كتاب (بلاغة الأداء السردي في قصص القرآن الكريم)
تأليف: د. محمود فرغلي
عرض وتعريف

الكاتب : محمود فرغلي
اعتنى كتاب (بلاغة الأداء السردي في قصص القرآن الكريم‏) بمقاربة طبيعة ‏السرد القرآني للقصص وجمالياته، وتأتي هذه ‏المقالة لتسليط الضوء على هذا الكتاب والتعريف به.

تمهيد:

  لقد نزلَ القرآنُ على بشرٍ وبلغة البشر، ومن ثم فهو يتضمّن كلَّ مقوِّمات الأداء اللغوي التي تعرفها اللغة البشرية، مضافًا إليها كلّ ما يحمله القرآن من رؤية كلية ترتبط بكلية عِلْمِ الله سبحانه، ومن هنا يتجلّى السرد القرآني بوصفه طريقة في التفكير والبناء والنمذجة جُبِل الإنسانُ عليها، فالبشر في مجال السرد أمام شكلٍ أصيل من أشكال تحصيل المعرفة وبناء الفعل وتنظيم الخبرة، أي أننا لا نتعامل أساسًا مع نموذج تمثيل، بل مع نموذج خاصّ لبناءِ الواقع وتكوينه، وبناءُ الإنسان وفق فطرة الله هو الهدفُ الأسمى للقرآن الكريم.

وتتسم السردية القرآنية بأنها ذات طابع أدائي على كلّ مستويات إنتاجها وتداولها، ومن أهم مجالات النظر في طبيعة السردية القرآنية القصص القرآني، وهذه السردية لخصوصيتها لا تخلص لعملية الحكي المجرّد، بل تتساوق مع النصّ، ومن ثم تؤدّي وظائفَ وأدوارًا أكثر من مجرّد التسلية أو الإمتاع الفني.

وقد اعتنى د. محمود فرغلي في دراسته المعنونة بـ(بلاغة الأداء السردي في قصص القرآن الكريم) بمقاربة طبيعة السرد القرآني للقصص وجمالياته، وحاول أن يفيد من حضور الأداء الواسع في مختلف الأنشطة البشرية والطابع التداولي للأداء اللغوي؛ ليلقي الضوء على تفرّد السردية القرآنية بما يؤكّد مصدرها، وتأتي هذه المقالة لتسليط الضوء على هذا الكتاب والتعريف به.

بيانات الكتاب:

اسم الكتاب: بلاغة الأداء السردي في قصص القرآن الكريم.

المؤلف: محمود فرغلي.

تاريخ الانتهاء من كتابته: 2022م.

دار النشر: مؤسسة كتارا للنشر بقطر 2023م.

وقد حاز الكتاب على المركز الأول في جائزة كتارا، في مسابقة اللغة العربية في القرآن الكريم، عام 2022م.

منهج الكتاب:

 ينظر البحث إلى السرد القرآني من منظور القرآن ذاته ووفق معطياته النصّية والخطابية، دون الوقوع في أَسْرِ خطابات الكتب السابقة التي مارسَت سيطرة تامّة على مرتكزات دراسة القصص القرآني، ودون الوقوع في أسرِ النظريات المستحدثة في إطار قراءة تقليدية غربية لا تقلّ خطورة عن قراءة القدماء للقصص القرآني اعتمادًا على التوراة والإنجيل، إيمانًا من الباحث بأنّ القرآن يقدِّم معالم واضحة لقراءته وفق طبيعته الإلهية من جهة وفي إطار ثنائية المشابهة والمغايرة مع خطابات البشر من جهة ثانية. عليه، فإنّ العدّة المصطلحية للبحث جمعَت بين الطرح القرآني لمفاهيم مثل الزمن والحضور الإلهي والتدبّر والغيب ومصطلحات من علم السرد والتداولية وتحليل الخطاب؛ إِذْ لا مناص من ذلك لتحقيق مفهمة ناجزة، لا يتعلّق الأمر بتأكيد خصوصية النصّ الخارجية، فهذا أمر مفروغ منه، سواء من حيث مُنزِله أو طريقة إنزاله وتداوله أو الـمُنزَل عليه، إنما يتعلّق بتأكيد هذه الخصوصية من داخل النصّ ذاته، والأداء السردي المغاير أحد تجلياتها، فقد توافر في القرآن الكريم من الخصائص الداخلية في بنية النصّ وأسلوبه ومصطلحاته وقصصه وهديه ما لا يحتاج إلى تأكيد أيضًا، ودارت الدراسات القرآنية منذ بدايتها حول هذا المعنى وإن اختلفت مسمياتها، وبرز منها إلى الوجود وكُتبت له السيطرة مصطلحٌ واحد هو الإعجاز، والإعجاز فيما نرى جزءٌ من كلّ، فآيات التحدي لا تتجاوز عددًا محدودًا، إنما الأمر يتعلّق في رأينا بضرورة قرآنية شاملة لا تقتصر على إعجاز الكفار أن يأتوا بمثله؛ إِذْ إلى جوارها آية خلق الذباب، فهي تتجاوز تحدي المشركين إلى البشرية جمعاء منذ خلق اللهُ الكون إلى يوم القيامة.

وبناءً عليه، حاول الباحث مقاربة السردية القرآنية في تفرّدها باعتبارها أداءً رئيسًا من أداءات النصّ، والتي تنضوي تحتها مجموعة من الأداءات المتنوّعة التي تتمظهر في السرد بطرائق متنوّعة تعطي لهذا السرد تفرّده على المستوى النوعي وعلى المستوى النصِّي في إطار الوحدة البنائية للنصّ، مما يعطي للأداء فاعليته التداولية، وجمالياته البلاغية والتواصلية؛ ولذا فإنّ الباحث يتعامل مع السرد بوصفه نوعًا من أنواع الإستراتيجيات التي توظِّف مصادر معيّنة وتستخدم تقنيات معينة لتحقيق مقاصد بعينها.

فالدراسة تنظر إلى السَّرْد القرآني من منظور تداولي باعتباره جُملة من الأفعال اللغوية التي تهدف لمجموعة من المقاصد الدعوية والتوجيهية والتربوية المتّسقة مع الدور الرئيس للقرآن الكريم بوصفه كتاب هداية وإرشاد، والمقصد التعليمي والتربوي ملتصقٌ بالسرد عمومًا -أيًّا كان ما يريد المؤلِّف أن نتعلمه- لكن هذا المقصد في السرد القرآني أكثر التصاقًا وأكثر جلاءً، فالمقاصد العقدية هي الحاكمة لكلّ أشكال الخطاب التعبيرية في القرآن بما فيها السرد.

 وقد اقتضت خصوصية السّرد القرآني أن يضرب صفحًا عن مصطلحات في علم السرد لا تتوافق مع السرد القرآني في كلّ مستوياته، فالقصص القرآني لا يخاطِب متلقيًا سلبيًّا، بل يسعى بمختلف السُّبُل إلى استثارة عاطفته ودعوته إلى التدبّر العقلي وترسيخ العقيدة بالحُجة والبرهان والقصة والمثال، وفي هذا الإطار يقف الباحثُ أمام القارئ المتدبِّر والمعتبِر، خاصّة أن الدعوة إلى التدبُّر والتفكُّر مبثوثة في مختلف آي النصّ الحكيم، والتي نصَّت على صنوف من القرّاء منهم من عضدته، ومنهم من رفضته وكشفت مثالبه. ومن جهة حضور الله وهيمنة إرادته الإلهية في القصّ استوقف الباحثَ الحضورُ الإلهيُّ على ما عداه، وهو حضور هيمنة وتوجيه ونصرة وتدخُّل مباشر وكسر لقوانين الكون والزمن في مراحل ممتدّة من التاريخ البشري، وقد تمظهر ذلك في مختلف القصص السابق للرسالة المحمدية، التي بموجبها حدث تغيُّر في التدبير الإلهي وفق جدلية الغيب والواقع.

محتويات الكتاب:

 درس الباحثُ الأداء السردي في بابين رئيسين، كلُّ باب يتضمّن خمسة مباحث:

الباب الأول: المهاد النظري:

 جاء الباب الأوّل مهادًا نظريًّا لتوضيح محاور أساسية حول مفهوم الأداء وعلاقته بالسرد القرآني، وفي هذا المهاد النظري توقف الباحث أمام ما ارتأى أنه يمهّد لما يقصده بالأداء السردي، فتوقف أمام إشكاليات قراءة القصص القرآني، خاصة ما يتعلق بقراءات القدماء والمحدَثِين الذين نظروا إلى تاريخية النصّ بصورة خطيرة شوَّهَت كثيرًا من مقاصد القصص، أو حاولَت أنسنة النصّ إنتاجًا وثقافة على نحو ما رأينا في ثُلَّة من الباحثين العرب المسلمين وكثير من المستشرقين.

لقد رأى الباحثُ أنّ السردية القرآنية ذات طابع أدائي على كلّ مستويات إنتاجه وتداوله؛ فهو كتاب عقيدة وهدى ورسالة خاتمة، وكلّ رسالة تتضمّن مُرسِلًا ومُرسَلًا إليه، كلٌّ على شروطه، والقرآن الكريم بطبيعته لا يخلص لعملية الحكي المجرّد، بل يتساوق مع النصّ، ومن ثم يؤدي وظائفَ وأدوارًا أكثر من مجرّد التسلية أو الإمتاع الفني، وربما أفاد الباحث من حضور الأداء الواسع في مختلف الأنشطة البشرية والطباع التداولي للأداء اللغوي، فالسرد القرآني فعلٌ لغوي أدائي مثير للدهشة، فكثيرًا ما تتم مسرحة مشاهد كاملة بكلّ ما يعنيه فعل المسرحة. والقصص في حركيّته يتحرك زيادةً ونقصًا إيجازًا وتفصيلًا وفصلًا ووصلًا، فقد يقتصر الأمر على ذِكر اسم الرسول، أو ذِكره في آية واحدة أو أكثر من آية أو في خبرٍ سردي بسيط قوامه الفعل وردّ الفعل، وقد تأتي القصة مفصَّلة بأحداث وشخصيات وفضاءات متعدّدة، ناهيك عن تكرار مشاهد وحوارات والسكوت عن مشاهد بعينها لترِدَ في سياق آخر، إلى غير ذلك من ظواهر مثيرة للدهشة والتأمّل مما لم نره ولن نراه في سُرُود البشر، ومما يعطي السرد فاعليةً وعنفوانًا وتنوّعًا يبرزه في صور الأداء الفذّ المغاير الذي ما كان للبشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

 لقد نزل القرآن على بشرٍ وبلغة البشر، ومن ثم فهو يتضمّن كلَّ مقوِّمات الأداء اللغوي التي تعرفها اللغة البشرية، ملاصقًا لها كلّ ما يحمله القرآن من رؤية كلية ترتبط بكلية عِلْم الله سبحانه. كما كانت لحظة الغار إيذانًا بدخوله إلى رحاب اللغة لمقتضيات التواصل والفهم، ولبشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذاته، دون نفي لمصدره الإلهي، أو اختلافه النسقي عن سائر الخطاب، ومن هذا المنطلق درس الباحثُ العلاقةَ بين السرد وهوية النصّ على اعتبار أنّ لكلّ نصّ هوية تشبه الهوية الشخصية البشرية، وتَبرز هوية النصّ من أدائه المختلف على كلّ مستويات الأداء بنيةً وخطابًا. وعليه، فإنّ الباحث يرى أن قراءة القصص القرآني لها منطلقات مؤسَّسة على خصوصية النصّ في كلّيته، ومن ثم توقف أمامها في محور ثالث، حيث يختلف الاستخدام الإلهي للّغة عن الاستخدام البشري.

 كذا يختلف السرد القرآني عن السُّرود البشرية في أنه لا يقدَّم لمجرّد المتعة الفنية، كما يخالفها في الحضور الإلهي في السرد بصورة تشبه حضوره في الكون، وهو ما يفتح الباب واسعًا لمعرفة العلاقة بين الله والإنسان من جهة، والعلاقة بين الإنسان والكون الذي خلقه الله فيه من جهة أخرى، فهذا السرد القرآني شأنه شأن القرآن كلّه -وشأن الكون كله- يدعو إلى التدبر وإعمال العقل والفكر من قِبَل المتلقي، ويؤكّد ضرورة التعامل مع قدر أهميته ومركزيته في حياة الإنسان المؤمن به والمتعبّد بتلاوته، وما ينطبق على السرد ينطبق على مختلف أنواع الخطاب القرآني من خصوصية في التشكيل والصوغ الأسلوبي والمقصد التواصلي، مما يستنفر المتلقي لعمليات عقلية وفكرية عديدة إضافةً إلى تذوّق الجانب الجمالي الملازم له، وأين الرسالة التي تتغيّا التأثير ولا يكون الجمال بكلّ مستوياته لصيقًا بها نظمًا وترتيبًا وشكلًا ومضمونًا؟!

 الباب الثاني: التطبيق:

 وهو تطبيق لرؤية الباحث للسرد القرآني وطبيعته الأدائية، فنحن حين نتحدث عن أداء سردي نقصد مختلف مكوّنات السرد المؤسّسة لبنيته، سواء على مستوى القصة أو الخطاب، وقد توقف الباحثُ أمام عدة قضايا رئيسة رأى أنها تبرز جماليات الأداء السردي في القرآن الكريم، وتعبّر عن فاعليته التداولية، وعدم ارتكانه للواقعة التاريخية رغم تأكيده لها.

الفصل الأول: التساوق السردي:

 أوّل القضايا خاصٌّ بتساوق السّرد داخل النصّ، فالنصّ القرآني يمتاز عن بقية النصوص بفرادة تماسكه وكيفية هذا التماسك؛ فهو نصّ يقدِّم نفسه بوصفه نصوصًا متداخلة في إطار السورة الواحدة، كما يقدِّم نفسه بوصفه نصًّا واحدًا في إطار السور المتعدّدة، فالسرد القرآني خطاب منسجم في سوره وآياته، لا يختلف عنها أسلوبًا أو أداء، ذلك أنّ كلّ سورة ذات نسيج أسلوبي وتركيبي واحد في إطار ما يُطْلِق عليه بعضهم (الوحدة العضوية) مستعيرًا المصطلح من الشِّعْر، أو ما يُعرف بالوحدة البنائية، هذه الوحدة التي لا تنفي التعدّد، وتتوجّه للقارئ بالأساس، تستحثه على التدبُّر، وتأمُّل ما قد يراه من اختلافات لاستجلاء نقاط تقاطعها وما يبدو له أنه متشابه فينظر في اختلافه؛ ولهذا جاء الفصل المخصّص للحديث عن التساوق بين السَّرْد والأشكال التعبيرية داخل السور والآيات في إطار الوحدة الكلية للنصّ، وهو يتعلّق فيما يتعلّق بعملية دمج ورصف للسرد بأشكال التعبير والتوجيه الأخلاقية، أي: بمجمل المقاصد الدينية التي تم استيعابها داخل النصّ، دون إخلال بالتماسك النصِّي أو النسيج السردي، «فقد تخلّل النسيجَ السرديَّ عددٌ من الأساليب ذات العلاقة الدلالية بتلك المقاصد وحدها، ولكن الملاحظ أنّ النسيج السردي لم يتأثّر، وإنما استوعب هذه المتخلّلات الأسلوبية واستعاد تماسكه مرة أخرى. الأمر الذي استنبط منه أنّ جنس القصّ يتمتع بالقابلية الفائقة في استيعاب المغاير له من الأساليب والاحتفاظ بتماسكه السردي والبنيوي على السواء؛ نظرًا لأنّ طرائق السرد هي المميزة له كجنس أدبي وليست لغته»[1].

الفصل الثاني: الأداء التكراري:

في فصل ثانٍ توقّف الباحثُ أمام ظاهرة الأداء التكراري للقصص، وهي إحدى أبرز خصوصيات السردية القرآنية، التي تجاوز بها السردُ الواقعةَ التاريخيةَ دون نفيها، وهي التي من شأنها أن تضيِّق آفاقه الدينية والتوجيهية والمعرفية الرحبة، بل ربما تُعِيق حركة النصّ وديمومة تواصله، في حين يكفل الأداء التكراري فاعليته، والانتقال بالقصّ على رسوخه في الواقع، إلى آفاق من القراءة والتأويل تتجاوز الواقع إلى التجريد والرمزية التي تكفل تفاعلًا أكثر رحابة وتبصرة تحرّره من قيود واقع لا ينكر، ولكن يَحُول دون الإفادة الناجعة من عملية السرد ذاتها. ورغم أنّ القرآن في قصصه هو الضابط الفعلي والأكيد لكثير من قصص الرسل والمؤكِّد لصدق أحداثها والكاشف لِمَا اعتورها من تحريف ممن يكتبون الكتاب بأيديهم، غير أنّ تجاوز السؤال عن الواقعة وصِدْق حدوثها يمثّل ضرورة حياتية لمن يرى في القرآن كتابًا له فاعليته في حياة الإنسان المسلم؛ إِذْ إن الوسيط اللغوي يخلق واقعه الخاصّ والموجّه لبشر يؤمن به ويتعلمون من أحداث قصصه ومواقف شخصياته، وتتفاعل مخيلتهم مع ما بشَّرهم به الله من جنان، وترجف مما حذَّرهم منه من عذاب، فالفاعلية بالأساس للنصّ والتأثير ينجم عن تدبّره وقراءته في سياقة النص قبل مرجعيته في عالم الواقع، بل وتعاليه إلى درجة الترميز؛ ذلك أنّ «التعبير الرمزي يقتضي استعادة جديدة للبُعد التجريدي القادر وحده على تخليص التجربة من بُعدها المشخص، وإسكانها مفاهيم قابلة للتداول خارج سياقات اللغة، وفي انفصال كلّي عن خصوصيات التلوين الثقافي. وتلك هي الغاية من كلِّ تعبير استعاري؛ لأنه رابط غير مرئي بين الغامض في هوى النفس، وبين تجربة العقل، كما يمكن أن تعبّر عن نفسها في التجريد المفهومي. وهذه الحقيقة هي التي تحتّم علينا التفكير في النصّ من خلال إحالاته الرمزية، لا من خلال الحدث الموصوف فيه»[2]، ومَن منّا لا يرى في قصة موسى والرجل الصالح قصة رمزية بامتياز؛ لِمَا تحمله من دلالات على نمطين من العلم، ولِمَا فيها من دروس وعِبر على محدودية علم الإنسان ولو كان نبيًّا مرسَلًا، وعلى مفاهيم إسلامية رئيسة كاللّطف والغيب والقدر ومطلق عِلْم الله سبحانه، ولا شك أن الكسر المستمر للنسق السردي وللحدث والالتفاتات المستمرة إلى الرسول الكريم والمبثوثة في السرد، تؤكّد أهمية الانفلات من تاريخية الحدث إلى رحابة التأويل، والإفادة من النمذجة البشرية الكاشفة لمسيرة الإنسان على الأرض في ماضيه وحاضره ومستقبله، فكلُّ قراءة لا تفضِي إلى تصويبٍ تالٍ أو تلفت الانتباه إلى خطأ ما هي قراءة منقوصة، أو قراءة غير متدبِّرة.

الفصل الثالث: الزمن:

 وفي فصل ثالث توقّف الباحث أمام الزمن في السردية القرآنية، ولشدّة خصوصية هذا العنصر يمكننا أن نُطلق عليه الزمن القرآني؛ لِمَا له من تفرّد في التعامل مع الزمن، بما يعبّر عن مصدره من جهة، وبما يكشف عن تحوّلات البشرية في تجاربها التي شهدت تغيرًا لرؤية البشر لمفاهيم الزمان والمكان، على نحو ما نجده في تجارب الرسولين الكريمين إبراهيم وموسى عليهما السلام، فقد يتجاوز الزمن في السرد القرآني الأنماط التقليدية والبشرية لتعالقات زمَنَيِ القصة والسرد؛ إذ اتسم الزمن في القرآن بالتعالي والسعة والتداخل والحرية المطلقة في تداخل الأزمنة، وتوحُّد الماضي والحاضر والمستقبل في زمن واحد، فيما أُطلق عليه الأبعاد الإلهية الخاصّة للزمان والمكان، فالزمن في القرآن شذري لا تتابعي، ولا يُعنى بأمر التسلسل المنطقي أو فكرة الحبكة في الأغلب الأعمّ؛ لأنّ مقاصده العقدية هي الحاكمة لمختلف عناصر السرد، وكثيرًا ما نجده يقطع السرد ليقوم بالالتفات الزمني نحو حاضر التنزيل، ويوجّه خطابه إلى الرسول الكريم منبهًا إياه، حيث يتحرك الزمن إلى المستقبل تارة وإلى الماضي تارة في حركة بندولية صعودًا وهبوطًا، ومن خلال هذا الفصل درس الباحثُ عدّة أشكال من التصرف القرآني في الزمن كالتحديد والتعميم والتزامن والالتفات، كما توقّف على أبعاد الزمن في قصة موسى عليه السلام؛ نظرًا لخصوصية تجربته في هذا السياق.

الفصل الرابع: المتلقي:

 ثم انتقل الباحثُ في فصل رابع إلى المتلقي، وهو طرف أصيل في بناء المعنى واستكناه دلالات السرد، ومن خلال هذا الفصل درس الباحثُ دورَ كلٍّ من المخاطِب والمخاطَب في بناء النصّ وتلقيه، فتوقّف الباحثُ أمام المخاطَب الأوّل -صلى الله عليه وسلم-، وكيف التفتَ إليه السرد ليقوم بعملية ربط وتوحيد للدعوة إلى الله عبر الزمن؛ ولهذا الحضور المحمدي في السرد أبعاد تتصل بطبيعته البشرية بالأساس وتأكيدها، بل تأكيد بشرية كلّ الرسل والأنبياء من خلال ما يعتمل بداخلهم من مشاعر متنوعة متباينة، إضافة إلى تطوّر مفهوم الوحي في ظلّ القرآن وفي علاقة الله بالرسل والتحوّل من التجارب الحسية إلى أعلى درجات التجريد في ظلال الإسلام، فقد أخذت علاقة الله بالإنسان بُعدًا جديدًا ومغايرًا في كلّ مرحلة من مراحل البشرية، في إطار الانتقال من تجربة الإيمان الحسِّي إلى الإيمان الغيبي، واعتماد الرسالة الخاتمة باعتبارها منهج الله على الأرض إلى يوم القيامة، فالإنسان هو الطرف الأساسي المقصود بالنصّ، له أُنزِل وعليه قراءته وتدبُّره، فالقرآن نزلَ من أجلِ الإنسان، ووصفَ نفسَه أنه هُدى وذِكر وشفاء وموعظة وتبيان... إلخ، وكلها صفات تؤسّس لقارئ خاصّ وتستدعيه بعقله وقلبه وكيانه.

وفي هذا الإطار يقف الباحثُ أمام القارئ المتدبِّر والمعتبِر، خاصّة أنّ الدعوة إلى التدبّر والتفكّر مبثوثة في مختلف آي النصّ الحكيم، الذي نصَّ على صنوف من القرّاء تفاوتت مشاربهم في تلقي النصّ قبولًا ورفضًا، من جهة أخرى نجد أن حضور الله وإرادته الإلهية في القصّ لا يتعلّق فقط بالعلم بالأحداث؛ لكي نصفه بالراوي العليم، تقدّست أسماؤه، بل إنّ حضوره جاء في إطار مفهوم التدبير الإلهي وعلمه بالغيب، فحضور الله في القصص يناظر حضوره في الكون دون تجسيد أو حلول أو جبر، هذا الحضور هو حضور هيمنة وتوجيه ونُصرة وتدخُّل مباشر وكسر لقوانين الكون زمانًا ومكانًا، وقد تمظهر بأشكال مختلفة في إطار التجارب الحِسِّية والتدخّل المباشر، وصولًا إلى الرسالة المحمدية، التي بموجبها حدث تغيّرٌ مفصلي في التدبير الإلهي وفق جدلية الغيب والواقع.

 الفصل الخامس: السرد والحِجاج:

وفي فصل أخير توقّف الباحثُ أمام الحِجاج باعتباره حضورًا ملازمًا لكلّ الخطاب القرآني، والحِجاج حاضر في السرد القرآني بطريقة مغايرة لحضوره في أنواع الخطاب القرآني القائم على التنوّع الشديد في كلّ طرق الإقناع والاستمالة، بحجج مباشرة وغير مباشرة، وحجج تقف عند مستوى الخطاب السردي من خلال الحوارات بين الشخصيات المتضادة، وتقف في مستوى أعلى عبر التساوق بين السرد والآيات السابقة والتالية المؤطّرة له، حيث يتجاوز الحجاج حد العبارة أو الروابط والأدوات إلى المشهد والخبر والمثل بوصفها وحدات نصية حجاجية؛ ولهذا تضمَّن القرآنُ أشكالًا متنوّعة من الحجاج وأساليب الإقناع، وتوافر فيه من المعطيات اللسانية -الأسلوبية والبلاغية والدلالية والتركيبية- ما جعله خطابًا حجاجيًّا متفردًا عن غيره من سائر الخطابات، وذا وظيفة حجاجية متميزة؛ لأنه تفوّق بالقدرة على التأثير في متلقيه.

خاتمة لبدء جديد:

 أَوْجَزَ من خلالها أهم النقاط التي يراها محورية لدراسة السردية القرآنية وأهمية دراستها من منظور القرآن ذاته ووفق معطياته النصِّية والخطابية، دون الوقوع في أسرِ خطابات الكتب السابقة التي مارسَت سيطرة تامّة على مرتكزات دراسة القصص القرآني، ودون الوقوع في أَسْرِ النظريات المستحدثة في إطار قراءة تقليدية غربية لا تقلّ خطورة عن قراءة القدماء للقص القرآني اعتمادًا على التوراة والإنجيل، إيمانًا من الباحث بأنّ القرآن يقدِّم معالم واضحة لقراءته وفق طبيعته الإلهية من جهة وفي إطار ثنائية المشابهة والمغايرة مع خطابات البشر من جهة ثانية. عليه، فإنّ العدة المصطلحية للبحث جمعَت بين الطرح القرآني لمفاهيم مثل الزمن والحضور الإلهي والتدبر والغيب ومصطلحات من علم السرد والتداولية وتحليل الخطاب؛ إذ لا مناص من ذلك لتحقيق مفهمة ناجزة، لا يتعلق الأمر بتأكيد خصوصية النصّ الخارجية، فهذا أمر مفروغ منه سواء من حيث مُنزِله أو طريقة إنزاله وتداوله أو الـمُنزَل عليه، إنما يتعلق بتأكيد هذه الخصوصية من داخل النصّ ذاته، والأداء السردي المغاير أحد تجلياتها، فقد توافر في القرآن الكريم من الخصائص الداخلية في بنية النصّ وأسلوبه ومصطلحاته وقصصه وهديه ما لا يحتاج إلى تأكيد أيضًا.

الخاتمة:

عرضتُ في هذه المقالة للتعريف الموجز بكتاب: (بلاغة الأداء السردي في قصص القرآن الكريم)، للدكتور/ محمود فرغلي، مصدِّرًا ذلك ببيان منهج الكتاب، ثم ذِكْر محتوياته، وبيان جوانب أهميته.

 

 

[1] البلاغة والسرد، محمد فكري الجزار، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1، القاهرة، 2011، ص111.

[2] السرد الديني والتجربة الوجودية، قصة إبراهيم نموذجًا، سعيد بنكراد، مجلة علامات، ع39، المغرب 2013، ص5- 18.

الكاتب

الدكتور محمود فرغلي

شاعر وناقد وعضو اتحاد الكتاب، وحاصل على الدكتوراه في البلاغة والنقد والأدب المقارن من كلية دار العلوم، وله ‏عدد من الأعمال المنشورة.‏

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))