزء آراءٌ خاصّة انفرد بها، لم يقل بها -فيما نعلم- أحدٌ ممن سبقه من أئمة التفسير القُدامى، ولا من جاء بعدهم.
وليس على الباحث عيب، ولا عليه تبعة إذا هو خرج من بحثه برأي لم يسبقه إليه أحد، ما دام يعتمد في هذا الرأي على حُجّة واضحة، وما دامت تؤيّده فيه اللغة الصحيحة.
أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فإن المطالع المتبصّر لا يسوغ له أن يأخذ بذلك الرأي أو يعتمد عليه مهما كان شأن صاحبه، فإنما ينبغي التعويل على القول ذاته وصحّته وجودته، لا على القائل ومكانته أو شهرته.
وإنّ من تلك الآراء الخاصّة التي انفرد بها الأستاذ الإمام -عليه سحائب الرحمة- قوله في الطير الأبابيل[2] التي أرسلها الله -سبحانه وتعالى- على جيش الأحباش في حادثة الفيل: إنها جماعات البعوض والذُّباب التي كانت تحمل جراثيم مرض الحصبة أو مرض الجدري، وإنها ليست على ما يرويه المؤرِّخون والمفسِّرون من أنها أنواع من الطيور تشبه الخطاطيف، وأن كلّ واحد منها كان يحمل ثلاثة أحجار على ما سنبيّنه فيما يلي بشيء من التفصيل.
يرى الأستاذ الإمام رأيه الخاصّ في ذلك ويقول: إنه الوجه الذي يصح اعتقاده والاعتداد به في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيرًا أَبَابِيلَ * ترْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [الفيل: 3-4].
وسنعرف قيمة هذا الرأي بعد عرضه بالتفصيل ومقابلته برأي العلماء الآخرين.
قد ورد في قصة الفيل -برواية الثقات- أن أبرهة الأشرم بن الصباح الحبشي ملك اليمن من قبَل أصحمة[3] النجاشي ملك الحبشة، أنشأ كنيسة بصنعاء، أحكم تشييدها، وأبدع زخرفتها بالذهب والفضة وأنواع الجواهر الثمينة، وقد أراد بإنشائها أمرين:
الأول: المبالغة في إرضاء النجاشي وإزالة ما قد يكون باقيًا في نفسه من الغضب عليه لما كان منه من قتل إرياط قائد الجيش الحبشي إلى اليمن واستبداده بملك اليمن من بعده.
الثاني: أنه -انتصارًا للمسيحية- أراد أن يحوّل إلى تلك الكنيسة جموعَ العرب الذين كانوا يقصدون إلى مكة في موسم الحج، وكتب بذلك إلى النجاشي.
وقد أثار هذا الأمر الثاني حفيظة العرب، فخرج رجل من كنانة إلى تلك الكنيسة ليلًا متخفيًا وقعد فيها أي أحدث، ثم لطخ محرابها بما أحدث، وقيل أيضًا: إن جماعة من العرب أوقدوا نارًا في موضع كان قريبًا من الكنيسة، فتطاير إليها الشَّرَر فأحرقها، وقد يكون الأمران جميعًا. أغضب ذلك أبرهة غضبًا شديدًا، فأقسم ليهدمنّ الكعبة قِبْلة أولئك العرب ومتعبدهم، وأرسل إلى النجاشي يبلغه ذلك، ويسأله أن يرسل إليه الفيل الأعظم المعروف عندهم، ويقال: إن اسمه (محمود).
ثم تجهّز بستين ألفًا من الأحباش، وقدّم الفيل الذي أعدّه ليهدم به الكعبة وسار بالجيش، فخرج له في بعض الطريق ملك من ملوك اليمن، يُقال له: (ذو نَفْر)، فقاتله، ولكن أبرهة هزمه وأسره بعد ما فتك بأصحابه، وقد هَمّ بقتله، فرجاه ألا يفعل، فربما كان بقاؤه خيرًا وأنفع من قتله، فعدل عن قتله، واكتفى بأن أوثقه وأخذه معه أسيرًا.
ثم سار حتى بلغ أرض (خثعم)، فخرج له نفيل بن حبيب الخثعمي بقبيلته ومن انضم إليهم من العرب، فقاتلوه، ولكنه قهرهم أيضًا، ووقع في يده (نفيل) أسيرًا، ولما أراد قتله قال له: لا تقتلني، وأكون لك دليلًا بأرض العرب حتى تبلغ ما تريد، فعدل عن قتله، واتخذه دليلًا، وسار حتى بلغ الطائف، فخرجت له ثقيف برئيسها مسعود بن معتَّب الثقفي، يستقبلونه ويحيونه ويظهرون له الطاعة والخضوع، ويقولون له: إنّ بيت اللات معبودتهم ليس هو البيت الذي يريده، وإنما ذلك في مكة، وقدموا له رجلًا منهم يقال له: (أبو رِغال) ليكون دليله إلى ذلك البيت، فانصرف عنهم، وسار ومعه هذا الدليل حتى بلغ موضعًا يقال له: (المُغَمّس) بضم الميم الأولى، وفتح الغين المعجمة، وتشديد الميم الثانية مفتوحة أو مكسورة، وهو في طريق الطائف على بعد ثلثي فرسخ من مكة، فمات هناك أبو رِغال ودُفِن، ثم صار قبره بعد ذلك يرجم بالأحجار.
ومن المغمس بعث أبرهة قطعة من الخيل بإمرة (الأسود بن مفصود) (بالفاء) للغارة على مكة، فمضى واستاق إبلًا لقريش فيها مائتا بعير لعبد المطلب وحده، ولم تستطع قريش أن تصد هذه الغارة أو تعرض لها.
ثم أرسل أبرهة مرة أخرى -وهو بالمغمس- حناطة الحميري رسولًا إلى سيد مكة وشريفها يبلغه أن الملك لم يأتِ لحرب، وإنما جاء لهدم البيت، فإن لم يقاوم أهل مكة ولم يحولوا بينه وبين مقصده فسوف لا تكون حرب. وسينتهي الأمر بسلام، فإنه ليس به حاجة إلى دمائهم.
وكان فيما أمر به ذلك الرسول أن يستصحب إليه سيد مكة إذا عرف منه أنه لا ينوي حربًا ولا مقاومة، فدخل حناطة مكة وسأل عمن يكون سيد القوم، فدلّوه على عبد المطلب بن هاشم، فبلغه الرسالة وذهب معه إلى أبرهة، فاستقبله وأجله، ونزل عن سريره وأجلسه بجواره على البساط لما قيل له: إنه سيد مكة وشريفها، غير أنه عاب عليه أنه لم يهتم لذلك الأمر العظيم الذي قدم له أبرهة، وأنه لم يطلب -لما سأله عن حاجته- إلا أن يرد إليه إبله، ولم يبالِ بما اعتزم أبرهة أن يفعله بالبيت الذي هو متعبّد القوم ومحلّ عزّهم وشرفهم، فقال له عبد المطلب: «إني أنا رب الإبل، وأما البيت فله رب يحميه»، ورجع عبد المطلب بالإبل فأهداها جميعًا -فيما يُروى- للحرم.
ثم أعد أبرهة الخيل والجند والفيل لدخول مكة، فلم يستطيعوا سوق الفيل نحوها، وكان كلّما وجهوه إليها سقط إلى الأرض، فإذا وجهوه إلى جهة أخرى أيّ جهة هرول.
ثم نزلتْ بهم الكارثة العُظمى التي حدّث عنها القرآن: أرسل عليهم أنواعًا من الطير، لم يكن لأهل مكة عهد بها من قبل في أشكالها وألوانها وكثرتها وشدّة هجومها، وكانت ترد جماعات جماعات، تحلّق فوق الجيش وترميهم بحجارة من سجيل كما قال القرآن، فقضت عليه، ولم يبقَ منه إلا عدد قليل يحمل العِبرة، ويكون شاهدًا بالهول الذي حدث، وبعظم المعجزة التي أرادها الله إرهاصًا وتمهيدًا لبعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وحفظًا للبيت الذي هو كعبة الإسلام.
وفيما يروى أن أبرهة قد أصابه اللهُ بمرض الجدري الذي تساقطت منه أطرافه، وانشق به صدره عن قلبه، وكان به في آخر الأمر حتفه، أما وزيره الذي يدعى (أبا يكسوم) فقد فَرّ راجعًا إلى أصحمة وطائر يتبعه وهو لا يدري، حتى إذا فرغ من إخبار الملك بما حدث للجيش ألقى عليه الطائر حجرًا من تلك الحجارة فمات لساعته، والملك ينظر فيعرف كيف كان هلاك الجيش.
ولقد كان هلاك الجيش بتلك الحجارة أمرًا عجيبًا حقًّا.
لكن هل كان بتلك الحجارة ذاتها ومن غير توسيط شيء آخر كما يَهلك إنسان بصخرة تقع عليه، أو بطعنة رمح تنفذ منه في مقتل، أو أن الرمي بتلك الحجارة كان ينشأ عنه مرض فتاك يكون بسببه الهلاك؟ ثم ما هي حقيقة تلك الحجارة؟
الذي قاله المفسِّرون والمؤرِّخون: أنّ هذه الحجارة كانت قطعًا صغيرة من طين يابس شديد صلب، وذلك هو معنى السجيل، فهي من طبيعة الطين وليست من طبيعة أحجار الجبال، وقد عبر عنها بحجارة نظرًا إلى يبسها وشدّتها وصلابتها.
هذا هو ما تشهد به اللغة في معنى السجيل، وهو ما تدلّ عليه آيات قرآنية تحدثت عما رمي به قوم لوط -عليه السلام- من مثل ذلك كما كان به هلاكهم كذلك، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ﴾ [هود: 82]، وقال سبحانه: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: 73-74].
وفي سورة ثالثة بيان عن تلك الحجارة التي رمي بها قوم لوط أنها من الطين، ذلك هو قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ [الذاريات: 31-33].
وقد حفظ أولئك المفسِّرون والمؤرخون -مما بلغهم عن حادثة الفيل- أنّ هلاك جيش أبرهة كان بتلك الأحجار ذاتها، فكان الحجر يسقط على الرجل في أعلاه فينفذ فيه ويخرج من أسفله، حتى إنه إذا كان راكبًا نفذ أيضًا في مطيته.
روى ابن كثير بسنده عن عبيد بن عمير قال: «لما أراد اللهُ أن يُهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرًا أُنشِئت من البحر أمثال الخطاطيف، كلّ طير منها يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في رجله، وحجرًا في منقاره، قال: فجاءت حتى صفَّت على رؤوسهم، ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر، وبعث اللهُ ريحًا شديدة فضربت الحجارة، فزادتها شدة، فأُهلكوا جميعًا»[4].
ثم إنه ليس في كلمة (حجارة) ولا في كلمة (سجيل) التي هي بمعنى الطين اليابس الصلب المتحجر كما قدّمنا، ولا في التعبير بالرمي ما يُشْعِر بشيء غير الذي قاله أولئك العلماء، فهو الذي يتبادر إلى الذهن من تلك الكلمات.
وليس بغريب في باب المعجزات وخوارق العادات -وحادثة الفيل هي من هذا القبيل- أن ينتقم الله من ذلك الجيش الجرار الجبار الذي سار ليهدم الكعبة المشرّفة بيت الله الحرام، فيرسل عليه جماعات عظيمة من الطير تحمل أحجارًا صغيرة وشديدة ترمي بها ذلك الجيش فيكون فيها هلاكه.
إنّ الآيات الكريمة من سورة الفيل لم تُعيّن ذلك الطير، ولم تبيّن نوعه، وإنما أتت بكلمة (طير) منكرة لإفادة الكثرة التي قد تكون من أغراض التنكير؛ لأنه لا يتعلق غرض خاصّ بتعيين ذلك الطير وبيان نوعه أو لونه، إِذْ إنه يكفي فيما يقصد إليه الإعلام بالواقعة أن يحمل لفظ الطير على ما يتبادر إلى الذهن مما هو معهود، أو مما يماثل ما هو معهود منه، أي أنه يكفي في تحقيق المقصود من الإخبار بواقعة الفيل أن يحمل الطير على نحو العصافير أو الحمام أو اليمام أو الهدهد أو الخطاف أو ما شاكل ذلك.
لكن هل يمكن أن يحمل لفظ (الطير) في الآية الكريمة على البعوض أو الذباب، وأن يكون المراد بحجارة السجيل ما يعلق بأرجل ذلك البعوض أو الذباب من المواد المسمومة التي تشتمل على جراثيم الأمراض الفتاكة، ثم تكون ملامسة أرجل البعوض أو الذباب لجسم الإنسان هي المراد بالرمي بتلك الحجارة؟
لا نظنّ أن أحدًا من أئمة التفسير يجيز مثل هذه الاحتمالات، لا من طريق الحقيقة، ولا من طريق المجاز.
لكن الشيخ محمد عبده -رحمة الله عليه- قد أجازها وقال صراحة بها، بل قال: «إنه يجوز أن يكون من جماعات ذلك الطير ما يسمى الآن بالميكروب، فهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها».
إنه جائز من ناحية اللغة ذاتها أن يطلق على البعوض (طير)، وعلى الذباب (طير)، وحتى الميكروب يمكن أن يحمل على ذلك ويُطلق عليه أيضًا أنه طير، فالطير -كما يقول الأستاذ الإمام- كل حيوان يطير في الهواء مما يُرَى وما لا يُرى.
لكن الكلام في الطير المُحدَّث عنه في سورة الفيل ذلك الطير الذي أخبر القرآن أنه كان يحمل أحجارًا يابسة شديدة عبر عنها بالسجيل، وأنه كان يرمي بها جنود جيش الحبشة فيكون فيها هلاكهم، فهل يصح أن يُفهم أن الذباب أو البعوض أو الميكروب هو المراد بذلك الطير؟
إنّ السورة ليس فيها ما يُشعر بشيء من هذه الأنواع الثلاثة التي يريدها الشيخ محمد عبده من كلمة (طير)، وليس فيها ما يوجب صرف اللفظ إلى هذه الأنواع، فما هو السبب الذي جعل الأستاذ الإمام يذهب في التفسير ذلك المذهب البعيد؟
لعلّه استنتاج يكون قد اعتمد فيه على ما جاء في بعض الروايات عن حادثة الفيل أنه قد وقع في الجيش الحبشي الإصابة بمرض الجدري أو الحصبة، وقد اختار الشيخ عبده رواية وردت في ذلك لم تسعد عند المؤرخين وعلماء التفسير بشهرة من مثل ما كان لكثير من وقائع تلك الحملة الحبشية، تلك الرواية تحكي أن ذلك المرض -الجدري أو الحصبة- قد عَمَّ الجيش الحبشي كله وتفشَّى فيه.
فلعلّ الشيخ أراد أن يُعلل هذا المرض بما يُعلّل به عادة في عالم الطب، وذلك بإسناده إلى الإصابة بالميكروب الخاص به.
ثم لم يرد أن يذهب -مع الاحتفاظ بذلك التعليل العلمي- مذهب أولئك العلماء الذين ثبت لديهم أن ما ورد في السورة من ألفاظ (الطير، والرمي، والحجارة، والسجيل) هي على معانيها الظاهرة التي لم يصرف عنها صارف، والتي على أساسها تكون واقعة الطير ورميه الجيش الحبشي بحجارة السجيل من باب المعجزات وخوارق العادات.
لم يذهب الشيخ هذا المذهب، واقتصر على أن ما كان هنالك من الطير هو من نوع البعوض والذباب الذي حمل للجيش جراثيم ذلك المرض.
وهنا نرى أنه لا بد من وقفة بإزاء ما قرّره الشيخ محمد عبده في تفسير السورة لإبداء بعض ملاحظات، وهي التي نوردها فيها يلي:
1- الملاحظة الأولى: أنه ردّد عبارات (التواتر) و(المتواتر) وما اتفقت عليه الروايات بمناسبة ما يروى من وقائع حادثة الفيل، ثم قال إن الذي ذكره هو واقتصر عليه من تلك الوقائع في تفسير السورة هو الذي ثبت بالتواتر، وهو الذي يصح الاعتماد ليه، وما عداه فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل إن صحت روايته.
وغريب أن يرفض هكذا رواية أخبار الأحداث التاريخية إذا لم تكن متواترة ولو كانت صحيحة لا مطعن فيها.
إنه معقول أن يشترط التواتر في الإخبار عن أمهات الأحداث وأصول الوقائع التي تتحقّق لها موجبات الذيوع والشهرة، كأن تكون مما تتوافر الدواعي على نقله والإخبار به والحديث عنه. وفي هذه الحالة لا يُقبل من آحاد الناس ادعاء الانفراد بشهودها ومعرفتها والوقوف عليها.
أما فروع الأحداث وتفاصيلها التي لا تتوافر لها موجبات الذيوع والشُّهرة كما تتوافر لتلك الأصول فإنه يكون من الحيف ألا يُقبل فيها ما يرويه الآحاد ولو كانوا عدولًا صادقين غير متهمين بكذب ولا تدليس ولا تحريف، وكان ما يخبرون به عن تلك الأحداث الفرعية لا يتعارض وما ثبت بالتواتر عن الوقائع الأصلية، ولا يناقض روايات أحادية أخرى عن تلك الأحداث الفرعية ذاتها.
ونضرب لذلك مثلًا: ما روي من أن عبد المطلب جد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب إلى أبرهة حينما كان بالمغمس طلب منه أن يردّ عليه إبله التي كان قد استولى عليها قائده الأسود بن مفصود في غارة على سرح مكة، وأن أبرهة قد ردّ عليه الإبل، وكانت مائتي بعير، وأنها كانت كلّها لعبد المطلب، وأنه أهداها جميعًا للحرم.
فهل مثل هذه الوقائع الفرعية يلزم لقبولها أن تكون مروية بالنقل المتواتر فتكون مرفوضة إذا لم يتحقّق لها هذا التواتر ولو كانت صحيحة لا طعن فيها ولا تجريح؟ إنّ هذا يكون من لزوم ما لا يلزم، وهو شيء لم يقل به أحد فيما نعلم.
هذا، ونريد ألا نقف هنا طويلًا، فإنّ هذه المسألة ليس لها من الأثر في الموضوع الذي نحن بصدده إلا بالقدر الذي أشرنا إليه.
2- الملاحظة الثانية: أنّ الشيخ محمد عبده قد أورد في القطعة التي قال إنها متواترة شيئًا لم يثبت بالتواتر ولم تتفق عليه روايات الرواة، فإنه قال ما نصّه: «وفي اليوم الثاني -أي بعد وصول أبرهة إلى المغمس- فشا في جند الجيش الحبشي داء الجدري والحصبة. قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب. وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث: إنّ أول ما رُئيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام، وقد فعل هذ الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين. وأصيب الحبشي، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة وأنملة أنملة، حتى انصدع صدره ومات في صنعاء».
ثم قال الشيخ: «هذا ما اتفقت عليه الروايات ويصح الاعتقاد به».
وهكذا يقرّر الشيخ محمد عبده أن الإصابة بالجدري والحصبة قد أفزعت الجيش كلّه، وفشت فيه، وأن هذا مما ثبت بالتواتر واتفقت عليه الروايات.
ونحن نقول: إنّ حادثة مرض الجدري أو الحصبة وفشوّه في الجيش لم تتفق عليها الروايات، ولم تثبت بالضرورة ثبوت التواتر، فإنّ كثيرًا من أعلام المؤرخين لم يذكروا شيئًا يدلّ على أن مرض الجدري أو الحصبة قد عمّ الجيش وفشا فيه، بل إنهم لم يذكروا شيئًا أصلًا عن إصابة الجيش بهذا المرض. ومن ذكر من هؤلاء شيئًا عن مرض الجدري أو الحصبة لم يذكر أنه أصيب به أحد غير أبرهة.
إنه بعيد جدًّا أن تكون إصابة الجيش الحبشي بمرض الجدري هكذا إصابة عامة وبائية، ثم يُسكت عنها ويغفل أمرها أولئك العلماء الذين أشرنا إليهم[5]، إِذْ إنها حينئذٍ تكون جديرة أن يروي أخبارها كلّ معنيّ بحفظ الأحداث التاريخية العظيمة، ولا سيما حادثة كحادثة الفيل.
ويستند المرحوم الشيخ محمد عبده في دعوى إصابة الجيش الحبشي بالجدري إلى ما روى عن عكرمة: أن ذلك كان أول جدري ظهر ببلاد العرب، ولكن هذه الرواية ليس فيها ما يفيد أن مرض الجدري قد تفشّى في الجيش كلّه.
بل نحن نقول: إنه قد روي عن عكرمة ما هو أصرح من ذلك في الدلالة على وقوع الجدري في الجيش وأنه قد تفشّى فيه: ذلك هو ما أثبته الفخر الرازي في التفسير الكبير إِذْ يقول: «روى عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرسل اللهُ الحجارةَ على أصحاب الفيل لم يقع حجر على أحد منهم إلا نفط جلده وثار به الجدري، قال: وهو قول سعيد بن جبير، ثم قال: وكانت تلك الأحجار أصغرها مثل العدسة وأكبرها مثل الحمصة»[6].
ولكن هذه رواية، فأين هي من دعوى التواتر أو دعوى اتفاق الروايات؟
ثم إننا لا نمنع أن يكون جيش الحبشة قد وقعت فيه الإصابة بالجدري، ونفترض أن هذا المرض قد عمّ أفراد الجيش وتفشَّى فيهم، وأنه كان أثرًا لما رماهم به الطير الذي أرسله الله عليهم، لكن يجب أن يكون ذلك كلّه على أساس أن تكون ألفاظ الطير، والرمي، والحجارة الواردة في السورة مأخوذة في معناها الظاهر الذي يتبادر إلى الذهب من تلك الألفاظ، وهو الذي بيَّناه فيما سبق واتفق عليه جميع المفسِّرين والمؤرِّخين، وهو الذي روي أيضًا عن عكرمة الذي يستند إلى روايته المرحوم الشيخ محمد عبده، وهو غير ما ذهب إليه الشيخ الذي يحصر سبب إصابة الجيش الحبشي بالجدري فيما نقل إليه من الجراثيم بواسطة الذباب أو البعوض.
3- الملاحظة الثالثة: أنّ الشيخ عبده الذي يقرّر أنه إنما يعتمد على المتواتر في أخبار هذه الأحداث، أو على ما اتفقت عليه الروايات جميعها فيما حدثت به عن الطير وعن الحجارة التي كان يُلْقَى بها على الجند وكيف كان الهلاك بتلك الحجارة ما بيناه فيما سبق، بل نحا في ذلك ناحيةً لم يذهب إليها أحد قبله، فقال بالبعوض والذباب والميكروبات، ولم يقل بما قاله سائر العلماء الذين نقلوا أن هلاك جيش أبرهة كان بذلك الحدث الذي هو من المعجزات وخوارق العادات.
4- الملاحظة الرابعة: هي أن المرحوم الشيخ عبده يقول: «وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير، مما يرسله الله مع الريح».
ونحن نرجع إلى السورة فلا نراها تبين شيئًا أو تقول شيئًا عن الجدري أو الحصبة، لم تعرض السورة لشيء من ذلك، ولم تقل إن تلك الحصبة أو ذلك الجدري كان من أثر الجراثيم التي كانت عالقة بحجارة سقطت على الجيش من الطير الذي يرسله الله مع الريح تعني الذباب والبعوض، فالسورة لم تذكر تعليلًا للإصابة بمرض حصبة أو جدري؛ لأنها لم تذكر في آياتها الحصبة والجدري.
ثم لم يثبت ثبوتًا قاطعًا متواترًا أن الجيش أصيب إصابة عامة بهذا المرض، على ما يرى المرحوم الشيخ محمد عبده حتى يمكن أن يقال: إن هذه الإصابة مكتفية بذلك عن التصريح باسم الحصبة أو الجدري.
هذا، وفي ختام هذه الملاحظات نقول: إنه ليس بمثل تلك التكلفات والمحاولات تكون الإجادة أو التجديد في تفسير الآيات البينات من كتاب الله المجيد.
والحمد لله ربّ العالمين
[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «مجمع اللغة العربية بمصر»، العدد (29)، 1 مارس 1972. (موقع تفسير).
[2] الأبابيل جمع إبيل أو إبول أو إبالة: القطعة من الطير والخيل والإبل، والإبالة أيضًا الحزمة من الحشيش أو الحطب، استعملت في جماعة الطير المتضامة التي فيها كثرة، وقيل: إن الأبابيل جمع لا واحد له.
[3] يقول المؤرخون: إن أصحمة هذا هو جد النجاشي الذي كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدرك زمن بعثته عليه الصلاة والسلام.
[4] البداية والنهاية (2/ 174).
[5] من هؤلاء العلماء القسطلاني في المواهب اللدنية والإمام محمد بن عبد الباقي الزرقاني في شرح المواهب، وابن كثير في البداية والنهاية.
[6] التفسير الكبير للفخر الرازي (8/ 484).