التشريع القرآني عند المستشرق نويل جيمس كولسون
(2- 4)
نقد المعرفة

لقد وقفنا في المقالة السابقة[1] مع ترجمة كولسون ومركزية كتابه: (في تاريخ التشريع الإسلامي)، كما بينّا رؤيته للتشريع القرآني بشكلٍ عامّ، ثم الوقوف على ماهية رؤيته بشكلٍ خاصّ من نصّ كتابه المقصود، كما وقفنا على فهم وتحليل الرؤية وما دار في فلكها، وبيان المرتكزات والأُسس التي قامت عليها من خلال التتبع والاستدلال عليها، ليَبرز لنا أنها أُسس لا تخرج عمّا ارتكزَت عليه دراسات المستشرقين قبله رغم اختلاف المناهج وطرق البحث إلا أن الأصول واحدة لا تتبدل أو تتغيّر.
كما بينّا أيضًا في المقالة السابقة نقد المنهج -القانوني- الذي سار عليه كولسون في بناء رؤيته للتشريع القرآني؛ ما جعل المقاربة التكاملية غائبة لدى كولسون لفهم فلسفة التشريع القرآني وظلّت زاوية النظر ضيقة جدًّا عنده، الشيء الذي جعله يحاكم التشريع السماوي إلى التشريع الوضعي الإنساني.
وبعد إدراك رؤية كولسون وفهمها وتحليلها ونقد المنهج الذي استعان به، تأتي المقالة الثانية لمناقشة المعرفة التي وظّفها في ثنايا شرح رؤيته والاستدلال عليها، وهي جزء لا يتجزّأ من بناء التوجّه العام لمقاربته، وأقصد بالمعرفة هنا ما اكتنفه الشقّ المعنيّ بالبحث من الأساليب والمضامين والمفاهيم والأمثلة والاستشهادات التي وظّفها كولسون، وهي تبرهن في حدّ ذاتها على أن رؤية كولسون للتشريع القرآني قد أُسّست على معرفة غير رصينة وغير موثوقة، وسرعان ما يظهر لكلّ متبصِّر فيها مدى قصورها عن مَدِّنا بمخرجات يمكن الاستفادة منها أو البناء عليها لفهم التشريع القرآني بشكلٍ أعمق.
أولًا: المفاهيم:
إنّ مما أسهم في بُعد كولسون عن مقاربة التشريع القرآني من زاوية نظر صحيحة هو خَلطه الحاصل بين مفاهيم أساسية أو فهمها على غير مرادها في الدرس التشريعي القرآني، حيث بنى على هذا الخلط مجموعة من المخرَجات التي لا يمكن قبولها بأيّ حال من الأحوال؛ ومن ذلك على سبيل المثال خلطه بين الفقه والشريعة في كثير من المواضع، والثابت والمتغيّر، وكذلك مفهوم القوامة الذي أخرجه عن ماهيته في القرآن؛ بل ناقش الأمر بناء على فهم خاطئ حدث عنده كما سيأتي، ولا شكّ أنّ مثل هذه الهفوات الجسيمة تنقص من قدرِ العمل ومخرجاته بحيث لا يُسلَّم لكولسون بالمشكلات التي أوردها كنتائج في نهاية دراسته للتشريع القرآني بناء على هذه المعرفة.
- الشريعة والفقه:
إنّ النّاظر في حديث كولسون عنالفقه والشريعة يجد نوعًا من التداخل المتكرّر طيلة دراسته، فأحيانًا يُورد مصطلح الشريعة في مكان الفقه أو العكس، ومن ذلك حديثه عن الجمود الفقهي فيما يتصوّره قائلًا: «لقد ظلّ العُرف المحلي معمولًا به في تلك الوقائع التي بدت فيها الشريعة غير قادرة على تلبية الحاجيات الضرورية مما أدّى إلى التوسّع في اختصاصات المحاكم الشرعية»[2]، في حين الحديث هنا مفروض عن الفقه الذي يجيب عن حاجيات ومتطلّبات المجتمعات، وليس عن الشريعة التي تمثّل المبادئ العامة والنسق التشريعي الذي لا ينبغي الخروج عليه، ومنه لا بدّ من إدراك الوضع التشريعي الذي يمثل الفقه والشريعة التي تمثل الأصول المستمدة من القرآن والسنّة.
ولعلّ سبب هذا الخلط راجع بالأساس لعدم الاستيعاب الكامل للفروق الحاصلة بين الشريعة والفقهوالنابعة من فهم النسبة بينهما، والتي تتمثّل في العموم والخصوص من وجه، فيجتمع الفقه والتشريع في الأحكام التي أصاب المجتهد فيها حكم الله، ويفترق الفقه عن الشريعة في الأحكام التي أخطأ فيها المجتهد، وتفترق الشريعة عن الفقه في الأحكام التي تتعلّق بالجوانب الاعتقادية والأخلاقية وبقصص الأمم الماضية.
ومن ذلك أيضًا أنّ الشريعة كاملة بخلاف الفقه، فالشريعة تناولت القواعد والأصول العامة، ومن هذه القواعد والأصول تستمدّ الأحكام التي لم يُنصّ على حكمها في جميع أمور حياتنا، أمّا الفقه فهو آراء المجتهدين من علماء الأمة، كما أنّ الشريعة مُلزمة للبشرية كافة، فكلّ إنسان إذا توفّرت فيه شروط التكليف ملزَم بكلّ ما جاءت به مِن عقيدةٍ وعبادةٍ وخلقٍ، بخلاف الفقه المتمثّل في آراء الفقهاء فهي غير ملزمة، ومن ذلك أيضًا أن أحكام الشريعة لا خطأ فيها عكس أقوال الفقهاء فقد يعتريها الخطأ، ثم استمرارية أحكام الشريعة وخلودها عكس واقع الفقه الذي يتغيّر من عصر لآخر[3].
وقد علّق أحمد سراج ردًّا على هذا الخلط الحاصل عند كولسون قائلًا: «يستخدم المؤلِّف كلمة الشريعة، وكان عليه أن يستخدم كلمة فقه، جريًا على قاعدته في التمييز بين الفقه والشريعة. إنّ الشريعة هي المبادئ العامة للدِّين الإسلامي، وسيعترف المؤلِّف نفسه بعد قليل بأنّ هذه المبادئ تتسع لتلبية احتياجات أيّ مجتمع متحضِّر. أمّا الفقه فإنه مجموعة الأحكام العملية المبنية على مبادئ الشريعة والتي استنبطها الفقهاء من نصوص الشرع. ومبادئ الشريعة عامة لا تقبل التغيّر... وهذا مثال على خلط كولسون بين مصطلح الفقه والشريعة، مع ما يبدو في كثير من الأحيان على قدر كبير من الفهم لاختلافهما»[4].
ومن هنا يظهر لنا نموذج من الخلط الحاصل في أهم المفاهيم المركزية التي بنى عليها كولسون الكثير في ثنايا كتابه. وإنّ عدم استيعاب هذه الفروق الدقيقة بين الشريعة والفقه والثابت والمتغير...إلخ؛ جعله يقول بجمود الفقه في أكثر من موضع، كما قال أيضًا بعدم استقصاء الخطاب التشريعي في القرآن للمشكلات القانونية ما جعل البيئة المسلمة تعمد إلى ما كان عرفًا في القانون القبَلي البدائي، وغير ذلك من القضايا التي بُنيت على هذا الطرح في باقي فصول الكتاب.
- القوامة:
ومن المفاهيم أيضًا التي فهمها كولسون على غير مرادها في معرض حديثه عن التشريع القرآني مفهوم القوامة، حين تحدّث بالضبط عن التغييرات التي عرفها التشريع القرآني في مقابل القانون العرفي في نصّ كتابه قائلًا: «وتَقطع مثل هذه التغييرات شوطًا بعيدًا في مجال تحسين وضع الزوجة، ولكن في حدود ما شرعت لأجله، وهو تقديم العلاج لبعض المشكلات الخاصّة التي عانت منها الحياة الزوجية؛ إِذْ لم تحاول هذه التغييرات خلق بناء جديد تمامًا للقانون الأسري، كما أنها لم تهدف إلى استئصال المفاهيم الأساسية للقانون العرفي السائد. فالزواج يظلّ -بعد هذه التغييرات- عقدًا يحتلّ فيه الزوج مركزًا محتكمًا شبيهًا بمركز المشتري من قبل. ويحتفظ كذلك بحقّه الأساسي -الذي هو نتيجة طبيعة لمركزه المتميز والشبيه بمركز المشتري- في إصدار الطلاق من جهته، حسب إرادته هو وحده. وينصّ القرآن على ذلك صراحة على أنّ الرّجال قوامون على النساء بما بذلوا من أموالهم في المهر والنفقة»[5].
ويظهر جليًّا أن كولسون فهم القوامة في الخطاب القرآني بمعنى السُّلطة والسيطرة والانفراد بالحكم للرجل فقط دون المرأة، بل دفعه هذا الفهم للإقرار بأنّ القرآن لم يغيّر ما كان عليه وضع الزوجة في هذه الجزئية وهو ما كان سائدًا في العُرف القَبَلي الجاهلي، بل أكبر من ذلك فإنّ كولسون من خلال هذا النموذج المتعلّق بالقوامة وغيره من النماذج جعلته يرى أن التشريع القرآني اعتمد على العُرف الجاهلي وغيّر بعض جزئياته فقط، قائلًا: «والخلاصة أن التشريعات القرآنية إنما عمدت لتعديل العُرف السائد وتغيير بعض جزئياته أكثر ممّا أرادت الإلغاء التام لقواعد العُرف»[6].
في حين أن القوامة في المفهوم القرآني ليست كما يراها كولسون متجسّدة في الاستبداد والسيطرة، وكلّ المعاني غير المقبولة والتي هي مدعاة للظُّلم والقهر، بل إنّ القوامة تعني القيام على الزوجة بما تحتاجه من كسوة ونفقة ورعاية في كلّ مناحي الحياة. وعند ابن جرير -رحمه الله- القوامة هي أنّ«الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم»[7]، وعند ابن كثير -رحمه الله- أنّ«الرجل قيِّم على المرأة، وهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدّبها إذا اعوجّت»[8]، وفي أحكام القرآن عند ابن العربي -رحمه الله- «أنه أمين عليها يتولّى أمرها، ويصلحها في حالها... وبفضل القوامة فعليه أن يبذل المهر والنفقة، ويُحسن العشرة ويحجبها، ويأمرها بالطاعة، ويُنهِي إليها شعائر الإسلام من صلاة وصيام...»[9].
فكلّ المعاني الاصطلاحية لمفهوم القوامة تدلّ على أنها الرعاية والصيانة والكفالة والحماية بما تتحقّق به الحياة الآمنة والكريمة، فضلًا عن الأمور الدينية التي هي الأصل الأول. والذي ينبغي العلم به في هذا السياق أن المصطلحات القرآنية وإن نُظِرَ إليها بمنظار قانوني كما هو الشأن عند كولسون فلا ينبغي أن تخرج عن معناها الذي أراده الشارع منها، ولا يتأتّى هذا المعنى حقيقةً إلا بالوقوف على المصطلح القرآني ودراسته دراسة موسّعة وليس مجرّد المرور السطحي على الآيات فحسب كما هو حال جُلّ المستشرقين أو الاعتماد على الجانب اللغوي فقط[10].
وتجدر الإشارة إلى أنّي اكتفيتُ بما هو حاصل في المقدمة وفصل التشريع القرآني، وإلا فهناك مفاهيم أخرى مركزية في ثنايا الكتاب يمكن الوقوف عليها وملاحظة مدى توظيفها في غير محالّها أو فهمها على غير معناها الذي أراده القرآن منها، لكن حسبي ما له صِلَة بمحددات الدراسة.
ثانيًا: الأساليب والمضامين:
سبق الحديث أنّ كولسون قد عُرف بأسلوبه ونمطه الأكاديمي وحسّه التحليلي الهادئ، فلم يكن يعمد في كتابه: (في تاريخ التشريع الإسلامي) إلى ذلك الأسلوب الفجّ الفاضح المبنيّ على التحقير والتنقيص الناتج عن التعصب تجاه مواقف العلماء وإنتاجاتهم فضلًا عن الوحي بصفة عامة والتشريع القرآني بوجه خاصّ، بل كان أكاديميًّا وطّن نفسه على النقاش الجذّاب الذي لا يسلم من دسائس وشبهات ناعمة قد لا يشعر بها الكثير؛ بل هذا الأمر هو ما دفع العديد من الباحثين لمدحه والثناء على كتابه المذكور آنفًا وعلى أسلوبه الهادئ.
وهذا عكس الأسلوب الذي ينهجه كولدزيهر وشاخت وغيرهما من المستشرقين ذَوي الأسلوب الجافي المسيء بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، فمن رجع إلى أعمالهما وبخاصّة التي لها علاقة بأصول الإسلام يُلفِي مدى درجة الحقد الذي يظهر في صور استهزاء وطعن وتحقير...إلخ، فما أن يناقشَا مسألة إلا ودسّا فيها من التعصب والحقد الأمر الكثير الذي لا يكاد يخفى على كلّ من وقف على نتاج هؤلاء المستشرقين ومَن كان على شاكلتهم.
وعليه، فرغم تميّز كولسون بأسلوب أكاديمي جذّاب -كما يقرّر الكثير- والبعيد كلّ البُعد عن الطريقة المعهودة لدى باقي المستشرقين القدماء، فإنّ هذا لا يعني الاتفاق معه في هذا الأسلوب وما اكتنفه كتابه من خلاصات، حيث يجدها الباحثُ ثقيلة على فهمه غير مطمئن لسياقات توظيفها وربطها بالمضامين التشريعية التي رام بيان مشكلاتها، فأحيانًا يعتريها التعسّف والغموض والاشتراك اللفظي والتعميم، وأحيانًا تكتنف التناقض المتكرر، وتارة تُشحن بالمغالطات، سواء بقصد أم بغير قصد، كما أُشبعت بالقياس الإضماري وأسلوب التأثر؛ الشيء الذي جعل منظومة المعرفة التي استعملها كولسون في كتابه كلّه تواجه ثلة من الانتقادات، وحسبي في هذه المقالة ما له صِلَة بالتشريع القرآني.
- التناقض:
وهذا ملحوظ بكثرة وبخاصّة في التعامل مع مصادر الإسلام في الحديث عنها بين الفينة والأخرى، فلو أخذنا على سبيل المثال حديثه عن بساطة التشريع القرآني وقلّة قواعده في مقارنته بقوانين الألواح الاثني عشر الرومانية قائلًا: «ومع ذلك يختلف التناول القرآني عن قوانين الألواح الاثني عشر في أنه لم يتتبع -ولو على نحو مبدئي- العناصر الأساسية لأيّ علاقة قانونية بغية استقصائها»[11]، وبعدها بقليل وفي ذات سياق الحديث عن طبيعة التشريع نجده يقول: «وحقيقةً عالج القرآن [الكريم] بعض الموضوعات القانونية على نحو ملحوظ من التفصيل والبسط»[12]، ومُلاحَظٌ بشكلٍ جلي كيف ينفي كولسون التتبّع عن التشريع القرآني ثم يثبته تارة أخرى معبرًا عنه بالتفصيل والبسط.
- الإبهام:
ومن الأساليب التي نجدها عند كولسون الإبهام[13]، فكثيرًا ما يميل إلى هذا الأمر تاركًا القارئ في حيرة، ومن ذلك على سبيل المثال حديثه عن عدم استقصاء المشكلات القانونية في القرآن فنجده يقول: «وينبغي [أي: عدم الاستقصاء] ألّا يُشكل في فهمنا أيّ قصور في النصّ القرآني بالرغم من أنّ القرآن قد أتى في بعض مجالاته بقواعد جديدة تبدو غير مكتملة في ذاتها»[14]، ونفس الأمر يُقال في التعميم الذي ينهجه كولسون في بناء الأحكام حول التشريع القرآني من خلال دراسة مثال واحد في المسألة أو يدعها بدون مثال كما سيأتي في الحديث عن الأمثلة.
- التعميم السريع[15]:
وهذا مُلاحَظ في مقاربة كولسون وبخاصّة بعد إيراد الأمثلة والاستشهادات يزدلف مباشرة لدراستها دراسة سطحية لا تتسم بالتحليل الكافي والعمق المطلوب، ليأتي بعدها الحكم معممًا دون استثناء على التشريع القرآني بأكمله، وتفاديًا للتَّكرار في هذا المقام فإن أمر التعميم عند كولسون سيظهر جليًّا مع الأمثلة والأحكام التي يؤكّدها بها، وكذلك عند المضامين؛ كقوله بجمود الفقه، واستناد التشريع القرآني على العُرف الجاهلي، وتحديد آيات الأحكام في ثمانين، وعدم استقصاء القرآن للمشكلات، وغير ذلك من المضامين التي كانت نتيجة تعميم دون تفصيل أو بيان، بل حتى الأمثلة لم تكن كافية بالشكلِ المطلوب لبناء مثل هذه الأحكام المركزية عليها في تصور كولسون للتشريع.
- الانتقائية[16]:
وهذه الانتقائية ارتبطت بشكلٍ مباشر بالأمثلة والاستشهادات التي أوردها كولسون حيث «استعان بكثيرٍ من الأخبار والروايات التي تصوّر حياة العرب القانونية قبل الإسلام، بدون أن يوجّه إلى هذه الأخبار أدنى قدر من التّشكيك، على الرغم من أنه سيرفض بعد ذلك كثيرًا من السّنن التي تزيد على هاته الأخبار في الصحة والقبول، وعلى الرغم من العناية الزائدة بهذه السّنن. ولا نلومه على القبول بقدر ما نلومه على الرفض، أو أنه كان عليه -في الأقل- أن يبيّن لنا منهجه الذي بنى عليه قبوله لما رَوى عن أعراف العرب وقوانينهم»[17].
أمّا من جهة المضامين التي قدّمها كولسون فيما يتعلّق بالتشريع القرآني فكانت مشحونة بالمغالطات، سواء بقصد أو بغير قصد، ولا شك أنه أمر عادي في ظلّ الخلط بين عدة مفاهيم مركزية كما سبق الحديث عن أبرزها، أو فهمها على غير مرادها، واعتماد أساليب لم تفِ بالمطلوب. وممّا اكتنفته رؤية كولسون للتشريع القرآني من مضامين غير مقبولة ما يأتي:
- جمود الفقه:
يعدّ القول بجمود الفقه من أبرز المضامين التي خلص إليها كولسون بسبب البُعد الحاصل بين الجانب النظري والتطبيقي من جهة في نظره، وعدم وجود مدونات واضحة للتقاضي مستدلًّا على ذلك ببعض السياسات الظالمة التي مرّت في تاريخ الأمة الإسلامية ولم تكن على بينة من تطبيق الشريعة في العديد من ممارساتها من جهة أخرى، وعليه فإن المضمون الذي خلص إليه كولسون في هذا المقام غير صائب من وجوه عدة، أبرزها:
- أن تطبيق الشريعة الإسلامية ظلّ قائمًا إلى زمن قريب، «ولعلّه تواكَب مع غروب الدولة العثمانية والهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامي. وبعض النَاس -عن جهل أو عمد- يزعمون أن الشريعة لم تطبق في أحقاب كثيرة من تاريخنا الإسلامي. وهؤلاء المساكين يخلطون بين سيطرة الشريعة كنظام وقانون وأخطاء التطبيق، علمًا بأن أخطاء التطبيق كانت وستظلّ إلى يوم القيامة»[18].
ولعلّ هذا الخلط الذي وقع فيه كولسون حين بَيَّن أن حُجّته في ذلك هو ما تمارسه السلطة السياسة الغاشمة التي عرفها تاريخ الأمة الإسلامية في عدد من الحقب ليقول: «وما يمكن تقريره هنا أن معايير القانون الشرعي واحتياجات العمل السياسي لم يلتقيَا غالبًا. ولربما كانت القوة المستبدة للسلطة السياسية هي التي ألجأت الفقهاء إلى التحوّط باتّباع أسلوب التباعد والتجاهل بدلًا عن المجاهرة بالإنكار والاعتراض على ما يجري من تطبيقات قانونية[19].
- أن عمل الفقهاء ظلّ مستمرًّا ولم ينقطع في كلّ العصور من خلال تتبع الحوادث والمستجدات، ولم تتوقف حركية هذا الشق من الاشتغال بل «توالت حركة التأليف بمعنى الجمع بتوالي الأيام وتعاقب الحوادث والأقضية، ولعلّ الذي شغل الفقهاء عن بيان منهجهم وتنظيم مادة مؤلّفاتهم، هو سرعة وتيرة تلاحق الحوادث مما لم يسعف الفقيه في ترتيب المادة وجمعها وتبويبها، فكان له في كلّ يوم وقائع ونوازل، بل وفي كلّ ساعة ولحظة، وكأنّ الفقيه أخذت منه المسائل وقته كلّه في إيجاد الأجوبة المناسبة، وهي عملية ليست بالسهلة؛ لِما تتطلّبه من مراجعة واستحضار لأقوال السابقين، وإعمال النظر... على أن أمر التصنيف والتبويب والتقييد أُوكِل في الغالب إلى التلاميذ الذين تولوا فيما بعد جمع المادة مما سمعوه عن شيوخهم المفتين»[20].
وإنّ ما ذهب إليه كولسون بوصف الفقه بالجمود هو مخالف تمامًا لِما عليه العمل في الواقع، حيث ظلّت «ملاحقة الفقهاء للوقائع والأحداث الجديدة للحكم عليها. والواقع أن عمل الفقهاء هذا لم ينقطع مطلقًا، والدليل على ذلك تتابع كتب الفتاوى وفقهاء السياسة الشرعية كانوا المدد الذي حقّق تواصل الاجتهاد واستمراره»[21]، ولكن تأثر كولسون بنمط التقنين الوضعي وطبيعة إرسائه للمواد القانونية للحكم على الحوادث جعلت كولسون لا يلتفت لهذا الشّقّ من استمرار عمل الفقهاء في كلّ عصر ومصر، حيث كان حلقة وصل بين الجانب النظري والتطبيقي في التشريع.
- أنّ السياسات الظالمة والجائرة التي أثّرَت على تطبيق التشريع بصفة عامة أو إلغائه بالمرّة لا يمكن ردّ جمود الفقه لها أو ربطه بها؛ لأن هذه السياسات الجائرة لا تقرّ أصلًا بالتشريع ولا تجعله مرجعًا لها حتى يمكن الحديث عن الجمود الفقهي في مثل هذه المحطات التاريخية، بل حتى إن جعلت تعاليم الإسلام مرجعًا فإنه ينبغي بالأساس التفرقة بين السياسات العادلة الموافقة لِما قرّره الشرع وبين السياسات الظالمة التي لا علاقة لها بالتشريع.
- استناد التشريع القرآني إلى العُرف الجاهلي:
ومن المغالطات التي قدّمها كولسون في ثنايا مضامين دراسته للتشريع القرآني تأكيده في أكثر من موضع أنّ التشريع القرآني استند على العُرْف الجاهلي وغَيَّر في بعض جزئياته فقط، قائلًا: «والخلاصة أن التشريعات القرآنية إنما عمدت لتعديل العُرف السّائد وتغيير بعض جزئياته أكثر مما أرادت الإلغاء التّام لقواعد العرف»[22]، ويقول في تقرير آخر: «وهكذا يتّضح مرّة أخرى أنّ التشريع القرآني لم يبطل القانون العرفي السائد بقدر ما عمل على تحويره والإضافة إليه»[23]، وغيرها من المواطن التي يقرّر فيها هذا الاستنتاج الخطير الذي مفاده أن التشريع القرآني أقرّ قواعد العرف الجاهلي وأضاف لها ما يتناغم مع النمط الخُلقي الذي أتى به القرآن في التشريع.
في حين أن الأمر على عكس مما ذهب إليه كولسون «فلم يدع القرآن الكريم أسلوبًا من أساليب اللغة إلا استعمله في التنديد بالجاهلية (شرائع وشارِعين)، فوبَّخهم، واستنكر عليهم وتهكَّم بهم، وقرَّعهم، وسفَّه أعمالهم، ودمغهم بأقصى النعوت، وأدار معهم حوارًا واسعًا حادًّا، واستخدم فيه الأمثال، والقصص، وفنون الاستدلال والاستشهاد، وأبطل كلّ مزاعمهم، وفنّد آراءهم وأكاذيبهم[24]، وتنديد القرآن بما كانت عليه العرب قبل الإسلام لم يشمل فقط شقّ التشريع، بل كان عامًّا، بدءًا من العقائد ثم العبادات والمعاملات والتنظيماتوالسياسات والأخلاق.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: 59]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: 116]، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾[الأنعام: 136]، وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة على أن الخطاب القرآني لم يوافق على ما كان سائدًا في العُرف الجاهلي من سياسات وتنظيمات فضلًا عن المعتقدات.
وهذا طبعًا مخالف لما قرّره كولسون كما تقدم؛ إِذْ سياسة التشريع القرآني وفلسفته تخالف العرف الجاهلي وما وضعه من تنظيمات كان مستندها في غالب الأحوال القوة بالأساس، بل تجاوز الخطاب القرآني أمْرَ تغيير العرف الجاهلي إلى إبطال التشريعات التي كانت تضعها العرب لمصلحتها، سواء زعماء القبائل أو الكهان...إلخ، وتنسبها إلى الله عز وجل -مثل شرائع الحُمْس[25]- لتضفي عليها طابع القدسية، وقد تتبع القرآن ذلك فاضحًا زعمهم وأضاليلهم وافتراءاتهم التي لم تترك بيتًا عربيًّا إلا ودخلته؛ لذلك اصطدموا مع الخطاب القرآني وبخاصّة في التشريع المكي لمّا كشف فُحشهم وكذبهم وكشف عن هويتهم الحقيقية حين تحدّاهم.
فكيف لكولسون أن يقرّر هذا الاستنتاج تجاهَ التشريع القرآني بأكمله من خلال دراسة مثال أو مثالين[26] خلص من خلالهما للتعميم السريع، ولا شك أن هذا التسرُّع مرَدُّه للخلفيات والمقدّمات التي تؤطّر الفكر الاستشراقي برمّته، لنجد عددًا من المستشرقين -وضمنهم كولسون- يهضم التحليل والمناقشة والأدلة النقلية والعقلية للوصول سريعًا إلى نتائج مقصودة ابتداء، أمّا ما نراه من سجالات يسيرة فهي لا تغوص في عمق الموضوع، بل تناقشه بسطحية لا غير.
- تحديد آيات الأحكام في ثمانين آية:
ومن صميم المضامين التي ابتعد فيها كولسون عن الصواب تقريره متسرعًا كما هي عادته أنّ آيات الأحكام ثمانون آية، ويقول في معرض ذلك: «مع غلبة الاتجاه الخلقي على التشريعات القرآنية من حيث السّمة التي تميزها، فإنّ الآيات التشريعية ليست بكثيرة -من حيث العدد- بأيّ مقياس؛ إِذْ تقرر مجموعها بحوالي ستمائة آية، كما أن أكثر هذا العدد يتعلّق بتحديد أحكام الفرائض الدينية والشعائر من صلاة وصيام وحج، بحيث لا يبقى إلا قريب من ثمانين آية هي التي اختصت بالموضوعات القانونية البحتة»[27].
في حين أنّ الأمر على غير ما ذهب إليه كولسون في تقرير هذا الاستنتاج، وحسبي بيانًا في هذا المقام ما ذكَرَه أربابُ هذا الشأن في آيات الأحكام، بحيث اختلفوا على قولين، ويمثل القول الأول: الفريق الذي يرى حصر عدد الآيات بعدد معيَّن، ومن ذلك ابن قيم الجوزية الذي يرى أنّ آيات الأحكام مائة وخمسون آية، وذهب محمد صديق خان إلى أنها «مائتا آية أو قريب من ذلك. وإنْ عدلنا عنه وجعلنا الآية كلّ جملة مفيدة يصح أن تسمّى كلامًا في عرف النحاة، كانت أكثر من خمسمائة آية»[28]، وذهب آخرون إلى أنها خمسمائة، وقال بهذا القول الغزالي في المستصفى، والرازي في المحصول، وابن العربي، وابن قدامة في الروضة... إلى آخر تلك الأقوال التي سعت لحصر عدد آيات الأحكام.
وقد بيَّن الشيخ محمد الخضر بن الحسين في معرض حديثه عن عدّ آيات الأحكام وبالضبط في اقتصار العلماء على خمسمائة آية قائلًا: «واقتصروا في تقديرها على هذا العدد؛ لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان -وهو أوّل من أفرد آيات الأحكام في التصنيف- قد جعلها خمسمائة آية. وقد نازعهم ابن دقيق العيد في هذا التقرير، وقال: مقدار آيات الأحكام لا ينحصر في هذا العدد، بل هو يختلف باختلاف القرائح والأذهان، وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط. والراسخ في علوم الشريعة يعرف أن أصولها وأحكامها ما يؤخذ من موارد متعدّدة حتى الآيات الواردة في القصص والأمثال»[29].
أمّا القول الثاني: فقد ذهب أصحابه إلى عدم حصر آيات الأحكام في عدد معين، وممن قال بذلك الإمام ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس)، والعزّ بن عبد السلام في (الإمام في بيان أدلة الأحكام)، وابن دقيق العيد، والقرافي في (شرح تنقيح الفصول)، والطوفي في (شرح مختصر الروضة)[30].
ولا شك أن الأحكام تُستخرج من كلّ آي الفرقان إمّا بشكل مباشرة ومصرَّح به أو بشكلٍ غير مباشر عن طريق الاستنباط؛ لذلك علّق محمد أحمد سراج في ترجمته لكتاب كولسون قائلًا: «ولا أدري من أين أتى المؤلِّف بتحديدٍ لآيات الأحكام التي تناولتْ موضوعات قانونية بحتة في ثمانين آية. وكان عليه أن يذكر مصدره لمتابعته فيه. وانطباعي الخاصّ أن هذا الأخير غير صحيح؛ إِذْ يصل عدد آيات التشريع الواردة في سورة البقرة في موضوعات الأحوال الشخصية وَحْدَها إلى قريب من خمسين آية في النظر الأول لسورة البقرة والنساء والنور والطلاق، ولو تعمّدنا الإحصاء فقد يزيد العدد على ذلك»[31].
وإلى هذا الحدّ يتبيّن لنا أنّ المضامين التي خلص إليها كولسون في مقاربته للتشريع القرآني لا يعوّل عليها في فهم التشريع الإسلامي بصفة عامة أو الشّقّ المتعلّق بالقرآن الكريم بوجه خاصّ جراء حملها مغالطات لا يُستهان بها؛ والتي جعلته يقرّر في نهاية حديثه عن التشريع القرآني ما مفاده أنه يعاني من مشكلات عدّة سيأتي الحديث عنها في المباحث القادمة.
ثالثًا: الأمثلة والاستشهادات:
ومن صميم الانتقادات الموجهة لرؤية كولسون للتشريع القرآني ما يتعلّق بالأمثلة والاستشهادات التي وظّفها في مقاربته، بحيث نجد معظم الأمثلة لا تصلح في غالب الأحيان لتقرير مضامين كبرى وأحكام عامة تجاه التشريع لا من حيث اختيارها أو أوجه دلالاتها فضلًا عن مناقشتها، ونفس الأمر يُقال في الاستشهادات التي ركّزت على الانتقاء المكشوف دون بيان دواعي هذا الانتقاء الداعم للمسائل التي يُوردها، ومن جهة أخرى فإنّ هذا الشّقّ الذي أودّ الحديث عنه الآن ذو ارتباط وثيق بالأساليب والمضامين التي سبقت معنا. وعليه، فإن التركيز سينصرف للأبرز من الأمثلة والاستشهادات.
وينبغي العلم أن الأمثلة التي أوردها كولسون وناقشها وبيّن وجه دلالاتها عنده لتقرير أركان رؤيته تجاه التشريع القرآني معدودة جدًّا، وقد تمثّلت في المواضيع الآتية: عقوبة شرب الخمر، وأكل أموال اليتامى، والتبنّي، والزواج والطلاق، والقوامة، والربا، والزكاة، بل حتى المناقشة لهذه الأمثلة عادة لا تتجاوز صفحة واحدة على الأكثر وهو الغالب، لكن حسبي من هذه الأمثلة بيان مكامن قصورها من جهة الاستعانة بها ومناقشتها.
- عقوبة شرب الخمر:
أورَدَ كولسون مثالَ عقوبة شارب الخمر في معرض الحديث عن نمط التشريع القرآني وغلبة الإلزامات الخلقية التي يرضاها المجتمع دون أن تترجم لِما هو واقعي قائلًا: «إنّ معظم المفاهيم الأساسية والحيوية التي يقوم عليها أيّ مجتمع متحضِّر يعبِّر عنها القرآن عادةً فيما يُشبه أن يكون إلزامًا خلقيًّا... وكلّ المفاهيم في القرآن باعتبارها معايير السلوك المطلوبة. دون أن تترجم إلى بناء قانوني للحقوق والواجبات من أيّ نوع. ونجد هذه السّمة الأخلاقية في كثير من القواعد المميزة للإسلام؛ فمثلًا يعلن القرآن تحريم شرب الخمر والتعامل بالربا في عبارات متماثلة تغلب عليها هذه السّمة؛ دون أن يتضمّن إشارة إلى النتائج القانونية العملية لهذا التحريم»[32].
إنّ الملاحظ للوهلة الأولى في هذا المثال الذي أوردَ كولسون بغية تأكيد غلبة الاتجاه الخلقي على التشريع القرآني قوله أنّ: تحريم الربا والخمر جاء في عبارات متماثلة، والأمر ليس كذلك، ورغم تدرّج الربا في التحريم كما هو شأن تحريم الخمر، لكن العبارات تختلف، كما يختلف الجزاء الأخروي المترتب على شرب الخمر بمقارنته مع عِظَمِ الجزاء الوارد في أكل الربا. ومن جهة أخرى نفترض أن الأمر كما ذهب إليه كولسون أن العبارات متماثلة في التحريم، فكان من باب الأَولى بيان هذا التماثل، لكن كما تقدم في معرض الحديث عن أسلوب كولسون، فهو أسلوب يعتريه الإبهام بين الفينة والأخرى.
أمّا الحديث عن أثر العقوبة الإجرائية لشارب الخمر فهي ثابتة باتفاق على عكس ما نفاه كولسون بعدم الإشارة إلى النتائج القانونية العملية لشارب الخمر، و«لقد اتفقت جميع مذاهب المسلمين على وجوب عقاب من يرتكب جريمة الشرب، غير أنهم اختلفوا في كون هذا العقاب حدًّا أم تعزيرًا، والذين قالوا إنه حدّ اختلفوا أيضًا في مقداره؛ ففريق يقول بأن الحدّ أربعون جلدة، والفريق الثاني يقول أنّ الحدّ ثمانون جلدة، لكن جميع الصحابة والتابعين مجمِعون على جَلْد شارب الخمر أو ضربه، وإنما اختلفوا في العدد، أمّا ثبوت مطلق الجلد فلا اختلاف عليه، وهذا هو الذي يهمنا في هذا البحث»[33].
وذهب آخرون باعتقاد أن «عقوبة شارب الخمر ليست حدًّا إنما هي من عقوبات التعزير...، واستنتجوا أن حدّ السّكر غير واجب، وأنه تعزير غير مقدّر بحدّ»[34]، ولا شك أن هذه أقوال نابعة من صحيح السنّة النبوية وعمل الصحابة -رضي الله عنهم- لكن ليس المقام هنا مقام تتبع للأدلة في مظانها بقدر ما هو مقامٌ لبيان أن العقوبة ثابتة وهي بمثابة إجراء عملي عقابي لشارب الخمر، وهو عكس ما قرّره كولسون أن تحريم الخمر يفتقد للنتائج القانونية والإجراءات العملية الملموسة واقعيًّا.
- القوامة والطلاق:
أوردَ كولسون مثالَ القوامة والطّلاق بشكلٍ ممزوج في التشريع القرآني في معرض الحديث عن المشكلات والتّعثرات التي تعاني منها الحياة الزوجية، وأن التشريع القرآني لم يُضِفْ أيّ تغيير قانوني جذري للأسرة بغية تجاوز وضع العرف الجاهلي رغم تغيير بعض الجزئيات المتعلقة بالمشكلات الخاصة، كما لم يعمد إلى تغيير المفاهيم المركزية التي كانت سائدة في العرف الجاهلي والتي هي سبب جلّ المشكلات، ليستنتج أن المرأة ظلّت في مكانتها وظلّ الرجل -الزوج- هو المحور وصاحب السلطة والاستبداد حسب ما فهمه كولسون من ماهية القوامة في التشريع الإسلامي.
ولوضوح تصوّر كولسون أكثر وسياق حديثه لا بد من إيراد نصّ كتابه الذي قال فيه: «وتَقطع مثل هذه التغييرات شوطًا بعيدًا في مجال تحسين وضع الزوجة، ولكن في حدود ما شرعت لأجله، وهو تقديم العلاج لبعض المشكلات الخاصّة التي عانت منها الحياة الزوجية. إِذْ لم تحاول هذه التغييرات خلق بناء جديد تمامًا للقانون الأسري، كما أنها لم تهدف إلى استئصال المفاهيم الأساسية للقانون العرفي السائد. فالزواج يظلّ -بعد هذه التغييرات- عقدًا يحتلّ فيه الزوج مركزًا محتكمًا شبيهًا بمركز المشتري من قبل. ويحتفظ كذلك بحقّه الأساسي -الذي هو نتيجة طبيعية لمركزه المتميّز والشبيه بمركز المشتري- في إصدار الطلاق من جهته، حسب إرادته هو وحده. وينصّ القرآن على ذلك صراحة على أن الرّجال قوامون على النساء بما بذلوا من أموالهم في المهر والنفقة»[35].
وهذا المثال سعى من خلاله كولسون لتأكيد أمر مهم بالنسبة له، وهو أن التشريعات القرآنية إنما عمدت لتعديل العرف السائد وتغيير بعض جزئياته، الشيء الذي جعل التشريع القرآني في نظره لم يرقَ لبناء نسق قانوني عام وجديد. ومثاله هذا لا يصح قطعًا في هذا المقام لأمرين:
أولًا: أنّ مفهوم القوامة عند كولسون مغاير لماهية القوامة في التشريع الإسلامي، بحيث يراها سلطةً واستبدادًا وتفردًا بالقول والرأي دون إشراك المرأة، وهذه القوامة جعلها تعطي الحقّ للرجل في الطلاق من جهته وقت ما شاء كيفما شاء، والسؤال المطروح كيف بنى علاقة القوامة بالطلاق؟ والحقيقة أنّ القوامة تكليف للرجل للقيام بمجموعة من الواجبات تجاه الزوجة، وليست القوامة مسلكًا للتصرف المطلق في إيقاع الطلاق.
ثانيًا: أنّ الطلاق ليس من حقّ الرجل وحده يوقعه كيفما يشاء حسب رأي كولسون، بل أعطى التشريع للمرأة الحقّ في إيقاع الطلاق وحرصَ على ذلك مراعاةً لحالها ووضعها حتى لا تمكث تحت القهر والإكراه، وهي حالات معروفة في كتب الفقه ولزم ذِكرها في هذا الطرح ولو على سبيل الاختصار، ومن هذه الحالات التي يمكن للمرأة أن توافق فيها على الطلاق أو تطلِّق نفسها ما يأتي:
- التخيير والتفويض:
ودليله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 28- 29]، وقد سمّيت هذه الآيات بآيات التخيير لِما وردَ فيها من تفويض أمر الطّلاق للزوجة؛ إمّا أن تختار الزوج لتستقر معه، أو تختار نفسها، أي الطلاق والفِرَاق[36].
فهذا تخيير صريح للزوجات «لتختار ما تراه مناسبًا لها، كما أن حقّ الطلاق للزوج فيجوز أن يوكّل فيه غيره، ويدخل فيه أن يوكّل الزوجة بأن تطلِّق نفسها، والوكالة تفويض بالطلاق، والتفويض تمليك في الأصح»[37]، وهذا على غير ما ذهب إليه كولسون في تقرير أنّ الطلاق من سُلطة الرجل وحده لا غير.
- طلاق الخلع:
قال تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[البقرة: 229]، قال ابن العربي: «هذا يدلّ على أنّ الخلع طلاق»[38]، والخلع جائز بالكتاب والسنّة، ولتعدّد وقوعه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبإذنه[39]، ومعناه: «هو فُرقة بعِوَضٍ بلفظ طلاق أو خلع، فهو تفريق بين الزوجين بطلب من المرأة، ودفع البدل منها، وأجمع الصحابة على جوازه؛ لأنه رفع عقد بالتراضي، فجُعِل لدفع الضرر، فجاز من غير ضرر، كالإقالة في البيع، ولما فيه من ضرر عن المرأة غالبًا، وفصل الفقهاء في أحكامه»[40].
ومن أعظم أسبابه الخوف الذي هو «توقّع حصول ما تكرهه النفس، وهو ضد الأمن، ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه، وامتثال أوامره. والخوف هنا بمعنى الظن، بأن لا يقيما حدود الله تعالى بكراهة كلّ واحد منهما لصاحبه في حقوق الزوجية... أو أن تظنّ الزوجة ألا تطيع له أمرًا، ويظنّ الزوج ألا يؤدي لها حقًّا، فتفتدي نفسها بالمال، فلا إثم عليهما في ذلك، وفيما افتدت به، أي: فيما فدت به نفسها، واختلعت به من بذلِ ما أُوتيت من المهر، وهو أخذ العِوَض على الفِراق[41].
وهنا يظهر بجلاء تام كيف أعطى التشريع الإسلامي بصفة عامة الحقّ للمرأة في الطلاقبالخلع[42] بحيث «يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس، ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان بها، ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها، وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه»[43].
- الطلاق للضرر:
وأصله من القرآن الكريم قوله سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء: 35]، والضرر[44] عند الفقهاء هو: «أن للزوجة أن تطلب من القاضي التفريق إذا ادّعت إضرار الزوج بها إضرارًا لا يُستطاع معه دوام العشرة بين أمثالهما، مثل: ضربها، أو سبّها، أو إيذائها بأيّ نوع من أنواع الإيذاء الذي لا يُطاق، أو إكراهها على منكر من القول أو الفعل»[45].
وكفى بالقلادة ما أحاط بالعنق. وإلى هنا يظهر لنا أنّ للمرأة حقًّا في إيقاع الطلاق على عكس ما أورده كولسون في هذا المثال الذي أثبت فيه أن مركزية نظام الطلاق قاصرة على الرجل، في حين أنّ ما جاء به التشريع القرآني غير ذلك، فهو قد اعتمد نظامًا جديدًا مخالفًا تمامًا لِما كان سائدًا في العُرف الجاهلي الذي أقلّ ما يُقال فيه أن المرأة كانت تُباع وتُشترى إذا لم يَعُد لمالكها رغبة فيها، لكن التشريع الإسلامي أعطى للمرأة مكانة عظيمة حسيًّا ومعنويًّا، وضمن لها حقوقها وجعل التثريب والعقوبة على مَن أهدرها. ففي الطلاق الذي هو محلّ النقاش جعل لها قرارًا ومركزًا فيه -سواء قبل وقوعه أو بعد وقوعه- وضمن لها كلّ الحقوق المتعلقة به.
- الزكاة:
وقد أورد كولسون مثالَ الزّكاة في معرض حديثه عن إحدى مشكلات التشريع القرآني المتعلّقة بعدم استقصائه للحوادث القانونية «وعدم الإشارة ولو بكلمة واحدة للعديد منها»[46]، ثم قال حين أراد التمثيل بالزكاة: «إن أحكام القرآن تبدو -في مسائل معينة- على قدرٍ من الإجمال. ومن ذلك ما تواردت عليه الآيات الدّالة على وجوب أخذ الزكاة من فضول أموال الأغنياء لتُدفع إلى المحتاجين من الفقراء، دون بيان للتفصيلات العديدة التي تضبط جبايتها وتوزيعها»[47].
في حين أن واقع التشريع القرآني ليس مجملًا إلى هذا الحدّ الذي أورده كولسون، فقد تحدّث القرآن عن الزكاة بدءًا من بيان حكمها وأهميتها: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، وقال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[البقرة: 110]، وقال جلّ وعلا: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55]، وقوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[التوبة: 11]، وغيرها من الآيات الدّالة وجوب الزكاة وأهميتها وما يترتب على الامتناع عنها.
ولم يقف الخطاب القرآني عند هذا الحدّ، بل بَيَّن مصارفها التي تُصرَف إليها، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]، كما بَيَّن وجوبها في الزروع وما تخرجه الأرض، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]. وهذا على عكس ما أورده كولسون بأن الزكاة وردت مجملة دون أدنى تفصيل أو بيان.
خاتمة:
وختامًا للمقالة الثانية التي عُنيت بنقد المعرفة التي أوردها كولسون في بناء رؤيته والسعي للتدليل عليها يظهر لنا بجلاء: أن رؤية كولسون للتشريع القرآني قامتْ على عدّة مغالطات وتجاوزات، بعضها يتعلّق بالأسلوب الذي كان يستعمله من حين لآخر؛ كالتعميم الفاقد للمصداقية، والتسرّع في إطلاق الأحكام هنا وهناك، والانتقائية لما يخدم رؤيته. وبعضها يتعلّق بالمضامين؛ مثل قوله بجمود الفقه، واعتماد التشريع القرآني على العُرف الجاهلي بالأساس، وتحديد آيات الأحكام في ثمانين آية. وبعضها ذو صلة بالمفاهيم المؤسّسة؛ حيث لا يفرق في عدّة مواضع بين الفقه والشريعة، والثابت والمتغيّر، ويَفهم أخرى على غير مرادها من القرآن مثل القوامة، وبعضها يتعلّق بالأمثلة والاستشهادات التي لم تَسْلَم من مؤاخذات؛ جراء توظيفها في غير محلّها.
أمّا عن فلسفة التشريع القرآني فهي تخالف قطعًا أُسُس القانون الجاهلي العرفي الذي كان مستنده في غالب الأحوال القوة والغلبة لتحقيق السيطرة والهيمنة، في حين يروم التشريع القرآني تحقيق العبودية والاستخلاف والعمران وفق منهج تشريعي متكامل بين ما هو ديني ودنيوي.
وعليه، نكون قد ختمنا المقالة الثانية المتعلّقة بنقد المعرفة في رؤية كولسون للتشريع القرآني؛ لنأتي بعدها في المقالة الثالثة التي ستخصّص لمناقشة المشكلة الأُولى التي أناطها كولسون بالتشريع القرآني، والتي مفادها أن غلبة الاتجاه الخُلقي على التشريعات التي جاء بها الخطاب القرآني كانت طريقًا لإهمال الجزاء العملي الذي يستحقُّه كلُّ مَن خالَف التشريعات القرآنية.
[1] المقالة الأولى من هذه السلسلة: (التشريع القرآني عند المستشرق نويل جيمس كولسون (1- 4) تحليل الرؤية ونقد المنهج) على هذا الرابط: tafsir.net/paper/80.
[2] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص22.
[3] تاريخ الفقه الإسلامي، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمّان، الطبعة الثالثة 1412هـ- 1991م، ص19- 20.
[4] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص22- 23.
[5] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص34.
[6] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص35.
[7] جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة 1420هـ- 1999م، (4/ 59).
[8] تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير، اعتنى به: محمد أنس مصطفى الخن، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، 1433هـ- 2016م، (1/ 690).
[9] أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الرابعة 2008م، (1/ 530).
[10] لا شك أن القرآن الكريم أُنزل بلسان عربيٍّ مبين، كما أن ألفاظه المتضمنة فيه تَنبع من أصل دلالتها في اللغة العربية، لكن لا يمكن الاعتماد عليها مجرّدة عن أمور أخرى أُنِيطَتْ بالمصطلحات وغالبًا ما تَرتبط بسياقات ومآلات ينبغي مُراعاتها، بحيث نجد القرآن الكريم حمّل بعض الألفاظ العربية معاني ودلالات إمّا جديدة ابتداء، أو نامية نحو التَّعميم أو التَّخصيص، وهذه الدلالات لم تكتسبها من قبل عن العرب فاتسع مدلولها، فأصبح اللفظ القرآني له مفهوم غير الذي يتبادر إلى الذهن وغير الذي كان معروفًا سابقًا، وتركيزًا على ما سبق فإن المصطلح القرآني إجمالًا هو: كلّ لفظ قرآني عبّر عن مفهوم قرآني، وتفصيلًا: كلّ لفظ من ألفاظ القرآن الكريم، مفردًا كان أو مركّبًا، اكتسب داخل الاستعمال القرآني خصوصية دلالية قرآنية جعلت منه تعبيرًا عن مفهوم معيّن له مَوقع خاصّ داخل الرؤية القرآنية ونسقها المفهومي.دراسات مصطلحية، الشاهد البوشيخي، دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى 1433هـ، 2001م، ص109. وهذا الأمر مما يغيب عن المستشرقين بكثرة في دراساتهم وهو إدراكهم ووعيهم بحقيقة المصطلح القرآني.
[11] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص32- 33
[12] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص32.
[13] الإبهام هو الافتقار إلى الدقة. ويجب عدم الخلط بين الإبهام والالتباس الذي يحدث عندما تكون الكلمة أو العبارة الواحدة تحتمل أكثر من معنى. أمّا الإبهام فهو مرتبط بالسياق دائمًا: فما يعتبر مبهمًا في سياقٍ ما، قد يكون واضحًا دقيقًا في سياق آخر. ينظر: التفكير من الألف إلى الياء، نايجل واربرتون، ترجمة: هالة عباس وأسامة عباس، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، الطبعة الأولى 2018م، ص152.
[14] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص40.
[15] التعميم السريع: هو عبارة عامة ترتكز على أدلة غير كافية لتقرير مسألة معينة أو إطلاق حكمٍ ما. ينظر: التفكير من الألف إلى الياء، نايجل واربرتون، ترجمة: هالة عباس وأسامة عباس، ص152.
[16] أوردت الحديث عن الانتقائية هنا بدلًا من الحديث عنها في المنهج وبخاصة أنها ملاحظة منهجية لأمري؛ الأول: أن الشق المتعلق بالمنهج تركته صرفًا لما يتعلق بالقانون والتشريع، ثانيًا: أن الانتقائية في مقاربة كولسون خدمت الأسلوب والمضامين بشكل مباشر.
[17] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص41.
[18] تطبيق الشريعة الإسلامية، عبد الحليم عويس، الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، السعودية، الطبعة الأولى 1987م، ص47.
[19] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص32- 33.
[20] فقه النوازل عند المالكية تاريخيًّا ومنهجيًّا، مصطفى الصمدي، مكتبة الرشد، السعودية، الطبعة الأولى 1428هـ- 2007م، ص223.
[21] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سرّاج، ص19.
[22] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص35.
[23] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص35.
[24] المنهج القرآني في التشريع، عبد الستار فتح الله سعيد، أطروحة دكتوراه، مصر، جامعة الأزهر، كلية أصول الدين، الطبعة الأولى 1413هـ- 1992م، ص214.
[25] والحُمس جماعة من قريش ذهبوا -كما يقول السهيلي-: «مذهب التزهد والتأليه»، فابتدعوا عدة شرائع لأنفسهم وللعرب، وهي من عجائب الجاهليات التي تستحدث الضلالات، ثم تجعلها دينًا مقدسًا ملتزَمًا، ويقف وراءه طواغيتها حمايةً لمصالحهم، وتغريرًا بالجهال الذين يتبعون كلّ ناعق، وما شرائع الحُمْس إلا مثال على ما كان سائدًا في العرف الجاهلي، ثم نزل القرآن وبدأ بالتصدي لهذه الشرائع الوضعية العرفية التي ملأت البيئة العربية. انظر: المنهج القرآني في التشريع، عبد الستار فتح الله سعيد، ص219.
[26] إنّ الأمثلة التي يستند إليها كولسون في تقرير بعض الاستنتاجات لا يُسلَّم له بها في كثير من الأحوال -كما سيأتي معنا-، ومن ذلك مثاله الذي أتى به لتقرير حكم عام عن التشريع القرآني وأنه اعتمد على العُرف الجاهلي وغيّر فيه فقط ولم يقصد إبطاله.
[27] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص31.
[28] نيل المرام من تفسير آيات الأحكام، محمد صديق حسن خان، المكتبة التجارية، مصر، 1347هـ- 1929م، ص1.
[29] نقلًا عن: تفسير آيات الأحكام ومناهجها، عليّ بن سليمان العبيد، دار التدمرية، السعودية، الطبعة الأولى 1431هـ- 2010م، ص48.
[30] دراسة أصولية تطبيقية على آيات الأحكام، عبد الرحمن عليّ الحطاب، دار طيبة الخضراء، السعودية، الطبعة الأولى 1443هـ- 2021م، ص9.
[31] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص31.
[32] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص19.
[33] حكمة الإسلام في تحريم الخمر؛ دراسة نفسية اجتماعية، مالك بدري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى 1416هـ- 1996م، ص120.
[34] حكمة الإسلام في تحريم الخمر؛ دراسة نفسية اجتماعية، مالك بدري، ص221- 222.
[35] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص34.
[36] وقد أورد فيها ابن العربي ثماني عشرة مسألة، ينظر: أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، (3/ 562- 563).
[37] الإعجاز القرآني في التشريع الإسلامي، محمد الزحيلي، (1/ 447).
[38] أحكام القرآن، أبو بكر بن العربي، (1/ 264).
[39] المناهل الزّلالة في شرح وأدلة الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، أبي سليمان المختار بن العربي مؤمن، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الثانية 1437هـ- 2016م، (3/ 1481).
[40] الإعجاز القرآني في التشريع الإسلامي، محمد الزحيلي، (1/ 466).
[41] الإعجاز القرآني في التشريع الإسلامي، محمد الزحيلي، (1/ 466).
[42] وله صور متعددة، من أبرزها: أن يخافَا ألا يقيما حدود الله، أو أن تكره الزوجة زوجها لأسباب عدة مقبولة، أو أن يكون عاجزًا عن الاستمتاع، أو عاجزًا عن المال، أو تميل لغيره ممن يوفّيها حقوقها، أو أن تكون المرأة صاحبة مال وفير فيضيّق عليها... وغيرها من الحالات التي يمكن للمرأة أن تخالع زوجها.
[43] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية والثلاثون، 1423هـ- 2003م، (1/ 248).
[44] والفرق بين طلاق الخلع والضرر هو أن طلاق الضرر يكون بعد وقوع السبب سواء ماديًّا أو معنويًّا، أمّا الخلع فهو معلق بعدم إقامة حدود الله بين الزوجين.
[45] فقه السنّة، السيد سابق، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة: الثالثة، 1397هـ- 1977م، (2/ 289- 290).
[46] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص39.
[47] في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، ترجمة وتعليق: محمد أحمد سراج، ص39.