وجه تسمية يوم القيامة بيوم التغابن

مثّلت تسميةُ يوم القيامة بيوم التغابن مثار اختلاف بين المفسّرين، وفي هذه المقالة يقوم ابن عاشور -رحمه الله- بتتبّع ما قاله المفسرون في ذلكم الصدد ويقوم بتحليله، ثم يعرض رأيًا خاصًّا به في وجه التسميةِ ويجتهد في إثباته والتدليل عليه.

وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن[1]

  سألني عالِمٌ فاضلٌ صديقٌ، اعتاد تأنيسي بزيارته، عن تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 9]، وما وجهُ تسمية يوم القيامة في هذه الآية بيوم التغابن، غير مُنثلِج لِمَا قاله بعضُ المفسرين في وجه التسمية من أن التغابن هو أنّ أهل الجنة يَغْبِنون أهل النار. وذكر أنه راجَع تفاسيرَ كثيرةً فلم يجد فيها ما يقنعه، وحاورني في ذلك محاورةً هزَّت من عطفي إلى أن أُفْصِح في تفسير هذه الآية بما عسى أن يكون فيه مَقْنَع، واللبيب يتبع أحسنَ القول ويَسْمَع.

ذهب الجمهورُ إلى أن سورة التغابن مكيّة، إلا الآيات الأخيرة من آخرها التي أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ}[التغابن: 14]، وأحسب أن هذه الآيات هي التي بعثت القائلين بأنّ السورة مدنية، إِذْ نعلم أن المقصودَ من الخطاب بالآية هم أهل مكة ابتداء، وهم قريش؛ ولذلك جاء فيها: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}[التغابن: 7 - 9].

وقد قال أئمةٌ من المفسرين: إنّ عادة القرآن أنه يريد بالذين كفروا، متى ذكر في القرآن المشركين من قريش. 

وقوله: {قُلْ بَلَى}، كلمة: (بلى)، فيه إبطالٌ للنفي الواقع في قوله: {لَنْ يُبْعَثُوا}، فإنها حرف يفيد عكسَ معنى (نَعَم)، ويقع بعد النفي في الاستفهام وفي الخبر.

وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}، ظرفٌ متعلق بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ}، ويجوز أن يتعلق بقوله: {لَتُبْعَثُنَّ}، باعتبار عطف قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} عليه، أي: يبعثكم فينبِّئكم يوم يجمعكم ليوم الجمع؛ لأن البعث حاصلٌ قبل الجمع، وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلخ. جملة معترضة بين الفعل والظرف، و(يوم الجَمْع) يوم القيامة.

وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} جاء فيه اسمُ الإشارة للبعيد لتهويله ولَفْت العقول إليه، فلذلك عدل عن وصفه بيوم بعده فلم يقل: (ليوم الجمع يوم التغابن)؛ لئلا يفوت معنى الحصر المقصود، وسيُعلم ما فيه من النكتة.

وجملة: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، جملةٌ اسمية مُعرَّفة الجزأين، فكان حقُّها أن تفيدَ الحصر، أي: هو يوم التغابن وليس غيرُه من الأيام يومَ التغابن. ومعنى هذا الحصر أن ذلك اليوم لمّا حصل فيه التغابن في أمّ الفضائل جُعِل ما عداه من الأيام التي يقع فيها التغابنُ كالعدم، فحصر جنسَ يوم التغابن في ذلك اليوم بتنزيل التغابن الواقع في غيره منزلة العدم، وهذا من قَصْر الصفة على الموصوف على وجه المبالغة، وهذا الوجه من الحصر يسمَّى بالحصر الادِّعائي؛ لأن المتكلِّم يدَّعي أن الوصف بيوم التغابن محصور في ذلك اليوم، وهو يوم الجمع، كقولهم: أنت الحبيب.

واعلم أنّ الحصر إنما حصل هنا من صيغة القصر التي هي تعريفُ المسند والمسند إليه، ولم يحصل الحصرُ من التعريف باللام في قوله: {التَّغَابُنِ}، بناءً على أنّ اللام فيه دالةٌ على معنى الكمال؛ لأن معنى الجنس الذي هو أصلُ معنى اللام صالِحٌ هنا، فلا يُعْدَل عنه إلى حَمْل اللام على معنى الكمال، إِذْ لا يُحْمَل عليه إلا عند تعيُّن الحمل عليه بالقرينة؛ وهي منفيةٌ هنا لاستقامة الحمل على تعريف الجنس، وهو أكثرُ معاني اللام.

ولولا صيغةُ القصر لمَا استُفِيد معنى الحصر، فكيف يكون حاصلًا من معنى الكمال الذي لم ينشأ في هذا المقام إلَّا من حصول معنى الحصر؟ فلا يختلطْ عليك، كما اختلطَ على بعض العلماء.

والتغابن مشتقٌّ من الغَبْن، والغبن الحطُّ من قيمة المبيع عند شرائه، فكلُّ شراء بأقلَّ من القيمة فهو غبن. ومادة التغابُن تفاعُل من الغبن. وأصل مادة التفاعل تدلّ على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فصاعدًا، كالتقاتُل والتسابُق، فلفظ التغابن يدلّ على وقوع غبنٍ حاصلٍ بين جوانب في يوم القيامة.

وقد اتفق المفسّرون على أن المفاعلةَ غيرُ مقصودٍ منها هنا وقوعُ الفعل من جوانب، ولكنهم اختلفوا في تحصيل المعنى؛ فذهب الزمخشري ومَنْ تبعه -مثل الفخر والبيضاوي- إلى أن المفاعلة هنا هي أن يغبن أهلُ السعادة أهلَ الشقاوة؛ إذ ينزلون منازلَ الجنة التي كان يمكن لأهل الشقاوة أن ينزلوها لو عَمِلوا عملَ السعداء، وهذا يشبه الغبن، فالغبن المستفاد من هذا الجانب استعارة، وهذا أحد جانبي الفعل. وأمّا جانبُ غبن أهل الشقاوة، فجعلَه الزمخشريُّ تهكُّمًا؛ لأن نزولهم في منازل النار ليس غبنًا لأهل السعادة، وعلى هذا الوجه يكون اللفظُ مستعملًا في مجازَيْنِ مختلفَيْنِ على وجه يشبه المشاكلةَ التقديرية، وهذا المعنى ينحو إلى تفصيل كلامٍ مُجْمَل نُقل عن ابن عباس، وهو تفسيرٌ بعيدٌ جدَّ البعد. 

وذهب ابنُ عطية إلى أنّ صيغة التفاعل هنا غيرُ مستعملةٍ في معناها الأصلي، وهو الدلالة على وقوع الفعل من جانبَيْنِ فأكثر، بل هنا لحصول الفعل من جانب واحد للمبالغة مثل التواضع والتمايل، فيكون المعنى: ذلك يوم الغبن، أي: يوم غبن الكافرين. وهو ينحو إلى تفصيل كلام نُقِل عن مجاهد في تفسير الآية هو أقرب إلى الاستعمال وأبعد عن التعسف، ولكنه لا يشفي الغليل؛ لأن الأشقياء والكفار لم يغبنوا فيما لقوه، بل أخذوا حقَّهم من العذاب فلم يحصل معنى أصل الغبن، فضلًا عن المبالغة فيه المستفادة من مادة التفاعل التي لا يحسن ادّعاؤها إلا إذا كان أصلُ الفعل واقعًا، فهذا التفسير، وإن خرج من ورطة عدم صحة التفاعل، لم يخرج من ورطة عدم وجود أصل مادة الغبن. وجميع التفاسير -في رأينا- لم تخرج عن هذين المعنيَين، إمّا مع ضبط أو مع تخليط، ومنهم من مرّ بالآية مرًّا، ولم يحتلب منها دُرًّا. أما أنا فأَكُدُّ ثِمادِي، وأستهدي بالهادي، فأقول: ليس المعنى في الآية حاصلًا من مراعاة معاني المفردات، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز، ولكنه معنى عزيزٌ جليلٌ حصل من مجموع التركيب، وهو قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، فقد أشار الحصرُ الادّعائي الذي قدَّمْنا بيانَه إلى أن المخاطَبِين يحسبون أيّامًا كثيرة أيامَ تغابن، وأنّ هذا اليوم المتحدَّث عنه هو يومُ التغابن لا غيره من الأيام.

فبنا أن نتعرف الأيامَ التي يعدها المخاطَبون أيامَ تغابن، وأن نرجع إلى أحوال المخاطَبِين، وهم أهلُ مكة ومَنْ حولهم؛ ذلك أن (التغابن) هنا قد أضيف إليه (يوم)، فعلمنا أن ليس المرادُ من التغابن تغابنَ آحاد الناس في بيوعاتهم الخاصّة التي تَعْرِض من ساعة إلى أخرى، وفي يوم معيَّن يكثر فيه التبايع، فيُغبن فيه ناسٌ كثيرٌ، ويتربَّص فيه بعضُ الناس ببعض لإلحاق الغبن والخسارة.

ولا نجد أيامًا بهذه الصفة غيرَ أيام الأسواق، وقد كانت قريش أهلَ تجارة، وكانت الأسواقُ حول مكة في الحج: سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز، وسوق مجنة. فكلُّ داخلٍ إلى الأسواق يحرص على أن يجلب الربح إلى نفسه، ويغبن غيره، ويحذر من أن يغبنه غيرُه. فكلٌّ يترقب الربحَ ويحذر الخسارة، ولا يرضى لنفسه أن يكون مغبونًا؛ لأنّ الغبن يُؤْذِن بغباوة المغبون، واستخفاف الناس به، وتمشِّي الحيلة عليه. وكلُّ هذه أوصافٌ يأباها العربي، فشُبِّه في الآية حالُ الناس يوم القيامة بحال الناس يوم السوق في ترقُّب ما ينفع والإشفاق مما يضُرُّ، وهو تشبيهُ هيئةٍ بهيئةٍ، وليس تشبيهَ معنى لفظ مفرد بمعنى مفرد آخر.

واستُعملَ المركَّبُ الدالّ على الهيئة المشبَّه بها، فأطلق على الهيئة المشبهة على طريقة الاستعارة التمثيلية، وهي أعلى أنواع الاستعارة، والمقصود من ذلك تذكيرُ الكفار والمؤمنين بتلك الحالة بين الرغبة والرهبة حتى يستحضروا كأنهم قد تلبّسوا بها فيحذروا سوءَ عاقبتها من الآن، وذلك بأن يَسْعَوا إلى ما يجلب الربح ويتَّقُوا ما يجلب الخسارة الحقّة، قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر: 29]. وقد تكرر في القرآن تمثيلُ حال أهل الفوز وأهل الثبور في الآخرة بحال التجارة، كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}[البقرة: 16].

ونظيرُ هذا المعنى قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي، وذكَره البخاري تعليقًا في بعض أبواب الأدب: «إنما المفلسُ الذي يُفلِس يومَ القيامة». وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ}[النبأ: 39]، أي: يوم القيامة هو يوم النصر؛ لأن اليوم إذا أُطلق فهو يومُ النصر لبعض جيوش العرب أو بعض ملوكهم، كما قالوا: يوم تحلاق اللمم. وفي الحديث: «الصومُ في الشتاء الغنيمةُ الباردة»، فإنه اشتهر بين الناس بالغنيمة الباردة، بمعنى الغنيمة بلا مشقة عمل مِن شأنه إصعاد مرارة البدن، ولكن الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة؛ لأنه غنيمة أجر عظيم حصلت في برودة الجسم، وهو الآمن بهذا الوصف الذي هو وصفُ مدحٍ في عُرفهم، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر: 15]، أي: إذا كنتم تعلمون وَصْف الخاسر فالخاسرون حقًّا هم الذين خسروا أنفسهم...إلخ.

ولذلك جاء هذا الكلامُ المجموع في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} مجيءَ الدليل والمقدمة، وهو أسلوب عجيب في صناعة التخاطب، فهو بمنزلة الدليل لقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}[التغابن: 8]، وهو أيضًا بمنزلة المقدّمة لقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التغابن: 9، 10]، فلا جَرَم أنْ تَحصُلَ للسامعين بعد سماع تلك المقدمة وهذه النتيجة روعةُ الخائف الوَجِل، فتَحمِلَهم على تَوخِّي خير العمل.

 

[1] نُشرت هذه المقالة في المجلة الزيتونية، المجلد 2، الجزء 4، عدد شهر ذي القعدة 1356هـ - يناير 1938م (ص 148- 150)، وقد ضُمنت في (جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام الطاهر ابن عاشور)، جمع: محمد الطاهر الميساوي، ط. دار النفائس (1/ 57- 63) (موقع تفسير).

الكاتب

الشيخ محمد الطاهر بن عاشور

الإمام المفسر الفقيه التونسي، صاحب تفسير "التحرير والتنوير"، وشيخ جامع الزيتونة، توفي عام 1393هـ/1973م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))