النضرة في القرآن
النضرة في القرآن[1]
نريد أن نتعرف إلى روح الاستعمال العام لكلمة (نضرة النعيم) في القرآن الكريم، ويحسن -توطئة لذلك- أن نلمّ بالمعنى اللغوي لكلمة (النضرة):
جاء في (مفردات القرآن) للأصفهاني: «النَّضْرَة الحُسْنُ كالنَّضَارَة. قال: ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: 24]، أي: رَوْنَقَهُ، قَال: ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾ [الإنسان: 11]، ونَضَرَ وجْهُه يَنْضُرُ فهو نَاضِرٌ، وقيل: نَضِرَ يَنْضَرُ. قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22- 23]، ونَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وأَخْضَرُ نَاضِرٌ: غَضٌّ حَسَنٌ. والنَّضَرُ والنَّضِيرُ: الذَّهَبُ لِنَضَارَتِهِ، وقَدَحٌ نُضَارٌ: خَالِصٌ كالتِّبْرِ، وقَدَحُ نُضَارٍ بِالإِضَافَةِ: مُتَّخَذٌ مِنَ الشَّجَرِ»[2].
وجاء في (النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير: «نَضَرَهُ ونَضَّرَهُ وأَنْضَرَهُ؛ أَيْ: نَعَّمَه. وَيُرْوَى بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ مِنَ النَّضارة، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ: حُسْنُ الْوَجْهِ، والبَريقُ»[3].
وفي (أساس البلاغة) للزمخشري: «ومن المجاز: نضر وجهه: حسن وغضّ. وجارية غضّة: ناضرة، وغلام غضّ: ناضر. ونضّر اللهُ وجهه وأنضره: حسّنه... وفي الحديث: (نضّر اللهُ مَن سمع مقالتي فوعاها)[4]، ونجارٌ نضار: خالص»[5].
وعند تتبّع الاستعمال لكلمة (نضرة النعيم) في القرآن الكريم، نرى أنه لا يُراد بها غضاضة العضو الغالب استعمالها فيه -وهو الوجه- بل يُراد بها حُسْن الجملة[6]، وهي لا تفيد الحُسْن الحسّي فحسب، بل تشمل كذلك سرور القلب ومتعة النفس. والمشاهد أن نضرة الحسّ يصحبها غالبًا مسرّة النفس؛ لأن هذا الرونق في جسم الإنسان يكون في العادة نتيجة لمسرّة داخلية وراحة نفسية. بل قد يحوز الإنسانُ المالَ والجاه وسلامة الأعضاء، ولا توجد عنده نضرة النعيم؛ لأن نضرة الوجه بهذا الرونق وذاك البهاء نتيجة معروفة لصفاء النفس وسرورها، ولذلك كانت (نضرة النعيم) غاية النعيم، وإن ظنّ قوم أنها جمال حِسّي فحسب.
ولعلّ هذا هو السِّر في أنّ القرآن الكريم لم يذكر نضرة النعيم إلا ثوابًا كريمًا لعباده الطيّبين الأطهار الذين يتلقّاهم بالنعمة الكثيرة والحالة الحسنة في روضات الجنات. ولعلّ هذا هو السرّ أيضًا في أن يَذكر القرآنُ مع نضرة النعيم -على طريق المقابلة- ألوانًا من العذاب والعقاب لها شدّتها وقسوتها، فالملاحظ أن ذِكْر النضرة يأتي في مقام المقابلة بين الثواب والعقاب، وبين ذِكْر النعيم والجحيم، فالنضرة وهي غاية في النعيم تُذكر في مقابلة ضدّها وهو غاية في العقاب، نصًّا أو إشارة، ويتقدّم ذِكْر الثواب تارة، ويتأخر عن ذِكْر الثواب تارة، ولكنهما يجتمعان.
جاء ذِكْر النضرة في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ [الإنسان: 5- 12].
ومُجْمل المعنى أنّ الذين بَرُّوا بطاعة الله وأداء الواجبات واجتناب المنهيات يشربون في إناء مزاج ما فيه من الشراب كالكافور في طيب الرائحة، وهم يأخذون شرابهم من عينٍ يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرًا؛ أي يسيلونها ويجرونها كما أرادوا.
وحقّ لهم هذا النعيم؛ لأنهم يؤدّون النذور التي كانوا ينذرونها في طاعة الله، ولأنهم يخافون عقاب الله في يوم كان شرّه ممتدًّا طويلًا قاسيًا، ولأنهم يطعمون الطعام مع حبّهم له وحاجتهم له وشهوتهم فيه، يطعمونه ذا الحاجة والذي مات أبوه والمأسور في الحرب؛ وإنما يفعلون ذلك تقرّبًا إلى الله وطلبًا لرضاه ورحمته، لا طلبًا للشكر والثناء، ولا انتظارًا لجزاء منهم، بل يطمعون بذلك أن يأمنوا عقاب ربهم وينالوا مثوبته، في ذلك اليوم الشديد الهول، العظيم الأمر، العصيب الشديد، الذي تعبس فيه الوجوه من شدّة مكارهه، وتنقبض فيه الوجوه، ويطول بلاء أهله.
فحفظهم اللهُ من شر ذلك اليوم، ودفع عنهم ما كانوا يحذرون، وأثابهم نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم، وأثابهم على صبرهم وإحسانـهم جَنّة يتقلّبون في رياضها، وحريرًا يرفلون فيه وهم ناعمون مغتبطون. ويقول الزمخشري هنا: «وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكل هنيّ، وحريرًا فيه ملبس بهيّ»[7].
وجاء ذِكْر النضرة في قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: 20- 25].
ليس الأمر كما زعمتم من عدم البعث، وإنما دعاكم إلى هذا محبتكم للدنيا، وهي الدار الفانية الزائلة العاجلة، وفضّلتم أهواءها وشهواتها ولذاتها السريعة الانتهاء على الآخرة ونعيمها، مع أن الآخرة هي دار البقاء والخلود: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64]. فأنتم لذلك تُقبِلُون على العاجلة، وتُعرِضُون عن الآجلة، إلا مَن رحم اللهُ وعصم. والناس يومئذٍ فريقان: منهم أصحاب الوجوه الناضرة الحسنة الناعمة، الجميلة من الغبطة والسرور والنعيم. وأيّ نعيم أعظم من رؤية المبدِع المصوِّر البارئ الخلّاق سبحانه؟!
وحُقّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى خالقها، وإن كانت أبصارهم لا تحيط به من عظمته. أو هي تنظر إلى ربّها، أي: تنتظر منه ثوابها وهو ربّ الوفاء والصدق.
ومن الناس أصحاب الوجوه الباسرة، أي: المتغيّرة الكالحة المسودّة الكاشرة، التي تظن -أي: تعلم- أن يُفعل بها فاقرة، أي: يصيبها داهية وينالها شَرّ؛ لأنّ مصيرها إلى النار، وليس وراء النار بلاء.
ويقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 22- 26].
أي: إنّ الأبرار الذين بَرُّوا بتقوى الله، والاستجابة له وأداء ما فرضه في نعيمٍ مقيمٍ دائم، فهم يجلسون على الأرائك -وهي السُّرُر- في الحجال من لؤلؤ وياقوت، يتطلّعون فَرِحِين إلى ما وهبهم اللهُ وأثابهم به على تقواهم، ولو تطلّعْتَ لرأيتَ في وجوه هؤلاء نضرة النعم وحُسنه وبريقه، ويُسقى هؤلاء من رحيق مختوم، أي: خمر صرف، لا فيها غَوْل ولا هم عنها ينزفون، وهذا الرحيق مختوم بالمسك، فهي طيبة الريح جميلة الطّعم. وفي هذا النعيم الذي وصفناه فليتنافس المتنافسون، أي: فليتسابق المتسابقون إليه، وليجتهد كلّ امرئ أن يصله ويبلغه؛ فإنه المقصد العظيم الجليل.
ولتوضيح مجيء المقابلة بين نضرة النعيم والعذاب البئيس في هذه المواضع الثلاثة التي تحدثنا عنها نقول: إنّ المقابل في قوله: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان: 5]... إلخ. قد ذُكر ثلاث مرات: ذُكر قبل الآيات في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا﴾ [الإنسان: 4]، وذُكر أثناء الآيات في قوله: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: 10]. وبعد ذِكر أهل النعيم وذِكر الآلاء المفاضة عليهم يعودُ القرآن فيقول عن مقابليهم الكافرين: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: 27].
وفي الموضع الثاني، وهو قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ [القيامة: 20]... إلخ، جاءت المقابلة بين الثواب والعقاب، وبين أصحاب النعيم وأصحاب البؤس؛ فحينما قال القرآن: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22- 23]، قال عقيب ذلك: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ [القيامة: 24- 25]. والفاقرة هي الداهية التي تكسر الفقار، وهي كناية عن شدّة العذاب.
وفي الموضع الثالث والأخير، وهو قوله تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: 24]، جاءت المقابلة قبل ذلك وبعده؛ فقبل هذا يقول الله تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المطففين: 10- 17].
وجاءت المقابلة بعد ذلك في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: 29- 34].
وكأنما اتّبع القرآن الكريم هذه المقابلة بين أهل النضرة وأهل العذاب لِـيُظْهِر الفرق الواسع بين هؤلاء وهؤلاء، ولِـيُبَشِّر الأبرار بما أُعِدَّ لهم مِن خير وأُبْعِدَ عنهم مِن شرّ، ولِـيُنذِر المجرمين بما ينتظرهم من شرّ وما يفوتهم من خير، وذلك أسلوب حكيم فذّ في الترغيب والترهيب وتهذيب النفوس.
اللهم هَبْنَا نضرة النعيم يوم لقاء وجهك الكريم.
[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (الأزهر)، المجلد السادس والعشرون، الجزء العاشر، جمادى الأولى سنة 1374هـ، ص586. (موقع تفسير)
[2] مفردات القرآن، ص515.
[3] النهاية، (4/ 152).
[4] إنما أراد: حسَّن اللهُ خُلُقَه وقَدْرَه. عن النهاية لابن الأثير، (4/ 125).
[5] أساس البلاغة، (2/ 451).
[6] يقول الزمخشري في كشافه عند تفسير: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ ما نصه: «الوجه عبارة عن الجملة، والناضرة مِن نضرة النعيم»، (4/ 165).
[7] الكشاف للزمخشري، (4/ 169).