الجنة والنار في القرآن الكريم

الكاتب : أحمد الحوفي
تكرّر وصف الجنة والنار في القرآن الكريم، ترغيبًا في ثواب الله تعالى، وترهيبًا من عقابه، وهذه المقالة تعرِض بإيجاز وصفَ كلٍّ من الجنة والنار في القرآن، وتبيِّن صور النعيم والعذاب المادي والمعنوي فيهما.

الجنة والنار في القرآن الكريم[1]

   أساس الإيمان أن يُوقن الإنسانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن يؤمن بأنّ الله الذي بَرَأ الكون كلّه على غير مثال، ومنح الحياة، ودبّر شؤون مخلوقاته كلّها تدبيرًا يبهر الفكر ويخلُب العقل ويَشْدَهُ العلم، هو سبحانه القدير على بعث الموتى من قبورهم وإحيائهم وحسابهم.

 ولا منفذ إلى شكّ في قدرته تعالى؛ لأن الخَلْق الثاني في تقدير العقل البشري أسهل من الخلق الأول؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: 27]، وقال سبحانه: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: 48].

وإنّ التفكير السديد ليؤكّد أنّ للناس مآلًا ينتهون إليه بعد يوم القيامة، ويجزون على ما قدموا في دنياهم من خير ومن شرّ جزاءً وفاقًا عادلًا كما أنبأ القرآن الكريم في كثير من آياته، فالذين آمنوا واتقوا وعملوا صالحًا مثواهم الجنة، والذين كفروا وكذّبوا وعملوا سيِّـئًا مأواهم النار.

وفي القرآن الكريم أوصاف للجنة وللنار مردّدة في كثير من السور والآيات.

ولا يستطيع أحد أن يتطاول فيعيب هذا الترديد، فإنّه ضرب من البلاغة في أعلى صورها؛ لأنّ الوصف متنوّع من ناحية، ولأنّ مقام التبشير والإنذار يقتضي التكرير والتذكير والتحبيب والتخويف من ناحية ثانية، ولأنّ الإشادة بحقيقة جديدة مجهولة تستدعي التكرير لتوكيدها وتثبيتها وإقرارها في نفوس السامعين والقارئين من ناحية ثالثة.

ويضاف إلى هذا أن القضاء على أباطيل المعاندين والمكابرين والمكذِّبين يوجب التكرير والترديد.

وما لنا نذهب بعيدًا وفي الآداب العالمية الراقية منذ كان أدب إلى اليوم تكرير متنوّع العبارات ومتعدّد الصور لمعنى أو لمعانٍ جالت في نفوس الأدباء؛ فالغزل مثلًا يدور كلّه حول الحبّ والشوقِ والحنين وسعادة اللقاء وألمِ الفِراق، ومرارة الغيرة، وحسرة القدر، ولكن الأدباء ملؤُوا دواوين الشعر ورسائل النثر بالتعبير عن هذه المشاعر، ولم يقنع أحدهم بما قاله هو مرّة أو مرات، ولم يكتفِ بعضهم بما فرضه إخوان لهم من قبل.

فهل عجب أن جاء وصف الجنة ووصف النار في آيات شتى من القرآن الكريم؟!  

أجمل ما يعرف الناس:

الجنة في اللغة البستان والنخل؛ لأنه يستر ما فيه عن الأعين، وهذا المعنى نفسه في قوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 266]، وفي قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ [سبأ: 15].

وفي رأي المفسِّرين أنّ دار الثواب في الآخرة سُمِّيت جنة لأنها مستورة عن أهليها؛ ولأن ثوابهم المدّخر لهم محجوب عنهم.

ولعلّ خيرًا من هذا أنها سمِّيت جنّة؛ لأنّ الجنة أجمل ما يَعْرِف الناس في دنياهم، ولأنها متعة النشيط وملاذ المتعب وموئل المشتاق إلى السكون والهدوء والاستجمام، ولأنها ذات ثمرات تشتهيها النفوس.

وقد وردت في القرآن الكريم كلمات كثيرة للدلالة على جنّة الآخرة، سواءٌ أكانت أسماء متعددة لها أم أسماء لدرجاتها، منها جنّة الفِردوس، وعَدْن، والنعيم، والخُلد، والمأوَى، ودار السلام، ودار المُقامة، والغُرفة، والرَّوضة.

وصف الجنة:

 جاء في القرآن وصف للجنّة بعضه مادي، وبعضه معنوي، أمّا المادي فهو مماثل في أسمائه لِمَا ألِفُوه في دنياهم، والسبب في هذا أن يفهموه؛ لأنه لو جاء على غير ذلك ما استطاعوا أن يفهموا، وكيف يفهمون أشياء لا تسعف اللغة بها؟ وكيف يفهمون ما لا يعيه إدراكهم؟ وهل من المعقول أن تتحقّق ثمرة التبشير بثواب غير مفهوم؟

وإذا كان الجزاء المادّي بالمسمّياتِ التي ذكرها القرآنُ الكريم نفسِها فإنه مما لا شك فيه أن الاسم الواحد كثيرًا ما يُطلق على صنف واحد، ولكن هذا الصّنف درجات يعلو بعضها بعضًا، فما بالُنا بما في الجنة مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشَر.

وإذا كان الجزاء المادي بما هو أنفس وأعظم وأسنَى مما تعارف الناس في دنياهم، فإن اللغة لا تستطيع أن تعبّر بغير ذلك، ولا يُنْتَظر من لغة من لغات العالم أن تعبر عما لا تسعف به البيئة والتجارب والمعارف. 

1- الوصف المادي:

مِن وصفها المادي أنّ الفائزين بها المقرّبين لهم سُرُر منسوجة بالذهب محلّاة بالدرّ والياقوت، محكَمة النَّسْج والصّنْع متداخل بعضها في بعض كما تتداخل حلقات الدرع، يتكئون عليها متقابلةً وجوهُهم ينظر بعضهم إلى بعض؛ لأنهم أحبّاء تصافوا لا يجفو بعضهم بعضًا، ولا يولي أحدهم ظهره وجه أخيه، ويطوف عليهم غلمان لا يمسّهم هرم بأكواب وأباريق وكؤوس من ماء جارٍ لا ينقطع ولا يتفرّقون عنه، وكؤوس من خمر لا يصيبهم منها أذى مما تسببه خمر الدنيا من سُكْر وصداع وقيء، ولهم فيها ما يشتهون من فاكهة ولحم طير وحور حِسان كأنهن اللؤلؤ النفيس بياضًا وصفاءً. وهذا كلّه جزاء لهم على أعمالهم الطيبة في الدنيا، وهم في الجنة لا يسمعون كلامًا عابثًا لاغيًا ولا كلامًا قبيحًا، بل يتبادلون التحية والكلام الطيب المسعِد.

وإذا كان هذا هو جزاء المقربين فإنّ أصحاب اليمين وهم الأبرار لهم سدر موقر بالثمر لا شوك فيه على عكس سدر الدنيا المثقَل بالشوك المعروف بقلّة الثمر، ولهم موز يغطي ثمرُه ساقَه كلَّها فلا تُرى، وظِلٍّ رادف ممتد، وماء دائم الجريان لا ينضب، وفاكهة كثيرة متنوّعة لا عهد لهم بمثلها لا تنقطع في أيّ وقت، ولا يمنعهم من تناولها شوك ولا عود ولا بُعد ولا قلة ولا مرض، وفُرُش عالية ناعمة ممهّدة، وحور حِسان أبكار متحبّبات إليهم بالجمال والملاحة والظرف والطاعة، كلّهن مثيلات متساويات مؤتلفات لا يتحاسدن ولا يتباغضن.

قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾[الواقعة: 10- 40].

ومثل هذا قوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾[الإنسان: 11- 22].

ومن أوصاف الجنة المادية أنّ ماءَها عذبٌ جارٍ لا يتغيّر طعمه ولا رائحته، وأنّ لَبَنها كثيرٌ يجري أنهارًا لا يَفسُد ولا يصير قارصًا ولا حازرًا ولا حامضًا؛ لأنه لم يخرج من ضروع الماشية، وأن خمرها غزيرة تتدفّق أنهارًا، وهي لذيذة للشاربين لا يحسّون فيها بمزازة ولا حموضة ولا يصابون بعدها بدوار أو سُكْر أو مرض كما عهدوا في خمر الدنيا؛ لأنها ليست كخمر الدنيا، وأنّ العسل ينساب فيها أنهارًا صافيًا حسن اللون والطعم والرائحة، لم يخرج من بطون النحل كما عهدوا في عسل الدنيا، ولهم فيها من جميع الثمرات التي يشتهون.

قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [محمد: 15].

2- الوصف المعنوي:

أمّا الوصف المعنوي فقد ورد في آيات كثيرة منها أنّ الفائزين بالجنة يشعرون بالتكريم العملي لهم حينما تتلقّاهم الملائكة بالتحية والترحيب والتوقير، قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73].

وأيّ نعيم يماثل رضوان الله تعالى عن عباده، ومحبته إياهم، وتقريبه لهم كما نفهم من قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72].

ومن قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: 96].

ومن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾[النساء: 69].

ومن قوله -عزّ وجَل-: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[آل عمران: 133- 134].

وأيّ ثواب أسمى من الخلود في الجنة حيث لا هَمّ ولا حزن ولا حقد ولا حسد ولا ندم ولا نَصَب ولا قلق ولا خوف، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: 45- 48].

وما الذي يدلّ على الثواب المعنوي خيرٌ من السرور والسعادة في مثل قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ [الروم: 15].

وفي قوله سبحانه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾[عبس: 38- 39].

وفي مثل قوله سبحانه: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17].

وماذا يبتغي الناس من الثواب المعنوي أعظم من أن يطلبوا ما يريدون فيجدوه محضرًا، قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾[ق: 31- 35].

وإنّ الثواب المعنوي لَيتعاظم ويتكامل ويتناهى ويتسامى فلا يعدله ثواب ولا يساويه جزاء حينما يسعد الفائزون برؤية الخالق -جَلّ وعَلَا-، قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[القيامة: 22- 23].

من أسماء النار:

 أمّا النار فإنها كذلك لها أسماء عدّة تدلّ عليها أو تدلّ على دركاتها وطبقاتها، مثل: جهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية.

وقد تردّد ذكرها ووصفها في القرآن الكريم، وتردّد ذكر العذاب ووصفه، سواءٌ أكان ماديًّا أم معنويًّا. 

1- الوصف المادي:

مِن وصفها المادي أنّ أهليها يساقون إليها سوقًا عنيفًا كما تُسَاق الماشية، ويُقال لهم إذا ما بلغوها زيادةً في النكال والاحتقار: هذه هي النار التي كذّبتم بها، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [الطور: 13- 14].

وهم يُـجَـرُّون إليها على وجوههم عُميًا وبُكمًا وصُمًّا كما تُجَرّ الجِيَف والأحجار والأخشاب ليحترقوا بنار لا تخمد؛ لأنها كلّما خبَت زادها اللهُ شدة وسعيرًا، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الإسراء: 97].

فإذا ما بلغوا النار جماعات جماعات سارع زبانيتها بزجّهم فيها، وجعلوا يبكِّتونهم ويقولون لهم: بئس مصيركم، قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾[الزمر: 71- 72].

وفي الحال التي يساقون فيها ويجرُّون جرًّا يسمعون من بعيد صوتَ تأجّج النار وزفيرها، فيزدادون يقينًا بأنهم هالكون هلاكًا ليس كمثله هلاك، قال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ [الفرقان: 11- 14].

ولهم في أعناقهم سلاسل يُسحَبون بها كما تُسحب الدوابّ ويُقذَفون في جهنم قذفًا، قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾[غافر: 70- 72].

ومن أصناف العذاب أنّ أهل النار يلبسون ثيابًا من النار نفسِها أو ثيابًا من النحاس لأنه أشد الأشياء حرارة إلى حمي، ويصبّ عليهم الماء الحار إلى درجة لو سقطت منه قطرة على جبل لأذابته، ولهذا يصبّ على رؤوسهم فيذيب أحشاءهم ويقطِّع أمعاءهم كما يذيب جلودهم، وكلما ضربتهم النار بلهبها فرفعتهم إلى أعلاها ضُربوا بسياط حديدية فسَقطوا في أسفلها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الغليظة المهلكة.

قال تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: 19- 22].

وللنار وقود يمدّها، وإنه لَعَجَب أيّما عَجَب لأنه الناس والحجارة، وبهذا يختلف عن وقود النار التي عرفوها في الدنيا، قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[البقرة: 24].

ويتطاير شررها كأنه -لضخامته- الحصونُ أو أصولُ الدَّوح أو الإبل السّود، قال سبحانه: ﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: 32- 34].

وهي تحرق الرؤوس والأطراف والجلود وما فوق العظام من لحم، ثم تبدل الجلود لتحرق مرات لا يعلمها إلا الله، وهنا حقيقة سبق بها القرآن الكريم، وذلك أنّ العِلم عَرَف أخيرًا أنّ الجلد هو موطن الإحساس والألم، وأنّ ما غار لا يحسّ ولا يتألم؛ ولهذا فإن أهل النار كلما احترقت جلودهم خلق اللهُ لهم جلودًا أخرى ليذوقوا العذاب الخالد، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 56].

والنار مقرّهم الدائم، ومآبهم المعدّ، يلبثون فيها أحقابًا كلما تقضَّى حقب تبعه حقب، ولا يذوقون شرابًا باردًا يخفف عنهم حرّ النار، بل يشربون الماء الحار البالغ نهاية الحرارة، ويشربون الصديد المتجمع من الحرقة، قال تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ: 24- 26].

وطعامهم شجرة الزقوم التي جعلها اللهُ تعالى محنة وعذابًا للظالمين، وهي شجرة نابتة في قاع جهنم، ثمرها قبيح وكريه إلى أشنع حدّ من القبح والكراهية، كأنه رؤوس الشياطين؛ لأن الشيطان بصورته المتخيلة مستكره في خيال الناس جميعًا، أو كأنه رؤوس نوع من الحيات ضخمة مخيفة قبيحة، وإنهم لَمضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلئ بطونهم ليكون هذا تعذيبًا آخر، فإذا امتلأت بطونهم غلبهم العطش فلم يشربوا إلا حميمًا وصديدًا، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: 62- 68].

2- الوصف المعنوي:

أمّا العذاب المعنوي فهو هائل في ندم المعذَّبين على ما فَرَط منهم في الدنيا، وحسراتهم على الثواب الذي حُرموه وحزنهم الشديد ممّا هُم فيه، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40].

ويمثّل هذا العذابَ سوءُ المنظر وسوادُ الوجه واكتساؤه مع سواده بالتراب، قال سبحانه: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس: 40- 42].

ويمثّله أيضًا خزيهم وذلّهم وتنكيس رؤوسهم، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: 44- 45]، وقال -عزّ وجَل-: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12].

أمّا بعد...

فهذه هي الجنة حَفِلة بمتع الحسّ وسعادة الروح، وهذه هي النار مكتظّة بعذاب الجسد وشقاء النفس، فمَن مِن العقلاء يرغب بنفسه عن الاستمتاع والسعادة؟! ومن ذا الذي يجلب لنفسه النكال والخزي والشقاوة؟! فاللهم غفرانك إذا أسأنا، وكرمك إذا أحسنّا، لنكون ممن رَضِيتَ عنهم وأرضيتَهم وأسعَدْتَهم بالجنة التي تُورثها من عبادك مَن كان تقيًّا.

 

 

[1] نُشرت هذه المقالة بمجلة (الهلال)، العدد 2، بتاريخ 1 فبراير 1974م. (موقع تفسير).

الكاتب

الدكتور أحمد الحوفي

أستاذ الدراسات الأدبية، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، توفي عام 1983م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))