أثر الطرح الاستشراقي حول ترتيب القرآن وفق النزول
في القراءات العربية المعاصرة
قراءة وصفية تحليلية
مقدّمة:
ما زال القرآنُ موضوعًا للنظر في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر؛ بحيث إنّك تجد أنّ (الدراسات القرآنية الجديدة) في هذا السياق، التي قام بها مجموعة من المفكِّرين من تخصّصات معرفية وعِلْمية متعدّدة، انتظمتْ في أُفق معرفي ذي فرعين؛ الأول يتّصل بما استجدّ من المناهج والمعارف المنقولة عن الفكر الغربي الاستشراقي، خصوصًا تلك المتّصلة بقراءة النصّ الديني عمومًا، والنصّ القرآني خصوصًا. والثاني يتعلّق بعدم الرضا عن تأسيس مأصول التراث العربي الإسلامي لجملة من القضايا المنهجية والمعرفية المتّصلة بالنصّ القرآني. وجملة تلك الدراسات القرآنية (المعاصرة) أو (الجديدة) أو (الحداثية) تجدها على العموم تتعلّق إمّا بما يحمل النصّ القرآني من دلالات وأحكام، أو منوطة بالاحتكام إلى سياقه التاريخي وتسلسله الزمني.
إنّ الناظر في سياق الفكر الإسلامي المعاصر يلاحظ أنّ (الدراسات القرآنية الجديدة) قد تنوّعت إلى حدّ (التكوثر)[1]. ونقصر الحديث في هذه المقالة عن دعاة إعادة القراءة والتأسيس لمنهج النظر في آيات النصّ القرآني، الذين لم يكتفوا بالمجمَع عليه في تاريخ الفكر الإسلامي، أو الذين لم يسلِّموا بمنهج نظر مأصول التأسيس التراثي، الأمر الذي أفضى بهم إلى الاجتهاد قصد إعادة (ترتيب جديد للقرآن)، باتِّباع مسالك عدّة؛ سواء كانت منقولة عن الاجتهاد الاستشراقي الغربي، أو كانت مأصولة وفق محدّدات اجتهادية خاصّة أو عامّة، فضلًا عن جملة من النظّار الذين كان مدار اهتمامهم الاكتفاء بمأصول الاجتهاد الإسلامي مع إعادة بناء منظوره التأسيسي.
وللحديث عن إسهامات أهل الفكر الإسلامي المعاصر في هذا الموضوع، خصوصًا في علاقتها بالمحاولات الاستشراقية قبولًا ورفضًا، نقسمها إلى محوريْن:
الأول: النُّظَّار الذين اجتهدوا في سبيل إعادة ترتيب القرآن وفق أمرِ توالي النزول التاريخي زمن النبوّة استنادًا إلى روح محصول اجتهاد المنظور الاستشراقي:
يوجد العديد من النظّار الذين كان مدار اجتهاداتهم السعيَ في سبيل إعادة (ترتيب القرآن)، باعتباره هو الذي به يتحقّق البناء الدلالي والمفاهيمي الأسلم للقرآن، فضلًا عن أنه هو الذي به يتحقّق إصلاح الكثير من الإشكالات المنهجية والمعرفية المتّصلة بالقرآن[2]، وقد توسّلوا في تحقيق ذلك بمسالك متعدّدة، ونمثّل لهذا الاتجاه باجتهادين:
1. المنظور الاجتهادي لمحمد عابد الجابري [1935-2010]:
ينطلق محمد عابد الجابري من أنّ المصحف الذي توارثته الذّات الجماعية الإسلامية منذ زمن الترسيم وإلى اليوم، هو في حاجة إلى «نظر جديد»، قائم على «إعادة ترتيب حسب النزول» زمن النبوّة، حتى يتمكن القارئ من تحقيق «الفهم الموضوعي» للقرآن[3].
تسويغًا لضرورة الاجتهاد في سبيل إعادة «ترتيب القرآن»، يرى محمد عابد الجابري أن تعامل المفسِّرين مع النصّ القرآني تفسيرًا، تمّ «بشكلٍ مقلوب»، وذلك يتجلّى في اعتمادهم لتفسير آيات القرآن القائم على «ترتيب المصحف» وليس «ترتيب النزول»[4]. وقد مثّل لذلك بقول الله تعالى في مطلع سورة الفجر: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}[الآية: 1- 5]؛ بحيث يرى أنّ أهل التفسير التراثي رأوا بأنّ عِلّة (القَسَم) بتلك الموجودات من قِبَل الله تعالى في مَطْلَع السورة، راجع إلى كونها أزمنة تجري فيها (مناسك الحج)، وهذا كما يؤكد محمد عابد الجابري «لا يصح ولا يستقيم»؛ بالنظر إلى أنّ مطلع السورة من أوائل ما نزل من آي القرآن، فهي بالتّبع مما هو مكيّ، أمّا تشريع الحج وأحكامه، فقد ورد في وقت متأخّر زمن النبوّة. وبالتّبع، فقد تم في أواخر القرآن المدني، ما دام أنّ القرآن المكي «يهتم بالدعوة» أساسًا، في حين القرآن المدني «اهتم بالتشريع»[5].
بناء على همّ إعادة (ترتيب القرآن) داخل المصحف، توقّف محمد عابد الجابري عند الاجتهادات السابقة في تاريخ الاجتهاد الإسلامي التي انصب اهتمامها على إعادة ترتيب القرآن، فرفض (ترتيب محمد دروزة)، بدليل أنه «لا جديد فيه»، أمّا (ترتيب القدامى) فلم يقتنع به، بدعوى أنه يطفح بالاختلافات التي قد تصل حدّ التناقض الجليّ الصريح[6]؛ وذلك مَرَدّه إلى عدم التركيز على «مبدأ السياق» والفهم السياقي لآيات القرآن حسب النزول. وقد استند من أجل إعادة (الترتيب للقرآن) إلى المعالم المنهجية الآتية:
الأول: الاعتماد على مرويات أسباب النزول كما هي في مظانّها التراثية الأصلية والفرعية[7].
الثاني: مراعاة مبدأ السياق بنوعيه؛ الجزئي=وحدة السورة، والكلي=سور المرحلة من مراحل نزول آيات القرآن.
الثالث: مراعاة التساوق بين مسار نزول آيات القرآن ومسار أحداث السيرة النبوية.
الرابع: مراعاة التقسيم المرحلي لمسار توالي نزول آيات القرآن زمن النبوّة[8].
الخامس: الاجتهاد التقديري؛ سواء أخذه عمّن اعتبر اجتهاداتهم، أو كان مصدره تقديره الشخصي.
من باب التحديد المنهجي، ينصّ محمد عابد الجابري على أنّ «ترتيب الآيات» داخل السور القرآنية ككلّ هو أمر «توقيفي باتفاق»[9]، أمّا «ترتيب السور» داخل المصحف فهو أمر اجتهادي توفيقي محض، تمّ على أيدي الصحابة زمن عثمان بن عفان -رضي الله عنهم-. وفق هذا الاعتبار، فإنّ باب الإمكان الاجتهادي وارد لإعادة «ترتيب آيات النصّ القرآني» حسب «تسلسل النزول» وتواليه زمن النبوّة[10].
إنّ الاجتهاد الجابري بناء على ما تقدّم، بقدْرِ ما ينصبّ على إعادة ترتيب السور باعتباره ترتيبًا اجتهاديًّا =ظنيًّا، ينصبّ أيضًا على إعادة «ترتيب آيات القرآن» في المصحف، مع العلم أنّ «ترتيب الآيات توقيفي»، وأنّ المعتمد عليه من لدن محمد عابد الجابري لتحقيق إعادة «ترتيب الآيات»، هو أمر ظني جزئي محض. إشكال من جملة الإشكالات غير المحكمة في الباب منهجيًّا ومعرفيًّا.
من المعلوم للناظر في التراث التفسيري أنّ اعتماد أهل التفسير على (مرويات أسباب النزول)، كان من باب الاستعانة بها لتفسير بعض آيات القرآن، مع عِلْمهم بأنّ أغلب الآيات أُنزلت لغير سبب. وكان منهج النظر التفسيري ينبني على أنّ علاقة السبب بالآية محكومة بالقاعدة الكلية الآتية: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»؛ بمعنى أنّ السبب، الذي قد يكون سؤالًا أو حادثة أو فعلًا أو غير ذلك، لا يستغرق النازل من آيات القرآن استغراقًا كليًّا، درءًا للقول بتاريخية القرآن، القائمة على العلاقة الجدلية بين النصّ والواقع، كما هو مسلك مؤرخني النصّ القرآني[11]. وعلى الرغم من أهمية (أسباب النزول) في منهجية التفسير التراثي، إلا أنّه يلاحظ ندرة المصنّفات في الباب استقلالًا، باستثناء ما كتبه الواحدي والسيوطي في وقت متأخّر[12]. أمّا اعتماد محمد عابد الجابري على «مرويات أسباب النزول»[13]، فكان من أجل التوسّل بها لإعادة (ترتيب القرآن)؛ إِذْ سيتمّ التعامل مع القرآن بوصفه «خطابًا شفهيًّا»، لا «نصًّا مكتوبًا»[14]. الأمر الذي يقتضي بأنّ أول شرط يقوم عليه (المنهج التساوقي) المختار من قِبَل الجابري لإعادة الترتيب، هو ضرورة العودة إلى الآيات القرآنية قبل (التثبيت) و(التدوين) أو (الترسيم)، بعيدًا عن كلّ ما نشأ في ظلالها، لفهمها على أساس تسلسل (ترتيب النزول- القراءة)، وليس على أساس (ترتيب المصحف- التلاوة)، كما فعل مجمل المفسِّرين الذين تعاملوا مع كتاب الله تعالى (بشكلٍ مقلوبٍ)، فتوصّلوا إلى دلالات مخالفة لمعهود تسلسل نزول آيات القرآن؛ وذلك راجع إلى التعامل على أساس (ترتيب المصحف- التلاوة).
يرى محمد عابد الجابري بأنّ اجتهاده في الباب، قد انفرد به، قصد بناء «فهم جديد للقرآن» على أساس «ترتيب النزول» و«القراءة»[15]؛ لأنّ فهمه على هذا الأساس، يمكّن من عرض القرآن وفهمه بشكلٍ متّصلٍ، مع استحضار منهج «المساوقة/ المطابقة» بين «مسار التنزيل»، و«مسار السيرة النبوية»[16]؛ وذلك بالاعتماد على العُمد المنهجية السالفة الذّكر.
كون (مرويات أسباب النزول) هي العُمدة الأساسية في الاجتهاد الجابري لإعادة (ترتيب آيات القرآن)، يقتضي تبيين المنظور التصوّري الجابري لـ(مرويات أسباب النزول)، وبيان ذلك كما يأتي:
1. رغم كلّ ما قيل حول تيمة (مرويات أسباب النزول) قديمًا وحديثًا، خصوصًا من كونها قد دخلها الوضع والصّنعة، فضلًا عن الاضطراب والتناقض ونحو ذلك، إلّا أنّ لها من المنظور الجابري أهمية لا تُنْكَر، ومن مظاهر ذلك:
أ. يعتبر الجابري أنّ من خلال «مرويات أسباب النزول» سنتمكن من «إقامة التطابق» بين أزمنة توالي «نزول القرآن» وتتابع أحداث «السيرة» و«الدعوة النبويّة» تساوقًا[17].
ب. إنها تعكس كما يؤكّد المتن الجابري «عناصر مهمّة من المعهود العربي» زمن النبوّة، فهي بالتّبع أَوْلى في صلتها بآيات القرآن من «الشعر العربي والقصص والموروث الأدبي بشكلٍ عامّ» السابق أو المتزامن لنزول القرآن[18].
ج. القرآن بوصفه نصًّا، فله ظروف تنزيل محدّدة بزمكان وبمعهود تعبيري وثقافي معين؛ لذا فإنّ ربط الآيات القرآنية بأسباب نزولها يفيد في الكشف عن المعطى الموضوعي لآيات النصّ القرآني[19].
2. سبب نزول آية من آيات القرآن أو أكثر، يُعَدّ من المنظور الجابري «مجرّد مناسبة لا عِلّة في وجود المسبب»؛ بمعنى أنّ النصّ القرآني له وجود خاصّ مستقلّ عن حدث أو سبب النزول، الذي قيل إنه أُنزل بسببه[20].
3. من خلال الاعتماد على (مرويات أسباب النزول)، سنجعل -كما يرى الجابري- القرآن «معاصرًا لنفسه»، تقيدًا بما وقع في زمنه، لا قبل ولا بعد ذلك، درءًا للتأويل المذهبي أو التلاعب الدلالي[21].
4. إنّ (مرويات أسباب النزول) من الناحية المنهجية تُفرض على الباحث من المنظور الجابري لسببين أساسيّين:
أ. إنّ القرآن -كما هو معلوم نصًّا- لم ينزل دفعةً واحدةً، بل نزل طيلة مدة (23 سنة). مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ ما نزل ابتداءً من غير سبب متحقّق الوجود، بل إنه هو الغالب.
ب. إنّ (مرويات أسباب النزول) بقدر كونها «تعكس الواقع الاجتماعي والفكري لظروف الخطاب القرآني» زمن النزول، بقدر كونها هي التي يستند إليها في تحقيق (التساوق) بين المسارين؛ (مسار نزول آيات القرآن) و(مسار أحداث السيرة) و(الدعوة النبويّة)[22].
5. الاعتماد على (مرويات أسباب النزول) في هذا السياق إن كان ضروريًّا، إلّا أن أساس القبول أو الرفض، يتم بناء على العمد المنهجية الآتية:
أ. ألّا يتعارض المعنى المتضمّن في (مرويات أسباب النزول) مع المعنى السياقي للآية أو الآيات، خصوصًا داخل السورة الواحدة.
ب. أنْ يتوافق المعنى المتضمّن في (مرويات أسباب النزول) مع (مسار أحداث السيرة) و(الدعوة النبوية)، بوصفها متساوقة مع توالي أزمنة النزول القرآني.
ج. أنْ يتوافق المعنى المتضمن في (مرويات أسباب النزول) مع المعهود الفكري والاجتماعي والاقتصادي والحضاري العربي بوجهٍ عامّ زمن النبوّة والنزول[23].
رغم كلّ ما ذكره محمد عابد الجابري حول (مرويات أسباب النزول)، بالنظر إلى كونها هي العمدة المتوسّل بها لإعادة (ترتيب آيات القرآن)، فإنّ هذا الاجتهاد واقع في عطبٍ وخللٍ منهجي صريح، وهو التناقض الجلي، الذي قد يحوّل اجتهاده كما قال أحد النظّار، إلى «مَعْلم من معالم الجهالات والافتراءات الجابرية»، التي «تشيع الفكر الجهول والفحش الفكري»[24]. ومن أهم متجليات التناقض الصريح، نُورد ما يأتي:
1. من المعلوم أنّ (ترتيب الآيات داخل المصحف- ترتيب التلاوة) هو كما قال محمد عابد الجابري وكما هو ثابت «ترتيب توقيفي»، مردّه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- زمن النزول[25]. وبالتّبع، فـ(ترتيب الآيات) حتمًا يخضع لنسق ترتيبي محدّد، تعيّن الاجتهاد في بنائه؛ سواء عبر مبحث (المناسبة) أو غيره. أمّا (ترتيب النزول- ترتيب القراءة)، فهو مهما كان دقيقًا وصحيحًا في عدّته المنهجية، لا يتجاوز حدّ كونه اجتهادًا (توفيقيًّا) ظنيًّا نسبيًّا، لا يفيد القطع ولا اليقين، ما دام أنه صادر عن الاجتهاد الإنساني. فكيف يُستساغ تقديم ما هو اجتهادي ظني نسبي حقيقة، على ما هو توقيفي/ وحي مطلق حقيقة؟!
2. أصدر محمد عابد الجابري على (مرويات أسباب النزول) حُكمًا عامًّا، وهو أنّ (أغلبها موضوع)، صِيغ في أزمنة التأويل التالية لتعزيز الصراعات المذهبية والفكرية، فضلًا عن أنها تتأسّس في الغالب على مجرّد (الظنّ) و(التخمين)[26]. فكيف يجعل الجابري منها عمدته الأساس لإعادة (ترتيب آيات القرآن) من جديد، ما دام أنه لا تتم إعادة بناء الشيء من جديد إلّا في ضوء أساس أمتن وأصحّ مما سبق؟!
3. إنّ الآيات التي وردتْ بشأنها (مرويات أسباب النزول) قليلةُ العدد بالمقارنة مع كلّ آيات القرآن التي نزلت ابتداء من غير أسباب. ففي ضوء أيّ ضابط منهجي متزامن تتم إعادة (ترتيب الآيات) التي لم تَرِد بشأنها أسباب للنزول، حتى مع افتراض أنّ كلّ (مرويات أسباب النزول) المتداولة هي صحيحة مطابقة، سوى الرجم بالغيب؟!
4. يرى محمد عابد الجابري أنّ من مستلزمات المنهج، عدم الاقتصار على (مرويات أسباب النزول) لوحدها مهما كان سندها، بالنظر إلى أنها اتّصفت بثلاث صفات: (التضارب)، (التضخّم مع توالي الزمن "الوضع")، (الأخذ من الإسرائيليات)[27]، فكيف وهي بهذه التوصيفات يتم الاعتماد عليها واتخاذها العُمدة الأساس في الباب؟!
5. إنّ (مرويات أسباب النزول) يُستأنس بها بشرط إذا ثبتت صحتها، ومعيار صحّتها الموافقة لمبدأ السياق بنوعَيْه، وخصوصًا النصّي منه، ويبقى الاعتبار الأول والأخير، لمبدأ (السياق)، ما دام أنه توقيفي محض[28]. وعلى الرغم من مراعاة (السياق) بوصفه نصيًّا، إلّا أنه يخضع، خصوصًا في علاقته بإعادة (ترتيب آيات القرآن) للتقدير الاجتهادي وما يحتفّ من مواصفات نسبية ظنيّة، من غير برهان قاطع يقيني؛ إِذْ مصدر ذلك النقل عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام-.
بناءً على ما تقدّم، تجد أحد الدارسين قد حكم على دعوة محمد عابد الجابري، القائمة على إعادة «ترتيب آيات القرآن» من جديد وفق «مرويات أسباب النزول»، أن الهدف منها «إزالة القداسة» و«الوحي» عن القرآن[29]. وبالتّبع، فهي دعوة بِدْعِيّة مستحدَثة. في المقابل، رأى آخران أنّ ترتيب الاجتهاد الجابري، ترتيبٌ منقول عن «الترتيب الاستشراقي»، خصوصًا «ترتيب بلاشير» و«نولدكه»[30].
وعليه؛ فبصرف النظر عن القيمة العِلْمِيّة لمثل هذه الأحكام أو غيرها، فإنّ الاجتهاد الجابري أو دعوته الجديدة تلك، يمكن النظر إليها من زاويتين:
الأولى: ما دام أنّ (ترتيب الآيات) داخل المصحف توقيفي بالإجماع، فإنّ الدعوة إلى إعادة الترتيب في ضوء (مرويات أسباب النزول)، بالمواصفات التي مرّت سابقًا وغيرها، فهو اجتهاد متهافتٌ من أصله، ما دام أنه بُنِي على شَفَا جُرُفٍ هارٍ غير معتبر في الباب؛ إِذْ لا يتم التعبّد والتكليف إلا بما هو قاطع ويقيني.
الثانية: إنّ دعوى الجابري إنْ كانت موضوعية ابتداء، بالنظر إلى التوسّل بها للتعرّف على منهجية القرآن في بناء الدلالات والأحكام، فإنّ تحقيقها تَعَيّن أنْ يكون قائمًا على أساس آخر صحيح صريح، يتناسب مع صفة القرآن، وذلك غير متحقّق إلّا في النقل عن المعصوم -عليه السلام-، وما دام أنّ ذلك لم يَرِد، فإنّ الأيقن والأقطع والأسلم هو الاقتصار على ترتيب المصحف، تحقيقًا للتعبّد التكليفي أساسًا دون سواه.
2. المنظور الاجتهادي لهشام جعَيْط [و. 1935]:
تناول المؤرخ هشام جعيط لموضوع (إعادة ترتيب القرآن) كما هي في المصحف، وَرَدَ في سياق البحث التاريخي في الأحداث التاريخية للسيرة النبويّة بالتساوق مع نزول القرآن زمن النبوّة، إِذْ خصّص لذلك ثلاثيته التي وسمها بعنوان: «في السيرة النبوية»، ونركّز الحديث في هذا السياق على (الترتيب الزمني لنزول آيات القرآن) زمن النبوّة، خصوصًا في العهد المكي، باعتباره محلّ اختلاف بين النُّظَّار، ونورِد ذلك وفق ما يأتي:
1. يتحدّد المنظور الاجتهادي لهشام جعيط وفق مجموعة من المحدّدات والمنطلقات المنهجية والمعرفية، ومنها على سبيل الوضع التأطيري:
أ. في البداية لاحظ هشام جعيط أنّ ما كتب في موضوع (إعادة ترتيب القرآن) وفق معيار تتابع النزول في فضاء الفكر الإسلامي قليل؛ لذا جاءتْ محاولته لتسدّ هذا النقص البيّن.
ب. إنّ جملة ما يقدّمه هشام جعيط من المنظور التاريخي المتعلّق بالموضوع، يعدّ من باب «الفرضيات» و«القول الإمكاني»، وليس من باب «القول الفصل» أو «قاطع القول»[31].
ج. يرى جعيط أنّ من بين أهم ما جاء به العلم الحديث بخصوص آيات القرآن خصوصًا من المنظور الاستشراقي، هو «تَوْرختُها»، ومن أهم تلك المحاولات التأسيسية التي هي جديرة بالاعتبار، محاولة تيودور نولدكه في كتابه المرجعي: (تاريخ القرآن)، والتي قد استعادها ريجيس بلاشير وحسّنها، خصوصًا فيما يتعلّق بالفترة المكية الأولى، كما أنّ لنولدكه الفضل في «هيكلة قرآن الفترة الثانية والثالثة» من العهد المكي، كما أنه اجتهد في «تفصيل الأغراض الأساسية لهذه الفترات الثلاث» للقرآن المكي. وعلى الرغم من ذلك، يبقى عمل نولدكه الأصل الأساس، الذي يجب الرجوع إليه، وبلاشير أيضًا قد اتّبع ترتيبه في الفترة الثانية والثالثة المتعلقتَيْن بالعهد المكي[32].
د. إنّ «تورخة القرآن» تُعِين من الناحية المنهجية كثيرًا على فهم «تطوّر المعاني» التي أتتْ بها الدعوة، وكذلك فهم «تطوّرات الدّعوة» ذاتها في العهد المكي، ذلك أنّ القرآن المكي يحتوي بالأساس «مضمون الدعوة ذاتها والأفكار التي امتلأتْ بها في مختلف مراحلها»[33].
هـ. يقيم هشام جعيط التمييز بين القرآن المكي والمدني وفق معيارين؛ أولهما: أن القرآن المكي أقلّ انغماسًا من القرآن المدني في الأحداث التاريخية، وتلك الأحداث أو الصراعات المدنية هي سياسية بامتياز. وفق هذا المعيار كما يؤكّد، ليست لدينا شواهد معاصرة من القرآن المكي عن (الهجرة إلى الحبشة) أو (حصار بني هاشم) بعد (المقاطعة) أو (الرحلة إلى الطائف) ونحو ذلك، عكس القرآن المدني. ثانيهما: أنّ كميّة القرآن المكي أكثر بكثير من كمية القرآن المدني. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ التداخل واضح جلي بين القرآن المكي والمدني[34].
و. إنّ مدّة نزول آيات القرآن في العهدَيْن معًا، مُقَدّرة من منظور هشام جعيط بنحو عشرين سنة، ثماني سنوات في عهد الدعوة المكية، والباقي استغرقته الدعوة المدنية، خلافًا للتحقيب التراثي والاستشراقي معًا[35].
ز. اعتبر هشام جعيط أنّ القرآن المكي عبارة عن «ثلاث فترات»، في حين آيات القرآن المدني عبارة عن فترة واحدة. والتقسيم الرباعي لترتيب آيات القرآن، استند فيه أساسًا إلى ما سماه بـ«تاريخية المقاطع»، اعتمادًا على (ترتيب نولدكه). وعلى الرغم من هذا التقسيم والترتيب، فإنّ أسلوب آيات القرآن في العهدَيْن معًا واحد مع متغيرات طفيفة[36].
2. علاقة اجتهاد هشام جعيط بالترتيب التراثي العربي والإسلامي والاستشراقي الغربي، يمكن تحديد معالمها وفق ما يأتي:
أ. علاقته بـ«الترتيب التراثي» تتحدّد على العموم بعدم الرضا والسعي لكشف العديد من الأعطاب المنهجية والاعتلالات المعرفية للاجتهاد التراثي، خصوصًا تلك الاجتهادات والنصوص المرتبطة بسياق آيات القرآن وظروف الدعوة، فمثلًا رفضه للرّبط الذي أقامه ابن إسحاق بين قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر: 94]، و(الجهر بالدعوة)؛ إِذْ يرى جعيط أنه لا يمكن قبول الربط، كما أغلب استشهادات ابن إسحاق في سيرة ابن هشام، باعتبار أنّ آية سورة الحِجْر من قرآن الفترة الثانية، الذي يُدرج ضمن دعوة حذرة في سياق نشر الدعوة والإعلان عنها[37].
ب. علاقته بالترتيب الاستشراقي يَرِد في الغالب على ثلاثة أضرب؛ الضرب الأول: الإشادة بالترتيب الاستشراقي، خصوصًا ترتيب تيودور نولدكه، الذي قسم آيات القرآن المكي إلى ثلاث فترات متباينة ومتتالية، تحسينه لاجتهاد بلاشير لآيات الفترة المكية الأولى من تصنيف نولدكه، علاوة على التنويه بتفطّن نولدكه إلى أنّ الفترة الأولى لنزول القرآن تحتوي على عناصر مشاحنة مع قريش، عكس ما سيظهر في الفترة الثانية والثالثة[38]. الضرب الثاني: النقد والتصويب؛ إِذْ يرى أن الملحظ الاستشراقي القائم على أنّ في آيات القرآن في الفترة المكية الأولى أفكارًا أساسية لم تظهر دفعة واحدة، بل شيئًا فشيئًا، وكأنّ الظروف هي التي أَمْلَتْهَا وأنّ النبيّ لم يتفطّن إليها من قبل كالتوحيد =ليس صحيحًا؛ إذ إستراتيجية آيات القرآن في الكشف عن المحتويات والمعاني الأساسية، هي كإستراتيجية النزول التي عابها الكافرون على القرآن في الفترة المكية الأولى، إِذْ توجد فيها تلميحات قويّة إلى التوحيد، وذِكْر مكشوف للإله ابتداء كما في سورة قريش والتين والكوثر حسب المسلك المتّبع في تورخة الآيات القرآنية بالتزامن مع أحداث الدعوة والسّيرة[39]. الضرب الثالث: المفاضلة بين اجتهادات المستشرقين المؤسّسين، كالمفاضلة بين ترتيب بلاشير ونولدكه[40].
3. بعد الرضا عن التقسيم الثلاثي لآيات العهد المكي من القرآن، الذي أسّسه المستشرق نولدكه، والقائم على ثلاث فترات في كتابه المرجعي: (تاريخ القرآن)، اجتهد هشام جعيط في تحديد العلامات المميزة مضمونيًّا ومفاهيميًّا لكلّ فترة على حِدَة، موافقًا تارة التحديد الاستشراقي، ومخالفًا تارة ثانية، ومجتهدًا تارة ثالثة ولو على سبيل القول الفرضي، نُجْمِل في هذا السياق أهم ما تتميّز به الفترات الثلاث لآيات القرآن المكي مضمونيًّا ومفاهيميًّا، وذلك وفق ما يأتي:
أولًا: من محدّدات الفترة الأولى: من أهم ما تتحدّد به هذه الفترة تمييزًا لها عن الفترتين المكيّتيْن اللاحقتَيْن، نُورد ما يأتي:
أ. انتقاد لسلوك أهل مكة المنافي للإيمان والقِيَم الأخلاقية السامية، وإنذارهم من عواقب أفعالهم، فضلًا عن كثرة الغَمْز والهَمْز للنبيّ -عليه السلام- وأصحابه من قِبَل أهل مكة كردّ فعل، وهذا وذلك، لا يكون إلّا علنيًّا. وفق هذا الأمر، نفى هشام جعيط «سرِّية الدعوة» التي استغرقتْ ثلاث سنوات، إِذْ هذا الأمر لا يمكن قبوله، فالدعوة وإن صح أنها كانت (خفيّة) أو (سرِّية) بالمعنى الدقيق، فهي على الأكثر لم تتجاوز بضعة أشهر؛ إِذْ كيف تكون «سرِّية»، وآيات هذه الفترة، آيات «انتقاد» و«إنذار»[41].
ب. انطوت آيات هذه الفترة على عِدّة إشارات إلى الموضوع الأساسي، وهو التوحيد، وأغلبها نزل في ظروف علنيّة، بدليل وجود بعض المشاحنات مع قريش، فضلًا عن دعوة الأشراف إلى ما جاء به الرسول -عليه السلام-، كما تشهد على ذلك سورة عبس[42].
ج. كان موقف قريش مما جاء به الرسول -عليه السلام- يتّسم على العموم باللّا عنف، وقد تغيّر بعد آية سورة النجم: يقول الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم: 23].عكس ما كان قبلها؛ إِذْ لا نجد في آياتها مسًّا بالآلهة، وبعد أن ذكر آلهتهم بسوء وعاب التعلُّق بها، تغيّر الموقف من الرسول -عليه السلام- ودعوته وأصحابه أيضًا. وقد تجلّى ذلك في النصف الثاني من الفترة الأولى، أو لعلّ في نهايتها حسب التحقيق القرآني، خصوصًا بعد إعلان الدعوة وانتهاء المرحلة السريّة إن وُجدت[43].
د. تناوُل هشام جعيط لسورة النجم، وخصوصًا الآية رقم: 23، مضطرب؛ إِذْ تارة يجعلها هي التي أنشأت التغيير في الموقف، وتارة أخرى يعتبرها ترجمة لواقع حاصل متجسّد قبل نزولها، إذ الآية تنفي -حسب هشام جعيط- وجود الآلهة المتعدّدة وتدين معتقدات الآباء. ومثل هذا التصريح، يُوجد أول مرة في القرآن بهذه الصفة الصريحة في تتاليه الزمني. فتكون بالتّبع هذه الآية من سورة النجم من آخر ما نزل في الفترة الأولى، وليس كما ذكر نولدكه الذي اعتبرها نزلتْ في زمن سورة الإخلاص والكافرون، إِذْ في الأول تتلخّص عقيدة التوحيد، وفي الثانية تتجلّى القطيعة الدينية مع قريش. وبهذا المنحى يمكن «تورخة القطيعة مع قريش» في هذا الزمن بالتدقيق، وبعد ذلك ستبرز أحداث جمة، كـ(الاضطهاد) و(الفتنة) و(الهجرة إلى الحبشة) ونحو ذلك[44].
هـ. في هذه الفترة على المستوى المفاهيمي، لا نجد مفهوم (الشِّرْك)؛ إِذْ قد ورد مرة في سورة الطور، وقد نزلت بعد النجم، ومرة أخرى في القلم وقد نزلت قبل النجم، وكذا مفهوم (الكُفْر)، إِذْ سيكونان من بين مفاهيم الفترة الثانية، ويكثر في الفترة الثالثة. فعلى الرغم من «إدانة التعدد» و«التأكيد على الوحدانية»، إلا أنه يَرِد فيها استعمال جذر (شرك)، كما هو ظاهر في آيات سورة النجم[45].
ثانيًا: من محدّدات الفترة الثانية: من أهم ما تتميّز به هذه الفترة في مقابل الفترة الأولى، مجموعة من المحدّدات العامة، نُورد منها ما يأتي:
أ. من أهم علاماتها الإكثار من استعمال مفهوم (الكُفْر)، وعبارة: {الذين أشركوا} ونحوهما؛ إِذْ هما لا يوجدان في الفترة الأولى إلّا باحتشام وبصفة مبهمة، كما في سورة البلد والطارق وعبس وبكثرة في القلم. فضلًا عن أنّ الفترة الثالثة ستكثر فيها الأوصاف الآتية: {الكافرون}، {المجرمون}، {الظالمون}[46].
ب. في مقابل هذه الأوصاف، تجد آيات في هذه الفترة تعبّر عن احتدام الصراع والنزاع بين الطرفَيْن، فضلًا عن بيانها لـ(وحدانية الله تعالى) مقرونة بالتأكيد على (يوم القيامة) و(الوعد) و(الوعيد) و(التهديد بالعذاب المعجّل في الدنيا)، وهذا «لم يكن له وجود من قبل».
ج. يبرز لأول مرة في آيات هذه المرحلة مفهوم (الاستهزاء والمستهزئين) في عدّة سور: كالحجر، والأنبياء، والشعراء، ويس، ويكثر هذا النعت في الفترة الثالثة[47].
د. في هذه الفترة تَرِد آيات القصص القرآني، بوصفه يعكس التاريخ المفعم بالعِبَر للمكذِّبين، كما أنه مرآة تعكس الواقع النبوي ومتعلقاته في العهد المكي. آيات القصص تعبّر عن صيغة أسلوبية جديدة، تصوّر المستقبل وكأنه أمر قد مضى وحصل، ومن أمثلته: «قال الله»، «قال الرسول»، «قال أصحاب الأعراف»، فضلًا عن «مناجاة الكافرين يوم العذاب»[48].
هـ. يُعَدّ مفهوم (الكُفْر) من مفاهيم آيات الفترة الثانية والثالثة، ومعناه الأول فيما استعمل فيه، يضاد معنى (الشُّكْر)، ثم صار بعد ذلك يضاد مفهوم (الإيمان).
و. في آخر الفترة الأولى وطول الفترة الثانية تم التركيز في الآيات على نقض فكرة (التعدّد)، والتأكيد في المقابل على (وحدانية الله) و(الرحمن)، ويُعتبر هذا التأكيدُ البابَ والشرط الأساسي لـ(الإيمان) في مقابل (الكفر) أو (الشرك)، إِذْ ورد مفهوم (الكُفْر) فيها ليعبر عن معنى يضاد (الوحدانية)، كما هو ظاهر في آيات سورة الصافات بوصفها من أوائل ما نزل في هذه الفترة.
ز. جذر وعبارة (الشِّرْك) ورد في العديد من آيات هذه الفترة، وليس في كلّها، كما في آيات سورة الحجر والجنّ والكهف. ويُستعمل مفهوم (الشرك) في آيات هذه الفترة لترسيخ (القطيعة مع قريش)، خصوصًا في تعلّقها بـ(الوثنية) و(التعدّد)[49].
ح. يُعَدّ مفهوم (الفتنة) من مفردات آيات الفترة الثانية والثالثة، وأكثر ما يَرِد في آيات الفترة الرابعة، التي تستغرق القرآن المدني[50].
ثالثًا: من محدّدات الفترة الثالثة: يتعلّق بآيات هذه الفترة من القرآن المكي مجموعة علامات تميّزها عن سابقتَيْهَا، وإن كانت في أصلها تُعَدُّ استمرارًا للفترة الثانية، كما هو ظاهر في تمثيل وتعليل هشام جعيط، ومما يميزها عمومًا نسوق ما يأتي:
أ. مفهوم (الشِّرْك) وما تعلّق به، يكثر وروده في آيات هذه الفترة، للبرهنة على (نفي التعدّد) و(ترسيخ التوحيد)، إِذْ يُورد في آيات سورة هود وإبراهيم والرّوم والنّحل وغافر وغيرها، ويعظم ذكره أكثر في أواخر آيات هذه الفترة، كما في آيات سورة الأعراف والأنعام[51].
ب. فكرة (الخَلْق) وإن كانت من مفردات آيات الفترة الأولى والثانية، إلا أنها تزداد قوّة في آيات الفترة الثالثة[52].
ج. من أهم ما تتميّز به آيات هذه الفترة مفاهيميًّا، أنّ مفهوم (الأذى) يتعلّق ذكره بهذه الفترة خصوصًا، إِذْ لا وجود له قبلها في الفترتَيْن السابقتَيْن[53].
بناء على ما قام به هشام جعيط من الاجتهاد في سبيل تحديد العلامات المضمونية والمفاهيميّة التي تميّز الفترات الثلاث للقرآن المكي، جعلته يسطّر من خلال ذلك مجموعة من المقرّرات المتّصلة بآيات القرآن، نُورد منها على سبيل الإجمال والتمثيل ما يأتي:
- إمكانية التأثير اليهودي والمسيحي على تكوّن وبنية القرآن في مرحلة الخطاب؛ إِذْ يرى تارة أنّ التأثير المسيحي على الخطاب القرآني في العهد المكي أهم بكثير من التأثيرات اليهودية في مكة، عكس ما سيحدث في المدينة؛ بحيث إنه كما يؤكد هشام جعيط: «من دون المسيحية الشرقية لم يكن ليظهر محمد» -عليه السلام-، وهذا التأثير المسيحي ليس ثانويًّا أو سطحيًّا، وإنما هو «تأثير كلِّي عميق». وتارة تجده يؤكّد على أنّ «وجود تلميحات إلى التوحيد منذ بدءِ النّزول، يرجع إلى أنها موجودة أصلًا في الفكر المحمدي» السابق. وتارة أخرى من خلال التأكيد على أنّ «القرآن يسترجع ميثولوجيا الكتاب ويثريها»[54].
- إعادة تعريف مفهوم (وحي القرآن)، إِذْ يَنُصّ على أنّ دلالة (القرآن) تُشير إلى ما هو «شفهي يُتلى»، على الرغم من أنه (كتاب) ليس على «شكل المكتوب ولا حتى على شكل الوحي المكتمل». و«القرآن ليس هو الوحي بذاته»، إِذْ إنّ (الوحي) من منظور هشام جعيط هو «العملية التي تمّ بها التبليغ إلى الرسول والتجربة الفريدة التي عاشها»[55].
- بيان معالم تاريخية القرآن؛ بحيث إنّ (تاريخية القرآن) لا يتعيّن النظر إليها -من منظور هشام جعيط- من خلال علاقات النبي -عليه السلام- بِوَسَطِهِ، وإنما تتضمّن ما يتجاوزها إلى المحتوى الروحي والفكري والمفاهيمي، فهو بهذا يتجاوز التاريخ؛ ليكون بذلك حيًّا في اتصاله بمطلق مخاطِبيه، والدالّ على ذلك أنّ القرآن المكي مثلًا وإن عَكَس «العداء الشديد» و«الجدال الحادّ»، إلّا أنه من خلال خصائصه الأسلوبية يتعالَى عن التفاصيل الجزئية الواقعية كـ«أسماء الأفراد» و«العشائر» و«الإطار الجغرافي» و«الأحداث الحسّية» ونحو ذلك، فهو بالتّبع «يلمّح بدون تسمية ولا تعيين»[56].
- النفي والتشكيك في مجموعة من الأحداث؛ بحيث إنّ النظر التاريخي الذي سار على وفقه، جعل هشام جعيط يشكّك تارة وينفي تارة أخرى مجموعة من الأحداث السيرية المرتبطة بالفترات الثلاث للقرآن المكي، ومن باب الإجمال نُورِد ما يأتي: مرحلة (الدعوة السِّريّة)، قصة (الغرانيق)، (وفد قريش إلى الحبشة= سفارة عمرو بن العاص)، (إجارة مُطْعِم)، (الهجرة إلى الطائف)، (الإسراء والمعراج)، (المفاوضات مع أهل يثرب)، (خبر المقاطعة والمحاصرة)، (قصة الأرَضَة)، (قصة بيعة الحرب مع الأنصار)، (قصة مؤامرة قتل النبيّ في مكة قبيل الهجرة)، (بحث قريش عن النبيّ بعد خروجه من مكة نحو المدينة)، وغير ذلك[57].
بناء على ما تقدّم، يمكن أن نُجمل بعض الاستنتاجات العامة المتعلّقة بالمنظور الاجتهادي لهشام جعيط، ومن ذلك:
1. إنّ اجتهاد هشام جعيط وإن استند إلى الاجتهاد الاستشراقي التأسيسي لكلّ من نولدكه وبلاشير، إلا أنّه يبقَ حبيس ذلك؛ سواء من خلال مَعْلم النقد والتصويب، أو من خلال مَعْلم التجاوز والتخطّي، أو خلال الوضع التأسيسي الخاصّ.
2. يكشف اجتهاد هشام جعيط أنّ المفهوم القرآني في مختلف فترات توالي نزول الآيات، يخضع لناظم التطوّر على مستوى البناء الدلالي، بناء على تطوّر مسارات وتحوّلات الدعوة النبوية، الأمر الذي يُعتمد في إعادة ترتيب القرآن.
3. يطغى على اجتهاد هشام جعيط المنظورُ التاريخي في النظر إلى الآيات القرآنية أو الأحداث المصاحبة؛ سواء في تعلّقه بالنقد أو التأسيس، النفي أو الإثبات.
ثانيًا: النُّظَّار الذين اكتفوا بالمُجْمَع عليه في مأصول الفكر الإسلامي، مع الاجتهاد لإعادة بناء المنظور التأسيسي:
في مقابل هؤلاء النُّظّار الذين انصبَّت اجتهاداتهم على (إعادة ترتيب القرآن) من جديد وفق التسلسل الزمني التاريخي لزمن النزول، كشأن محمد عابد الجابري وهشام جعيط وغيرهما، وُجِدَ نُظّار آخرون، كان مدار اهتمامهم الاجتهادي على إحكام البناء التأسيسي للترتيب التوقيفي للقرآن داخل المصحف، المجمَع عليه في تاريخ الفكر الإسلامي، ونمثّل لذلك بالاجتهادات الآتية:
1. منظور اجتهاد أبي يعرب المرزوقي [و. 1947]:
اهتم أبو يعرب المرزوقي بتأسيس النَّظْر لجملة إشكالات منهجيّة متعلقة أساسًا بما نحن بصدد الحديث عنه، ونسوق من ذلك:
أولًا: ترتيب آيات القرآن ومسألة تنجيم النزول في زمن النبوّة:
يتحدّد منظور اجتهاد أبي يعرب المرزوقي في هذه المسألة بناء على جملة من المحدّدات المنهجية والمعرفية، نذكر من بينها:
1. محدّدات تحذيرية بين يدي تحرير القول في المسألة:
أ. إنّ عدم اعتبار (ترتيب آيات القرآن) كما هو عليه في المصحف الشريف والتقيّد به على مستوى النظر التعبدي والتفسيري ونحوهما، من شأنه أنْ يُفضي إلى الدخول في فرضيات لا تنتهي، بالنّظر إلى كثرة الاجتهادات الظنية الاحتمالية، التي لا تقوم على أيّ أساس يقيني، مما يُفضي إلى التشكيك في أصل نصّ وحي القرآن صحةً وسلامة[58].
ب. إنّ تركيز القول على إعادة (ترتيب آيات القرآن) باعتبار توالي أزمنة النزول زمن النبوّة، من شأنه أن يجعل من القرآن نصًّا تجسيديًّا تاريخانيًّا، شأنه شأن ما سبقه من الكتب المنزّلة، مما يُفضي إلى ترسيخ روح التقليد لمعهود الصدر؛ سواء كان تقليد نَظَر، أو تقليد عَمَل، أو تقليد غيرهما[59].
ج. إنّ الولع بإعادة (ترتيب آيات القرآن) من قِبَل دعاة (أرخنة) النصّ القرآني، بناء على (مرويات أسباب النزول)، أو تصوّرات عقلية اعتبارية مجرّدة أو غيرهما، من شأنه أن لا يتحقّق من وراء ذلك أيّ ترتيب مهديّ مرضيّ متَّفَق عليه بين المسلمين والنُّظّار عمومًا، غير ما عليه (ترتيب آيات القرآن) في المصحف الشريف[60].
د. إنّ ما يتخذه أهل مذهب تاريخانية النصّ القرآني من التناقض الذّهني الوهمي بين مقتضى (ختم الوحي) ومقتضى (تنجيم القرآن)، لا أساس له من الصحة المعتبرة؛ بالنظر إلى أنّ مَنْ يملك (الإستراتيجية) الكلية كاملة، يمكن أنْ ينجّمها دون أنْ يخفَى عنه ذلك، خصوصًا على مستوى علاقة الجزء بالكلّ، وعلاقة الجزئي بالكلي؛ ذلك أنّ ناظم (التنجيم) كليةً معللٌ في نصّ القرآن بضرورة (التفريق)[61].
هـ. إنّ تشديد القول على إعادة (ترتيب آيات القرآن) باعتبار توالي أزمنة النزول، مُوقِع في آفة منهجية عصيّة الحلّ، وهي أنّ أغلب آيات القرآن أُنزلتْ لغير سبب زمكاني اقتضاها أو استلزمها، حتى مع فرض صحّة أغلب (مرويات أسباب النزول).
و. إنّ الدعوة إلى إعادة (ترتيب آيات القرآن)، من شأنه أنْ يجعل ما هو تاريخاني محايث -مرويات أسباب النزول-، متحكّمًا في ما هو متعالٍ مفارق -آيات القرآن-؛ سواء على مستوى بِنية آيات القرآن التركيبية، أو على مستوى فقه دلالات لسان القرآن، وذلك مناقض لما يتفرّد به نصّ القرآن من خصائص، خصوصًا خصيصة الإعجاز ونحوه.
2. تأصيل منهج النظر الأسلم في المسألة:
بناء على جملة الأعطاب المنهجية والمعرفية التي انبثقتْ عن أزمنة التأويل في تاريخ الفكر الإسلامي؛ سواء صدرتْ عن المتقدّمين ومَن ارتضى منهج نظرهم من مقلّدة المتقدّمين، أو صدرتْ عن مَن ارتضى منظور المنهج الحداثي من مقلّدة المتأخِّرين، يؤكّد أبو يعرب المرزوقي أنّ المسألة في حاجة إلى ضبط تأصيل منهج النظر؛ درءًا لأيّ تلاعب بخصوصية إنيّة آيات القرآن. ومما يؤسّس عليه منهج النظر الأمثل، نذكر المقومات المنهجية والمعرفية الآتية:
أ. إنّ (ترتيب آيات القرآن) كما هو عليه في المصحف الشريف، قد خضع ترتيبه لما اقتضاه نسق القرآن ومقومات (استراتيجيته) الكلية؛ ذلك أنّ نزوله لم يكن خاضعًا في حقيقة الأمر لمقتضيات معهود أسباب النزول، بل كان خاضعًا لإرادة الله تعالى، فضلًا عن محدّدات النصّ الخاتم، كونه -أوّلًا وأخيرًا- رسالة لهداية الإنسان تجريدًا[62].
ب. إنّ (ترتيب آيات القرآن) كما هو عليه في المصحف الشريف، قد تم تحت رعاية الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وما دام أنه مخالف لما هو تاريخي -ترتيب النزول-؛ فذلك أمر دالّ على أنه ذو غايةٍ، عِلْمُها عند الله تعالى، تَعَيّن الاجتهاد والجهاد في سبيل البحث عنها وكشفها[63].
ج. إنّ تأسيس منهج النظر وفق (ترتيب الآيات في المصحف)، ما دام أنه صادر عن ترتيب الوحي=الرسول عليه الصلاة والسلام، من شأنه أن يمهّد الأرضية المعرفية التأسيسية المناسبة لتوالي إمكانات الإبداع من خلاله.
د. إنّ أصل منهج النظر الأساس الذي جاء به أبو يعرب المرزوقي، يتجلّى في أنّ القرآن شأنه شأن (عالم الطبيعة) أو (ظاهرات العالم)، كلاهما يتضمنان وجهًا من (الغيب) ووجهًا من (الشهادة). لذلك، فإنّ منهج النظر يتعيّن أن يترك البحث في الوجه الغيبي من القرآن =(ترتيب النزول)، وتركيز البحث على الوجه الشاهد منه =(ترتيب المصحف)؛ إِذْ لا يمكن أن نتصوّر ترتيبه عقليًّا، بناء على تصوّر ترتيب مداركنا أو مرويات معهود أسباب النزول أو غيرهما، وإلا كان «ترتيب الوحي=ترتيب الرسول عليه الصلاة والسلام لا معنى له»[64].
وعليه؛ فإنّ أبا يعرب المرزوقي أراد أن ينفذ من خلال سالف القول، إلى تقرير أنّ منهج النظر السديد، تعيّن أنْ ينصبّ على ترتيب الوجه الشاهد من المصحف، وترك النّظر في ترتيب الوجه الغائب منه، ما دام أنّ الأخير لا يتأسّس على أُسس صحيحة متّفق عليها؛ إِذْ هي من باب الاجتهاد الظني المتعدّدة أضرُبه، وإلّا دخلْنا في فرضيات لا تنتهي كثرةً، تَذهب بأصل اعتبار يقين ترتيب المصحف الصادر عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- من باب الوحي كأصله سواء بسواء. لذا، فإنّ اجتهاد أبي يعرب المرزوقي، يسعى للتعامل مع نصّ القرآن، وفق ما هو عليه في المصحف الشريف، دون الالتفات إلى غيره؛ بالنظر إلى ما تميّز به ترتيب المصحف من دقّة وعناية، عكس ترتيب النزول، فهو وإن تحقّق لا يخلو من كونه مجرّد فرضية من جملة فرضيات اجتهادية عديدة، وهذا يتنافى مع أصل نصّ وحي القرآن.
ثانيًا: تنجيم نزول آيات القرآن ومعهود مرويّات أسباب النزول:
في مقاربة هذا الأمر، أكّد أبو يعرب المرزوقي بدايةً على مستوى المدخل العام، أنّ آيات القرآن مكتفية بذاتها ولا علاقة لها بالتّبع بمعهود (مرويات أسباب النزول) أو بغيره، مثلها مثل (العالم الطبيعي) سواء بسواء[65]، إلّا باعتبار أنّ (مرويات أسباب النزول)، يُتوسّل بها من باب «التمثيل بالعيّنة للقانون الكلي التشريعي القرآني» لا غير، لذلك فهي «تُفهم بالقرآن ولا يُفهم القرآن بها»، من باب أنها لا تستغرق أيّ نصّ من نصوص القرآن، فضلًا عن أنه يحتويها ويتجاوزها إلى غيرها[66].
نهاية يشدّد أبو يعرب المرزوقي على مستوى المخْرَج، أنّ آيات القرآن بحكم خصائصها المتعالية- المفارقة لكلّ الأزمنة، تأويلية كانت أو تكليفية، بما في ذلك زمن النزول=الصدر الأوّل، فهي لا ترهن إطلاقًا بأيّ أمر سابق أو متزامن وبالأحرى اللاحق[67].
وعليه؛ فإنّ أبا يعرب المرزوقي يخلُص إلى أنّ آيات القرآن عمومًا، والتي ارتبطتْ بها مرويات أسباب النزول، بحكم تنجيم النزول خصوصًا، مستقلّة عن أيّ أمر مطلقًا قَلّ أو جَلّ شأنه، ما دام أنها مكتفية بذاتها على مستوى البنية والدلالة معًا من جنس (العالم الطبيعي)، وإلّا فقدتْ معياريتها المطلقة واستقلالها التام.
أمّا على مستوى ماهية أسباب النزول في علاقتها بآيات القرآن، فهي كما ينصّ أبو يعرب المرزوقي، تُعَدّ مجرّد «مناسبات للإعلان عن الحُكْم»، أو من باب «الأمثلة لإفهام المخاطبين الحُكْم»، وليستْ «عللًا باعثة للأحكام» ألبتة؛ بمعنى أنها من باب دلالة الجزئي على الكلي، أو دلالة العيّنة على ما هي عيّنة منه، ما دام أنّ ما سماه بـ(علم القرآن) ككلّ، أو هي من باب التمثيل بالعيّنة للقانون الكلي؛ بمعنى أنّ النصّ النازل من القرآن، لا تستغرقه أو تستنفذه مناسبات مرويّات أسباب النزول، ما دام أنه يقبل ما لا يتناهى من التحقيقات؛ ذلك أنّ الأمر يتعلّق بما يمكن تشبيهه بـ«الجدل النازل من الكلي إلى الجزئي»، المشار إليه في أعيانه كما سبق القول[68].
وعليه؛ فإنّ كلّ ما هو عيني، يعتبره أبو يعرب المرزوقي عيّنة لا يعنينا منها إلّا ما هي عيّنة منه، خصوصًا على مستوى جَرْد كليات الوجود الإنساني؛ سواء كان ذلك أحكامًا من الشريعة، أو أخبارًا من العقيدة[69].
إنّ مختلف (مرويات مناسبات النزول) من منظور أبي يعرب المرزوقي، يتعيّن أن تفهم بالقرآن؛ سواء على مستوى الصحّة أو الضعف والوضع، أو على مستوى اتخاذها عينات لفهمٍ كليّ لآيات القرآن، لا أن يفهم بها، تجنُّبًا لكلّ ما يَشِي بتاريخية نصوص القرآن[70].
وعليه؛ فإذا بطل المقدّم، وهو عدم التلازم بين نزول آيات القرآن والمناسبات المصاحبة أو المحتفّة بزمن نزول الآيات، بطل بعد ذلك بالتّبع التالي، وهو اعتبار آيات القرآن التي تعلّقت بها مرويات أسباب النزول تاريخية، كما هو الأمر عند مؤرّخي النصّ القرآني من العلمانيين المعاصرين وغيرهم[71].
إنّ ما أراد أنْ يخلص إليه منظور أبي يعرب المرزوقي، هو أنّ مرويات أسباب نزول آيات القرآن إن صحّت، تُعَدُّ من باب المناسبة المصاحبة، لا مِنْ باب العلّة الباعثة، درءًا لأيّ قول يَشِي بتاريخانية أحكام آيات القرآن تحديدًا؛ بمعنى أنّ واقع زمن النزول لم يؤثّر فيها نزولًا، وإن أثّر فيها فهمًا، باعتبار أنه متحيّز زمكانيًّا ومتجاوز، أمّا أحكام آيات القرآن، فهي مجرّدة ومتعالية مطلقًا. وبالتّبع، فإنّ أيّ منهج يشدّد على الربط الجدلي بين واقع زمن النزول وآيات القرآن، عدّ ذلك علامة كافية على انتفاء جدواه المنهجية والمعرفية معًا.
2. منظور اجتهاد محمد أبو القاسم حاج حمد [1942- 2004]:
يندرج اجتهاد محمد أبو القاسم في ضوء المذهب القائم على الانتصار لـ(ترتيب آيات القرآن في المصحف)، وذلك من خلال إحكام القول النّسقي في بناء المنظور التصوّري لمأصول إجماع الفكر الإسلامي، شأنه شأن أبي يعرب المرزوقي. ويتأسّس منظور اجتهاد محمد أبو القاسم من باب التحديد الإجمالي على مجموعة من المقومات المنهجية والمعرفية، نُورد منها:
أ. إنّ الترتيب الذي قيّدت به آيات القرآن في المصحف الشريف، حُدّد بكونه (ترتيبًا توقيفيًّا) لا مدخل للاجتهاد فيه مطلقًا؛ إِذْ هو موقوف على الله تعالى ورسوله -عليه الصلاة والسلام-، وما وقع بعد رسول الله من إجماعات الصحابة لا يتجاوز رتبة «الاستنساخ» و«ربط الصحائف» «لا جمعه من الصدور كما قالوا»[72].
ب. ينطلق أبو القاسم حاج حمد من أنّ نفس محدّدات (بنائية الكون الطبيعي) بدايةً من مرحلة (الفتق)، وانتهاءً بمرحلة (التركيب المنهجي)، هي نفسها محدّدات (بنائية وحدة القرآن العضوية) بدايةً من (تفريق التنزيل على الناس على مكث)، وانتهاءً بمرحلة (التركيب المنهجي)، كلّ ذلك وَقْف على الله تعالى باعتباره وحده له الخَلْق والأمر قصرًا وحصرًا[73].
ج. في سياق التأسيس لقول «وقف ترتيب آي القرآن على الوحي»، استند أبو القاسم إلى قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[النحل: 101]. ليؤكّد من خلالها أنّ (ترتيب آيات القرآن) لا دخل فيه للاجتهاد الظّني، إِذْ مثلًا أوّل ما أنزل -كما هو معلوم- مطلع سورة العَلَق، إلّا أنها جعلتْ في أواخر المصحف وألحقتْ بها آيات؛ قَصْد استقامة المعنى المنهجي والمعرفي. فـ«إعادة الترتيب هو في حقيقته تبديل للآيات عن مواقعها الذي يختلّ به نظام القرآن كاختلال تبديل مواقع النجوم»[74].
د. إنّ الذين سعوا إلى إعادة الترتيب وفق توالي النزول التاريخي زمن النزول، غاب عنهم -من منظور حاج حمد- معنى ومغزى ترتيب الرسول -عليه السلام- التوقيفي، بناء على ما جاء به الروح الأمين جبريل -عليه السلام-[75].
وعليه؛ فإنّ اجتهاد محمد أبو القاسم حاج حامد يقوم على أنّ (الترتيب التوقيفي) المتحقّق فعلًا في زمن النبوّة والنزول أقومُ وأصدقُ من مُطلق الدعوات الأخرى التالية القائمة على إعادة الترتيب التاريخي للقرآن بصرف النّظر عن مستند إعادة الترتيب.
بناء عليه، فإنّ منظور اجتهاد أبي يعرب المرزوقي ومحمد أبو القاسم بقدْرِ ما ينفيان جدوى اعتبار أيّ (ترتيب تاريخي) آخر غير (الترتيب التوقيفي) لآيات القرآن في المصحف إيمانيًّا ومعرفيًّا، فإنهما يعتبران (الترتيب التاريخي) وإنْ تمّ حقيقةً على وجه واحد متّفق عليه، ولم يبق مجرّد اجتهادات تتعدّد بتعدّد الناظرين =يُعَدُّ وجهًا من أوجه «تبديل آيات القرآن»، الذي يسقط بسببه اعتباره الموضوعي، كما تسقط قيمته للدلالة على الوحي المنزَّل.
خاتمة:
قُمْنَا في هذه المقالة باستعراض محصول الاجتهاد لثلاثة من الكُتَّاب العرب ممن اهتموا بموضوع ترتيب القرآن الكريم وقدَّموا نظرات بشأنه، فَبَيَّنَّا خلاصات الأطروحات التي قدّموها وعرَّفْنَا بأهم نتائج هذه الأطروحات وقِيمتها.
[1] سواء باعتبار عناوينها العامة، أو باعتبار مناهج النظر القرائية، أو باعتبار محصول النظر، ونحو ذلك.
[2] خصوصًا مشكلة الناسخ والمنسوخ.
[3] ما دام أنّ القرآن قد تم تفسيره تاريخيًّا حسب (ترتيب المصحف)، فنحن بالتّبع كما ينصّ الجابري: «نقرأ القرآن مقلوبًا». فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، دار النشر: الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2008، (1/ 47). مواقف إضاءات وشهادات، محمد عابد الجابري، دار النشر المغربية، كتاب. 59، ط1، 2007، ص14.
[4] فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، محمد عابد الجابري، دار النشر، الدار البيضاء. المغرب، ط1، 2008، (2/ 231، 232).
[5] فهم القرآن الحكيم، (1/ 47).
[6] مدخل إلى القرآن الكريم، ص219، 221- 232.
[7] مع العلم أن مرويات أسباب النزول قد وصفها الجابري بكون أغلبها لا يمكن الاستناد عليها لتحقيق ذلك المبتغى، إِذْ يقول: «لا ينبغي الاقتصار على روايات أسباب النزول لوحدها مهما كان سندها». مواقف شهادات وإضاءات، دار النشر المغربية، كتاب. 71، ط1، 2008، ص15.
[8] مدخل إلى القرآن الكريم، في التعريف بالقرآن، دار النشر، الدار البيضاء. المغرب، ط1، 2006، (1/ 383، 384).
[9] شهادات وإضاءات، كتاب. 71، ص21. فهم القرآن الحكيم، (1/ 158).
[10] فهم القرآن الحكيم، (1/ 42- 180).
[11] القائم على الربط الجدلي بين الآيات وسبب نزولها، كما هو نهج نصر حامد أبو زيد. مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، ص102- 108.
[12] انظر تحديد ماهية أسباب النزول، في: مقدمة التفسير، ابن تيمية، ص52- 71. من المعلوم أن (مرويات أسباب النزول) بصرف النظر عن الصحة والضعف من حيث التدوين والجمع، ليست منحصرة فيما كتبه الواحدي والسيوطي، وإنما تشملها أيضًا العديد من المصادر الأخرى، كالجوامع الحديثية والمصنفات التفسيرية والسيريّة، فضلًا عن كتب التراجم وغيرها.
[13] في فضاء (القراءات الجديدة للقرآن) تعدّدت المواقف من مرويات أسباب النزول، فضلًا عن مسالك توظيفها. انظر مثلًا مقاربة محمد شحرور في: فقه المرأة؛ نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، ص72- 91.
[14] التعامل مع القرآن بوصفه (خطابًا) بدل كونه (نصًّا)، تجده عند كلّ من: محمد أركون، كما نبيّن في المقالة الثالثة. انظر في هذا السياق، محاولة نصر حامد أبو زيد في: التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، ص195- 244.
[15] فهم القرآن الحكيم، (2/ 82).
[16] فهم القرآن الحكيم، (2/ 5، 25، 383).
[17] مواقف إضاءات وشهادات، ع59، ص15. فهم القرآن الحكيم، (3/ 380).
[18] مواقف إضاءات وشهادات، ع71، ص51.
[19] فهم القرآن الحكيم التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، دار النشر، الدار البيضاء. المغرب، ط1، 2009، (3/ 380).
[20] يقول محمد عابد الجابري: «سبب النزول لا يعني أنه الدافع أو العلة للنزول، بل هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه، أو مبينة لحكمه عند معظمهم». مواقف إضاءات وشهادات، ع71، ص9.
[21] مواقف إضاءات وشهادات، ع59، ص19.
[22] مواقف إضاءات وشهادات، ع71، ص13.
[23] مواقف، ع71، ص15- 16.
[24] ردّ افتراءات الجابري على القرآن الكريم، محمد عمارة، ص197- 200.
[25] مدخل إلى القرآن الكريم، ص21.
[26] مواقف، ع71، ص13، 370- 371.
[27] مواقف، ع71، ص11.
[28] فهم القرآن الحكيم، (2/ 279).
[29] ردّ افتراءات الجابري، ص42.
[30] الشُّبَه الاستشراقية في كتاب مدخل إلى القرآن الكريم للجابري؛ رؤية نقدية، عبد السلام البكاري والصديق بوعلام، ص51.
[31] في السيرة النبوية تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، دار الطليعة، بيروت. لبنان، ط 2، 2007، (2/ 315).
[32] في السيرة النبوية (2/ 185).
[33] في السيرة النبوية، (2/ 194).
[34] في السيرة النبوية، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، دار الطليعة، بيروت. لبنان، ط2، 2007، (2/ 183، 292).
[35] في السيرة النبوية، (1/ 20)، (2/ 316). اختلاف بيّن في التراث الإسلامي في تحديد زمن النزول في العهد المكي والعهد المدني، إلا أن المعتمد، هو أنّ الأول نحو من (13)، أمّا الثاني فنحو من (10)، وأن بعثة الرسول -عليه السلام- كانت لمّا بلغ الأربعين من عمره -عليه السلام-.
[36] في السيرة النبوية، (1/ 20).
[37] في السيرة النبوية، (2/ 196، 216).
[38] في السيرة النبوية، (2/ 183، 185، 194، 195). إِذْ يوجد فقط ما سماه بمقدّمات النزاع، فيقول: «أمّا النزاع مع قريش، فقد وجدت من مقدمات في أوائل الفترة الأولى». نفسه، ص195.
[39] في السيرة النبوية، (2/ 194، 295). فرأي بلاشير الذي ينفي وجود آيات تنطوي على التوحيد، وكذا نفيه لما يعبّر عن النزاع مع قريش ليس صحيحًا تمامًا. نفسه، ص194، 195.
[40] إِذْ يفضّل مثلًا ترتيب بلاشير الذي يضع سورة المزمل بعد سورة النجم على ترتيب نولدكه الذي يضعها قبل النجم، في سياق الحديث عن منشأ حدّ تباين المواقف بين الرسول -عليه السلام- وأهل مكة، في شأن موضوع تعدّد أو وحدانية الإله. في السيرة النبوية، (2/ 218).
[41] في السيرة النبوية، (2/ 195، 196). يقول في سياق الحديث عن نفي (الدعوة السرية): «فكرة السرية هذه استقامت على الفكرة الطائفية الدينية لدى أهل السِّيَر، ولعلهم استقوها من تاريخ المسيحية أو اختلقوها من استقراء ما حدث من بعد، أي: الفتنة والقمع والتهجير. لكن مع هذا، هم يقولون إن قريشًا لم تبعد منه أو لم تنكر عليه دعوته حتى هجا الآلهة أو عابها». نفسه.
[42] في السيرة النبوية، (2/ 196).
[43] في السيرة النبوية، (2/ 218، 219).
[44] في السيرة النبوية، (2/ 197).
[45] في السيرة النبوية، (2/ 200، 201).
[46] في السيرة النبوية، (2/ 195).
[47] في السيرة النبوية، (2/ 197، 198).
[48] في السيرة النبوية، (2/ 198، 199). يقول في سياق بيان ناظم القصص القرآني: «نظرة القرآن في هذه الفترة، وهو يسترجع التاريخ، متشائمة جدًّا إزاء الإنسانية. فكلّ الرسل قد كُذِّبوا وكلّهم استُهزئ بهم دونما استثناء، وكلّ القرون أصابها غضب الله وسيصيبها ثانية في الآخرة. الرسل فقط ومَن معهم من المؤمنين -وهم قليل- هم نخبة الإنسانية، والإله يعينهم وينصرهم لكن مع التدمير الشامل للكافرين». نفسه، ص198.
[49] في السيرة النبوية، (2/ 199، 200).
[50] في السيرة النبوية، (2/ 225).
[51] في السيرة النبوية، (2/ 201).
[52] في السيرة النبوية، (2/ 202).
[53] في السيرة النبوية، (2/ 257).
[54] في السيرة النبوية، (2/ 162- 164، 195، 198). وقد ذكر لذلك مجموعة من الأمثلة لبيان أوجه التأثير في القرآن. نفسه، ص167- 181.
[55] في السيرة النبوية، (1/ 17، 18، 22).
[56] في السيرة النبوية، (2/ 183، 184).
[57] قد ورد ذلك وغيره مبثوثًا في العديد من سياقات أبحاثه التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية في ثلاثيتها.
[58] الجلي في التفسير، إستراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية، الدار المتوسطية للنشر، تونس- بيروت، ط1، 2010، (1/ 163).
[59] الجلي في التفسير، (1/ 168).
[60] الجلي في التفسير، (1/ 162).
[61] الجلي في التفسير، (1/ 34، 35). تأمل قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[الإسراء: 106].
[62] الجلي في التفسير، (1/ 34، 35، 168).
[63] الجلي في التفسير، (1/ 168).
[64] الجلي في التفسير، (1/ 168، 169).
[65] الجلي في التفسير، (1/ 206، 221، 231، 239، 248، 249). الثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني، الدار المتوسطية للنشر، تونس- بيروت، ط1، 2009، ص157، 159.
[66] الجلي في التفسير، (1/ 82، 159).
[67] الجلي في التفسير، الثمرات المعرفية نظرية غايات الفعل الإستراتيجي والسياسي وأدواتهما، الدار المتوسطية للنشر، تونس- بيروت، ط1، 2010، (2/ 26)، (3/ 99، 100، 149)، الثورة القرآنية وأزمة التعليم الديني، ص20، 167. تحديات وفرص محاورات في أحوال الفكر والسياسة عند العرب والمسلمين، ص5، 8. النخب العربية وعطالة الإبداع في منظور الفلسفة القرآنية، الدار المتوسطية للنشر، تونس، ط1، 2007، ص238.
[68] الجلي في التفسير، (1/ 143، 160).
[69] الجلي في التفسير، (1/ 162).
[70] الجلي في التفسير، (1/ 159). درءًا لكلّ قول بتاريخانية آيات القرآن دلالة وحكمًا، اعتبر أهل الاجتهاد التراثي أنّ العلاقة بين الآية والسبب، هي علاقة (مناسبة) لا (علة). التفسير ورجاله، محمد الفاضل بن عاشور، دار السلام، القاهرة. مصر، ط1. 2008، ص21. في شرعية الاختلاف، عليّ أمليل، دار الأمان، الرباط. المغرب، ط الثالثة، 2001، ص50 وما بعدها.
[71] الجلي في التفسير، (1/ 143، 159). ممن يسلك ذلك من أهل القول بتاريخانية آيات القرآن، تجد: محمد شحرور، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، محمد عابد الجابري وغيرهم، والجامع بينهم هو اعتبارهم للكثير من الآيات القرآنية؛ سواء التي وردت بشأنها أسباب للنزول أو لا، مجرّد آيات تحمل أحكامًا تاريخية، متعلّقة بزمن النزول حصرًا، غير متعدّية إلى أزمنة أخرى تالية. وقد فصّل القول في ذلك المنهج طه عبد الرحمن في مصنفه. روح الحداثة، ص184- 188.
[72] منهجية القرآن المعرفية؛ أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية، دار الهادي، بيروت. لبنان، ط2، 2008، ص94، 102.
[73] منهجية القرآن المعرفية، ص94، 96.
[74] منهجية القرآن المعرفية، ص94، 95.
[75] منهجية القرآن المعرفية، ص94، 102.