المقولات التي أقرَّها القرآنُ العظيمُ
المقولات التي أقرَّها القرآنُ العظيمُ[1]
إنَّ القرآنَ العظيم لا تفنى عجائبُه، ولا تُحَدّ دلائلُه؛ والمتأمّل في كتابات العلماء الذين كتبوا في علوم القرآن العظيم يجدُ أن باب المقولات لم يُعْنَ به العناية اللائقة؛ فهو من علوم القرآن الكريم المهضومة.
وقد تضمّنت المقولات التي ذُكِرَتْ في القرآن العظيم على جهة الإقرار لها والسكوت عنها[2] أحكامًا جَمّة، وفوائد عِدّة، منها: كثرة الأحكام العلميّة والعمليّة المترتبة على المقولات المُقَرَّة، والمسكوت عنها، والتي تُعَدّ مسلكًا صحيحًا للاحتجاج.
ومنها: التنبيه على بعض المقولات المسكوت عنها، والتي ورد شرعنا بخلافها، وأنها خارجة عن الأصل في باب المقولات المسكوت عنها، وحملها على المنسوخ من الشرائع السابقة، أو توجيهها بما لا يخالف شرعنا.
وما زال العلماء والفقهاء يستنبطون أحكامًا من مقولة أو حكاية مسكوت عنها؛ لأن القرآن حقّ، والحقّ لا يُقِرّ الباطل، ولا يَرضى به.
فكلّ قضية ذُكرت في القرآن، ولم يُنبه اللهُ تعالى على بطلانها؛ فهي حقّ، وكلّ فعل، أو أمر، أو نهي صدر عن أحدٍ في القرآن؛ فهو حقّ إلّا إذا نُـبِّه على بطلانه.
وهذا يَظهر مِن أمرين[3]:
أولهما: الاستقراء؛ فالمتتبع لآيات القرآن العظيم يجد أنه إذا حكَى أمرًا لا يرضاه، أو ذَكر شيئًا يوهِم غير المراد؛ فإنه يُشير إلى بطلانه، أو يأتي بما يدفع الوهم، وينفي الاحتمال؛ كقولِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}[المائدة: 18]، فأبطل مقولتهم رأسًا. وقولِهِ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون: 1]، فدفع ما قد يُتوهَّم من إتيانهم بشهادة الإيمان بالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فوصفهم بالكذب فيها، وأنها لو كانت صادقة لَمَا ذُمُّوا.
ثانيهما: أن الله أنزل كتابه هدًى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، وسمّاه فرقانًا، وهدًى، وبرهانًا، وبيانًا، وتبيانًا لكلّ شيء؛ فلا يناسبه أن يَذكر عن أحدٍ من الناس ما هو باطل، ثم يسكت عن التنبيه على بطلانه، فإن ذلك يُفْهَم منه رضاه به.
والمقولات التي أقرَّها القرآن العظيم لا تخلو من حالين:
إمّا أن تكون صادرة عن نبي من أنبياء الله تعالى، أو عن غير الأنبياء؛ سواء كانوا بشرًا -مؤمنين أم لا- أم من غير البشر؛ كالنمل، والهدهد...إلخ.
والمقولات من النوع الأول الأصل فيها أنها وحي من الله تعالى، وقد لا تكون وحيًا، وإنما اجتهاد من النبي قد يصيب فيه، وقد لا يصيب.
وذلك نحو: قضاء سليمان في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء: 79]، وقضاء داود في نفس القضية؛ وهي وإن كانت اجتهادًا فهي أقوى في الدلالة؛ باعتبارها مقولة صاحب شريعة؛ إلّا أنه في كلا النوعين يُعَدّ إقرارُ القرآن وسكوتُه عن المقولة المذكورة حُجّةً يُحْـتَجُّ بها ما لم يعارضها دليلٌ أصرح منها. فمتى ما عارض المقولةَ دليلٌ أصرح منها؛ حُملت على النسخ.
ولذلك أمثلة كثيرة:
- المقولات التي قالها الأنبياء في تبليغ رسالة الله تعالى؛ كقوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف: 59]، ومقولاتهم في مُحاجّة، ومجادلة المبطلين؛ كموقف إبراهيم مع النمرود، ومع قومه، ومع أبيه، وموقف موسى مع فرعون، وملئه، والسحرة، وبني إسرائيل.
- مقولة عن نبيّ أقرَّها القرآن، وليس لها معارض (مقولة محكمة)؛ كقوله تعالى عن يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف: 55]، ففيها دلالة على تولي العمل لدى الكفار، وعلى جواز طلب الرئاسة، وعلى جواز إدلاء الطالب بما عنده من الصفات والخصائص والخبرات.
- مقولة عن نبيّ أقرّها القرآن، ولها في شريعتنا معارض؛ كقوله تعالى عن لوط: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم}[هود: 78]؛ ففيها جواز تزويج الكافر من مسلمة، وفي شرعنا لها معارض؛ كقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}[البقرة: 221].
- مقولة عن غير نبي أقرّها القرآن، وليس لها مخالف؛ كقوله تعالى عن شاهد يوسف: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف: 26-27]، أفادت: القضاء بالقرائن.
- مقولة عن غير نبي أقرها القرآن، ولها في الشرع معارض؛ قوله تعالى عن قوم الفتية أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}[الكهف: 21]، أفادت: جواز اتخاذ قبور الصالحين مساجد!
وقد جاء في شأن مَن فعَل ذلك: قوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الصحيحين: «أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرارُ الخلق عند الله»[4].
ومن أمثلة استدلالات الأئمة على هذا النوع:
- قول الإمام البخاري في صحيحه: باب ما يجوز مِن اللَّوْ، وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}[هود: 80][5]، وباب رُؤيا إبراهيم -عليه السلام-، وقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ...}[الصافات: 102][6].
- واستدلال الجصّاص بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم -عليه السلام-: «المجادلة في إثبات العقائد: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام: 83]، وذلك بعد مناظرته لقومه، وهذه الآية تدل على: صحة المُحاجّة في الدين، واستعمال حُجج العقول، والاستدلال بدلائل الله تعالى على توحيده وصفاته الحسنى، وتدلّ على أن المحجوج المنقطع يَلزمه اتّباعُ الحجة وتركُ ما هو عليه من المذهب الذي لا حجة له فيه، وتدلّ على بطلان قول مَن لا يرى الحِجَاج في إثبات الدّين؛ لأنه لو كان كذلك لما حاجّه إبراهيم، وتدلّ على أن المحجوج عليه أن ينظر فيما أُلزِم من الحِجاج فإذا لم يجد منه مخرجًا صار إلى ما يَلزمه، وتدلّ على أن الحقّ سبيله أن يُقْبَل بحُجّته؛ إذ لا فرق بين الحقّ والباطل إلّا بظهور حجة الحقّ ودحض حجة الباطل. وإلّا فلولا الحجة التي بَانَ بها الحقّ من الباطل لكانت الدعوى موجودة في الجميع، فكان لا فرق بينه وبين الباطل»[7].
- ودلالة قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}[الكهف: 19] على الشركة في الطعام المُشترَى بمال الجماعة، وهو ما يُسمّى بالمناهدة في النفقات[8].
- ومنه: جواز الإجارة المطلقة، قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ}[القصص: 26]، ذكره القرطبي عن المالكية[9].
- ومنه: جواز الإجارة بالطعمة والكسوة: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}[القصص: 27][10].
والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تُحصر، ولو ضُمَّت الحكايات التي أقرّها القرآن للمقولات؛ أثمرت مادةً علمية نافعة.
أسألُ اللهَ لي ولإخواني التوفيق والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] نُشرت هذه المقالة بملتقى أهل التفسير بتاريخ 2/ 5/ 1424هـ - 1/ 7/ 2003م. (موقع تفسير).
[2] المراد المقولات التي حكاها القرآن نصًّا، والتعبير عمّا ذُكر في القرآن بالمحكي جادة مطروقة لأهل العلم لا يُشكل عليها تعريف الأشاعرة للقرآن.
[3] يُنظر: الموافقات للشاطبي (3/ 354)، و(4/ 64).
[4] رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
[5] صحيح البخاري (9/ 85).
[6] صحيح البخاري (9/ 31).
[7] قاله الجصاص في أحكام القرآن له (2/ 172).
[8] وقد أشار لها الجصاص (5/ 40).
[9] تفسير القرطبي (13/ 275).
[10] تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 386).