كتاب (التفسير المقارن بين النظرية والتطبيق) للدكتورة/ روضة عبد الكريم فرعون
عرض وتقويم

يُعَدّ كتاب (التفسير المقارن بين النظرية والتطبيق) أحد الكتب المعاصرة التي تناولت موضوع التفسير المقارن نظريًّا وتطبيقيًّا، وهذه المقالة تُعَرِّف بهذا الكتاب، وتسلِّط الضوء على منهجه ومحتوياته، كما تعرض لأبرز مزاياه والملاحظات حوله.

  الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه وبسُنَّتِهِ اقتدى.

أمَّا بعد:

فلا شكَّ أنَّ لعلماء أُمَّة محمد -صلى الله عليه وسلم- في العناية بكتاب الله تعالى جهودًا عظيمةً وآثارًا بارزة، لا تخطئها عين الناظر، ولا تخفى على الذِّهن الحاضر، ومكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم مكتبة حافلة بالمصنفات المتعدّدة، ما بين قديم وحديث ومختصر ومطوّل، وما إلى ذلك، ما حدا الدارِسين والباحثين في هذا الميدان الجليل إلى إمعان النظر في علم التفسير، وإجالة الفكر في ألوانه وأساليبه، ومن ذلك تقسيمهم له إلى عِدَّة أقسام بعدَّة اعتبارات، ومن هذه الاعتبارات اعتبار أساليب التفسير، ومن أقسامه بهذا الاعتبار (التفسير المقارن).

ومقالتي هذه تتناول أحد البحوث المهمّة في التنظير للتفسير المقارن، مع تقديم نموذج تطبيقي عليه، ألا وهو كتاب: التفسير المقارن بين النظرية والتطبيق للدكتورة/ روضة عبد الكريم فرعون. وهي مقالة تهدف إلى عرض الكتاب وإعطاء نبذة عنه، بالإضافة إلى تقويمه بذِكْر بعض مزاياه والمآخذ عليه.

أولًا: كتاب (التفسير المُـقارن بين النَّظرية والتَّطبيق)؛ عرض وبيان:

سنعمل في هذا القسم على التعريف بكتاب (التفسير المُقارن بين النَّظرية والتَّطبيق) وعرض محتوياته، وذلك بعد التعريج على بيانات الكتاب والتعريف الموجز بمؤلِّفه.

أولًا: التعريف بالكتاب:

صدر هذا الكتاب عن دار النفائس للنشر والتوزيع في الأردن، وهذه هي طبعته الأولى بتاريخ 1326هـ- 2015م مع وجود نسخة قبل هذا منشورة في الشبكة العنكبوتية لأصل الرسالة، والجدير بالذِّكْر أنَّ الباحثة قد راجعتْ كثيرًا من النقاط وأجرتْ على الرسالة ما أجرته من قلم التعديل كما نصَّت على ذلك في المقدمة[1]؛ ممَّا يجعل النسخة المطبوعة مختلفة عن الرسالة المنشورة في الإنترنت والتي تحمل شعار جامعة العلوم الإسلامية العالمية بعمّان الأردن.

وأصل الكتاب رسالة جامعية نالت بها الباحثة: روضة بنت عبد الكريم فرعون[2] درجةَ الدكتوراه في قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن بتاريخ 30/ 6/ 2011م، وكانت الرسالة بإشراف العلّامة أ.د/ فضل حسن عباس -رحمه الله-[3]، والذي أشرف على معظم الرسالة كما أشارت الباحثة أنَّها قرأتْ عليه كامل الرسالة عدا النموذج الثاني من القسم التطبيقي حيث وافته المنية قبل تمامه، وخلفه في الإشراف على الرسالة أ.د/ شحادة العمري[4].

ثانيًا: هدف الكتاب:

يمكن إجمال هدف هذه الرسالة في أمرين أساسيين:

- أولًا: وضع دراسة نظرية تأصيلية تقعيدية للون مهم من ألوان التفسير، وهو التفسير المقارن.

- ثانيًا: وضع نموذج عملي تطبيقي تُرَاعَى فيه الأطُر والحدود المرسومة في الجانب النظري.

فقد أشارت الباحثة إلى ذلك فقالتْ: «وأحسب أنّني في الدراسة النظرية قد قدَّمْتُ رؤية واضحة المعالم للتفسير المقارن؛ فقد اجتهدتُ في الوصول إلى معنى هذا المصطلح وبيان ألوانه»[5].

ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ هذه الرسالة هي باكورة لمشروع علمي تمَّ فيه توزيع أجزاء القرآن الكريم على مجموعة من طلبة الدِّرَاسات العليا في جامعة العلوم الإسلامية العالمية؛ ليتناولوا فيه أقوال المفسِّرين بالدِّراسة المقارنة، فكان لزامًا أن يسبق المشروعَ التطبيقي تأصيلٌ نظري، وهو الموجود في هذه الرسالة.

ثالثًا: منهج الكتاب:

يتّضح من خلال عنوان الكتاب أنه يحوي جانبين:

- جانب نظري؛ والمنهج المتّبَع فيه هو المنهج التأصيلي القائم على الاستقراء للجهود السابقة، والنقد لها، والتتبّع والنقد لأقوال العلماء في المفردات المختلفة.

- وجانب تطبيقي؛ يعتمد على الدراسة التحليلية للنَّصِّ، والموازنة بين الأقوال الواردة في مسائل النصّ المدروس وهو في سورة الفاتحة.

كما صرَّحت الباحثة بذلك فقالت: «وسلكتُ في ذلك كلّه طريق التحليل والمناقشة»[6].

رابعًا: محتويات الكتاب:

يحوي الكتاب قسمين سُبِقَا بمقدِّمة أبانت فيها الباحثة عن فكرة الموضوع، وأهمية الدراسة، والمنهج المتبع، والدراسات السابقة، وأسباب اختيارها للموضوع، وما واجهها فيه من صعوبات.

ثم جاء القسم الأول: وهو الجانب النظري، والذي ابتدأ بتمهيد ثمَّ فصلين:

الفصل الأول: مدخل إلى التفسير المقارن ذكرت فيه ما يُطلق عليه تفسيرًا مقارنًا من ألوان، ثم اتّجهت إلى التعريف بعد استيفاء ما ذكر من تعريفات سابقة ومناقشة ما لها وما عليها، ثم افردت كلمتي (التفسير) و(المقارن) وتناولتْ كلًّا منهما بالتعريف في اللُّغة والاصطلاح، متوصِّلة بعد ذلك إلى تعريفٍ للتفسير المقارن، وذكرتْ شرحًا للتعريف يبيّن ما يدخل فيه وما لا يدخل حتى يكون جامعًا مانعًا.

انتقلتْ بعد ذلك إلى الكلام على نشأة التفسير المقارن، وصِلَته بأنواع التفسير الأخرى، وأهميته، ثم ذكرتْ منهج البحث فيه إجمالًا من خلال ذِكر:

 1) خطوات البحث في التفسير المقارن. و2) أمور ينبغي للباحث أن يراعيها.

بعد هذا ذكرَتْ معايير للقبول والردّ للأقوال التفسيرية؛ لأنَّها هي موضوع المقارنة ومحلّها، وقد أجملتها في أربعة معايير، هي:

- الانسجام مع الأدلة القاطعة من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الصحيحة، وقطعيات العقل.

- الانسجام مع اللُّغة في دلالات ألفاظها وتراكيبها وأساليبها.

- الانسجام مع السياق القرآني.

- سلامة الرواية.

وتكلّمَت على كلِّ معيار منها بالشرح والتمثيل.

يأتي بعد ذلك الفصل الثاني بعنوان: أسباب اختلاف المفسِّرين (عرضها وبيان الموقف منها). ذكرتْ في المبحث الأول منه: معنى الاختلاف وأنواعه وموقف الشرع من اختلاف المفسِّرين.

والمبحث الثاني في أسباب اختلاف المفسِّرين، وقد أرجعَت الباحثة اختلاف المفسِّرين إلى ثلاثة أسباب، هي:

- السبب الأول: الاختلاف الناشئ عن ألفاظ الآية، وذكرت فيه عددًا من مواطن الاختلاف: 1) تعدّد القراءات. 2) المشترك اللَّفظي. 3) التراكيب المشتركة. 4) التطوُّر الدلالي. 5) الحقيقة والمجاز. 6) العموم والخصوص. 7) الإطلاق والتقييد.

- السبب الثاني: الاختلاف الناشئ عن الروايات المنقولة، ويشمل: 1) الأحاديث النبوية. 2) وأسباب النزول.

- السبب الثالث: الاختلاف الناشئ عن تغايُر الخلفيات الفكرية وتبايُن المَلَكات، ويشمل: 1) عصر المفسِّر. 2) التعصُّب المذهبي. 3) إغفال السياق.

وقد تناولت جميع هذه الأسباب بالشرح والتمثيل.

ثُمَّ عطفت على ذِكْر بعض الأسباب التي عدَّها بعض العلماء والباحثين من أسباب الاختلاف في التفسير وبيّنت رأيها في ذلك.

القسم الثاني: وهو الجانب التطبيقي والعملي، ومهَّدت له بتمهيد، ثم ذكرت فيه نموذجين:

- الأول: اختلاف المفسِّرين في قوله تعالى: {الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2].

- الثاني: اختلاف المفسِّرين في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7].

بعد ذلك خلصت إلى الخاتمة، وفيها أهم النتائج والتوصيات.

ثانيًا: كتاب (التفسير المُـقارن بين النَّظرية والتَّطبيق)؛ نقد وتقويم:

أولًا: أبرز المزايا في الكتاب:

لا شكَّ أنَّ هذه الرسالة قد تميّزت بكثير من المميزات ما جعلها تحظى باهتمام كثير من المختصّين في الدراسات القرآنية، حتى أضحى الكتابُ مُقرّرًا في عددٍ من الجامعات[7]، وأصبح له انتشارٌ واسعٌ بين طلبة علوم القرآن الكريم، ولا يسعني الإتيان على جميع ما في الرسالة من مميزات فهي كثيرة، ولكن أذكر ما جال في خاطري أثناء قراءتي وعرضي لها، فمِن هذه الميزات:

- أولًا: ما جرى بين الباحثة -وفّقها الله- وعددٍ من المتخصّصين والمهتمين بالتفسير وعلوم القرآن الكريم من عرضٍ ومناقشة للرسالة بعد إجازتها؛ فقد ذكرتْ في المقدمة ما نصُّه: «ومِمَّا أعُدُّه من توفيق الله -عزَّ وجل- أن يسَّر لي لقاءً علميًّا جمعني بطلبة الدكتوراه في قسم التفسير وعلوم القرآن في الجامعة الأردنية، بإشراف فضيلة الدكتور/ جهاد النصيرات[8]، تمَّ فيه النقاش حول كثير من مسائل الكتاب، وقد التقينا في بعض المسائل وافترقنا في أخرى، بروح علمية ورغبة في الوصول إلى الحقّ، وكان من ثمار هذا اللقاء أنني صوَّبت بعض المسائل مما رأيت فيه الحقّ إلى جانبهم، ووضّحت بعض الفقرات التي خفي معناها وأشكلَت على الفهم، فزدتها بيانًا وتفصيلًا، فلهم منّي كلّ الشكر والتقدير»[9]، وقد أخبرنا الدكتور جهاد -عندما درس لنا في مرحلة الماجستير بقسم التفسير وعلوم القرآن بالمدينة المنورة- بهذا اللقاء وما كان له من أثر إيجابي عليه وعلى طلابه، مع ما ذكرته الباحثة من أثر على الكتاب.

وهنا أُحِبُّ أن أقول: إنَّ هذه الرُّوح التي فيها نشرٌ للعلم ومناقشة فيه وأخذٌ وردٌّ في مسائله وتفاصيله -مع حسن الأسلوب واحترام أدب الاختلاف- لَرُوحٌ ساميةٌ راقية ينبغي أن تُشاع ويُقتدى بها، إنَّ استماعَ الباحث لِمَنْ يناقشه ويحاوره ويستشكل عليه وتفاعُلَه مع ما يجده من هذه النقاشات -كما حصل من الباحثة وفقها الله- ليُحيلُ العملَ من جهدٍ فرديٍّ قام به شخص واحد إلى عملٍ جماعي تلاقحَتْ فيه العقول، وتلاقتْ فيه الأنظار، وترامتْ إليه الرؤى. صحيح أنَّ الإشراف العلمي الذي تحظَى به الرسائل العلمية ثم المناقشة والتقويم يؤدّي هذا المعنى، ولكنه لا يخلو من تقيُّدٍ بلوائح وأنظمة وإجراءات وأعراف أكاديمية قد يقصر بها الأمر عن بلوغ المراد، ومهما يكن فالمزيد من المُواطَأةِ والنظر والبحث والنقاش لا شكَّ أنَّ له دورًا كبيرًا في إنضاج الأعمال وترسيخها، لا سيما ونحن نتحدّث عن عمل تأصيلي يتعاقب عليه كثير من الدارسين بعد ذلك.

- ثانيًا: اهتمام الباحثة -وفّقها الله- بما سبقها من دراسات، وبناؤها عليها بحيث تنتفع بما انتهى إليه الآخرون وتضيف على ما ذكروا، وهو اهتمام لا يكتفي بذِكْر الدِّراسات السابقة والإشارة إليها فقط، بل يناقش ما فيها وينقد فحواها؛ فعند الكلام على تعريف التفسير المقارن، قامت الباحثة بذكر جهود السابقين ونقدها كالدكتور/ أحمد الكومي، والدكتور/ فهد الرومي، والدكتور/ مصطفى إبراهيم المشني. مستفيدةً مما ذكروا، مسجلةً ملحوظاتها عليه.

- ثالثًا: تميّزت الرسالة بوضع حدٍّ وتعريفٍ لمصطلح التفسير المقارن، مع الشرح والتوضيح لألفاظ هذا التعريف وإخراج ما لا يدخل فيه وما يحترز منه، ولا شكَّ أنَّ هذا في حدِّ ذاته أمر مهم؛ إذ التصورات تسبق التصديقات كما قال العلماء، والحدُّ هو أول مبدأ من مبادئ أيّ علم من العلوم، كما قيل:

إنَّ مبادي كُلِّ علمٍ عشرة     الـحَدُّ، والموضوعُ، ثُمَّ الثمرة

وفي التفسير المقارن نجد الباحثة قد اهتمت بالتعريف واجتهدت في وضع حدٍّ لهذا اللّون من ألوان التفسير، لتصل إلى هذا التعريف: «بيان كلام الله تعالى بالرَّاجح من الأقوال التفسيرية المُختلفة اختلافًا حقيقيًّا مُعتبرًا بعد الموازنة بينها في ضوء منهجية علمية منضبطة».

ولقائل أنْ يقول: كيف نَعُدُّ هذا من مزايا الكتاب وهو موضوعه وأبزر قضاياه، فأقول: صحيح، ولكنَّ الجهد المبذول فيه من تمحيص للتعريفات السابقة وتدقيق في العبارات المختارة يستحقّ الإشادة، والله أعلم. وكافيك في هذا أنَّ مَن يأتي مِن بعدُ سيجد مَن سبقه بوضع تعريفٍ علميٍّ في بحثٍ متخصّص للتفسير المقارن.

- رابعًا: إيراد الأمثلة على ما تذكره الباحثة من نقاط، فالقارئ لأسباب اختلاف المفسِّرين، أو لمعايير القبول والردّ للأقوال التفسيرية، أو غيرها من مباحث هذه الرسالة، سيجد أمثلةً من كتبِ التفسير تُوضح المراد وتبيّن المقصود، وكما قيل: بالمثال يتضح المقال.

- خامسًا: القَرْنُ بين الجانب النظري والجانب التطبيقي، وإن كان الجانب التطبيقي ليس بالحجم المطلوب كما سيأتي في الفقرة التالية، ولكن أن تُبْنَى الرسالة على جانبين: نظري، وآخر تطبيقي يأتي كنموذج عملي حقيقي للمنهج النظري المطروح فهو أمرٌ جيد ومفيد للقارئ.

- سادسًا: وفرة المراجع والمصادر التي رجعَت إليها الباحثة، فقد تجاوزَت المئتين من المراجع، ومع ذلك فلن تجد الكتابَ كُلَّه نقولًا مرسلةً، بل فيه من ذهن الباحثة وقلمها وظهور شخصيتها العلميَّة الشيء الكثير.

ولا شكَّ أن مزايا الكتاب كثيرةٌ يطول ذكرها، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم.

ثانيًا: ملحوظات ومآخذ على الكتاب:

وكما أنَّ لكلِّ عملٍ بشري مزايا وحسنات، فلا بُدَّ أن تقع فيه بعض المآخذ والهفوات التي نبا عنها القلم أو شطَّ بها الذهن، والكمال عزيز، والعصمة للأنبياء -عليهم السلام-.

 ومن خلال قراءتي لهذا الكتاب القيّم وجدتُ فيه بعض الملحوظات، وهي ملحوظات تعبِّر عن رأي كاتبها ولا تنقص من قدر الرسالة، ومنها:

- أولًا: اكتفاء الباحثة بنموذجين فقط في الجانب التطبيقي، بل وهذان النموذجان ليسَا من المواضع التي اختلفت فيها أقوال المفسِّرين اختلافًا شديدًا ظاهرًا قويًّا حتى يظهر مجال التفسير المقارن فيها بوضوح، وإذا كنَّا قد ذكرنا أنَّ اقتران الجانب النظري بالجانب التطبيقي من مزايا الكتاب كما يشير إليه عنوانه: (التفسير المقارن بين النظرية والتطبيق) إلَّا أنَّا لا نجد سوى نموذجين لا يتحقّق بالاكتفاء عليهما وجودُ الجانب التطبيقي المكافئ للجانب النظري.

 وذلكم النموذجان هما:

الأول: اختلاف المفسِّرين في (العالَمين) من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2].

والثاني: اختلافهم في المراد بـ(المغضوب عليهم، والضالّين) من قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة: 7].

وقد أطالت الباحثة الكلام فيهما لتُطَبِّق ما قرَّرته في الجانب النظري، مع أنَّ مقام المقارنة بين أقوال المفسِّرين في هاتين الآيتين لا يحتمل كُلَّ هذا، بل لو أنَّها اكتفت بما قرَّره شيخ المفسِّرين الإمام ابن جرير -رحمه الله-: «فغير جائز أن يخصَّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها»[10]، «الصوابُ أنْ يُحْكَمَ لظاهِرِ التَّنْزِيلِ بالعُمُومِ على ما عَمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه»[11]. وأمثال هذه العبارات التي يذكرها بعد حكاية الأقوال وتنتهي المسألة، فالخلاف في هذين النموذجين ليس بالخلاف القوي الذي يظهر فيه أثر تطبيق المنهج المذكور، والله أعلم.

ولعلَّ عذر الباحثة في هذا أنَّها منخرطة ضمن مشروع علمي متكامل، وُزِّعَتْ فيه أجزاء القرآن الكريم بين عدد من الباحثين، فاقتراحنا لها وقد نُشرت الرسالة وصارت مرجعًا ومقرّرًا يُدَرَّس أن تشترك مع أحد الباحثين، أو أن تتخير نماذج من كتاب الله تعالى اختلفت فيها أقوال المُفسِّرين اختلافًا يَظْهَر في المقارنة معه منهجُ التفسير المقارن ظهورًا جليًّا واضحًا، ولعلَّ هذا يكون -إن شاء الله تعالى- في طبعات لاحقة[12].

- ثانيًا: الإكثار من الرجوع والاستشهاد بكلام المتأخِّرين مع وجود ما هو أدلُّ على المعنى وأدخل في الموضوع؛ من كلام العلماء المتقدمين والأئمة السابقين من أساطين العلم الكبار الذين يُقتدى بهم ويُهتدى بمنهجهم، وأخُصُّ هنا أيضًا ما لا يخفى مِن تأثر الباحثة -حفظها الله- بشيخها فضيلة الشيخ أ.د/ فضل حسن عباس -رحمه الله تعالى- (وأُحبُّ هنا بين قوسين أن أسجِّل إعجابي بوفاء الطالبة لشيخها والمشرف على رسالتها حيث ذكرته غير مرّة مُتَرَحِّمَةً عليه دَاعيةً له مُثْنِيةً عليه، وهو أهلٌ لذلك، وما أجمل أن تختاره ليكون مَن تسطر اسمه في لوحة الإهداء).

ولكن هذا لا ينبغي أن يتعارض مع المنهج العلمي الأصيل الذي يحفظ لعلماء الأمة تراثهم ومقدراتهم ولا يلغي جهود مَن تأخَّر من العلماء، وقد وجدتُ أنَّ الباحثة تنقل كلامه وترجيحاته -رحمه الله- في مواطن قد يكون من الأَوْلى أن تذكر فيها تقريرات لعلماء سابقين. فمن ذلك على سبيل المثال عند كلامها في احتمال الإحكام والنَّسْخ[13] حيث قالت ما نَصُّه : «وقال الأستاذ الدكتور/ فضل حسن عباس بعد أن عرَّف النَّسْخ: نُدرك أنه إذا أمكن الجمع بين نصَّين ظاهرهما التعارض، فلا بُدَّ أن يُصار إليه، ولا يُعَدُّ ذلك من قبيل النَّسْخ»، ثم أردفت الباحثة : «وكثيرًا ما وردت هذه القاعدة في ثنايا كتب العلماء، سواء في ذلك المنكرون للنَّسْخ أم المثبتون، مما يدلّ على أنها محلّ اتفاق بينهم جميعًا»، ونجد أنها نقلت في الحاشية قول أبي جعفر النحَّاس (ت: 338هـ): «فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنَّسْخ». فلماذا قُدِّم قول الشيخ فضل عباس على قول أبي جعفر النحاس؟! بل لِمَ يُذكر قول أ.د/ فضل عباس ويُترك قول الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري (ت: 310هـ) -رحمه الله-: «وغير جائز أن يُحْكَم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ إلَّا بحجة يجب التسليم لها»[14]؟! فهذا كلامٌ لإمام من أئمة الفن الكبار يفي بما يراد تقريره في هذه المسألة على سبيل المثال، وهو متقدّمٌ، تُوفي عام 310هـ رحمه الله تعالى.

وأرجو ألَّا يُفهم من كلامي انتقاصٌ لأيِّ أحدٍ من العلماء المتأخِّرين، ولكنَّ الرجوع إلى كلام المتقدمين أَوْلَى وأعلى. والمتأخِّرون قد أخذوا ممن تقدمهم واستفادوا ممن سبقهم، فالأَوْلَى أن نرجع كما رجعوا وننسب القول لأوَّلِ مَن قال به أو أقدَمِ مَن قرّره وذكَره.

ولا يعني هذا عدم استفادتنا من جهود العلماء المعاصرين، والأمر واضح إن شاء الله تعالى.

- ثالثًا: أنَّ الباحثة -جزاها الله خيرًا- قرّرت وبَنَتْ كثيرًا من أسباب اختلاف المفسِّرين، واستبعدَتْ أسبابًا أخرى؛ بناءً على ما استقر لديها في بعض المسائل الخلافية التي يسوغ فيها الخلاف وتتعدّد فيها الآراء، وقد ذهب إلى كُلِّ قول منها أئمةٌ كبار وعلماء أفذاذ، من ذلك على سبيل المثال:

1. الاختلاف في معاني الحروف. فقد استبعدتْ هذا السبب ولم تعتدّ به بناء على رأي استقر لديها يتعلَّق بمعاني الحروف[15].

2. كلامها في الروايات الإسرائيلية. حيث بنَت الكلام على رأي نقلَتْه عن فضيلة الدكتور/ صلاح بن عبد الفتاح الخالدي -رحمه الله برحمته الواسعة-، اختار فيه أضعف الأقوال في تفسير الحديث المتعلّق بالروايات الإسرائيلية كما نصَّ على ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- وغيره من العلماء.

3. الكلام على القراءة الشاذّة المروية بإسناد صحيح. فالمسألة ليستْ محسومة بهذا الشَّكْل.

وقد كنتُ أتمنّى من الباحثة لو أنَّها قالت: فهذا قد يُعَدُّ من أسباب الاختلاف عند مَنْ يقول به. أو: هذا معيار للقبول والردّ عند من يعتبره.

لأنَّها هنا في دراسة تأصيلية للتفسير المقارن فلا بدَّ أن تحوي دراستُها كُلَّ المذاهب والأقوال التي لها من ينصرها ويقول بها من أهل العلم بالتفسير، والله أعلم.

خاتمة:

 لا شكَّ أنَّ كتاب (التفسير المقارن بين النَّظرية والتطبيق) يُعَدُّ إسهامًا مهمًّا في ميدان التفسير المقارن، بل في الدراسات التأصيلية النظرية في ساحة الدراسات القرآنية، ما حداني أن أتناوله في هذه المقالة بالعرض والتقويم، وقد بذلَت مؤلِّفة الكتاب جهدًا طيبًا في هذا الكتاب، وما أوردناه على جهدها من ملحوظات هي وجهة نظر العبد الفقير وقد تكون ناشئة عن ضعف فهمي وقلّة نظري، ولكن العلم ميدان يخوض فيه المتعلِّمون بآرائهم وأفكارهم.

هذا، ولا يفوتني أن أشكر فضيلة الباحثة مؤلِّفة الكتاب د/ روضة عبد الكريم فرعون، فقد تواصلتُ معها وزوَّدتني ببعض المعلومات ووجدتُ منها تعاونًا كبيرًا مع ما استفدتُهُ من مطالعتي لعملها القَيِّم.

 وصلى اللهُ وسلَّم على نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار ما تعاقب الليل والنهار.

 

[1] انظر: ص14.

[2] د. روضة بنت عبد الكريم فرعون أستاذ مساعد في قسم التفسير وعلوم القرآن بالجامعة القاسمية بدولة الإمارات العربية المتحدة (سابقًا)، حصلت على الماجستير عن رسالتها التي بعنوان: إعجاز النَّظْم القرآني في آيات التشريع النظرية والتطبيق. ثم على الدكتوراه عن هذا البحث الذي نتكلّم عنه، كما لها عددٌ من البحوث المنشورة، منها:
- التفسير بالمأثور عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية. وهو بحثٌ محكّم منشور في مجلة العلوم الإسلامية الدولية، جامعة المدينة العالمية. العدد 1 مايو 2017م.
- الوحدة الموضوعية في سورة الأنفال. وهو بحث محكّم قُدِّم إلى المؤتمر العلمي الدولي الأول، كلية الرباط الجامعية عام 2015م.
- كتاب شخصية ذي القرنين؛ دراسة تحليلية نقدية لأبرز ما قيل في تعيينها، وهو كتاب مطبوع عن دار المقتبس في لبنان.

[3] هو أ.د. فضل حسن عباس، وُلِد بفلسطين عام 1932م، حفظ القرآن وتلقّى تعليمه بالمدرسة الأحمدية بجامع الجزار، ثم انتقل إلى الأزهر ودرس في كلية أصول الدين حتى حصل على الدكتوراه منها سنة 1972م، له عدد من المؤلّفات؛ منها: إتقان البرهان في علوم القرآن، واتجاهات التفسير في العصر الحديث. تُوفي في 6/ 3/ 1432هـ الموافق 2011م عن عمر يناهز 79 عامًا -رحمه الله تعالى-. انظر: مقدمة كتاب إتقان البرهان.

[4] هو أ.د. شحادة احميدي البخيت العمري، وُلِد في الأردن عام 1952م، يعمل أستاذًا في قسم أصول الدين بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة اليرموك بالأردن، له عدد من الأبحاث والمؤلفات؛ منها: أساليب الوعظ والتدريس، والإعجاز الغيبي في القرآن الكريم والحديث النبوي. انظر: موقعه على الشبكة faculty.yu.edu.jo/Shhadeha/SitePages/Home.aspx.

[5] انظر: ص8.

[6] انظر: ص9.

[7] مقرّر على طلبة الدكتوراه في قسم التفسير في جامعة الشارقة، والجامعة الأردنية، وجامعة العلوم الإسلامية في الأردن، والجامعة العراقية، كما استفدتُ من فضيلة الباحثة، وهو من المراجع المهمّة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

[8] أستاذ التفسير المشارك في الجامعة الأردنية، ورئيس قسم أصول الدين الأسبق في كلية الشريعة.

[9] انظر: ص14.

[10]جامع البيان للطبري (9/ 454).

[11] جامع البيان للطبري (10/ 399).

[12] يبدو أنَّ الباحثة قد لاحظت ذلك فعلًا فقد ذكرت في الحاشية من صفحة (9) ما نصُّه: «اكتفيت بنموذجين في القسم التطبيقي؛ حتى لا أتجاوز الزمن المحدّد وعدد الصفحات المعهود في الرسائل الجامعية، غير أنني أصبو إلى أن أصدر طبعة أخرى من الكتاب بإذن الله، أتناول فيها عددًا أكبر وأكثر تنوعًا من الأمثلة والنماذج».

[13] انظر: ص117.

[14] جامع البيان للإمام الطبري (13/ 382).

[15] انظر: ص214.

الكاتب

عبد الوهاب عبد الله الوقيصي

حاصل على ماجستير التفسير وعلوم القرآن من كلية ‏القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية.‏

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))