توظيف التفسير الموضوعي في خطبة الجمعة
خطب د. عبد المحسن بن محمد القاسم أنموذجًا
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيّ بعده، وبعد:
فإنّ لخطبة الجمعة مكانة كبيرة عند المسلمين، يتأهّب لسماعها المصلُّون، ويُنْصِت لها الحاضرون، يقول د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله-: «وخطبة الجمعة لها وَقْعٌ في النفوس يُصْغَى إليها بالفؤاد وسكون الجوارح»[1].
وحتى تكون الخطبة لها التأثير في نفوس المصلين لا بد أن تشتمل على مواعظ الكتاب والسنة، يقول د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله-: «في خطبة الجمعة توجيهات ومواعظ، وتعريف بالله ورسوله ودين الإسلام»[2].
وإنّ من الأساليب المُعِينة للخطيب على إبراز عِظات القرآن الكريم وتقريب معانيه للناس، أسلوب التفسير الموضوعي: الذي يكون فيه بيان موضوعٍ ما من خلال آيات القرآن الكريم من خلال سورة واحدة، أو سور متعدّدة[3].
وإنّ من الخطباء الذي لهم عناية بهذا اللون من التفسير: فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم -وفقه الله- من خلال الخطب التي ألقاها على منبر مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم طُبِعَت في خمسة مجلدات؛ فأردتُ من خلال هذا المقال إبراز تلك العناية من الدكتور عبد المحسن القاسم بهذا اللون من التفسير.
وسأحاول بإذن الله تعالى تسليط الضوء على طريقة د. عبد المحسن القاسم في توظيف التفسير الموضوعي من خلال خطبة الجمعة.
وقبل البدء بذكر طريقة د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله- في توظيف التفسير الموضوعي من خلال خطبة الجمعة، أَوَدُّ الإشارة إلى أنَّ مَنْ كَتَب في التفسير الموضوعي للموضوع القرآني، ذكَر عدّة خطوات للكتابة في الموضوع القرآني، ومن هذه الخطوات[4]:
أولًا: جمع الآيات القرآنية الواردة في الموضوع.
ثانيًا: تفسير الآيات تفسيرًا إجماليًّا، وحُسن الربط بينها.
ثالثًا: استنباط ما تحتوي عليه الآيات من لطائف وهدايات وربطها بواقع الناس.
والناظر في خطب د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله- يجد أن هذه الأمور الثلاثة ظاهرة؛ ففي خُطَبِه -وفقه الله- محاولة لاستيعاب الآيات الواردة في الموضوع من خلال الخطبة، والربط بين آيات الموضوع بأسلوب شائق يفهمه المستمع[5]، واستنباط ما تحتوي عليه الآيات من لطائف وهدايات وربطها بواقع الناس.
وسيأتي ما يدلّ لذلك من خلال الخطب المذكورة للتمثيل على توظيف د. عبد المحسن القاسم للتفسير الموضوعي من خلال خطبة الجمعة.
ومما يجدر الإشارة إليه هنا؛ إلى أن الموضوع القرآني الذي يعرض له د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله- في خطبه، قد يكون من خلال آيات القرآن الكريم في سور متعدّدة، وقد يكون الموضوع اعتنت به سورة من القرآن الكريم أكثر من غيرها فتدور الخطبة في فلَك تلك السورة.
ويمكن التمثيل للنوع الأول من تلك الخطب -وهو الموضوع القرآني من خلال آيات القرآن الكريم في سور متعددة- بخطبة: (أقوى الناس قوم عاد)[6].
وسأذكر هنا جزءًا من الخطبة؛ يوضح ما تقدَّم ذِكره.
قال الشيخ -وفقه الله-: «واللهُ قَصَّ في كتابه خبَر أمَّةٍ لم يُرَ مثلُها في القوّة والاستكبار، والبَطْش والظُّلم. سُـمِّيَتْ سورة في القرآن باسم نبيِّها (هود)، وسورة أخرى باسم مكانهم (الأحقاف)، قال السُّدِّيّ -رحمه الله-: «كانوا باليمن بالأحقاف». وقد ذكَر اللهُ خبرهم في مواضع عدَّة، قال ابن كثير -رحمه الله-: «ذكَر الله قصتهم في القرآن في غير موضع؛ ليَعْتَبِر بمصرعهم المؤمنون».
كانوا أعظمَ أهلِ زمانهم خَلْقًا، وأطولَهم أبدانًا، وأشدَّهم بطشًا، قال عزَّ وجل: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}[الأعراف: 69]؛ بل لم يخلق اللهُ مثل قوّتهم، قال سبحانه: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}[الفجر: 8]، قال البغويُّ -رحمه الله-: «أي: لم يُخْلَق مثلُ تلك القبيلة في الطُّول والقوّة». ومساكنهم أعظمُ ما تُرَى وأجملُه، ذوات أعمدةٍ ضخام، وبنيانٍ شاهق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر: 6، 7]، أتـرَفُوا أنفسَهم في مساكنهم، فكانوا يبنون في كلّ مكانٍ مرتَفِعٍ بنيانًا محكَمًا باهرًا هائلًا، يفعلون ذلك عبثًا لا للحاجة إليها؛ بل لمجرد اللهو وإظهار القوّة والمفاخرة، فأنكَر عليهم نبيُّهم ذلك: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء: 128]؛ لأنه تضييع للزمان، وإجهاد للأبدان في غير فائدة، وإشغال بما لا يُجْدِي لا في الدنيا ولا في الآخرة. واتخَذوا لهم بروجًا مشيَّدة ليُخَلَّدُوا في الدنيا بزعمهم لإنكار المعاد، قال سبحانه: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء: 129]؛ فكانوا يَبنون ما لا يسكنون، ويؤمِّلون ما لا يُدْرِكون.
فتحَ اللهُ عليهم أبواب رزقه؛ فزادَت أموالهم، وكثُرَ أبناؤهم، وأنبتَ لهم الزروع، وفجَّر لهم العيون، قال لهم نبيُّهم: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء: 133، 134]، وأمَرهم أن يتذكَّروا نِعَم الله؛ ليفوزوا برضا الله وسعادة الدارَيْن: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}[الأعراف: 69]؛ فقابَلُوا نِعَم الله بالجحود والنُّكران وعبدوا الأصنام. وهُم أوّلُ مَن عبَدَها بعد الطوفان: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}[الأعراف: 69].
ودعاهم هود -عليه السلام- إلى عبادة الله وحدَه ونَـبْذِ الأوثان: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}[الأعراف: 65]؛ فاستخفُّوا بنبيِّهم ورمَوْه بالجنون، وقالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ -أي: أصابَك- بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ -أي: بجنونٍ في عقلك-}[هود: 54]، وسَخِرُوا منه وقالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}[الأعراف: 66]، وصارحوه بالكفر وقالوا له: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[هود: 53]، وردّوا دعوته وأنِفُوا عن قبولها، واستكبروا عنها، و{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}[الشعراء: 136]، وزَادُوا في الطغيان فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}[الشعراء: 137] (أي: سنبقى على عبادة الأصنام)، وأبَوْا أن يتَّبِعوا رسولَهم تكبُّرًا منهم؛ لأنه من البشر، فقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُون}[المؤمنون: 33]، ولغرورهم يريدون أن يكون رسولهم من الملائكة، فـ{قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[فصلت: 14].
وأنكروا البعث والنشور، وقال بعضهم لبعض: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}[المؤمنون: 35]؛ بل استبعَدوا يوم الحشر والنَّشْر، فقالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُون}[المؤمنون: 36] (أي: بعيدٌ بعيدٌ وقوعُ ذلك)، وظلَموا ضعيفَهم بغِلظَتِهم وجبروتهم، قال سبحانه: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء: 130]،لم يقوموا بحقّ الخالق ولا المخلوق؛ تجبُّرًا على الله وعلى عباده: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيد}[هود: 59].
واللهُ -عز وجل- يُمْلِي للظالم، وإذا أخذه لم يُفْلِته، سخروا من نبيِّهم وبما دعاهم إليه، وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا -أي: من العذاب- إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين}[الأعراف: 70]؛ فاستدرجهم اللهُ من حيث لا يعلمون، وأمسكَ عنهم القَطْر، فأجدَبَت الأرض وأصبحوا مُمْحِلِين، فساق اللهُ سحابةً لَمَّا رأوها مستقبِلةً أوديتهم استبشروا، و{قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}[الأحقاف: 24]، قال الله: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ -أي: من العذاب- رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف: 24]، سلَّطها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسومًا دائمةً لم تنقطع لحظة، وكانت ريحًا عقيمًا لا خير فيها ولا بركة، لا تلقِّح شجرًا ولا تحمل مطرًا، صَرْصَرًا باردةً شديدة، لمسيرها صوت قويّ مُفزِع: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}[الأحقاف: 25]، ما تَذَرُ من شيءٍ أتَتْ عليه إلّا أهلكته، تحمل الرجُلَ منهم عاليًا ثم تنكِّسه على رأسه فينقطع عن جسده، تراهم صَرْعَى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة: 7] بلا رؤوس؛ فبادوا عن آخرهم، ولم تَبْقَ لهم باقية: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}[الأحقاف: 25]، وأتْبَعهم اللهُ في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة، وجعلهم عبرةً لمَن بعدَهم، قال سبحانه: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ}[فصلت: 16]».
ومن النوع الثاني -وهو أن يكون الموضوع اعتنَتْ به سورة من القرآن الكريم أكثر من غيرها-؛ فتدور الخطبة في فلَك تلك السورة؛ الخطب التي خصّها د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله- للحديث عن بعض غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كخطبة يوم الفرقان: حيث كانت الخطبة عن غزوة بدر في ضوء الآيات التي تحدثت عنها في سورة الأنفال[7]، وخطبة ساعة العسرة[8]؛ حيث كانت الخطبة عن غزوة تبوك في ضوء الآيات التي تحدثت عنها في سورة التوبة، وخطبة غزوة الأحزاب[9] في ضوء الآيات التي تحدثت عنها في سورة الأحزاب.
وسأنتقي من خطبة: (غزوة الأحزاب) ما يدلّ على توظيف د. عبد المحسن القاسم للتفسير الموضوعي في تلك الخطبة.
قال -وفقه الله-: «واللَّهُ قصَّ في كتابه غزوةً سُـمِّيَت سورة باسمها، وأمَر المؤمنين أن يتذكَّروا نعمة اللَّه عليهم فيها في كلّ حين، قال سبحانه في مطلعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}[الأحزاب: 9]، كانت غزوةً عصيبة مُخيفة، في ليالٍ شاتية من السَّنة الخامسة من الهجرة، فقد حرَّض يهودُ بني النضير في خيبر كفارَ قريش في مكة على قتال النبي -صلى الله عليه وسلم-، ووعدوهم النصرَ والإعانة، فتحزَّبوا وانضمَّ إليهم غطَفان من المشرق، فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمسيرهم أمَر المسلمين بحفر خندقٍ حول المدينة، فامتثلوا أمْرَه وحفروا، وأقبلَت الأحزاب من يهودٍ ومشركين من كلّ صَوْبٍ وحَدَبٍ إلى المدينة، في عشرة آلاف مقاتل، قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}[الأحزاب: 10]، ومع حصار الأحزاب للمدينة استعان كفار قريش بيهود بني قُرَيظة؛ فنقَضَ يهود بني قريظة العهدَ مع رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، وتحالفوا مع الأحزاب على حربه -عليه الصلاة والسلام-، فضاق الخَطْب، واشتدَّ الحال، وظهر الخوف مع الجوع والبَرْد، قال سبحانه عن وصفهم: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}[الأحزاب: 10]، وعَظُم البلاء، وظهَر النفاق، وساءَت الظنون، قال سبحانه: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب: 11]، وانقطَعَت الأسباب الظاهرة للنصر، فلا عَدَد ولا عُدَّة، والعدوّ بقَدْر المسلمين مرات متعدِّدة، ومحيط بهم من كلّ جانب، ورسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يُصبِّر الصحابة، ويُبشِّرهم، ويعِدُهم بنصر اللَّه، فقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب: 22]، فثبَتَ الصحابة -رضي الله عنهم-، والثباتُ نصرٌ، وتوكلوا على اللَّه، وأحسَنوا الظنّ به، فألقَى اللَّهُ الرعبَ في قلوب المشركين، وأنزل نصرَه، وخالَف بين كلمة قريش واليهود، وعادوا حانِقين على بعضهم، مُضمِرين الكيدَ بينهم، بعد أن كانوا متحزِّبين ضدّ المسلمين، ثم عذَّبهم اللَّهُ بريح شديدة باردة، فلم يَقرّ لهم قرار، ولم توقد لهم نار، وأنزل اللَّهُ ملائكة -فيهم جبريل عليه السلام- أفزعَتْهم، قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}[الأحزاب: 9]، فتفرَّقوا عن المدينة وهم بشرِّ خيبةٍ وخسران: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}[الأحزاب: 25]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الآن نَغزُوهم ولا يَغزُوننا» رواه البخاري، فكانت آخر غزوةٍ يُقْبِل فيها المشركون على ديار المسلمين، وأنزل اللَّه في شأن هذه الغزوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21]، قال ابن كثير -رحمه الله-: «أُمِر الناسُ بالتأسِّي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرَج من ربّه».
وفي الخطبتين اللتين تقدّم ذكرهما -وهما: خطبة: أقوى الناس قوم عاد، وخطبة: غزوة الأحزاب- ما يؤيد ما تقدَّم ذِكره في بداية المقال؛ مِن أنَّ مِن أهمّ معالم طريقة د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله- في توظيف التفسير الموضوعي للموضوع القرآني في خطبة الجمعة =محاولة استيعاب الآيات الواردة في الموضوع من خلال الخطبة، والربط بين آيات الموضوع بأسلوب شائق يفهمه المستمع.
وبقي أمر ثالث من هذه المعالم سبقت الإشارة إليه: وهو استنباط ما تحتوي عليه الآيات من لطائف وهدايات وربطها بواقع الناس.
ويمكن أن يمثَّل لهذا المَعْلَم بخطبة: (مريم بنت عمران)[10]؛ فبعد أن استوعب -وفقه الله- الآيات الواردة في مريم بنت عمران، وقام بالربط بينها، ختَم الخطبة باللطائف والهدايات وربطها بواقع الناس؛ فقال -وفقه الله-: «وبعدُ؛ أيها المسلمون: فخبَرُها عِبرة للمعتبِرين، وأُسوة للمقتدين، فالعِـزّة والرِّفعة في الدارَيْن إنما هو في التمسُّك بالدِّين؛ فمريم قَرُبَتْ من الله بالطاعة؛ فَـعَلَتْ وسَـمَا ذِكرُها، والجنةُ والنار مُعدَّة للذَّكر والأنثى، والتفاضُل عند الله إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، ولتكن نيّة المسلم في كلّ خير قائمة؛ فأُمّ مريم نذرَتْ إنْ رُزِقت بذَكَرٍ لَتَجعلنَّه خادمًا لبيت المقدس؛ فرَزقها الله بصدِّيقةٍ تلِدُ نبيًّا، والعبد يَقْبَل هبة اللَّه له من ذكرٍ أو أنثى فلا يعلم في أيّهما النفع؛ فمريمُ أنثى ورَفَعَت ذِكْرَ والدَيْها، وفاقت رجالًا.
ولْيَسأَل المسلم ربَّه برَكة الأولاد؛ فمريمُ رُزِقَت بولدٍ واحد، ولكنه كان رحمة من الله للعالمين، والدعاء من أوسع أبواب العطايا والهبات؛ فأُمّ مريم عند ولادتها التجأت إلى الله بأن يُعيذ حمْلَها وذريَّتها من الشيطان الرجيم؛ فحفظ اللهُ بتلك الدعوة مريمَ وحفظ ابنَها، وعصمهما من شرور إبليس، وتقبَّلها بقبول حسَن، وأنبتها نباتًا حسنًا.
وفي زمن الفتن تشتدُّ الحاجة إلى دعاء الأبوين للذّريّة بالهداية، وإلى اللَّجأ إلى الله لعصمتهم منها، وصلاح الآباء يجري نفعُه إلى الأبناء: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران: 34]، ومَن اتقَى ربَّه رَزقه من حيث لا يحتسب: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}[آل عمران: 37]، ورِزْقُ مريم في مصَلَّاها زادَ مِن يقين زكريا وتذكَّر أفضالَ الله وكرمَه على عباده، فالتجأ إلى الله بالدعاء؛ فوُهِبَ بعد كِبَرِ سنٍّ بيحيى نبيًّا من الصالحين، ومَن حفظ اللهَ حفظ اللهُ ذريَّته -ولو في مهدهم-؛ فمريمُ تسابَقَ الناسُ إلى حضانتها ورعايتها؛ لصلاح والدَيْها، فحُضِنت في بيت نبوَّةٍ -في بيت زكريا- وتولَّاها بعنايته.
وشُكْرُ نِعَم الله يجلب المزيد؛ نَسَبَت مريم نعمة الرزق إلى الله وحده: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[آل عمران: 37]؛ فزادها الله من فضله العميم نعمًا متتابعة. ويجب على المرأة أن تلتجئ إلى الله، وتطلب منه العصمة من الفتن مع فعلِ الأسباب للبُعد عنها؛ فمريم -وهي في شبابها- تمثَّل لها جبريل في صورة رجلٍ حسنٍ؛ فاستعاذت بالله منه وتوارت عنه -مع بُعدها عن أهلها-: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}[مريم: 18]، ومَن تمسّكت بدِينها وصانت عِرْضَها؛ حفظها الله ورزقها من حيث لا تحتسب.
عوَّضها اللهُ بعفَّتها ولدًا من آيات الله، ورسولًا من رسله -وهو سبحانه على كلّ شيء قدير-، والمسلم يتوكل على الله ويفوِّض أمْرَه إليه، ولا يتعلَّق بالأسباب فحسب؛ فقد وَهَب مريمَ ولدًا من غير زوج: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران: 47]، والقربُ من الله يجلب كلّ خير ورزق؛ فمريم لما قنتَت ساق الله رزقها إليها في مصلَّاها، وأسقط عليها رُطبًا جَنِيًّا، وأجرى لها نهرًا مِن تحتها.
والمؤمن يتعرَّض للابتلاء، وكلما كان في دينه صلابةٌ زِيدَ في بلائه، ومريم البَتُول ابتُلِيَت ببلاء عظيم: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}[آل عمران: 47]؛ بل زِيدَ في بلائها، أَنْ أمَرها الله أن تأتيَ بالمولود بين يديها أمام قومها وتَنسِبَه إلى نفسها -وهي بلا زوج- فسلَّمت الأمر لله، وفوَّضت أمرها إليه، ولَئِن صَبَرَت امرأة على الابتلاء؛ فالرجال أَولَى.
واللهُ -سبحانه- لا يضيِّع مَن لاذَ به، ولا يخذل مَن لجأ إليه، ومَن التجأ إلى الله عند المصائب أتاه الفرَج من حيث لا يحتسب، وبأمرٍ لا يصل إليه فِكر البشر؛ فقد لجأت مريم في كُربتها إلى الله؛ فأنطق الله رضيعَها بما يبرِّؤها ويرفع شأنها.
واللهُ رحيمٌ بعباده: تمنَّتْ مريم الموت: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}[مريم: 24]. وَمَنْ تعرَّف على الله في الرخاء عَرفه في الشِّدّة، مريم تعلَّقت بالله في العبادة والعفاف، فحفظها الله في حَمْلها ورِزْقها وولادتها ورفَعَ ذِكرَها. والعملُ الصالح عند الله محفوظ، كانت مطيعةً لوالديها بارّةً بهما؛ فبَرَّ بها ابنُها: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}[مريم: 32].
وصاحِب المعصية يتخفَّى لسوء عاقبة الخطيئة، ومَن بَرِئَ من التُّهمة يَظهر أمام الناس مفوِّضًا أمْرَه إلى الله، ومريم لبراءتها أَتَت بغلامها إلى قومها تحمله. ومِن شُكر النِّعم: ذِكرُها والإقرار بها، أمَر الله عيسى بأن يَذكُر نِعمَ الله عليه وعلى والدته: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ}[المائدة: 110]، والمسلم يسير على خُطى الصالحين في مرضاة ربِّ العالمين».
وفي الختام: أسألُ اللهَ أن أكون قد وُفِّقْتُ في هذا العرض الموجز عن فكرة توظيف التفسير الموضوعي في خطبة الجمعة من خلال خطب د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله-.
وأُوصي الخطباء عمومًا، ومن كان متخصصًا في التفسير ووفقه الله للجمع مع هذا التخصص بأن كان خطيبًا، بتوظيف التفسير الموضوعي في خطب الجمعة، وهذا ما أوصى به أيضًا مَن كَتَب في التفسير الموضوعي؛ فهذا أ.د. إبراهيم الحميضي يقول في ختام توصياته في كتابه: (المدخل إلى التفسير الموضوعي): «أُوصي بتوظيف أسلوب التفسير الموضوعي في تقريب معاني القرآن الكريم لعامّة الناس، وإبراز هداياته لهم، ومعالجة القضايا المعاصرة من خلاله، سواء كان ذلك في مجال الكتابة أم في مجال الخطبة والمحاضرة»[11].
ومن الأفكار التي أرى من المناسب ذكرها هنا:
أولًا: الاستفادة من الموسوعات العلميّة المتخصّصة في التفسير الموضوعي في إعداد خطبة الجمعة؛ وأشهر هذه الموسوعات: موسوعة التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم الصادرة عن جامعة الشارقة، وموسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، الصادرة عن مركز تفسير للدراسات القرآنية.
ثانيًا: لو انبرى باحث أو مركز متخصّص في إعداد خطب للتفسير الموضوعي من هاتين الموسوعتين، ونشَرها ورقيًّا أو إلكترونيًّا، كما قام د. عبد الملك القاسم -وفقه الله- في كتابه: (الخطب المنبرية على أبواب التوحيد)، حيث كتَبَ في كلّ باب من أبواب كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهّاب -رحمه الله- خطبةً مستقلّة.
فعلى سبيل المثال: لو قام باحث بإعداد خطب في التفسير الموضوعي للسور التي تُقرأ يوم الجمعة؛ كسُوَر: الكهف، والسجدة، و(ق)، والجمعة، والإنسان، والأعلى، والغاشية. من خلال موسوعة التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم الصادرة عن جامعة الشارقة.
ومثله في الموضوعات التي يحتاج الناس إليها، وتناوَلها الباحثون في موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الصادرة عن مركز تفسير للدراسات القرآنية.
ثالثًا: لعلّ باحثًا يتناول موضوع التفسير الموضوعي في خطب د. عبد المحسن القاسم -وفقه الله- أو غيره من الخطباء ممَّن لهم العناية بهذا اللون من التفسير بصورة أشمل من خلال بحث أوسع، ويقوم بتحليل جميع الخطب في التفسير الموضوعي من بداية الخطبة وحتى نهايتها، ومقارنة عدد الآيات الواردة في الخطبة بعدد الآيات الواردة في المعاجم اللفظية، والموضوعية للموضوع الذي يتناوله الخطيب، كما يمكن الاستفادة من ذلك في مقرّر التفسير الموضوعي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
واللهَ أسأل أن يجعل هذا العمل مقبولًا، مباركًا، وأن ينفع به كلَّ مَن انتهى إليه؛ فإنه سبحانه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] خطبة للدكتور عبد المحسن القاسم بعنوان: «يوم الجمعة فضائل وأحكام»، بتاريخ 1/ 7/ 1440هـ. منشورة على بوابة الحرمين الشريفين، وملتقى الخطباء.
[2] المصدر السابق.
[3] ينظر: مباحث في التفسير الموضوعي (ص16)، والمدخل إلى التفسير الموضوعي (ص176).
[4] ينظر على سبيل المثال: مباحث في التفسير الموضوعي (ص37).
[5] وحسن الربط بين الآيات في خطبة الجمعة كما يقول د. صالح بن حميد: «يعطي مزيد إيضاح وبيان حتى كأنَّ السامع لم يقرأ الآيات من قبل»، ينظر: توجيهات وذكرى (1/ 33، 34).
[6] ينظر: الخطب المنبرية (4/ 273).
[7] ينظر: الخطب المنبرية (5/ 262).
[8] ينظر: الخطب المنبرية (2/ 89).
[9] ينظر: الخطب المنبرية (5/ 269).
[10] ينظر: الخطب المنبرية (4/ 256).
[11] المدخل إلى التفسير الموضوعي (ص176).