سنة الابتلاء والتمكين في القرآن الكريم
نظرات في الغايات والأهداف

الكاتب : كريمة بلعربي
لله -عز وجل- سنن في خَلقه، منها ما أخبر به في كتابه؛ ومن هذه السنن ما يتعلّق بالابتلاء والتمكين، وهذه المقالة تُسلّط الضوء على سنة الابتلاء والتمكين في القرآن الكريم، وتسعى للكشف عن مقاصدها وغاياتها في ترسيخ الإيمان وإصلاح الكيان الإسلامي.

تقديم:

  تمثّل السننُ الإلهية نبراسَ الهدى والمقياسَ الذي تُقاس به الأمور، وهي فلسفة الكون والحياة والإنسان، وتجسِّد النقطة الناظمة بين مختلف الفئات الاجتماعية، والتفكير الإنساني. وتعدّ مفتاحًا لمعاني الحياة والوجود وحركة التاريخ، وينبني بها صلاح المجتمعات البشرية ونهوضها، ويتحصل بمدى الاهتداء بأنوار السنن، والاقتداء بأحكامها والعمل بمقتضياتها، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23].

ونعني بالسُّنة: الطريقة والمنهج والوجهة والاطّراد والتتابع والقصد، وقد تولَّى الوحي المبارك تقديم نظرة شمولية للمنظومة السُّنَنِيَّة، سواءٌ سنن الله في الكون المادي (السنن الكونية أو الطبيعية أو سنن الآفاق)، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].

 وسنن الله في الإنسان المتضمّنة للسنن النفسية والاجتماعية والإنسانية والتي تسعى للرقي الروحي والعقلي والأخلاقي والاجتماعي؛ فردًا وجماعةً وأمةً وحضارةً، والتي تتجسّد في قوله -عز وجل-: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137].

وقد عُرِّفَت السنن الإلهية عند الإمام النورسي بكونها: «هي القوانين الإلهية الجارية في العالم التي تبيِّن تنظيم الأفعال الإلهية ونظامها، وتنظِّم شؤون الكون... وهي تجلٍّ كلّي للأمر الإلهي والإرادة الإلهية»[1]. وتكمن أهمية السنن الإلهية في سيرها بمنظومة ربانية ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل، ولا تحابي أبدًا، ولا تعرف الصُّدْفة والعبثية، فهي واقعية ومسخّرة للجميع، حيث تستمد شرعيتها من المصادر المعرفية الكبرى من قَبِيل القرآن والسنّة النبوية، والتاريخ والكون.

وقد حُدِّدَت سننُ الله الاجتماعية أو الإنسانية في تعريف عماد الدين خليل: «بأنها المبادئ الأساس التي تحكم حركة التاريخ البشري في ماضيه وحاضره ومستقبله»[2]. بينما السنن الاجتماعية والتاريخية تحدّد تصرفات البشر وأفعالهم، وتقف عند تداول الأيام ونهوض الأمم وانهيارها، واستلهام العِبر والعظات من الأمم الغابرة.

 وتكتسي سنّة الابتلاء والتمكين أهمية عظمى في القرآن، بكونها سنّة كونية اجتماعية، فهي توجّه الإنسان وتهديه إلى الطريق المستقيم، وعلى إثر ذلك فإنّ الابتلاء سنّة الله في تدبير ملكوته، ولن ينجو منها أحد، وإنّ هذا الابتلاء يترتّب عنه التمكين باعتباره وَعْدَ الله المحقَّق وقضاءَه وحكمته ومشيئته الربانية.

وينتج عن سنّة الابتلاء غايات ومقاصد عظيمة، تتوخَّى بثّ الطمأنينة والأمن الروحي، وتجنّب الإنسانية من الأزمات والإصابات، والعجز والركود، وتحصيل الوقاية والشهود الحضاري. وفهم حركة التاريخ وتفسير الظواهر الاجتماعية، وإبصار الماضي وتصويب الحاضر، وحسن النظر والتقدير لأبعاد المستقبل وإدراك المقاصد وإبصار المخارج، وتحصيل المؤهلات وامتلاك الوسائل في مسيرتنا العمرانية والتي تسعى إلى تزكية النفس، وتربيتها وتمحيصها وتنقيتها بعد الابتلاء.

وتجعل للعبد قوةً في الشخصية، وعبوديةً لله، وإدراكًا لمعرفة الله وتعظيم قدره، ويهتدي بها المسلم قصد الإنابة والرجوع لله وتصحيح مساره، ومحو الذنوب ورفع الدرجات، وتمحيص القلوب وتهذيب الروح وشكر الله على النعم، والإيمان بالقضاء والقدر، مع استلهام الدروس والعبر من المبتلين وأحوالهم.

 كما تهدف سنن التمكين إلى تهذيب النفوس وتربيتها، وَفق الهدي الإلهي، والامتثال بالحقّ وسبيله غاية هادفة في بقاء الأمم ونهوضها، والإصلاح في الأرض، ودفع الفساد عنها بغية هدف كلي وراء التمكين والاستخلاف البشري. ولن يتأتّى ذلك إلا بالإيمان بالله وتحكيم شريعته، والاستنارة بسننه الربّانية المباركة.

وقد جاءت هذه المقالة لتسليط الضوء على أهمية سنّة الابتلاء في القرآن الكريم، من خلال تحديد مفهوم سنّة الابتلاء وَفق الهدي القرآني والوقوف على غاياتها القائمة على تنقية الصفّ والتربية وتزكية النفس، والتمحيص، بينما اقترنت سنّة التمكين في تحديد مفهومها والإشارة إلى مقاصدها المباركة انطلاقًا من: علوّ المكانة، والنصر على الأعداء وتحقيق العمران البشري، ودورها الفعال في تحصيل الاستخلاف البشري عن طريق الوسائل الفعّالة المتجسِّدة في الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية من خلال بعض القصص القرآني، والتركيز على هذه السنّة المباركة دون سواها؛ لِمَا فيها من آثار وأهداف يستعين بها المؤمن للتسلية عند المصائب، مع الاستعانة بالله من أجل الصبر على قضائه وتفويض الأمر له، والتوكّل عليه في جميع الأحوال سواءٌ في المحن أو المسرّات، مع ضرورة العمل بمقتضى هذه السنّة وتسخيرها في الحياة.

ومن خلال هذه الملامح المضيئة حول السنن الإلهية وخصوصًا سنّة الابتلاء والتمكين، نقف على جملة من التساؤلات:

ما محدّدات سنّة الابتلاء والتمكين، وما وظيفة ومقاصد وغايات سنن الابتلاء والتمكين في المنهج القرآني؟ وأين يتجلّى دور هذه السنن في ترسيخ الإيمان وإصلاح الكيان الإسلامي؟ وتحقيق الاستخلاف البشري والنهوض الحضاري، والعمران الإنساني؟

وستأتي مقالتنا في قسمين؛ أحدهما للحديث عن سنّة الابتلاء، وثانيهما للحديث عن سنّة التمكين.

القسم الأول: غايات وأهداف سنّة الابتلاء في القرآن:

1- مفهوم سنّة الابتلاء:

تعريف السنّة لغةً:

تختلف دلالات السنّة ومعانيها بحسَب سياقاتها المختلفة:

تُطلق: «السين والنون على أصل واحد مطّرد، وهو جريان الشيء واطّراده في سهولة، والأصل قولهم سننت الماء على وجهي أسنّه سنًّا، إذا أرسلته إرسالًا. وامضِ على سننك، أي: وجهك وقصدك. وسنّ الله على يدي فلان قضاء حاجتي: أجراه. والسنّة: الطريقة والسيرة، حميدة كانت أو ذميمة»[3].

تدلّ كلمة السنّة على الطريقة والوجهة والسِّيرة والتتابع والقصد، والاطّراد، وجريان الشيء، أو الحكم على طريقة واحدة معتادة.

وقد حدّد العلّامة الراغب الأصفهاني -رحمه الله- معناها، فهي: «سنّة الله تعالى: قد تُقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته»[4]. وتتعلّق السنّة بمنهج الله والامتثال لمقاديره وشريعته.

وقد وردت كلمة السنّة في القرآن الكريم بصيغ مختلفة ما بين الإفراد والجمع والتثنية، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23].

2- تعريف الابتلاء:

الابتلاء في اللغة:

وقد سيقت كلمة الابتلاء بمعاني متقاربة؛ منها البلوَى والامتحان، والاختبار والمحنة. وفي هذا الشأن نقف عند جملة من التعاريف:

جاءت كلمة الابتلاء بمعنى: «بلوت الرجل وابتليته، اختبرته. وابتلاه الله امتحنه، وتشتق من الاسم البلوى والبلاء. والبلاء يكون بالخير والشّر»[5]. وفي موضع آخر يرتبط «ابتلاهُ بجرَّبَه وعَرَفَه، والبلاء الحادثُ ينزل بالمرء ليختبره»[6].

ويدلّ الابتلاء في الأصل على الاختبار والامتحان، «يُقال: بلوته أبليته وابتليته، والمعروف أنّ الابتلاء يكون في الخير والشَّرّ معًا من غير فرق بين فعلهما، ومنه قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾»[7].

ويرِد الابتلاء مقرونًا بقصص الأنبياء، من بينها قصة سيدنا إبراهيم: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124].

وبهذا المعنى: يدلّ الابتلاء في الأصل على الاختبار والامتحان، يقال: «بلوته أبليته وابتليته، والمعروف أن الابتلاء يكون في الخير والشّر معًا من غير فرق بين فعلهما، ومنه قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾»[8].

 ونخلص مما سبق: أن كلمة الابتلاء تتعلق بالبلاء والامتحان والمصيبة، والاختبار في السراء والضراء.

الابتلاء في الاصطلاح:

ونقصد بالابتلاء: «هو التكليف في الأمر الشاق، ويكون في الخير والشر معًا، ولكنهم عادةً ما يقولون في الخير: أبليته إبلاء، وفي الشر: بلوته بلاء»[9]. ويهدف معنى الابتلاء للعمل المضني.

وقال المناوي: «البلاء كالبلية الامتحان؛ وسمِّي الغمّ بلاء لأنه يبلي الجسد»[10]. ويرتبط الابتلاء بالغمّ والامتحان.

وقال القرطبي: «البلاء يكون حسنًا، ويكون سيِّئًا، وأصله المحنة، والله -عز وجل- يبلو عَبْدَه بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، فقيل للحسن: بلاء، وللسيئ: بلاء»[11]. بينما يحدَّد الابتلاء بالامتحان والمحنة في جميع أحوال السراء والضراء.

وعلى هذا الأساس: إنّ الابتلاء سنّة الله في خلقه، امتثالًا للآيات القرآنية الآتية: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: 2]، وفي موضع آخر من سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2].

ونتيجة للمعطيات السابقة، تمثل سنّة الابتلاء سنّة اجتماعية تاريخية، لا تنفكّ عن كلّ إنسان، فهي ليس من سبيل الصدفة والعبثية، بل هي حكمة الله ومقاديره الجارية في الكون والحياة والتاريخ، تعقب تصرفات الإنسان وأفعاله، وهي تتميّز بالاطّراد، والعموم والثبات، وهي ليست دومًا ضربًا من العقاب والخزي، بل امتحان من الله للتطهير والتهذيب والتمكين في الأرض، وقد ورَدَ في القرآن الكريم آيات تترى في ذكر أهمية سنّة الابتلاء في حياة المؤمن، وغاياته في محو الذنوب والتعلّق بالله، سواء كان هذا الابتلاء بالمصائب والأمراض والأولاد، والفتن بجميع أصنافها.

وعلى هذا الأساس: «فقد مضَت سنّة الله في الابتلاء أنه يبتلي عباده بالشر والخير، أي: يختبرهم بما يصيبهم مما يثقل عليهم كالمرض والفقر، كما يختبرهم بما ينعم عليهم من النعمة المختلفة، التي تجعل حياتهم في رفاهية ورخاء وسعة العيش؛ ليتبين في هذا الامتحان من يصبر في حالة الشدة، ومن يشكر في حالة الرخاء والنعمة»[12]، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35].

وبذلك توزعت سنّة الابتلاء بين زاويتين إحداهما الابتلاء بالمحن والشدائد، وثانيتهما التنعم بالخيرات والرزق الواسع، وفي هذا السياق، يعدّ الابتلاء سنّة الله الكونية في خلقه امتثالًا للآيات القرآنية الآتية: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: 2]، وفي موضع آخر من سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2].

ويندرج الابتلاء ضمن التمكين ويتلازمان مع بعضهما، وهذا الابتلاء يتأسّس على التمحيص، ويقوم على الرسوخ والتمكّن، فهو ابتلاء رحمة، وليس للغضب والنقمة والعقوبة.

وفي الوقوف على معنى سنّة الابتلاء ومميزاتها فائدة: «فإن سنّة الابتلاء جارية في الأمم والدول والشعوب والمجتمعات، والأمة الإسلامية أمّة من الأمم، فسنّة الله تعالى فيها جارية لا تتبدل ولا تتغير، إنّ الابتلاء سنّة الله العامة في الحياة والأحياء، وسنّته تعالى في الرسل والرسالات، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بدعًا من الرسل، فكان لا بد أن تجري عليه سنّة الابتلاء كما جرت على إخوانه المرسلين»[13]. ومن خصائص سنّة الابتلاء ثباتها واستمراريتها، وعمومها، منذ الخليقة إلى يوم البعث، وشموليتها وصلاحيتها لكلّ زمان ومكان تتعلق بالأنفس والآفاق، وحركة التاريخ والمجتمعات، مصداقًا لقوله عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].

وفي تحديد سنّة الابتلاء عند الشيخ السعدي يقول: «وهي سنّة كونية يَبتلِي بها المؤمن الصادق، وسنّته الجارية التي لا تتغيّر ولا تتبدّل؛ مَن قام بدينهِ وشرعه لا بد أن يبتليه»[14]. تمتاز هذه السنّة بكونها تكليفًا إلهيًّا لا مفر في اختيارها، فهي حتمية وذات طابع إنساني وشمولي ومطّردة.

وفي هذا الصدد، أثنى الله تبارك وتعالى على سيدنا أيوب وميّزه بالعديد من الفضائل، التي بيّنت مكانته في قوة العقيدة واليقين بالله، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83- 84].

وفي مقتضى هذه المرتكزات، تترتّب عن سنّة الابتلاء جملة من الآثار والمقاصد تكمن في غاياتها الدينية المتمثلة في: التنقية - التزكية - التمحيص - التربية.

3- أهداف سنّة الابتلاء:

1. التنقية:

تشكّل تنقية النفس من الذنوب سُنّة مِن أجلِّ السنن الإلهية وأشرفها، وهي من غايات الابتلاء ومحصلة التمكين ومقاصده، قوامها توحيد الله، وتحقيق كامل العبودية والإخلاص له بالألوهية والربوبية تتوخى بناء العقيدة الراسخة، وترجع إليها التكاليف والفرائض، وتستمد منها الحقوق والواجبات.

تمكّن المسلم من تغيير داخلي، قوامه الصلاح والفلاح والهدى، وقد كانت التنقية سببًا في معرفة معادن الناس وصدق إيمانهم وتوحيدهم، وتتيح التمييز بين الطيب والخبيث، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 1- 2].

«فتنقية الضمير من أوشاب الشرك، وتنقية العقل من أوشاب الخرافة، وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد»[15]. ومغزى التوحيد: أنه يطهر النفوس من الوثنية والجاهلية، ويخلص الفكر من أغلال البدع والخرافات، ويقي الناس من أدران العادات والموروثات الشركية، ويَنْهَى عن عبادة الإنسان لنفسه وشهواته، وهي رابطة الله ووحدة المعبود. وهي الآصرة المتماسكة التي تقوم على أساسها الحياة السعيدة، والبناء الأسري القويم منهاجه الكتاب والسنّة الشريفة. ولنا في قصة سيدنا يوسف مثالًا رائعًا في الابتلاء بالجمال الذي عرّضه لفتنة الشهوة من امرأة العزيز، لقوله عز وجل: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 23- 24].

 فكان الابتلاء غرضه تنقية سيدنا يوسف -عليه السلام- من المعاصي، وتحصينه من الوقوع في الشبهات.

2. التزكية:

تمثّل التزكية شرطًا من شروط صلاح الإنسان وإصلاحه، وتعتمد على التخلية من المعاصي والتحلية بالفضائل والآداب، وعُدَّت من أبرز وظائف الرسل ومقاصد رسالتهم، وقد جاءت بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- لإتمام مكارم الأخلاق؛ ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]، حيث عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه؛ لأنّ الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: «ألَا وإنّ في الجسد مضغة إذا صَلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب».

وتطلق كلمة التزكية على التطهير والنماء والزيادة، قال ابن عطية -رحمه الله-: «زكّاها للنفس؛ معناها: طهّرها ونمّاها بالخيرات»[16].

وقد نصّت آيات عديدة على تزكية النفس والحثّ عليها، منها قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9- 10].

وقد ارتبطت تزكية النفس وتهذيبها بالفلاح والتوفيق، ودفع الرذائل عنها، والوصول بها إلى مراتب الكمال، بينما تترتّب خسارته وخيبته بتدسيتها. وإنّ من المؤكّد أنّ من غايات العبادات والشرائع والعقائد وثمراتها الطيبة ما تنبني على تزكية النفس، مما يبوِّئ التزكية مكانة سامية في مقاصد الشريعة وأحكامها.

3. التمحيص:

تكتسي قيمة التمحيص مقومًا أخلاقيًّا مهمًّا، يستند عليه الابتلاء، ويتحقّق به التمكين وهو سنّة الله في خلقه، فابتلاء المؤمن يتبعه تمحيص النفس، وتربيتها، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154].

والتمحيص يقوم على أساس إزالة العيوب من النفس، وتخليصها من الشوائب، وتزكيتها وتطهيرها وتخفيف أوزارها وذنوبها، واختبارها بالمحن والابتلاءات.

وتكمن أهمية سنّة الابتلاء والتمحيص وتداول الأيام في حكمة ربانية، تكشف ما وقع من خفايا الصدور وتنقية الصف وإخراج القادة لدورها الريادي، وتربية الأمة الإسلامية وتحقيق النصر والتوفيق وهي من نواميس الله الجارية، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، وبهذا المقتضى: فالتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، «التمحيص عملية تتم داخل النفس، في مكنون الضمير، إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية؛ تمهيدًا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرّة على الحقّ، بلا غبش ولا ضباب»[17].

يتخذ التمحيص مرتبة من مراتب الابتلاء بغية تغيير المسلم الداخلي وتقويم سلوكه، وتنقية النفوس من الأمراض الاجتماعية مثل الحقد والحسد والكراهية والنفاق.

4. التربية:

تتخذ التربية دورًا مهمًّا في بناء الفرد الصالح، تهذّب الأخلاق وتزرع القيم، وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته بإصلاح العقيدة، وبثّ الأخلاق، وإعداد زمرة من الصحابة وتربيتهم على القيادة وتحمل المسؤولية، والتضحية، والتآخي، وكانت مراحل الابتلاء التي مرّت بها دعوة الرسول -عليه السلام- بمثابة مقياس يكشف خفايا الناس، وتدرج في تربية أتباعه، وتنقية الدعوة من صفوف المشركين والمنافقين، والتمحيص والتزكية، حتى يتم الارتقاء الروحي والأخلاقي في الكيان الإسلامي، فقد كان الرعيل الأول خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تطيع الله ورسوله، وتجتنب المعاصي، فقد كانت تربيتها الحسنة على المنهج القرآني والنبوي، وَفق الأسوة الحسنة والعظة والعبرة، قوامها المرونة والواقعية، والوسطية واليسر والرحمة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29] =خير مثال على نجاحها في ابتلاءاتها التي كانت الحكمة منها تكمن في بناء الحضارة الإسلامية، ونشر الدعوة واتساع الفتوحات الإسلامية.

وحقّق ذلك لها الاستخلاف البشري والعمران والنهوض الحضاري، لتسخيرها والعمل بسنن الأخذ بالأسباب والمسببات والتوكّل على الله، وجمعت بين الأخلاق والعوامل المادية والمعنوية، فكان لها النصر والتمكين ولنا في قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه صورة واضحة على القيم التربوية الحسنة والامتثال لأمر ربه وطاعته: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ *فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 102- 106].

 القسم الثاني: أهداف ومقاصد سنّة التمكين في القرآن الكريم:

1- مفهوم سنّة التمكين:

التمكين لغةً:

يدلّ التمكين في اللغة على الاقدار على التصرّف والهيمنة والثبات، ونجد في (أساس البلاغة) ما يأتي:

«مكنته من الشيء وأمكنته منه فتمكن واستمكن، ويقول المصارع لصاحبه: مكنّي من ظهرك، وأمكنني الأمر فمعناه أمكنني من نفسه، وهو مكين عند السلطان، وهم مُكَناء عنده»[18]. تدل كلمة التمكين على المكانة والقدرة على العمل.

ويسوق القاموس المحيط عند تناوله لهذه المادة الآتي: «المَكِن، ككَتِف بيض الضبّة والجرادة، ونحوها مَكِنت كسمع فهي مَكُون، وفي الحديث: أقروا الطير على مكُناتها بكسر الكاف وضمها، أي: بيضها، والمكانة التؤدة كالمكينة، والمنزلة عند الملك، ومكن ككرم وتمكّن فهو مكين، والجمع مكناء... ومكنته من الشيء وأمكنته منه فتمكن واستمكن»[19]. وفي هذا المقام ترتبط كلمة التمكين بالقدرة والتصرّف وتبوُّء المكانة العالية والكفاءة العالية.

 التمكين في الاصطلاح:

 وتأتي كلمة التمكين في الاصطلاح:

بمعنى الهيمنة والسلطة والقدرة في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54].

 وقد وردت لفظة التمكين في الوحي بصيغ مختلفة، تتراوح ما بين الفعل الماضي والفعل المضارع أو صيغة المبالغة حيث تترادف معانيها بين النصر والتأييد، والاختبار والمحنة، بحسَب دلالاتها القرآنية الرحبة.

وعلى غرار ذلك، تدلّ كلمة التمكين في الأرض على: «هيمنة منهاج الله على ما عداه من المناهج في الأرض، والقدرة التامّة لعباد الله على التصرّف في أرض الله حسَب منهاجه حسًّا ومعنى بأن تصطبغ الحياة بصبغة الإسلام كما أراد الله»[20]. وتتعلق سنّة التمكين بالمقدرة الإلهية وحسن التصرف، واتباع السبيل الرباني في جُلّ التصرفات والأفعال، ومَن حاد عن هذه السنّة الربانية ترتب عليه الهلاك والعقاب، مصداقًا لقوله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [الأنعام: 6].

ونخلص مما سبق: أنّ التمكين في مراده اللغوي يتلازم مع المدلول الاصطلاحي، أي القدرة على السيطرة والثبات والاستقرار والتحكّم، والهيمنة، وتبوُّء المكانة المرموقة، وأحيانًا تطلق على الرسوخ والتمكّن.

2. سنّة التمكين في الاصطلاح:

أَوْلَى القرآنُ الكريم عنايةً بارزة بسنّة التمكين، وأعطى لمحات مضيئة على مكانة هذه السنّة ودورها في نهوض الأمة الإسلامية، وساق جملة من القصص القرآني، للاقتداء بها وهداياتها، والتنويه بغاياتها الشريفة، والأخذ بأسرارها، فقد استحضرت سورة الكهف دور سنّة التمكين والاستعانة بها في القضاء على بطش يأجوج ومأجوج في قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ [الكهف: 95].

وفي هذا الإطار، ترِد سنّة التمكين بمعنى: «قانون الله المطّرد في خلقه، ونظامه الحاكم المهيمن في أفعالهم، الذي إذا اتّبعه عبادُه أقدَرَهم على التصرّف في أرضه والهيمنة عليها، وجعل لهم مكانة مكينة في كيفية التعامل مع مفرداتها وإحسان توظيفها»[21]. تُحِيل هذه السنّة على قانون كوني وسنّة ربانية ومشيئة إلهية.

 كما تتسم سنّة التمكين بنواميس مطردة، وحقائق ثابتة تستدعي امتثال الخلق لها، وهي وعدُ الله المحقَّق لا محالة، والكون كلّه خاضع في نظام مسيرهِ وتركيب مكوناته لهذه السنن الإلهية الكونية، ووضع الله في تصرفه قصد تيسير سبل العيش وتسخيرها.

وجاءت سنّة التمكين بصفتها: «هي إحدى السنن المنظمة للكون، وكلّها راجعة إلى الإرادة الكونية وإلى الكلمات التكوينية»[22]. تستدعي سنّة التمكين القوانين الإلهية ومقاديرها في خلق الكون والحياة والوجود الإنساني، وتتميز سنّة التمكين بتوفر جملة من الشروط؛ منها: الإيمان العميق بالله، والمثابرة، والمنهج الرباني الحكيم. وبوجود هذه الدعائم المادية والمعنوية يكون التمكين والتأييد والنصر المبين، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 5- 6].

وتتبلور مقاصد سنّة التمكين على علوّ المكانة، والنصر على الأعداء، وتحقيق العمران البشري الذي يسهم في بناء النهوض الحضاري والاستخلاف البشري، والاستنارة بهذه المرتكزات يهدي المؤمن لصلاح الأعمال والطريق المستقيم، ويزكي النفوس من أمراض القلوب، حيث تعالج الأزمات والانتكاسات وتداوي الأسقام، والأوجاع، وتريح الصدور من الوساوس والعلل النفسية.

2. مقاصد سنّة التمكين في القرآن:

سنقف في هذا الجانب، على ذكر أهمية سنّة التمكين في القصص القرآني لِما حظيت به من عناية في المنظومة القرآنية وركزت على سياقاتها المتنوّعة، من أجل استلهام الدروس والعبر، والسير على مقتضى هذه السنّة وتسخيرها والاستنارة بهداها، وإزاء هذا الوضع سنشير إلى ثلاثة عناصر مهمّة حيث سنسعى إلى إبراز مقاصدها؛ من بينها: علوّ المكانة والنصر على الأعداء، وتحقيق العمران البشري، وتبيان الدور المنوط بهما في إصلاح المجتمع واستمرار الاستخلاف البشري، ونهوض الأمة الإسلامية ورقيها الحضاري.

1- علو المكانة:

مما لا شك فيه، أن معظم الأنبياء تعرّضوا للمحن والابتلاءات في حياتهم، وقد نصّ الذِّكْر المبارك على هذه القصص القرآنية المباركة، لتكون القدوة للمسلمين، وأخذ العظة والعبرة ومعرفة تاريخ الرسل وحركة المجتمعات.

ولنا في قصة سيدنا يوسف -عليه السلام- أسوة حسنة للاحتذاء بها، والتأسّي بسننها العظيمة. ولقد كان النبي يوسف -عليه السلام- ذا عقيدة صحيحة راسخة، صابرًا لقدر الله وقضائه، فمهما تكالبت عليه الصعاب والشدائد، بقي متماسكًا واثقًا متيقنًا من فرج الله، إلى أن جاءه نصر الله وتمكينه ورفع الله قدره وبوّأه مكانة مرموقة في مصر، وأصبح حافظًا لخزانة مصر، وهذه العناصر السابقة خلاصة لقصة سيدنا يوسف عليه السلام، وقد آتاه الله تأييدًا وفتحًا مبينًا في تأويل الأحلام والرؤى، لقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

وكان من أسباب التمكين والنصر الامتثال لأوامر الله وطاعته، والتوكل على الله، واجتناب المعاصي وقد تميز بقوة العقيدة والعزيمة والاستقامة، وطاعة الله، والإيمان بلطفه الخفيّ. فقد كان هذا النبي ملتزمًا بسنن الأخذ بالأسباب المعنوية والمادية، فجاءته سنّة التمكين، برحمة من الله، ولكونه يستحق الجزاء والمنحة لإحسانه مع ربه وإخوته وحسن خلقه، ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 56].

ولقد أُخرِج يوسف من حضن أبويه ليواجه هذه الابتلاءات كلّها، وبهذا حقّق الله ليوسف ما قدّره له من التمكين في الأرض، وتمهيدًا لهجرة أبويه وإخوته من فلسطين إلى مصر.

وعلى مقتضى هذا السياق: «فإن الله هو الذي مكّن ليوسف -عليه السلام- في الأرض، بعلمه وحكمته، وقد مَرّ بتمكينين: التمكين الأول تمكين الله يوسف في الأرض عندما استقر في بيت العزيز، وما مَرّ به من امتحانات وابتلاءات وهي مرحلة موصلة للتمكين الثاني: تبوُّء يوسفَ في منصب عزيز مصر، حيث سيلتقي بإخوته، وسيجتمع بأهله، وستستقر الأسرة كلّها عنده في مصر، وهذا تمكين الله وعلمه وحكمته سبحانه؛ وهو مظهر من مظاهر حكمة الله، تقدير الأحداث و ترتيبها»[23].

وهذا قدَرُ الله المكتوب، وإرادته المحتومة أن يجتاز يوسف خضمًّا من الآلام ويكون له التمكين في الأرض، ويحظى بعلوّ المكانة والجزاء على إحسانه وفضله وعبادته وأخلاقه.

2- النصر على الأعداء:

ترتبط قصة موسى -عليه السلام- بابتلائه مع فرعون وحاشيته، فقد عانت والدتُه مِن فقدِهِ، حيث ربطَ الله على قلبها حينما رمَتْه بالنيل وأخذه فرعون بطلب من زوجته آسية، إلا أن أخته تَعرِضُ عليهم الإتيان بمرضعة قصد إرضاعه، فردّ الله موسى إلى حضن والدته، وقدّر اللهُ لموسى -عليه السلام- أن يتربى ويعيش في منزل عدوّه فرعون، وهنا تبدأ المواجهة بدعوته لله وتوحيده؛ ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4].

وتتعرّض حياة موسى لتمرّد فرعون وملئه، وإيذاء فرعون ومكائده، وقد عاند فرعون وزاد بطشًا وجحودًا ونقمةً وتكذيبًا لدعوة موسى، وبالرغم مما جاء به من البينات والأدلة الدامغة على صِدْق نبوّته، وكان نصرُ وتمكينُ سيدنا موسى على فرعون، لقوله -عز وجل-: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: 6].

وجاء الانتصار على الجبروت والأعداء، أنْ لبّى موسى دعاء ربه واستنجد به أن يهلك فرعون وجنوده، وطلب من بني إسرائيل الصبر والتوكّل على الله والإيمان بقدرته، وكانت النتيجة الحتمية أنْ غرق فرعون وجنوده في اليمّ، حتى أنقذ موسى وقومه، وخلّصهم من براثن الفساد والجاهلية، وكان الاستخلاف البشري في الأرض لعباده الصالحين؛ ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 40].

«وقد قضت سنّة الله تعالى في تدافع الحقّ والباطل، أنّ الغلبة للحقّ وأهله، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله»[24]، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الشورى: 24]، وهذه سنّة الله ماضية لا تتخلف في نصر الحقّ وهي تقتضي الإمهال، والتدرّج وعدم الاستعجال ولا تحابي أحدًا، وهي ثابتة وقد جرت على الأقوام السابقين، وخصوصًا الطغاة والعصاة والحاضرين، ولن ينجو أحد من عقاب الله في الدنيا والآخرة.

3- تحقيق العمران البشري:

يجسّد العمران البشري قيمة كونية من المفاهيم القرآنية، حيث تعلّق بالحياة والوجود والإنسان والمجتمع، ويقترن مدلول التمكين مع عمارة الكون، لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 10].

وقد وردت مادة (عَمَرَ) في القرآن الكريم خمسًا وعشرين مرة وبصيغ مختلفة، وإذا استقرأنا اللفظ القرآني بعدد المعاني التي تعدّ حقلًا دلاليًّا وجدناها تتكامل مع حالة الحياة، والإقامة والسكنى والعمران المادي والثقافي والفكري.

 وقد ترتّب عن هذا الاستخلاف البشري في الأرض مقاصد عظيمة، تروم عبادة الله ونيل مرضاته حيث تتأسس عمارة البشر على روح الخلافة وجوهرها، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].

ونعلّل تحقيق الخلافة البشرية في الأرض وبناء العمران، بصفتها أعظم المقاصد الكلية في الحياة الدنيا، وهو ما يستدعي تحقيق الغاية السامية من وجود الإنسان؛ ألا وهو عبادة الله وتوحيده. وبهذا يتساند الوعد الإلهي بالخلافة، وهي ترتبط مع نسقين اثنين: الإيمان، والعمل الصالح.

وبهذا الشأن: يقول سيد قطب في أهمية الخلافة وتحقيق العمران البشري من أجل النهوض الحضاري للأمة والفرد: «وإنّ الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان»[25].

 ويتأتّى دور الإنسان في معرفة هذه السنن الكونية وتسخيرها وَفق نواميس الكون والرؤية الشمولية السننيّة القرآنية القائمة على الخلافة والوجوه العمرانية والحضارية، وإدراك أسرار الله في هذا الوجود مِن أولى مقاصد عبودية الله والإيمان بوحدانيته، والسير على نور هذه السنن وغاياتها من دعائم التمكين والتأييد الإلهي، وإصلاح الفرد وتزكيته، وبثّ الطمأنينة والسكينة في الصدور، والرقيّ الروحي والوجداني، وأيّ انحراف وتنكُّب عن هذه السنن يطال المؤمن الضياع والتيه والعقاب، سواءٌ في الدنيا أو الآخرة.

خاتمة:

 يكتسي علم السنن الإلهية وخاصة سنّة الابتلاء والتمكين المستنبطة من فهم القرآن وفلسفته في الوعي بالحياة وتفسير الظواهر الاجتماعية والتاريخية والكونية =أهمية كبرى في العلوم الشرعية، وتجسّد الدعامة العظمى لتحقيق الوقاية الحضارية والاستخلاف البشري والنهوض الحضاري، وقد استمد هذا العلم مصادر شرعيته من المعرفة السننيّة المشتملة على: القرآن الكريم، والسنّة النبوية، والتاريخ، والكون.

 وقد كانت الحاجة ماسّة للكشف عن معنى سنّة الابتلاء ووظيفتها المتمثلة في التربية والتزكية والتنقية والتمحيص، ودورها في تصحيح العقيدة وبثّ الأبعاد الخلقية والتربوية في النفوس، والتي أسهمت في التأسّي بالسابقِين، واستلهام الدروس والحِكم والعِبر، كما استدعت الضرورة إدراك معنى التمكين والإشارة إلى شروطه المادية والمعنوية القائمة على الإيمان العميق والمثابرة، والمنهج الرباني، مع التمثيل ببعض القصص القرآني، للإشارة إلى مقاصدها المتجلية في علوّ المكانة، والنصر على الأعداء وتحقيق العمران البشري.

 وإنّ مِن أهداف هذه السنّة تسخيرَها والعملَ بمقتضاها، والتوكّل على الله، والصبر في الشدائد ليتحصّل التمكين لهذا الكِيان الإسلامي، وتُرفع راية الإسلام خفّاقة، ويكون النصر من الله والنهوض الحضاري، وبهذه القراءة السننيّة للواقع نتعرف مواطن الضعف والقوة وأسباب الابتلاء وعوامله وإبصار المآلات والعواقب وكيفية علاج الأزمات المجتمعية، والوقوف على أسباب التمكين المعنوية والمادية وتمظهراتها، ويتحصّل الوعد المحقّق بالنصر والفتح المبين.

والله هو الموفِّق والمسدِّد لكلّ خير

 

[1] رسائل النور اللمعات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان الصالحي، شركة سوزلر للنشر، القاهرة، ط6/ 2011، ص59.

[2] التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل، دار العلم للملايين، بيروت، ط4/ 1983، ص97.

[3] لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين بن مكرم الإفريقي المصري، ابن منظور، دار صادر- بيروت، د. ط، 1990، مادة: (سنن) (13/ 225، 226).

[4] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دار القلم- دمشق، ط1/ 1992، مادة: (سنن)، ص429.

[5] لسان العرب، مرجع سابق، (18/ 90).

[6] المعجم الوسيط، مصطفى إبراهيم وآخرون، مجمع اللغة العربية- مطبعة مصر، 1961، (1/ 70).

[7] النهاية في غريب الحديث والأثر، محمد الجزري ابن الأثير، دار ابن الجوزي- السعودية، ط1/ 1421، (1/ 155).

[8] النهاية في غريب الحديث والأثر، محمد الجزري ابن الأثير، دار ابن الجوزي- السعودية، ط1/ 1421، (1/ 155).

[9] الكليات، أبو البقاء الكفوي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط2/ 1998، (1/ 29).

[10] التوقيف على مهمات التعاريف، عبد الرؤوف المناوي، تحقيق الدكتور: عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب- مصر، ط1/ 1990، ص82.

[11] الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتب العلمية- بيروت، ط5/ 1996، (1/ 263).

[12] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط1/ 1993، ص81، 82.

[13] التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، محمد السيد محمد يوسف، دار السلام، مصر، ط3/ 2003، ص240، 241.

[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1/ 2002، ص96.

[15] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، القاهرة ط17/ 1412هـ، ص1230.

[16] المحرر الوجيز، في تفسير الكتاب العزيز، محمد بن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1/ 1422هـ، (15/ 471).

[17] في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ص482 وما بعدها.

[18] أساس البلاغة، محمود أبو قاسم الزمخشري، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1/ 1998، (2/ 396).

[19] القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة- لبنان، ط8/ 2005، مادة (م ك ن)، (4/ 267).

[20] القاموس القويم لألفاظ القرآن الكريم، إبراهيم عبد الفتاح، مادة (م ك ن) ط مجمع البحوث الإسلامية، الأزهر الشريف، ط1/ 1983، ص232.

[21] سنّة التمكين في ضوء القرآن الكريم، رمضان زكي خميس الغريب، بحث، المملكة العربية السعودية، ص13.

[22] سنن التمكين، محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي، المؤتمر الإغاثي الدولي لصالح الشعب السوري، بتركيا، سنّة 2014.

[23] القصص القرآني، عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق دار الشامية- بيروت، ط1/ 1998، (2/ 184).

[24] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط1/ 1993، ص47، 48.

[25] في ظلال القرآن، (4/ 2528).

الكاتب

كريمة بلعربي

حاصلة على شهادة الإجازة بشعبة الفكر الإسلامي ‏وعلوم الأديان، بكلية أصول الدين - تطوان، المغرب.‏

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))