كتاب (نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية) للدكتور/ أحمد محمد حسين الدغشي
عرض وتقويم

الكاتب : مصطفى فاتيحي
اجتهد كتاب (نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية) في الكشف عن طبيعة المعرفة ومصادرها وطرائقها وإمكان الحصول عليها في القرآن الكريم، وما تتضمنه من جوانب تربوية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بالكتاب، وتستعرض محتوياته، مع تسجيل بعض الملاحظات حوله.

بسم الله الرحمن الرحيم، والصّلاة والسلام على النبيّ الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

  إذا كان العلماءُ المسلمون في مجال الدراسات القرآنية قديمًا شُغِلوا بنَظْمه وبنائيته ووجه تفرّده وتميّزه عن النثر والشِّعْر كصنيع الجاحظ والرّماني والباقلاني والجرجاني ومَن سار على دربهم؛ فإنّ المعاصرين شَغَلَتْهم جوانب القرآن الكريم المعرفية والمنهجية، استجابةً-من جهة- للإشكالات والتحديات المعاصرة، ومن جهة أخرى، إدراكًا منهم لأهمية تأطير القرآن لتفاعل المسلم مع النُّظُم الوافدة (المناهج والأفكار والثقافات)، وضرورة الانطلاق من كلياته وثوابته وأنساقه المهيمنة. وهو نوع من أنواع المعالجة الموضوعية لقضايا القرآن الكريم.

ذلك أنّ القرآن الكريم لا يتضمّن التفاصيل العِلْمية شأن المراجع والموسوعات في المعارف المختلفة، ولكنه يهتم بالأنساق المؤطّرة والنماذج المعرفية الموجهة، والتي يؤدِّي عدم الوعي بها إلى الاستهلاك المعرفي المفضِي إلى الاستلاب دون وعي من المستلب.

في هذا الإطار تظهر القيمة العلمية لكتاب نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية، باعتباره جهدًا معرفيًّا مقدرًا يهدف إلى اقتحام موضوع مهم، جديد ومجدّد، يتقدّم بالدَّرْس القرآني إلى الأمام لينخرط في مناقشة القضايا التي تصوغ الفكر وتوجه النظر، لا سيّما إذا استحضرنا بريق المناهج المعاصرة وما تُحْدِثه من تأثيرٍ عظيمٍ وانبهارٍ كبيرٍ. مما يفرض على الباحثين استفراغ الوسْع وبذل الجهد من أجل عرض تصوّر القرآن بعيدًا عن التعسّف والإسقاط أو الرّفض العدمي المطلق. وسيأتي كلامنا على الكتاب مقسومًا لقسمين؛ أحدهما لعرضه وبيان محتوياته، والآخر لتقويمه.

أولًا: كتاب (نظرية المعرفة في القرآن الكريم)؛ عرض وبيان:

- الكتاب: نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية، صادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ودار الفكر، ط2/ 2004م. يقع الكتاب في 476 صفحة من الحجم الكبير. والكتاب أصله رسالة دكتوراه، جامعة الخرطوم السودان، وهو من تأليف الدكتور/ أحمد محمد حسين الدغشي[1].

- هدف الكتاب:

يهدف الكتاب إلى الكشف عن الموضوعات الآتية:

1- نظرية المعرفة -بصورة عامة- من حيث تطوّرها، والتعريف بمفرداتها المتعلّقة بموضوع الدراسة.

2- طبيعة المعرفة في القرآن الكريم، وما تتضمنّه من جوانب تربوية.

3- مصادر المعرفة وطرائقها في القرآن الكريم، وما تتضمّنه من جوانب تربوية.

4- إمكان الحصول على المعرفة في القرآن الكريم، وما يتضمنه من جوانب تربوية.

- منهج الكتاب:

المنهج الأصولي القائم على الوصف والاستنباط، وهو ذلك المنهج الذي نهجه علماء الإسلام في صياغة أفكارهم وثقافتهم وتصرّفاتهم وفق الأصول الشرعية الكلية، حتى تأخذ الصفة الدينية التي تستمدّ شرعيتها من عقيدة التوحيد. أو هو: تلك الدراسات التي تتجه إلى استنباط واستخراج المبادئ والأُسس النظرية للتربية الإسلامية وإطارها الفكري، وما يتّصل به من أهداف وقيم تربوية وتعليمية، من خلال دراسة القرآن الكريم والسُّنَّة المطهّرة باعتبارهما المنبعَيْن الرئيسَيْن، وما دار في فَلَكهما من اجتهادات العلماء.

- محتويات الكتاب:

انتظمتْ قضايا الكتاب في مقدّمة وأربعة أبواب وخاتمة.

تناول في المقدمة أهميّة الموضوع، وأسباب اختياره، والمنهج المتّبع، والدراسات السابقة.

أمّا في الباب الأول: فقد كان عبارة عن مدخل لنظرية المعرفة، بحيث تناول مجموعة من المفاهيم المركزية؛ كالنظرية والإبستمولوجيا والعلم والمعرفة والتربية. مبرزًا علاقة تلك المفاهيم بالقرآن الكريم.

وفي الباب الثاني الموسوم بـ: طبيعة المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية، فقد تمحّض الجهد لبيان: أخلاق المعرفة ووحدتها، وميدان المعرفة -الغيب والشهادة-.

وفي الباب الثالث عالج مصادر المعرفة وطرائقها في القرآن وتضميناتها التربوية، من خلال الحديث عن الحسّ والعقل والوحي باعتبارها مصادر أصلية للمعرفة، ثم المصادر التبعيّة كالحدس والإلهام والرؤية الصادقة.

أمّا الباب الرابع والأخير فقد تطرّق فيه إلى إمكان حصول المعرفة أو حدودها في القرآن وتضميناتها التربوية. وتفصيل ذلك عبر تناول: المعرفة بين الشكّ واليقين ثم إمكان الحصول على الحقيقة المعرفية.

وأنهى البحث بخاتمة عبارة عن وصف لعنصر البحث ومكوّناته.

- إشكالات الكتاب:

طرح المؤلِّف إشكالًا كبيرًا انبثقت عنه إشكالات فرعية، تناولها بالتحليل والتفكيك عبر الأبواب الأربعة:

فالمؤلِّف يرى أنّ قضية المعرفة إحدى أهم المشكلات المعاصرة، من حيث رؤيتها الفلسفية، لطبيعة المعرفة، ومصادرها وطرائقها، وإمكان الحصول عليها، بما يمكن أن تشكِّل مجتمعةً ما يُعْرَف بـ(نظرية المعرفة). وقد حفل القرآن الكريم بتناول هذه العناصر التي تعتمد عليها النظرية، بما يؤكِّد شموليته واستيعابه وخلوده. وبالنسبة إلى مجال التربية، فإنّ الأمر أعقد نتيجة التعدّد المتناقض لنظريات التربية في العالم[2].

فصراع الأيديولوجيات في ميدان التربية يطرح تحديًا كبيرًا على الباحث المسلم من أجلِ إبراز نظريته التربوية الإسلامية في شتى الجوانب، ومن ضمنها جانب المعرفة، لما لها من أهمية نابعة من كونها المجسّد لموقفه الحضاري في أصول التربية وما يستتبعها من آثار على الواقع التربوي، ذلك أنّ علاقة نظرية التربية بنظرية المعرفة هي علاقة العام بالخاصّ، أو الكلّ بالجزء[3].

- في الباب الأول: تكلّم عن نظرية المعرفة واستشكل تطوّرها، مفندًا الزعم بجدة البحث فيها من خلال ذكر سبق العلماء المسلمين إلى الاهتمام بالموضوع بشكلٍ عميقٍ، ولكن إن اتفقوا مع العلماء الغربيين في الاهتمام بالموضوع إلا أنّ تصوّرهم للمعرفة يختلف بشكلٍ جذري.

وهو في كلّ ذلك يؤسّس للإجابة عن سؤال: هل حقًّا يتّسق تصنيف المعرفة الغربي مع المفهوم الإسلامي للتربية؟ والجواب بالطبع: هناك اختلاف جوهري لاختلاف المرجعيات والمنطلقات؛ بين مرجعية وضعية، ومرجعية تستند إلى الوحي المنزل.

ويقترح للتعامل مع الجانب المعرفي في القرآن واستخراج مكنوناته ما ذكر طه جابر العلواني:

1- إدراك طبيعة لغة القرآن: على نحو يمتد بها من أفق الفهم البدوي الذي تعامل به الأعرابي زمن نزول القرآن إلى أفق المعرفة في زماننا، وفق قراءة سياق الآيات تجعل من القرآن ذاته أهم مصدر لفهمه.

2- وحدة القرآن البنائية: على معنى أنه جسم واحد، يُقرأ في سياقه الخاصّ، بوصفه وحدة موضوعية، تُقْرَأ قراءة كلية شاملة.

3- الجمع بين قراءة الوحي وقراءة الكون.

4- القراءة المفهوماتية: بمعنى أنّ لغة القرآن ذات بُعد مفهومي يصلح لكلّ زمان ومكان، ولا يشترط ثباته على مدلول واحد عبر العصور، وفي مختلف الأمصار[4].

اختار المؤلِّفُ لتعريف نظرية التربية الإسلامية مجموعةً من المبادئ والقواعد والمفاهيم التربوية المستمدة من القرآن الكريم والسنّة المطهرة، والتي هي بمثابة الأساس المتين، والذي يقوم عليه البناء التربوي الصالح.

واختار لتعريف نظرية المعرفة البحث في مبادئ المعرفة الإنسانية، وطبيعتها، ومصدرها وطرائقها، وقيمتها وحدودها، وفي الصِّلَة بين الذّات المدركة والموضوع المدرك، وبيان إلى أيّ مدى تكون فيه تصوّراتنا مطابقة لما يؤخذ فعلًا، مستقلًّا عن الذّهن[5].

وناقش الاعتراضات الواردة على مسمّى النظرية بسبب النسبية والخلفية الوضعية، وليصل إلى أنّ النظرية في المحصّلة اجتهادٌ واستنطاق للنصوص الظنّية.

ويرى أنّ الباحث إِذْ يسعى لصناعة هذه النظرية إنما ينطلق في آفاق النصوص الظنية الدلالة، والتي تشكّل معظم الوحي. ولوْ أن مدلولات النصوص القرآنية والنبوية حُملت على معنى واحد لا يتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد بدعوى أنها جميعًا نصوص مستقاة من الوحي، إذن لم يكن هناك معنى لخلود القرآن وإعجازه وكونه خطابًا عالميًّا مطلقًا، يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويصلح لكلّ الظروف، وينهل كلّ باحث منه كليات وأصولًا في تخصّصه؛ إِذْ يصبح والحال هكذا قد استنفد أغراضه في فهوم السابقين، الذين ربما أتوا على كلّ آية بيانًا وتفسيرًا وفق معطياتهم المعرفية المحكومة يومذاك بالظروف الموضوعية، تلك التي تحكم حركة المعرفة بصورة عامة. ولكنّ أحدًا منهم لم يدّعِ أنّ القرآن قد توقّف عطاؤه في الفهم والاستنباط عنده، أو في زمن معاصريه.

ومن هنا فإنّ النسبية والظنّ وكلّ ما يجري على الباحث من عوارض إنسانية إنما تلحق صاحب النظرية لا الوحي ذاته؛ إذ الوحي مقدّس مصون ومطلق خالد[6].

- وفي الباب الثاني: استشكل العلاقة بين الأخلاق والمعرفة، وتناول مسألة ميدان المعرفة (الغيب والشهادة).

فإذا كانت النُّظُم المعرفية المعاصرة بزعم الموضوعية قد استبعدت القيم والأخلاق كضوابط ومعايير للعِلْم والمعرفة، فإنّ القرآن الكريم يجعل من الأخلاق منطلقًا لتتحقّق الغاية من طلب العلم بالأساس ولتُوجِّه النتائج المرجوّة حتى تكون في خدمة الإنسان، وقد حذّر القرآن الكريم من الاستعلاء المعرفي الذي أفضى إلى شرور ونتائج كارثية؛ منها احتكار المعرفة من قِبَل الدول الغربية الكبرى، ومنها توجيه مسار المعرفة لصالح تلك الدول الاستعمارية[7].

ودعا إلى وجوب التزام الموضوعية في التعامل مع الآخر وتجنّب التحامل والأحكام المسبقة، ونهى عن المعرفة الظنّية وعن الخرص والتوسّم. وفي نهي القرآن عن الظنّ المرجوح تربيةٌ للمتعلّم على السعي نحو استخلاص النتائج العِلْمِيّة بدقّة، وعدم الركون إلى الظنّ المجرّد، أو التخمين القائم على غير ما بحثٍ جادّ مثابر، يستقصي الموضوع المبحوث من جوانبه المختلفة كيفما يخلص إلى النتائج اليقينية[8].

كما حذّر من تزييف المعرفة وقلب الحقائق؛ لأنه عندما يقدِّم المنهج المعرفة على حقيقتها نقيّة مجرّدة، فستأتي المخرجات التعليمية والتربوية سليمة معافاة من الأمراض الاجتماعية المتفشية كالغشّ والخداع والنفاق. ويركّز القرآن على وجوب اقتران العلم بالعمل فليس العلم مجرّد تنظيرات وأمان وإنما ممارسة عملية. كما أنه لا بد من التواضع في البحث والتزام المنهج العلمي لتستقيم النتائج.

ثم تناول المؤلِّف العلاقة الجدلية بين الغيب والشهادة، مبينًا تكاملهما؛ فمهمّة الوحي في عالم الشهادة تتمثّل في إمداد الإنسان بالعلم المتّصل بعالم الغيب ليربط بينه وبين الإنسان في عالم الشهادة، فينشأ تكامل الوحي مع العقل والكون، ويتمكّن الإنسان من تحقيق غاية وجوده في عالم الشهادة. ولن يستردّ العقل المسلم عافيته إلا أن يستعيد رؤيته الإسلامية الكاملة المبنية على التوحيد والوحدانية، ليتوحّد عالم الغيب مع عالم الشهادة، والوحي مع العقل والكون[9].

ويبرز التكامل بين عالمي الغيب والشهادة في مظهرين:

الأول: وجود أدلة عالم الغيب في عالم الشهادة.

الثاني: بروز المخلوقات من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ثم تنتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب بانتظام واطراد. ومن الأمثلة على ذلك ظواهر الولادة والموت في عالم الإنسان[10].

وفي نفس السياق يبين تهافت موقف الذين يفصلون بين الميدانين بدعوى حاجة الظواهر الإنسانية والعلمية إلى التفسير المنطقي المادي.

من ذلك القول: إنّ تدريس الناشئة العلم والإيمان معًا، فإن ذلك سيشطر المتعلم نصفين، وسيتيح (لرجال الدِّين) استغلال ذلك الوضع للاكتفاء بالانبهار بظواهر الطبيعة، ولا تتعدّى ذلك إلى دراسة الْعِلَل والسّنن الضابطة لها .. والسؤال المفترض هنا: أَوَفِي كتاب الله تعالى -القرآن الكريم- الموجّه لعلماء الطبيعة بمختلف تخصّصاتهم -دون ذِكْر لعلماء الدين هنا- ما يوهن عقول الناشئة، ويمزق فكرهم حقًّا؟ ولنتأمل قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر: 27، 28].

ولنا أن نتساءل: هل في الدعوة إلى عظمة الله تعالى وبديع صُنعه من خلال آياته المبثوثة في الكون ما يتعارض ودراسة السّنن والعِلَل وتنمية الاتجاه العلمي وليس المادي الملحد؟[11]

في الإطار الإسلامي الأشمل المبني على حقيقة التوحيد والوحدانية يتكامل عالم الغيب وعالم الشهادة، والوحي والعقل والكون، والإيمان والعمل، والتوكّل والسعي، وتتكامل عقيدة القضاء والقدر، والثقة بالكليات الربّانية والأوامر الإلهية مع جدية السعي لفهم السنن، والعلم بالفطرة والأسباب، وطلبها والحرص عليها. وبذلك تتحقّق منظومة التربية الإسلامية المتكاملة. وتمثّل هذه المبادئ جميعها مرتكزات مهمّة لفلسفة التربية الإسلامية في طبيعة النظرة إلى الإنسان والكون والحياة[12].

وإذا كانت هذه المبادئ قد جسّدتْ نمط العلاقة بين الإنسان وهو من عالم الشهادة مع الغيب ومعطياته الإنسانية على نحو يجعل من هدف هذه العلاقة تحقيق معاني التسخير والاستخلاف، فإنّ ذلك يرجع إلى أصل الإنسان الذي ينتمي بجسده إلى عالم الشهادة، غير أنه ينتمي بروحه ونفسه إلى عالم الغيب.

ومن أهم الوسائل المحقّقة لتكامل العالمين في القرآن الكريم موضوع السننية، أي تعقل القوانين الاجتماعية في النفس والمجتمع وضرورة الأخذ بالأسباب، حتى وإن كانت المعطيات القائمة خارجة عن نطاق الأسباب الظاهرة، أو هي من جنس الكرامات، فيجب أن يبذل الجهد الإنساني أسبابه، كما في قصة مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}[مريم: 25][13].

- في الباب الثالث: ناقش أيضًا إشكالًا مهمًّا ضمن عناصر نظرية المعرفة والمتعلّق بمصادر المعرفة سواء الاختلاف بين الدارسين في التمييز بين الطرائق والمصادر أو تحديد المصادر، وقد أطال النَّفَس في استعراض المواقف المهمّة في الموضوع مرجحًا أن المصادر ثلاثة: الوحي والحسّ والعقل، كمصادر أصلية، والحدس أو الإلهام والرؤية الصادقة كمصادر تبعية. بالإضافة إلى أنّ هذه المصادر تعمل مجتمعة متضايفة يعضد بعضها بعضًا ويسنده.

فإنّ العقل لا يعمل إلا حينما تجتمع لديه صور من المدركات الحسّية الظاهرة والباطنة، وأخبار الآخرين المتحدّثة عن المعارف، وحينما يتخيّل صورًا تركيبية جديدة يبتكرها، إلى جانب الأصول الفطرية الثابتة، فتتألّف موازين العقل وقوانينه الذّاتية ليقوم بوظائفه الفكرية؛ كالاستقراء، أو الاستنباط وقياس الأشباه على بعضها، أو المتضادات لمعرفة النقيض والعكس. وكذا إعمال التحليل والتركيب والجمع والتفريق فيما لديه من مدركات، والربط بين المعلومات وعللها العقلية[14].

 ومما وقف عنده المؤلِّف كثافة حضور الحديث عن الحواسّ في القرآن الكريم في سياق بيان وظائفها وأهميتها والتحفيز على إعمالها والنعي على إهمالها وتعطيلها وربط مسؤولية الإنسان بها. بل إنّ إيرادها في القرآن الكريم ينطوي على إشارات ولطائف علمية، مثل ذِكْر السمع قبل البصر عندما يجتمعان. أو تأثّر الحواس بالقيم والدوافع والقناعات؛ فعاليةً وضعفًا[15].

 وفيما يتعلّق بالمصادر الثانوية الحدس والإلهام والرؤيا الصادقة فقد خلص بعد الإجابة عن مجموعة من الأسئلة إلى القول: والأخذ بنتيجة هذا الفهم (أي تأطير المصادر الثانوية بالمصادر الأصلية) يعزّز في نفسية المتعلّم اتجاه التربية الوقائية المحصنة لتفكيره من التأثّر بالتفكير الخرافي. هذا التفكير الذي يمثّل مشكلة حقيقية، ما تزال تفعل فعلها في العقل المسلم المعاصر، حين يهرب من مواجهة مشكلاته المستمرة المتراكمة إلى أوهام الرؤيا ورؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجه الخصوص، بحجج ودعاوى كثيرة. كما أنّ في الأخذ بنتيجة هذا الفهم ما يغلق الباب تمامًا أمام دعاة الدَّجَل والتضليل، وحين لا يلقون استجابة من الأفراد والجماعات، فإن ذلك يعني فيما يعني فاعلية التربية الإسلامية وقدرتها على تحقيق أهدافها الوقائية في تحصين الفرد والمجتمع من الأمراض الاجتماعية الفتاكة كالدَّجَل والخرافة والتجهيل[16].

- وفي الباب الرابع: استشكل مكونًا أساسيًّا من مكونات نظرية المعرفة وهو إمكان المعرفة والمعرفة بين الشكّ واليقين.

وهنا يطرح تساؤلات جوهرية:

هل بمقدور الإنسان أن يحصل على المعرفة؟ وإذا حصل عليها فما حدودها؟ وبمعنى آخر أكثر تحديدًا: هل هي معرفة لا تعدو الظنّ؟ أم أنها يمكن أن تكون معرفة يقينية تشكّل حقيقة من الحقائق الموضوعية؟

ويرى أنّ البحث في إمكان حصول المعرفة يأخذ منحيين؛ أحدهما: البحث في الإمكان من جانب إشكال الشكّ واليقين والموقف منهما في القرآن الكريم. والجانب الآخر: من جانب البحث في الحقيقة وإمكان الحصول عليها[17].

والقرآن الكريم لا يرى بأسًا بالمسلك الذي اصطلح عليه بالشكّ المنهجي الذي يُفضي بصاحبه إلى اليقين، فهو بهذا المعنى وسيلةٌ الهدف منها الوصول إلى المعرفة الصادقة، لكن بالمقابل القرآن يستبعد الشكّ المطلق بغير وجهة ولا هدف الذي يُفضي بصاحبه إلى الحيرة والتّيه.

وإن العقل المسلم في تعامله مع النصّ بغية بلوغ الحقيقة ليستحضر المعطيات القطعية من نصوص الوحي، وهي محدودة متناهية. والحقيقة هنا يمكن الجزم بها، ولكن منطقة الظنيات في نصوص الوحي هي الأكثر حضورًا، وفيها يبدأ عمل الحسّ والعقل بالتفاعل مع نصوصها، وقد يصيب الحقيقة كما قد يخطئها[18].

ثانيًا: نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية؛ نقد وتقويم:

أ- مزايا الكتاب:

أولًا: نبّه المؤلِّف على مسألة أساسية وبذَل جهدًا كبيرًا في الإقناع بها ألَا وهي ضرورة الانطلاق من نظرية المعرفة في القرآن الكريم لصياغة نظرية تربوية إسلامية، ليس فقط بالعناوين والأسماء، وإنما بالمضمون والروح، وهو أمر مهم بالنظر إلى أنّ كثيرًا من المسلمين يتعاملون مع القرآن تعاملًا تعبديًّا بالمفهوم الضيق للتعبد، فهم مؤمنون يقينًا بأنه وحي من الله وله قدسية في نفوسهم ويقرؤونه آناء الليل وأطراف النهار، لكن عقولهم في المجال المعرفي والمنهجي مصوغة بطريقة مخالفة لنسق القرآني على المستوى المعرفي، وهذا راجع إلى عوامل متعدّدة منها النُّظُم التعليمية المعاصرة المستوردة دون جهد كبير لتبيئتها. وعوامل أخرى ليس هذا مجال بسطها.

ولذلك فالكتاب جهد معرفي منهجي لاستنبات الوعي بأهمية النظام التربوي في تشكيل العقل المسلم وفق الرؤية القرآنية.

ثانيًا: دقّة الطريقة التي كان يستدرّ بها التضمينات التربوية، فبعد نقاش وتحليل مستفيضَيْن يصوغ التضمين التربوي الذي تنطوي عليه القضية المناقشة. ويجمع أثناء الصياغة بين ما يوصله إليه النقاش وبين استحضار الكسب التربوي المعاصر.

ثالثًا: غنى البحث بالمفاهيم المؤطّرة للموضوع والتي ساعدت المؤلِّف على تمثله وتفكيك إشكالاته وتحليل عناصره وتملكه واستيعابه للقضية المركزية، بحيث ظلّ مشدودًا إلى محور ما يعالجه وإن استطرد شارحًا أو مستدركًا أو مستنتجًا.

رابعًا: اندراج الكتاب ضمن المؤلَّفات الرامية إلى الانتصار للقرآن الكريم عبر تجديد الدّرْس القرآني بتناول موضوعات تتسم بالراهنية عوض الاكتفاء بنفس القضايا المطروقة سابقًا. وبهذا يكون المؤلِّف حقّق قدرًا كبيرًا من التكامل بين علوم القرآن وعلوم التربية ومناهجها؛ إِذْ في الغالب ما يتم الحديث عن العلاقة بين علوم التربية والفقه وأصول الفقه والمقاصد.

خامسًا: اقتدر المؤلِّف إلى حدّ كبير على تلافي الإسقاط في التعامل مع الموضوع، وتجلّى ذلك في الانطلاق من الآيات القرآنية لاستنتاج الأفكار وتثوير المعاني وتحديد المفاهيم.

سادسًا: جرت العادة في مثل هذه الموضوعات أن ينحو المؤلِّفُون منحى التعقيد وبلاغة الحذف واستعمال المفاهيم المجرّدة وتجنب إعطاء الأمثلة، أمّا المؤلِّف فقد نأى عن هذا الأسلوب لينهج الوضوح والسلاسة في عرض الأفكار وتبسيطها.

سابعًا: نحا المؤلِّف منحى الوسطية والاعتدال في تناول بعض المفاهيم دون إفراط أو تفريط، على سبيل المثال، لما تناول علاقة العقل بالوحي، فقد استطاع أن يخرج من الجدل القديم والحديث حول الأسبقية إلى بيان التكامل بينهما وحاجة كلّ منهما إلى الآخر؛ فلفهم الوحي نحتاج إلى العقل، والعقل محتاج إلى الوحي من أجل ترشيده وهداه.

ثامنًا: وظّف بمهارة مجموعة من المراجع والمصادر في الموضوع التي ساعدته على حُسْن عرضه وبسط أفكاره وعناصره. وتكاملت أبواب الكتاب فيما بينها بما جعل الموضوع وحدة متكاملة ومنسجمة.

تاسعًا: تصلح التضمينات التربوية التي استخلصها في كلّ عنصر -إذا جمعت- أن تكون موضوعًا متكاملًا حول منهج القرآن الكريم في التربية والتعليم.

ب- أبرز الملحوظات:

إلى جانب الإيجابيات الكثيرة للكتاب فهناك كذلك بعض الملحوظات التي لا تغضّ من قيمة هذا الكتاب وأهميته:

أولًا: تكمن أهمية الوقوف عند الدراسات السابقة في استثمارها والانطلاق من حيث انتهت تجنبًا للتكرار والاجترار، وتكون الإشارة إليها لبيان أوجه التكامل والتمايز وبيان ما تناولته ووجه النقص الذي يعتورها، في حين اكتفى المؤلِّف بعمل وصفي للدراسات السابقة والتعريف بها، وأشاد بها وأقرّ بالإفادة منها، دون تحليل لعمق الإشكالات التي تضمّنتها. ويبدو أن ذكرها كان بعد الانتهاء من البحث، وهو أمر إن صحّ لا يستقيم لأنها مرحلة متقدّمة بشكلٍ ملحّ.

لذلك نجده يقول معلقًا على الدراسات السابقة: «ويلاحظ أنّ الدراسة الأولى والثانية قد التقتا في نظرية المعرفة وفق المنهج المقارن، وإن كانت الأولى قد اقتصرت على القرآن الكريم، في حين شملت الأخرى القرآن والسنّة، مع أن النصّ القرآني ظلّ مهيمنًا على مجمل الدراسة. كما يلاحظ تغطية الدراسة الأولى لجميع عناصر النظرية في حين اقتصرت الأخرى على المصادر.

أمّا الدراسة الثالثة فقد انفردت عن الدراستين الأُوليين باقتصارها على جزئية واحدة من مصادر المعرفة وطرائقها، وهي القرآن الكريم في نظرته إلى العقل بما أثبت تكامل الوحي مع العقل في هذه المصدرية. ومن هذا المنطلق فقد مضيتُ في وضع مسلّمة هذه الدراسة، بحسبان الخلود والإطلاق للنصّ القرآني لا يتحقّقان إلا بموازاة الوحي للعقل ليستوعب الماضي والحاضر ويتجاوز بهما إلى المستقبل»[19].

ثانيًا: يعدُّ مفهوم الفطرة مفهومًا مركزيًّا في القرآن الكريم، وله تعلّق كبير بقضايا المعرفة (أي المعرفة بين الفطري والمكتسب)، إلا أنّ المؤلِّف لم يُشِر إلى ذلك، دون بيان وجه عدم التعرّض له، لا سيما إذا استحضرنا ضرورة الحديث عنه أثناء مناقشة المذاهب الوضعية أو المناهج التي لا تؤمن إلا بالحسن وتنفي أيّ معرفة قبلية.

ثالثًا: عندما تُثار الموضوعات ذات الطابع العلمي في القرآن الكريم تُثار معها مجموعة من الإشكالات التي كان حريًّا بالمؤلِّف أن يعرض لها في سياق تأطير الموضوع وبنائه بناء منطقيًّا، من ذلك علاقة القرآن الكريم بالعلوم الحقّة، صحيح أنه أشار إلى بعض من ذلك أثناء تحديد مفهوم النظرية، لكنه اكتفى بمناقشة الاعتراض على مسمى النظرية دون الذين يستبعدون وجود المعطيات في القرآن الكريم كالقرّاء الحداثيين.

رابعًا: بالرغم من اندراج موضوع الكتاب في الدراسات القرآنية كما أشارتْ إلى ذلك الجهة التي طبعته في توثيقه، إلا أن المؤلِّف لم يبيّن وجه الارتباط والتكامل.

خامسًا: بالرغم من أهمية التضمينات التربوية التي استنتجها إلا أنها بقيت مفصولة دون نسق يجمعها.

سادسًا: نظرًا لطول الكتاب وتشابك القضايا التي تناولها كان حريًّا بالمؤلِّف أن ينهي كلّ فصل بخلاصة تجمل ما توصل إليه.

سابعًا: كانت طبيعة الموضوع تقتضي أن يعرض المؤلِّف في الخاتمة أهم الخلاصات التي توصّل إليها واستنتجها، والجديد الذي وقف عنده، وآفاق البحث في الموضوع، لا أن يكتفي بحديث وصفي عمّا تناوله في الأبواب والفصول.

خاتمة:

نخلص من خلال هذا العرض والتقويم الذي قمنا به لكتاب (نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية) وتَأَمّل ما جاء فيه وما اكتنزه من أفكار، ومن خلال المنهج المتّبع وأسلوب المعالجة، إلى عَدِّه من المؤلِّفات المهمّة التي تتناول القرآن تناولًا نسقيًّا موضوعيًّا عبر جمع المتفرقات ونَظْمِها في كليات جامعة ومؤطّرة؛ ولذلك فالكتاب يُعَدُّ بحقّ إضافة نوعية إلى إنتاجات الدرس القرآني المعاصر التي تسهم في انفتاح الباحثين وحفزهم على ارتياد القضايا المعاصرة في المجال المعرفي من المدخل القرآني. وحَسْب هذه المقالة أن تلفت نظر الباحثين إلى ذلك.

 

 

[1] أستاذ أصول التربية وفلسفتها المشارك، كلية التربية جامعة صنعاء، من مواليد 27 جمادى الأولى 1386هـ = 12 سبتمبر 1966م، محافظة صنعاء- اليمن. حاصل على بكالوريوس تربية، كلية التربية، قسم الدراسات الإسلامية، 1410هـ- 1990م، جامعة صنعاء.
- عُيّن معيدًا في كلية التربية، حجّة جامعة صنعاء منذ العام 1411هـ- 1991م. حاصل على الماجستير في أصول التربية الإسلامية، جامعة اليرموك- الأردن، 1415هـ- 1995م، (عنوان الرسالة: الأساس الفطري في التربية الإسلامية). حاصل على دكتوراه الفلسفة في التربية، جامعة الخرطوم- السودان، 1419هـ- 1998م. رئيس قسم العلوم التربوية والنفسية، كلية التربية، أرحب- جامعة صنعاء، منذ العام 1423هـ- 2002م حتى العام 1426هـ- 2005م.

[2] نظرية المعرفة، ص23.

[3] نظرية المعرفة، ص24.

[4] نظرية المعرفة، ص61.

[5] نظرية المعرفة، ص69.

[6] نظرية المعرفة، ص81.

[7] نظرية المعرفة، ص108.

[8] نظرية المعرفة، ص109.

[9] نظرية المعرفة، ص139.

[10] نظرية المعرفة، ص140.

[11] نظرية المعرفة، ص150.

[12] نظرية المعرفة، ص153.

[13] نظرية المعرفة، ص177.

[14] نظرية المعرفة، ص267.

[15] نظرية المعرفة، ص232.

[16] نظرية المعرفة، ص372.

[17] نظرية المعرفة، ص378.

[18] نظرية المعرفة، ص414.

[19] نظرية المعرفة، ص35.

الكاتب

الدكتور مصطفى فاتيحي

حاصل على الدكتوراه من جامعة القاضي عياض بمراكش - المغرب، وأستاذ التعليم التأهيلي الثانوي.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))