تاريخانية النصّ القرآني عند المستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفرت
من خلال مقالتها (شكل القرآن وبنيته)
قراءة وصفية تحليلية

المؤلف : بلقاس حسن
تعدُّ أنجيليكا نويفرت اسمًا بارزًا في مجال الدراسات القرآنية في الغرب، ولها الكثير من الدراسات والبحوث حول القرآن الكريم وتاريخه وبنيته، هذه المقالة تعمل على دراسة جانب من أفكارها حول تاريخ القرآن من خلال مقالتها (شكل القرآن وبنيته).

مقدّمة:

  قدّمت المدرسة الاستشراقية الألمانية أبحاثًا علمية متقدّمة في مجال الدراسات القرآنية، ولعلّ ما قدّمته كان من أكبر المشاريع العلمية التي أُنجزت على مستوى الدراسات القرآنية في الغرب[1]، وفي عام 2007م أَطلقت الباحثة الألمانية أنجيليكا نويفرت (Angelika Neuwirthمشروع (Corpus Coranicum)[2] في أكاديمية برلين- براندنبورج للعلوم في ألمانيا.

 وتعدُّ المستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفرت واحدة من أهم وأشهر الباحثات في مجال الدراسات القرآنية ليس في ألمانيا فقط ولكن في أوروبا كلّها، فقد كَتبت العديد من البحوث والدراسات حول القرآن.

ويتناول هذا المقال دراسة أفكار وآراء وتصوّرات نويفرت حول تاريخ القرآن من خلال مقالتها (شكل القرآن وبنيته)[3]، التي حاولتْ دراسة بنية القرآن وشكله وما يتعلّق به من قضايا حول اللغة وطبيعته الشفاهية والكتابية، والمجتمع الأول الذي خاطبه، وطريقة تناوله قصص الرُّسل السابقين، وغيرها من الأمور التي تتركّز في افتراضات الاتجاه التنقيحي، كما قامت نويفرت بإعادة النظر في نقاش عملية اعتماد القرآن باعتباره نصًّا ذا سلطة.

وقد تم اختيار الموضوع لعدّة دوافع أُجملها فيما يأتي:

الدافع الأولإنّ للقرآن الكريم منزلةً مقدّسة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في شرق الأرض وغربها؛ فهو المعجزة التي تحدّى بها اللهُ البشريةَ كلّها، وهو معجزة باقية شاهدة على صحة دين الإسلام، وهذا من أصول الاعتقاد الصحيح، مع اشتمال القرآن على ما يريده كلّ مسلم في حياته أو ما يعرف ضرورة عن آخرته. تلك المنزلة دعت إلى عقد هذه الدراسة، التي تمثّل بيانًا لمقولات نويفرت حول تاريخ القرآن.

الدافع الثاني: إنّ الظهور الجلي لآثار المدارس الاستشراقية، خاصّة الألمانية منها -التي لها دراسات متعلّقة بالقرآن الكريم، بعضها دراسات حديثة ومعاصرة- هي في الواقع دافع للدراسة، ومحطّ اعتناء فيها، وأرى من الضرورة أن تخصّص بعض دراسات هذه المدرسة لدراسة مقولاتها؛ بغية الإسهام في تحليلها ومعرفة إضافاتها وكشف عورها إنْ وُجد.

الدافع الثالث: ضرورة قيام مدارس إسلامية لمواجهة المدارس الاستشراقية، خاصّة وأنّ دول الغرب قضت شوطًا طويلًا في دراسة الإسلام عبر إنشاء مراكز البحث في حين أنّ الدول العربية تعجّ بكثير من المشكلات في وقتنا الراهن؛ ما شغلها على المستويات كافة، سواء المستوى العلمي العام أو على المستوى الخاصّ المتمثّل في إنشاء مراكز بحث لمواكبة ما ينتجه الغرب عن التراث الإسلامي.

الدافع الرابع: التعرّف على إسهام المستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفرت في حقل الدراسات القرآنية؛ خصوصًا ما يتعلّق بتاريخانية القرآن.

ولتحقيق هذا الغرض ارتأيتُ تقسيم هذا المقال إلى قسمين يأتيان بعد المقدّمة:

القسم الأول: مفهوم تاريخانية القرآن في الاستشراق الألماني، ويتضمن تعريف مفهوم التاريخانية، ثم تناول لتاريخانية القرآن في الاستشراق الألماني.

القسم الثاني: تاريخانية القرآن عند أنجيليكا نويفرت، ويتضمن مسألتي؛ مصدرية القرآن والمكي والمدني، وتدوين القرآن وترتيب سوره، ثم خاتمة تُجمِل أبرز الخلاصات والنتائج.

القسم الأول: مفهوم تاريخانية القرآن في الاستشراق الألماني:

أولًا: مفهوم التاريخانية:

عُرِّفَت التاريخانية (Historisme) بعدّة تعريفات؛ فعَرَّفها جمال صليبا بقوله: «القول أنّ الأمور الحاضرة ناشئة عن التطوّر التاريخي، ويطلق هذا اللفظ أيضًا على المذهب القائل أنّ اللغة، والحقّ، والأخلاق، ناشئة عن إبداع جماعي، لا شعوري، ولا إرادي، وإنّ هذه الأمور قد بلغت الآن نهايتها، وأنّك لا تستطيع أن تبدل نتائجها بالقصد ولا أن تفهمها على حقيقتها إلا بدراسة تاريخها»[4].

وعَرَّفها كلٌّ من بيير جوزيف برودون وبوريكو بقولهم: «يمكن تعريف التاريخانيّة في المعنى الضيّق بصفتها النظريّة أو الرؤية التي تَعتبِر أنّ التغيير الاجتماعي أو التطوّر التاريخي يخضع لقوانين التعاقب غير المشروطة التي تعطي التاريخ وِجهةً أو اتجاهًا»[5].

أمّا المفكر الألماني كارل بوبر فعرّفها بأنها: «طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تَفترِض أنّ التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسة، وتَفترض إمكان الوصول إليه بالكشف عن (القوانين) و(الاتجاهات) و(الأنماط) التي يسير التطوّر التاريخي وَفقًا لها»[6].

كما عُرِّفت في قاموس أُوكسفورد Lexico تعريفًا ثلاثيًّا مركّبًا بأنها:

أولًا: نظرية تتأسّس على أنّ الظواهر الاجتماعية والثقافية يحدّدها التاريخ.

وثانيًا: الاعتقاد بأنّ القوانين التاريخية تحكمها قوانين معيّنة.

وثالثًا: الميل إلى اعتبار التطوّر التاريخي، المكوِّن الأكثر أهمية للوجود الإنساني[7].

كما عرّفها قاموس merriam-webster بأنها:

مفهوم استُعمل لأوّل مرة سنة 1895م، وهي نظرية تؤكّد على أهمية التاريخ، ويُنظر فيها إلى التاريخ على أنه معيار للقيمة أو كمحدّد للأحداث.

ويُفهم من هذه التعاريف أنّ التاريخانية هي مذهب فكري يستهدف إبراز أهمية البعد التاريخي في دراسة الظواهر المختلفة.

ثانيًا: تاريخانية القرآن في الاستشراق الألماني:

إنّ حجم مدرسة الاستشراق الألماني وأثرَها في الدراسات القرآنية له ثقله بين المدارس الاستشراقية الأخرى، فلا تخفَى مكانة الاستشراق الألماني وعظيم أثره على دارس الاستشراق ومدارسه؛ إِذْ تُعتبر مدرسة الاستشراق الألماني من أهم مدارس الاستشراق، وما نتج عنها يكاد يفوق مجموع ما نتج عن المدارس الاستشراقية الأخرى مجتمعة.

لقد درس المستشرقون الألمان الإسلام من شتى جوانبه، ولا تكاد تَسْلَم جهة من جهاته وحيثية من حيثياته إلا ووقعت موقع دراسات المستشرقين الألمان، على أنّ أهمّ ما بحثه المستشرقون الألمان واهتموا به في الدراسات القرآنية هو موضوع: تاريخ القرآن، والذي يشتمل في الغالب على الحديث عن نزول القرآن، وأدواره، وبنيته، وتركيبه، وقراءاته، ولهجاته، وتدوينه.

ومن هذه الدراسات نذكر ما يأتي:

1- أشنور Schunurrer) 1822م) تكلّم عن القرآن ضمن كتابه: (المكتبة العربية)، (ص401- 445)[8].

2- جوستاف فايل (1889م Well) له كتاب بعنوان: (مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن). «وقد امتاز بحثه بشمولية الموضوع ومعرفة المنهج التاريخي، وإن كان لا يخلو من الثقافة التلمودية؛ لأنّ الكاتب مـن أصل يهودي»[9].

وقد قسم فيه السور المكية لأول مرّة إلى ثلاث مجموعات بالإضافة إلى مرحلة مدنية، وهذا التقسيم أخذه عنه نولدكه (Noldekae) بعد ذلك. وأعاد فيه تقييم تاريخ نزول القرآن، واقترح ترتيبًا زمنيًّا جديدًا للسور يستند إلى ثلاثة معايير؛ الأول: الإشارات إلى الأحداث التاريخية المعروفة من المصادر الأخرى. الثاني: تغير طابع التنزيل وَفقًا لتغيّر أحوال الدعوة. الثالث: الشكل أو المظهر الخارجي[10].

3- كتب المستشرق الألماني نولدكه (Noldekae 1930م) رسالته للدكتوراه بعنوان: (أصل وتركيب سور القرآن)؛ ثم أعاد كتابتها بعنوان: (تاريخ القرآن)، أو (تاريخ النص القرآني)[11]، وقد نال عليه جائزة مجمع الكتابات والآداب في باريس عام [1860م][12].

قال الدكتور/ محمد توفيق حسين (ت: 1998م) معلقًا على كتاب نولدكه: «وكتاب نولدكه وتلامذته هو أساس لكل الدراسات اللاحقة في الموضوع، ويتضمّن الخطوط العامة الجوهرية لمنهج المستشرقين في الدراسات القرآنية. وكل ما نُشر من كتب ومقالات عن القرآن يعتمد على الخطوط الجوهرية العامة لمنهج نولدكه وتلامذته الذي أصبح يُعرف بمدرسة نولدكه للدراسات القرآنية، وقد اعتمـدت المقالات الأساسية عن القرآن الكريم في دائرة المعارف البريطانية ودائرة المعارف الإسلامية ودائرة معارف (بوردا) الفرنسية على التعريف بالقرآن وَفقًا لمنهج نولدكه الساعي إلى البحث عما يسمى بـ(مصادر القرآن)[13].

4- هرشفلد (Hirschfeld) له كتاب بعنوان(أبحاث جديدة في تأليف وتفسير القرآن)[14]. وهو أوّل مَن اقتفى آثار إبراهيم غايغر (Geiger) في أبحاثه حول علاقة القرآن باليهودية. ويدّعي في هذا الكتاب وجودَ استيحاءٍ وأخْذٍ في مواضع من القرآن لمواضع العهد القديم.

قال الدكتور/ بدوي: «ولكن إذا أمعنت النظر فيها لم تجد أيَّ تشابه ولا نقل ولا أيَّ استيحاء، ويعجب المرء كيف استباح هذا الرجل لنفسه أن يدّعي وجود نقل أو تشابه بين موضع قرآني وآخر يهودي بينما لا يوجد أيُّ تشابه، ثم إنه يخلط خلطًا شديدًا في تفسيره للآيات القرآنية وفي فهمه لمعانيها»[15].

5- أنجيليكا نويفرت Angelika Neuwirth ـ[1943-...] من أشهر الباحثين الألمان والأوروبيين المعاصرين في الدراسات القرآنية والإسلامية. لها عدّة دراسات حول تاريخ القرآن، أبرزها:
 1- القرآن والتاريخ: علاقة جدلية؛ تأمّلات حول تاريخ القرآن والتاريخ في القرآن، ترجمة: إسلام أحمد، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 2- قراءة القرآن في الفضاء المعرفي للعصور القديمة المتأخّرة؛ نظرات في الاشتغال الغربي بقراءة القرآن في سياق العصور السابقة على القرآن، ترجمة: أمنية أبو بكر، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 3- وجهان للقرآن؛ القرآن والمصحف، ترجمة: حسام صبري، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 4- الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي؛ انطلاق القرآن من التراث الكتابي وتغلغله فيه وهيمنته عليه، ترجمة: محمد عبد الفتاح، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 5- الفردوس كخطاب قرآني، ترجمة: حسام صبري، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 6- مريم وعيسى؛ موازنة الآباء التوراتيين، ترجمة: حسام صبري، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 7- النصّ المقدّس؛ الشِّعْر وصناعة المجتمع، قراءة القرآن كنصّ أدبي، ترجمة: أمنية أبو بكر، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 8- القرآن بوصفه نصًّا من نصوص العصور القديمة المتأخرة، ترجمة: بدر الحاكيمي، مؤمنون بلا حدود، 23 يناير 2019م.

فهذه باختصار بعض كتابات المستشرقين الألمان حول تاريخانية النصّ القرآني، ومن ضمنها كتابات أنجيليكا نويفرت التي سيحاول هذا المقال دراسة هذا المفهوم عندها من خلال مقالتها: (شكل القرآن وبنيته).

القسم الثاني: تاريخانية القرآن عند أنجيليكا نويفرت:

من الدراسات التي تناولت فيها أنجيليكا نويفرت دراسة القرآن من الناحية التاريخية: (شكل القرآن وبنيته)، التي حاولت فيها دراسة بنية القرآن وشكله وما يتعلّق به من قضايا حول اللغة وطبيعته الشفاهية والكتابية، والمجتمع الأول الذي خاطبه، وطريقة تناوله قصص الرّسل السابقين، وغيرها من المسائل التي تتركّز في افتراضات الاتجاه التنقيحي، كما قامت نويفرت بإعادة النظر في نقاش عملية اعتماد القرآن باعتباره نصًّا ذا سلطة.

 وبعد قراءة هذه المقالة وتمعّنها تبيَّن أن المسائل التي لها تعلُّق بتاريخانية القرآن الكريم لا تكاد تخرج عن ثلاث مسائل، والمتعلّقة بجمع القرآن الكريم وترتيب سوره ومصدريته، ومكيِّهِ ومدنيِّهِ، كما سيتضح ذلك من خلال المطالب الآتية.

أولًا: مصدرية القرآن، المكي والمدني:

فيما يتعلّق بمصدرية القرآن فقد ذكرت المستشرقة نويفرت أنّ القرآن يحتوي على أساطير مقتبسة من الكتاب المقدّس وذلك بقولها: «الروايات القصيرة -غزو مكة (سورة الفيل)، (أسطورة ثمود)، وقصة فرعون وموسى- التي تطوّرت إلى أساطير انتقام أو قصص عقابية لإثبات أنّ العدالة الإلهية تعمل في التاريخ، والمضايَقون يُكافؤون بالخلاص، بينما يُعاقَب الظالمون والكافرون بالفناء. وتلت هذا بادّعائها أنّ من سورة الحجر فصاعدًا، لم يَعُد التركيز في الغالب على التقليد العربي القديم للقصص، ولكنه يتضمن بشكل متزايد روايات الكتاب المقدّس التي تقدِّم سردًا تفصيليًّا عن إبراهيم ولوط، متبوعًا بـ(أصحاب الأيكة وأصحاب الحِجر)، وأنّ هذه القصص تشير -كعناصر من الكتاب- إلى أنها اقتُبست من نصّ موجود مسبقًا»[16].

إنّ هذا الزعمَ الغايةُ منه إثباتُ الأصل اليهودي للقرآن، وأنه اقتُبس من العهد القديم. إنّ التاريخ أوّل مَن يردُّ هذا؛ فإنّ العرب كانوا في أمسّ الحاجة لدحض نبوّة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ثانيًا: الزعم أنّ القرآن يتضمّن الأساطير، هو اتهام سبق به أهلُ مكة وحكاه عنهم القرآن، قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5]، وقد ردّ الله عليه، بل وتحدّاهم -إنْ كان كذلك- أنْ يأتوا بمثله، ففشلوا فشلًا ذريعًا.

ثالثًا: ادّعاء أنّ القرآن مأخوذٌ من التوراة، وأنّ بعض القصص أو الأساطير -كما تسميها- مأخوذةٌ من الكتاب المقدّس -عند اليهود- فهو ادّعاء سقيم لا يستند إلى دليل، بل الدلائل تردُّه، من ذلك ما ذكره مؤلِّف كتاب (مَن كتبَ القرآن؟):

أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لكان أعداؤه أوّل مَن يتهمه بذلك، وقد كانوا متلهِّفين لتشويه سمعته[17].

ثم يوضِّح: إنّنا لو فرضنا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ ويكتب، فإنّ الترجمة الأولى للعهد الجديد باللغة العربية لم تظهر إلا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمائتي سنة[18]، وهذا حقيقة أكّدها المؤلِّف الأمريكي كينيث إي. بيلي (ت: 2016م) وهو بصدد الحديث عن النُّسَخ العربية للتوراة بقوله: أنّ أوّل خطّ عربي كُتبت به التوراة يُرجِعُه المختصّون من بدايات القرن الثامن أو القرن التاسع. كلّ هذه الدلائل توضّح أنّ التوراة بعهدَيْها لم تُترجَم إلى العربية إلا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بزمن بعيد، إضافةً إلى أنّ اليهودية وكذلك المسيحية لم تنتشرا في شبه جزيرة الحجاز آنذاك[19]، كما تؤكّد ذلك المصادر التاريخية المسيحية نفسها، من ذلك ما صرّحت به الموسوعة الكاثوليكية الجديدة[20].

كلّ هذه الدلائل تقودنا للقول بأنّ ادّعاءَ نويفرت اقتباسَ القرآن من خلال الكتب اليهودية ادّعاءٌ لا يستقيم مع وجود كلّ هذه الأدلة التي تؤكّد أنّ القرآن الكريم ليس نصًّا بشريًّا ولا مقتبَسًا، وإنما هو وحي من الله تعالى على نبيّه محمد -عليه الصلاة والسلام.

- وفيما يتعلّق بمبحث المكي والمدني، فقد زعمَتْ أنّ السور المكية عبارة عن شِعْر مقفّى موزون، وذلك بقولها: «معظم السور المكية تعرض التسلسلات الثابتة من البنية الشكلية والتحديد الموضوعي لمجموعات الآيات مفصولة بشكل واضح عن طريق تغيير القافية أو علامات أخرى يمكن تمييزها بوضوح، وضربت المثال بتغيّر القافية بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (قافية جديدة، بنية متوازية بدقة)»[21].

ومما يؤكّد زعمها هذا قولُها في موضع آخر: «نستطيع القول بأنّ السور المبكّرة تعرض البيان الشِّعري العربي للتقليد الكتابي في شكلِ تلاوات مرتّلة للنصّ القرآني، وهذا أمر يجذب انتباه السامعين»[22].

ولا شكّ أن نويفرت جانبَت الصواب في قولها بأنّ السّور المكية عبارة عن نمط شِعري موزون مقفّى. إنّ زَعْمَ أنّ القرآن الكريم عبارة عن نمط شِعري ادّعاءٌ واهٍ تقوله بدون دليل، وافتراءٌ على التاريخ قبل القرآن، وتخطئةٌ لعرب قريش وقدحٌ في مَلَكتهم اللغوية قبل الطّعن في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وفي القرآن.

وردَ عن ابن عباس: «أنّ الوليد بن المغيرة اجتمع ونفرٌ من قريش، وكان ذا سِنٍّ فيهم، وقد حضَر الموسِم، فقال: إنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمِعوا فيه رأيًا واحدًا ولا تختلفوا فيكذِّبَ بعضُكم بعضًا، ويردَّ قولُ بعضِكم بعضًا. فقيل: يا أبا عبد شمس، فقُلْ، وأقِمْ لنا رأيًا نقومُ به، فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. فقالوا: نقول كاهن؟ فقال: ما هو بكاهن، رأيتُ الكُهّان فما هو بزَمْزَمَةِ الكهّان. فقالوا: نقول مجنون؟ فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. فقالوا: نقول شاعر؟ فقال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشِّعْر؛ برَجَزِه وهَزَجِه، وقَريضِه ومَقبوضِه، ومَبسوطِه فما هو بالشِّعْر. قالوا: فنقول هو ساحر؟ قال: ما هو بساحر، قد رأينا السُّحّار وسِحْرَهم، فما هو بنَفْثِه ولا بعَقْدِه. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إنّ لقوله لحلاوةً، وإنّ أصلَه لَمُغدِق، وإنّ فرعَه لَجَنًى»[23].

فهذه شهادة الوليد يصف فيها القرآن الكريم وبلاغته، وهي كناية عن عذوبة ألفاظ القرآن الكريم وجزالتها وحلاوتها، وقوّة تركيبه وسموّ معانيه وأخذه بمجامع القلوب وعلوّه على كلّ كلام.

وهنا قد يتساءل متسائل: إذا كان القرآن ليس شِعْرًا ولا نثرًا، فمِن أيّ صنفٍ هو؟ يجيب عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808هـ) على هذا قائلًا: «اعلم أنّ لسان العرب وكلامَهم على فنَّين: في الشّعر المنظوم، وهو الكلام الموزون المقفّى، ومعناه الذي تكون أوزانه كلُّها على رويّ واحد وهو القافية. وفي النّثر وهو الكلام غير الموزون، وكلّ واحد من الفنّين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام.

فأمّا الشِّعر فمنه المدح والهجاء والرّثاء، وأمّا النّثر فمنه السّجع الذي يؤتَى به قطعًا ويلتزم في كلّ كلمتين منه قافية واحدة يسمّى سجعًا، ومنه المرسل وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقًا ولا يقطّع أجزاءً، بل يُرْسَل إرسالًا من غير تقييد بقافية ولا غيرها؛ ويُستعمل في الخُطَب والدّعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم. وأمّا القرآن وإن كان من المنثور إلّا أنّه خارجٌ عن الوصفين وليس يسمّى مرسلًا مطلقًا ولا مسجّعًا؛ بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذّوق بانتهاء الكلام عندها، ثمّ يُعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها ويُثنّى من غير التزامِ حرفٍ يكون سجعًا ولا قافيةً (...) ويسمَّى آخرُ الآيات منها فواصلَ؛ إِذْ ليست أسجاعًا ولا التُزِمَ فيها ما يُلْتَزَمُ في السّجع، ولا هي أيضًا قوافٍ»[24].

ثانيًا: تدوين القرآن وترتيب سوره:

ذكرت المستشرقة أنه «وَفقًا للروايات الإسلامية السائدة، فإنّ القرآن مدين بنهايته الرسمية إلى نسخة التنقيح التي نفّذتها اللجنة التي دعاها الخليفة الثالث، عثمان بن عفان، وأنّ إنشاء هذا المصحف -كما هو مسلّم به- فرضَ على السور تسلسلًا لم يتمَّ إصلاحه حتى ذلك الوقت، وفي كثير من الحالات تمّ إدماجُ مقاطِعَ كانت تُنْقَل بطريقة منعزلة إلى سياقات جديدة تمامًا. مضيفةً أنّ أعمال الجمع تمّت على عجلٍ إلى حدٍّ ما، إلّا أنّ تسلسل السور في مصحف ابنِ مسعود وأُبيِّ بن كعب معروفٌ لنا، ويبدو أنّ كليهما اعتَبَر أنّ (السورة الأولى، و113، و114) ليست جزءًا من القرآن، بل يجب قراءتها في الصلوات فقط»[25].

تشير أنجيليكا نويفرت في هذه الفقرة إلى أن الجمع العثماني للقرآن تم على عجلٍ، وأنّ ترتيب سوره تم بطريقة عشوائية معلّلةً لذلك بأنّ مصحف ابن مسعود وأُبيّ لم يحتويَا سورة الفاتحة والمعوّذتين. ولا شك أنّ هذا الرأي مجانِبٌ للصواب؛ حيث من المعلوم أن ترتيب السور ليس مسألة شخصية تصرّفَ فيها الصحابة بشكلٍ عشوائي.

وقد تناول أهلُ العلم مسألة ترتيب السور هل هو توقيفي أيضًا أو هو باجتهادٍ من الصحابة؟ اختلفت أقوالُ أهل العلم حول هذه المسألة؛ فمنهم من قال بالتوقيف ومنهم من قال بالاجتهاد. وقد جرد السيوطي في الإتقان[26] أقوالَ كلّ فريق على حدة، ثم رجّح أن ترتيب السور توقيفي، قائلًا: «والذي ينشرح له الصدر ما ذهبَ إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلّا براءة والأنفال»[27].

ويقول في موضع آخر: «لترتيب وضع السور في المصحف أسبابٌ تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم؛ أحدها بحسَب الحروف؛ كما في الحواميم. وثانيها لموافقة أول السورة لآخِر ما قبلها؛ كآخِر الحمد في المعنى وأول البقرة. وثالثها للوزن في اللفظ؛ كآخِر تَبّتْ وأول الإخلاص. ورابعها لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى؛ مثل: ﴿وَالضُّحَى و: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ (...) فترتيب المصحف العثماني أكمل، وإنما لم يُكتب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مصحفٌ لئلا يُفْضِيَ إلى تغييره كلَّ وقت؛ فلهذا تأخّرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته -صلى الله عليه وسلم- فكتب أبو بكر والصحابة بعده، ثم نَسخ عثمانُ المصاحفَ التي بَعث بها إلى الأمصار»[28].

وأمّا قولها بأنّ أداء اللجنة يُعرف على أنه فعلُ جمعٍ واحدٍ تم إنجازه في توافق تامّ مع مفوِّضها عثمان، الذي وردَ أنه لم يفرض على المحرّرين -بصرف النظر عن مراقبة البعض للمسائل اللغوية- مهمّة أخرى أكثر من جمع كافة الأجزاء الموجودة من القرآن، فهذه مغالطة حيث يلاحَظ أنّ الباحثة في هذه الفقرة جعلت جمع القرآن في هذه المرحلة عملًا فرديًّا؛ حيث قصرته على عثمان -رضي الله عنه- وحده دون الإشارة إلى إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- على ذلك.

أخرج أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده عن مصعب بن سعد، قال: «أدركتُ الناس حين شقق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يَعِبْ ذلك أحد»[29]، بل إنّ عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- صرّح بأنّ عمل عثمان -رضي الله عنه- هو عين الصواب؛ فعن سويد بن غفلة قال: قال عليٌّ -رضي الله عنه-: «لو وُلِّيتُ لفعلتُ في المصاحف الذي فعل عثمان»[30].

ثم إنّ اللجنة التي كوّنها عثمان لم تكن عادية؛ ففيها زيد بن ثابت، الذي كان يَكتب الوحي للرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي تم التنصيص على العلّة من اختياره في الرواية من حيث كونه شابًّا عاقلًا، عدلًا، من كُتّاب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أخرج أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت، حدثه قال: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتلَ أهلِ اليمامة، فإذا عنده عمر، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استَحَرّ بقرّاء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أنْ يَستَحِرَّ القتل بالقرّاء في المواطن كلّها فيَذهَبَ بقرآنٍ كثير، وإني أرى أن تأمُرَ بجمع القرآن. قال: فقلتُ له: كيف أفعلُ شيئًا لم يفعَلْه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! قال لي: هو واللهِ خير. فلم يزَلْ عمرُ يراجِعُني في ذلك حتى شرح اللهُ صدري له، ورأيتُ فيه الذي رأى عمرُ. قال: قال زيد: وقال أبو بكر: إنك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لا نَتَّهِمُكَ، قد كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتَتبَّعِ القرآنَ، فاجمَعْه...»[31].

 فجمعُ القرآن ليس عملًا فرديًّا قام به عثمان دون استشارته للصحابة، كما أن اللجنة التي كُلِّفَت بذلك بقيادة زيد بن ثابت لم تكن من باب الصُّدْفة، بل إنّ اختيار زيد على رأس اللجنة مع الصحابة الآخرين جاء نتيجة كونه شابًّا عاقلًا ومن كُتّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم.

أمّا قولها بأنّ «الروايات التقليدية السياسية تفرض قيودًا سياسية كتفسير وتبرير للحقيقة المعترَف بها بأنّ الجمع تم على عَجَلٍ إلى حدّ ما وبالتالي كان لا بد من المضيّ قدُمًا بطريقة ميكانيكية إلى حدّ ما. على الرغم من أنه كان لا بد من منع التنقيحات الأخرى، إلا أنّ تسلسل السور في اثنين منهم مصحف ابن مسعود وأبيِّ بن كعب معروفةٌ لنا. يبدو أنّ كليهما اعتَبَر أن (السورة الأولى، و113، و114) ليست جزءًا من القرآن، وإنما يجب قراءتها في الصلوات».

 فهذا كلامٌ مخالف للحقائق التاريخية والعلمية حيث ليست هناك روايةٌ تثبت أن الجمع العثماني تم على عجلٍ، بل الأمر بخلاف هذا. روى البخاري في صحيحه عن أنس: «أنّ حذيفة بن اليمان، قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: (أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخها في المصاحف، ثم نردّها إليكِ)، فأرسلتْ بها حفصةُ إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابتٍ، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشامٍ فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابتٍ في شيءٍ من القرآن فاكتبوه بلسان قريشٍ، فإنما نزل بلسانهم)، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصُّحُف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفةٍ أو مصحفٍ، أن يحرق»[32].

أما مسألة كون عثمان -رضي الله عنه- لم يجد تجاوبًا من بعض أصحاب المصاحف، فلم تذكر الروايات إلا ما ورد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- الذي رضي في آخر الأمر بصنيع عثمان -رضي الله عنه- كما أورد ذلك ابن أبي داود (ت: 316هـ) في كتابه: المصاحف، تحت عنوان: (باب رضاء عبد الله بن مسعود لجمع عثمان -رضي الله عنه- المصاحف)، حيث أورد بسنده عن فلفلة الجعفي، قال: «فزعتُ فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه، فقال رجل من القوم: إنا لم نأتك زائرين، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: إنّ القرآن أُنزل على نبيّكم من سبعة أبوابٍ على سبعة أحرفٍ [أو حروفٍ]، وإنّ الكتاب قبلكم كان ينزل [أو نزل] من بابٍ واحدٍ على حرفٍ واحدٍ، معناهما واحدٌ»[33].

وفيما يتعلّق بحذف الفاتحة والمعوّذتين من مصحف عبد الله بن مسعود، فقد وردتْ عدّة روايات وأخبار تذكر أنّ ابن مسعود لم يكن يكتب الفاتحة والمعوّذتين في مصحفه؛ فمثلًا ذكر الشافعي (ت: 204هـ) في كتابه (الأم)، في القسم حول اختلافات عليّ وعبد الله بن مسعود حول عدّة مسائل =روايةً عن عبد الرحمن قال: «رأيتُ عبد الله يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا به ما ليس منه»[34]

 وفي مصنّف ابن أبي شيبة (ت: 235هـ) ترد رواية ثانية: «عن زرٍّ، قال: قلتُ لأبيّ: إنّ ابن مسعودٍ لا يكتب المعوّذتين في مصحفه، فقال: إني سألتُ عنهما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (قيل لي)، فقلتُ: فقال أبيّ: ونحن نقول كما قيل لنا»[35].

وهناك رواية ثالثة ذكرها الطبراني (ت: 360هـ) في المعجم الكبير: «عن علقمة، عن عبد الله، أنه: كان يحكّ المعوّذتين من المصاحف، ويقول: إنما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتعوّذ بهما، ولم يكن يقرأ بهما»[36].

وللعلماء عدّة مواقف تجاه ما يُنْسَب إلى ابن مسعود في الروايات السابقة، ويمكن تقسيمهم إلى ثلاثة اتجاهات:

أولًا: المثبِتون: بمعنى أنهم أثبتوا ما نُسب إلى ابن مسعود بسبب صحّة أسانيد تلك الروايات، من بينهم البزّار، حيث يقول البزار تعقيبًا على الرواية الثالثة: إنّ أسانيدها صحيحة، لكنه لم يتابعِ ابنَ مسعود على ذلك أحدٌ من الصحابة[37].

ثانيًا: النافون بعدم صحّتها: لعلّ من أبرزهم الباقلاني (ت: 403هـ)، وابن حزم (ت: 456هـ)، والنووي (ت: 676هـ)[38].

عقد الباقلاني بابًا في كتابه (الانتصار للردّ عن ما يُنسب لابن مسعود)، بعنوان: (باب الكلام في المعوّذتين والكشف عن ظهور نقلهما وقيام الحُجّة بهما، وإبطال ما يدّعونه من إنكار عبد الله بن مسعود لكونهما قرآنًا منزلًا). حيث ذكر في هذا الباب عدّة أجوبة وتأويلات للردّ على ما يُنسب إلى ابن مسعود، من بينها:

1. أنه لم تَرِد رواية عن الصحابة في الرَّدّ على ابن مسعود على ما أنكره من القرآن.

2. لم تأتِ رواية صريحة من ابن مسعود بإنكار قرآنية المعوّذتين.

3. ثبوت الفاتحة والمعوّذتين عن القرّاء الذين يسندون قراءاتهم إليه.

4. لعلّه لم يثبت الفاتحة والمعوذتين لشهرة أمرهما في الناس وكثرة الحفّاظ.

حتى قال الباقلاني في آخر الباب: «وفي بعض هذه الجملة دلالةٌ باهرة واضحة على أنّ هذه الأخبارَ متكذَّبةٌ على ابن مسعود لا أصلَ لها، أو محمولة متأوَّلة على ما قلناه دون الجَحْدِ والإنكار منه لكونهما قرآنًا، وأنّه لا خلافَ بين سَلَفِ الأمّة في كونِ المعوّذتين قرآنًا مُنزَلًا وكلامًا لله تعالى، وأنّ النقلَ لهما والعلمَ بهما جارٍ مجرى نقلِ جميعِ القرآنِ في الظهورِ والانتشار وارتفاعِ الرّيب في ذلك والنزاع»[39].

وأكّد كلٌّ من ابن حزم والنووي قولَ الباقلاني هذا. يقول ابن حزم في المحلّى: «كلّ ما رُوي عن ابن مسعود من أنّ المعوّذتين وأُمَّ القرآن لم تكن في مصحفه فكذبٌ موضوعٌ لا يصحّ؛ وإنما صحّت عنه قراءة عاصم عن زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ عن ابن مسعود، وفيها أمُّ القرآن والمعوّذتان»[40].

 وقال النووي: «وما نُقِل عن ابن مسعودٍ في الفاتحة والمعوّذتين باطلٌ ليس بصحيحٍ عنه»[41].

ثالثًا: المؤوِّلون: يمكن اعتبار ابن حجر منهم، حيث قال: «فقولُ من قال: (إنه كذب عليه) مردودٌ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يُقبل، بل الروايات صحيحة والتأويلُ مُحتمَل»[42].

وبهذا يتّضح مما سبق أنّ المستشرقة جانبَت الصواب في ادّعائها أنّ عملية جمع القرآن الكريم تمّت على عَجَلٍ، وفي ادّعائها أنّ هذا الجمع فرضَ على السور تسلسلًا لم يتمَّ إصلاحُه حتى ذلك الوقت، واستدلالُها بترتيب السور في مصحف ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب -رضي الله عنهما- استدلالٌ واهٍ.

خاتمة:

بعد هذه المقالة حول تاريخانية القرآن عند نويفرت من خلال دراستها (شكل القرآن وبنيته)، التي تناولَتْ فيها الحديث عن شكلِ القرآن الكريم وبنيته، انطلاقًا من دراسة بعض سور القرآن، تبيَّن بأنّ ما ورد في دراستها من مباحث تتعلّق بتاريخ القرآن بعيد كلَّ البُعْد عن الحقائق العلمية والتاريخية، وعمومًا فإنّ مضامين الدراسة تتعارض مع الحقائق العلمية، بل مع مسلَّمات العلم مما هو معلوم باتفاق، وهي كثيرة جدًّا لا تخلو منها صفحة من صفحاته، وأبرزها:

• ادّعاء أنّ القرآن مقتبَسٌ ومأخوذ من الكتاب المقدّس.

• ادّعاء أنّ جمع القرآن عملية تمّت على عجلٍ.

• ادّعاء أنّ القرآن مجرّدُ نصٍّ ثقافي واجتماعي.

• التأكيد على تأثّر القرآن بالتراث اليهودي والمسيحي القديم.

• ادّعاء أنّ القرآن عبارةٌ عن نصّ أدبي كالشِّعر العربي.

والحمد لله ربّ العالمين

 


[1] مدارس الاستشراق، المدرسة الألمانية، أنور محمود زناتي، شبكة الألوكة.

[2] يهدف المشروع لتيسير الوصول إلى مخطوطات المصاحف الأولى: نصًّا وصورةً وصوتًا، بموازاة مع مقاطع المصحف المتداول ورقيًّا وما نقل من قراءات صحيحة وشاذة، كلّ ذلك ضمن قاعدة بيانات رقمية توضح التطور التاريخي للمصحف مع ارتباطه بمحيطه في مكة والمدينة. للوقوف على المشروع أكثر ينظر موقع الأكاديمية على الرابط: corpuscoranicum.de/about/index/sure/1/vers/1

[3] Form and Structure of the Qurān, Angelika Neuwirth, Encyclopaedia of
the Qurān, Jane Dammen McAuliffe, General Editor, Brill, Leiden–Boston 2002, V, 2, p, 245-264.

[4] المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، جميل صليبا، (1/ 229).

[5] المعجم النقدي لعلم الاجتماع، بودون، ر. وبورّيكو، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 1986، ص131.

[6] بؤس الأيديولوجيا، كارل بوبر، ترجمة: عبد الحميد صبره، دار الساقي، ط1، بيروت، 1992، ص13.

[7] “The theory that social and cultural phenomena are determined by history.
The belief that historical events are governed by natural laws.
The tendency to regard historical development as the most basic aspect of human existence”
www.lexico.com/definition/historicism

[8] موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، دار العمل للملايين، ط3، بيروت، 1993، ص43.

[9] الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، رودي باريت، ترجمة: مصطفى ماهر، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011، ص11.

[10] الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، رودي باريت، ترجمة: مصطفى ماهر، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011، ص11.

[11] المستشرقون نجيب العقيقي، (2/ 740).

[12] موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، دار العمل للملايين، ط3، بيروت، 1993، ص419.

[13] الإسلام في الكتابات الغربية، محمد توفيق حسن، ص40- 41.

[14] موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، دار العمل للملايين، ط3، بيروت، 1993، ص609.

[15] موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، دار العمل للملايين، ط3، بيروت، 1993، ص609.

[16] Form and Structure of the Qurān, Angelika Neuwirth, P, 258-260.

[17] “The first problem with this argument is that Muhammad (Peace and Blessings be uponhim) (…) was illiterate and could not copy what he could not read.(…) Had he not been illiterate, as the Qur’an itself stated, would this have not been easy to prove during Muhammad’s lifetime by his enemies who were eager to discredit him?”

Who wrote the Quran, p, 12.

[18] “Secondly, even if one were to assume, for argument’s sake, that he could read, then thefirst Arabic translation of what is known as the “Old Testament” was not produced untilsome two hundred (200) years after Muhammad’s (Peace and Blessings be upon him)death and the first Arabic translation of the “New Testament” did not appear until onethousand years after his death"

Ibid.

[19] “This important manuscript is probably the earliest copy of the gospels in Arabic. It has five different scribes and the earliest of them uses a modified Kufic script. The script has been dated by experts as from the eighth or ninth century”

The Arabic Versions of the Bible, KENNETH E. BAILEY HARVEY STAAL, p, 4

[20] “The Hijaz [Arabian Peninsula] had not been touched by Christian preaching. Hence organization of the Christian church was neither to be expected nor found"

New Catholic Encyclopedia, Op.Cit, V. 1, p. 721-722.

[21] Form and Structure of the Qurān, Angelika Neuwirth p, 252.

[22] الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخي النقدي، أنجيليكا نويفرت، ص19.

[23] البداية والنهاية، ابن كثير (3/ 79).

[24] ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومَن عاصَرهم من ذوي الشأن الأكبر، ابن خلدون، (1/ 781).

[25] Form and Structure of the Qurān, Angelika Neuwirth, P, 246-247.

[26] الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، (1/ 216- 219).

[27] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 219).

[28] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 260- 262).

[29] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 284).

[30] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 284).

[31] فضائل القرآن، أبو عُبيد القاسم بن سلّام، ص281.

[32] صحيح البخاري (6/ 183).

[33] كتاب المصاحف، ص82.

[34] الأم، الشافعي، (7/ 199).

[35] مصنف ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة، (6/ 146).

[36] المعجم الكبير، أبو القاسم الطبراني، (9/ 235).

[37] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 272).

[38] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 272).

[39] الانتصار للقرآن، الباقلاني (1/ 330).

[40] المحلى بالآثار، أبو محمد بن حزم (1/ 32).

[41] المجموع شرح المهذب، النووي، (3/ 396).

[42] الإتقان في علوم القرآن، (1/ 272).

المؤلف

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))