التثبُّت والتبيُّن في القرآن الكريم

الكاتب : علي عدلاوي
اعتنى القرآنُ الكريمُ بقضية التثبُّت والتبيُّن، وحثَّ المؤمنين على مراعاة ذلك، وهذه المقالة تكشف طرفًا من هذه العناية في عدّة أبواب؛ العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق.

التثبُّت والتبيُّن في القرآن الكريم[1]

المقدمة:

  زوَّد اللهُ -عزّ وجلّ- الإنسانَ بوسائل وأجهزة للعلم والمعرفة، وجعله مسئولًا عنها في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهذه الوسائل على نوعين: نوع للاستقبال والتلقِّي؛ وهي السمع والبصر والفؤاد، ونوع للإرسال والنقل؛ وهي اللسان، وقد قال تعالى في محكَم التنزيل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء: 36].

وإن الأخبار التي نتلقاها بأسماعنا وننقلها بألسنتنا أمانة ومسؤولية، يجب التثبُّت والتبيُّن من صحتها أو كذبها حين التلقِّي أو النقل.

وإنّ القرآنَ الكريم والسُّنّةَ النبويّة كليهما يؤكّدان على تلك الحقيقة، ويشدّدان النكير على مخالفتها.

وعلماء النفس -اليوم- يؤكِّدون حقيقةً نفسيةً مفادها أن الإنسان بطبعه مولَع بجديد الأخبار وغرائبها، فيصدِّق لأول وهلة ما يتلقاه، ولا يتريث حتى يتأكد منها، بل ينقلها ويشيعها بين الناس على أساس أنها حقائق ومسلَّمات لا تقبل الجدل؛ وعليه فإنه من الواجب شرعًا وعقلًا أن نضبط ألسنتنا فلا نروِّج لأخبارٍ تناهت إلى مسامعنا مهما كانت حقيقية حتى نتأكد من صحّتها، وفي ذلك جاء التحذير الرباني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].

وقد قال الإمام النووي: «إذا استوت المصلحة في الكلام أو السكوت، فالسكوت أَوْلَى»، ورحم اللهُ أئمةَ الزهد في أُمّتنا الذين أعطونا دروسًا نظرية وعملية في وجوب حبس اللسان عن الكلام إلا للضرورة، وجزى اللهُ خيرًا رجالَ الحديثِ الشريف الذين سَنُّوا قانونًا فريدًا في التعامل مع الأخبار الواردة عن سيّد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-.

والحقّ أنه لا غرابة في ذلك؛ فمنهج القرآن الكريم قائم على تلك الحقيقة في شتى مجالات الدين والدنيا، ثابتٌ بالنصّ لمن لاحظه، إمّا صراحة أو كناية، إشارة أو إيماء، وهذا ما سنحاول التطرّق إليه في هذا المبحث المقتضب، وإن كان الأمر يتطلّب وَضْعَ مذكِّرةٍ كاملةٍ، أو يتطلّب مؤلَّفًا جامعًا لأهمية الموضوع.

أولًا: التثبُّت والتبيُّن في مجال العقائد:

الإسلام دين العقل والعلم، ولا يقبل مِن أتباعه الإيمان بالحقائق الكبرى التي جاء بها الإسلام بمجرد التلقي، دون نظر وتمحيص؛ ولذلك وجدنا القرآن الكريم قد أورد حشدًا هائلًا من النصوص الكريمة التي تفرض النظر وإعمال الفكر للوصول إلى اليقين والتسليم المطمئن.

ومن بين أهم النصوص في ذلك قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد 19]، ولم يقل: فقل لا إله إلا الله، ذلك أن القول باللسان يحسنه كلّ الناس (مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم)، أمّا العلم فيقتضي الاستدلال والتدبّر والتبيّن عن طريق النظر في ملكوت السماوات والأرض، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة: 164]، ومنه قوله -يوجب التفكُّر-: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}[يونس: 101].

ولما كان السير في الأرض والتنقيب عن الآثار المدفونة ورؤية الأطلال القائمة مما يؤكد ما جاء في الكتاب العزيز، فقد ندب تعالى إلى ذلك في عدّة آيات كريمة منها قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت: 20]، والسير المقصود هنا ليس غرضه مجرّد السياحة وتمتيع الأبصار بالمناظر الخلّابة المبثوثة في الأرض والمعلّقة في السماء، وإنما الغرض هو التبيّن ومطابقة ما جاء على لسان الرسولِ مِن هلاك الأمم البائدة وما تركوه من آثار شاهدة على صدق ما ورد في النصوص الكريمة، ومن غايات السير أيضًا الاعتبار بالآيات الكونية ورؤية عظمة وجلال الخالق المبدع، قال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[الغاشية: 17-20].

وفي هذا السياق جاء القرآنُ بأسلوب يهاجم فيه من يقلّدون الآباء والأجداد في موضوع الاعتقاد، ويؤكّد على وجوب النظر وإعمال الفكر، ويستحثّ النفوس لطلب الدليل والتبيّن من صدقية الرسالة والرسول. وها هو أبونا إبراهيم يحاور والده بأسلوب يفيض بالشفقة والأدب من جهة، ومن جهة أخرى يحثّه على التبيّن من معبوده الذي لا يملك ضرًّا ولا نفعًا: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[مريم: 42]، ثم يتبرأ منه ويهجره بعد أن تبين له كفره وإصراره على ما وَجد عليه الأولِين: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة: 114].

ويترك إبراهيمُ قومَه حين خرجوا من القرية، فيعمد إلى كبيرِ آلهتهم فيضع المعول في عنقه، بعد أن يحطّم الأوثان الصغيرة، يسفِّه بذلك أحلام قومه الذين ألغوا عقولهم وخالفوا منطقها الصحيح.

وما أحوج مسلمي اليوم الذين تعوّدوا على أداء الطقوس الدينية بمجرد وراثتها عمّن سبق من الآباء والأجداد إلى إعمال عقولهم والاستدلال بها على قضايا الإيمان؛ لأن هذا الاعتقاد الفاتر، وهذا الانهزام المقيت في شتى مجالات الحياة إنما يعكس ضبابية الإيمان وهوانه في نفوس أصحابه، ذلك بالرغم من توفّر النصوص التي عَزّ بها الأوائل وأقاموا بها حضارة ملأت الآفاق.

وليس هذا الكلام مما يطعن في إسلام الناس، وإنما هو من باب طلب اليقين والطمأنينة التي احتاجها إبراهيمُ نفسُه، حين رجا ربه بقوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة: 260]، فهو رغم يقينه إلا أنه أراد أن يتحقّق ويطمئن، وكذلك موسى حين طلب من مولاه أن يريه وجهه الكريم، في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}[الأعراف: 143].

وإن كان حال موسى يعكس الشوقَ إلى رؤية المحبوب إلّا أنه أيضًا يدلّ على حاجة فطرية في نفس الإنسان إلى التبين والمكاشفة ليزداد الإيمان والتحقيق، وها هو عُزير يتبيّن حقيقة القدرة الإلهية المطلقة من خلال عمليتي الإماتة والإحياء، في قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 259].

ولتأكيد أمور الغيبيات المستترة عنا ورَد في القرآن أن الله تعالى سيجعلها حقائق مكشوفة يوم القيامة، ليحصل اليقين لكلّ المخلوقات مؤمنهم وكافرهم، ومن ذلك قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ}[المدثر: 31].

ثانيًا: التثبّت والتبيّن في مجال العبادات:

يقوم الإسلام على التبيّن في العبادات، ففي مجال:

- الطهارة: ينبغي التبيّن من طهارة ماء الوضوء والغُسل؛ (لم يتغيّر طعمه ولونه وريحه)، وأمَر الشارع بالتبيّن من الحدَث نفسه؛ إن كان أكبر يوجب الغُسل (كالحيض والمنيّ)، أو أصغر يكفي منه الوضوء (كالمذي والودي)، وجعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة: 228].

- وفى مجال الصلاة: أمَرنا بالتبيّن من الوقت، فالصلاة باطلة قبل دخول الوقت إن أُدِّيَت ولا تكون أصلًا واجبة، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء: 78]، وقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء: 103]، وطبيعي أن معرفة الوقت تحتاج إلى التبين بترصُّد حركتي الشمس والقمر.

- وفى مجال الصوم: لا بد من التثبّت من هلال رمضان، فقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»[2].

ولذلك إنْ غُمَّ علينا ولم نتثبّت من دخول أول رمضان، أكملنا عدّة شعبان ثلاثين يومًا، وكذا يجوز الأكل والشرب والجماع طيلة ليل رمضان، وإذا تبيّن للمسلم الفجر يمسك عن ذلك كلّه؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة: 187].

- وفي مجال الزكاة: ينبغي التثبّت من أمور مهمّة، مثل: بلوغ النصاب، والسنّ، ودوران الحول، ومعرفة مَن يستحق الزكاة فعلًا، وغير ذلك مما اشترطه الفقهاء.

ثالثًا: التثبّت والتبيّن في مجال المعاملات والأخلاق:

للكلمة خطرها وأثرها على الفرد والمجتمع، فكَم من كلمة صنعت مجدًا أو دعت إلى الخير أو أصلحت بين طرفين متنازعين... وكم من كلمة أثارت عداوات وأشعلت حروبًا وورَّثَت ضغائن طال أمدها.

وفي هذا المعنى يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الحجرات: 11]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخط الله لا يُلقِي لها بالًا، يهوي بها في جهنم»[3].

ولذلك الغرض كان لا بد من التبيّن والتثبّت من صحة الأخبار قبل التفوُّه بها، وخاصّة إذا تعلّق الأمر بالأعراض والمقدّسات الشرعية.

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: 6]: «يأمر تعالى بالتثبّت في خبر الفاسق ليحتاط له، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قَبُول رواية مجهول الحال، لاحتمال فِسْقِه في نفس الأمر، وقَبِلَها آخرون، وقد ذكر كثيرٌ من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حيث بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني المصطلق، وقد رُوي من طرق؛ منها ما رواه أحمد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاني إلى الإسلام فدخلتُ فيه وأقررتُ به، ودعاني إلى الزكاة فأقررتُ بها، وقلتُ: يا رسول الله، أَرجِعُ إليهم فأَدعُوهم إلى الإسلام وأداءِ الزكاة، فمَن استجاب لي جمعتُ زكاته، وترسل إليَّ يا رسول الله رسولًا إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعتُ من الزكاة، فلما جمَع الحارثُ الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبّان الذي أراد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث إليه احتُبِسَ عليه الرسولُ ولم يأتهِ، وظنّ الحارث أنه قد حدَث فيه سُخْطَـةٌ من الله تعالى ورسوله، فدعا بسَرَوات قومه [أي: أشرافهم]، فقال لهم: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان وقَّتَ لي وقتًا يرسل إليَّ رسولَه، ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخُلْفُ، ولا أرى حَبْسَ رسولِه إلا من سُخْطَةٍ كانت، فانطلِقوا بنا فنأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وبَعث رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الوليدَ بنَ عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمَع من الزكاة، فلما أنْ سارَ الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرِقَ [أي: خاف] فرجع حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبَعَثَ البَعْثَ إلى الحارث، وأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبلَ البعثُ وفَصَلَ عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى مَن بُعِثْـتُم؟ فقالوا: إليك، قال: ولِمَ؟ قالوا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعَث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعتَه الزكاة وأردتَ أن تقتله، قال: لا والذي بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحقّ ما رأيتُه بَـتَّةً ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟»، قال: والذي بعثك بالحقّ ما رأيتُه ولا أتاني، وما أقبلتُ إلا حين احتُبِسَ عليَّ رسولُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، خشيتُ أن يكون كانت سُخْطَـةٌ من الله تعالى ورسوله؛ قال: فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إلى قوله: {حَكِيمٌ}[الحجرات: 6-8]. أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والطبراني»[4].

إذن فهذه الآية الكريمة والحديث الذي ورد بشأنها يبيّن أن المراد في الآية كان صحابيًّا، ومع ذلك لم تشفع له صُحبته لأنه نَـقل خبرًا كاذبًا لم يتبين من صحته، فما بالك إذا كان نقَلَة الأخبار من الكَذَبة أو المغرضين والشانئين.

وتحدِّثنا السيرةُ النبوية الشريفة أن النبيّ بالرغم من أنه قد طُلب منه أن يصالح كفار قريش عام الحديبية، إلا أنه لم يُؤْذَن له في ردّ المؤمنات بشرط التثبّت والتبيّن من صحة إيمانهن.

فقال تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}[الممتحنة: 10]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: «فإن اللهَ -عز وجل- أمَر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة: 10]، وسبب النزول ما رُوي أنه لما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، خرج أخواها (عمارة والوليد) حتى قَدِمَا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلّماه فيها أن يردّها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصّة، فمنعهم أن يردُّوهن إلى المشركين، وأنزل اللهُ آيةَ الامتحان. وروى ابن جرير عن أبي نصر الأسدي قال: سُئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله النساء؟ قال: كان يمتحنهن: «باللهِ ما خَرَجْتِ من بُغْضِ زوج، وباللهِ ما خَرَجْتِ رغبةً عن أرض إلى أرض، وباللهِ ما خرجْتِ التماسَ دنيا، وباللهِ ما خرجْتِ إلا حبًّا لله ورسوله»، رواه ابن جرير ورواه البزار من طريقه، وذكر أنّ الذي كان يُحَلِّفُهُنَّ عن أمرِ رسول الله عمرُ بن الخطاب»[5]. ولا ريب أن ذلك الامتحان كان لونًا من ألوان التبيّن والتثبّت من حقيقة إيمانهن.

ولما كان الأصل في الإسلام السّلْم وحقن الدماء وتحريم الظلم، عاتب اللهُ -عز وجل- ورسولُه كلاهما أسامةَ بن زيد حينما قَتل عدوَّه بمجرد الظنّ في صِدق ادِّعائه الإسلام، فقد قال تعالى فيه خاصّة وفي غيره عامة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 94]، فلما قُرِئت هذه الآية الكريمة على أسامة، حلَف لا يقتل رجلًا يقول (لا إله إلا الله) بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه.

وفي سياقٍ مخالفٍ لموضوع التبيّن، ينهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التحقّق في حال الظنّ والشك، فقال: «إذا ظننتَ فلا تُحَقِّق»[6]، وهذا من أخلاق الإسلام العظيمة، ذلك أن الأصل في الناس البراءة، ثم إن محاولة معرفة ذلك ربما يحمل على تتبع العورات والتجسّس مما يثير الاشمئزاز والضغائن.

ولأمرٍ ما لا تطبق الحدود الشرعية والتعازير إلا إذا وصلت إلى الحاكم ببيِّناتها؛ إمّا بالإقرار والاعتراف من الجاني، أو بالإشهاد على الجناية، فقال تعالى في حدّ القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور: 4].

وباب (الإشهاد) من أبواب الفقه، الغرَض منه، التبيّن والتثبّت من صحة الدعاوَى في المعاملات والجنايات والحدود.

ويندرج تحت هذا الباب موضوع الفِراسة والأخذ بالقرائن والأَمارات والقافة [أي: تتبُّع الأثر]، واللَّوْث [غلبة الظنّ في وقوع القتل]، وقد عقد الشيخ ابن قيم الجوزية في ذلك كتابًا كاملًا وسَمَه بــ: (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، وبيَّن فيه أن الحاكم من حقه إنْ عدم البيّنة والدليل على المخالفات الشرعية أن يتبيّن ويتثبّت بالقرائن والأمارات ثم يبني على ذلك الأحكام. ولبيان هذا الباب النفيس نورد هاهنا مثالًا واحدًا من الكتاب العزيز؛ فقد ورَد في قصة يوسف -عليه السلام- مع امرأة العزيز التي اتهمَتْ نبيَّ الله -بهتانًا- بأنه راودها عن نفسها فأبَتْ عليه، والحقّ غير ذلك، وذلك ما انتبه إليه الشاهد من أهلها بمجرّد القرينة: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف: 26، 27].

ثم بعدما ذكر الآيات [25-28] من سورة يوسف، من قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} إلى قوله: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}، قال: فتوصل بقدِّ القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب، وهذا لَوْث في أحد المتنازعَين، يبين به أَولاهما بالحقّ.

وهذا نبيّ الله سليمان -عليه السلام- حينما جاءه الهدهد بخبر بلقيس وقومها، لم يصدقه للوهلة الأولى بل أرسله بكتاب يتبين له من خلاله الأمر، قال تعالى في ذلك: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[النمل: 27، 28].

ولمّا وصل الكتابُ بلقيسَ وعرفَتْ ما فيه جمعَتْ قومها واستشارتهم في الأمر، ثم بدَا لها أن تتبين وتتثـبّت من أمرِ سليمان: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل: 35]؛ فإنْ كان نبيًّا لم يقبل الهدية، وإنْ قَبِلَها فليس بنبيٍّ ولا بد من قتاله. كما ذهب إلى ذلك سيدُ المفسِّرين حبرُ الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، فقال: قالت لقومها: إنْ قَبِلَ الهدية فهو مَلِكٌ فقاتلوه، وإن لم يَقْبَلها فهو نبيٌّ فاتَّـبِعوه[7].

وفي موضوع التبنِّي عندما يدَّعِي أحدٌ استلحاق الولد، يتبيّن القاضي زعمه هذا بفارق السنّ أو شهادة مرضِعة أو يمين، وإلا فيُعتبَر أخًا في الدين ومولى، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}[الأحزاب: 5].

خلاصة:

إنّ التثـبُّت والتبيُّن من أهم الأخلاق التي عُني بها كتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا المنهج الكريم درج الصحابة والتابعون أجمعين، حيث أسّسوا لحضارة عظيمة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، فحفظ تراث الإسلام بذلك ولم تؤثِّـر عليه حركات الوضع والتشويه وظلّت المجتمعات الإسلامية على مدى الأزمان والدهور قوية متماسكة، لم تؤثِّـر فيها الشائعات والأراجيف، والسبب بالطبع كان راجعًا لتطبيق منهج التثبت والتبين في التلقي والنقل على السواء.

 

 

[1] نُشر هذا المقال بملتقى أهل التفسير بتاريخ 4/ 9/ 1431هـ، الموافق 13/ 8/ 2010م. (موقع تفسير).

[2] متفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

[3] رواه البخاري من حديث أبي هريرة.

[4] مختصر تفسير ابن كثير، للشيخ محمد علي الصابوني، شركة الشهاب، الجزائر، 1990، ص360.

[5] مختصر تفسير ابن كثير، للشيخ محمد علي الصابوني، ص485.

[6] أخرجه الحافظ العراقي في تحقيق الإحياء، من حديث أبي هريرة.

[7] مختصر تفسير ابن كثير، للشيخ محمد عليّ الصابوني، ص671.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))