الآيات التسع البيِّنات

أخبر القرآنُ أنّ نبي الله موسى -عليه السلام- قد أُوتى تسع آيات بيّنات، وهي تسع آيات من جملة الآيات الكثيرة التي أوتيها -عليه السلام-، وقد تعدّدت الأقوال في تعيينها، وهذه المقالة تعرض لهذه الأقوال وتناقشها لتعيين الآيات المقصودة في الآية.

الآيات التسع البيِّنات[1]

  قد أكرم اللهُ -سبحانه وتعالى- رسوله موسى -عَلَيْه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والتسليم- بآيات بينات، ومعجزات باهرات، كلّ معجزة منها آية بيّنة واضحة، ودليل قوي قاطع، يشهد بصِدقه، ويثبت دعواه، أنه رسول من الله.

وإن ما أكرمه الله به من الآيات، وما منحه من المعجزات ليس في مقدور أحد من البشر، ولا في مقدور الناس جميعًا ولو تعاونوا عليه، فإنه فعل الله وحده، يصدّق به رسوله فيما يدعيه، وهو بمنزلة قول الله تعالى: صدق عبدي في كلّ ما يبلّغ عني. إنّ الآيات البينات، والمعجزات الباهرات التي أكرم اللهُ بها رسولَه موسى -عليه السلام- كثيرة.

(1، 2) فمنها الآيتان: اللتان أمره الله تعالى أن يذهب بهما أوّل الأمر إلى فرعون، ليثبت له بهما صدقه في دعواه أنه رسول الله إليه، وهما (العصا واليد)، كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: 17-24].

(3، 4) «ومنها آيتا السنين أي سني القحط ونقص من الثمرات»، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾[الأعراف: 130].

(5- 9) ومنها الآيات الخمس التي قال الله فيها: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 133].

هذه الأنواع الخمسة من العذاب قد أنزلها اللهُ على فرعون وقومه، ولم يصبهم بها دفعة واحدة، بل أرسلها عليهم متفرّقة؛ وكانوا كلّما أصابهم نوع منها ضجّوا واستغاثوا وتضرّعوا، وطلبوا من موسى -عليه الصلاة والسلام- أن يسأل ربَّه ليرفع عنهم ذلك العذاب، وكانوا يعطونه العهد والميثاق أن يؤمنوا به إذا رفع عنهم ما نزل بهم، لكنّهم ما كانوا يوفون بالعهد أو يرعون الميثاق، بل كانوا سراعًا إلى نقض ذلك والتنكّر له، وذلك كما قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ [الأعراف: 134-135].

(10، 11) ومنها معجزة فلق البحر فرقتين ومرور موسى -عليه السلام- ببني إسرائيل بينهما على أرض يابسة حتى وصلوا شاطئ البر الآخر سالمين، ثم غرق فرعون ومن كان معه من كبار جيشه والملأ من قومه، وهم الذين كانوا يركضون خلف بني إسرائيل ليقتلوهم ويقضوا عليهم؛ فإنهم تبعوهم في ذلك الطريق، ولكنهم ما كادوا يتوسّطونه حتى انطبق عليهم البحر من شقّيه فلم ينجُ منهم أحد.

وكانت حادثة انفلاق البحر فلقتين كالطودَيْن العظيمَيْن وحادثة انضمام الفلقتين إحداهما إلى الأخرى، وعودة البحر إلى ما كان عليه؛ كلتاهما معجزة لموسى -عليه الصلاة والسلام-، أمره الله -سبحانه وتعالى- في الأولى بأن يضرب بعصاه فضربه ضربةً انفلق بها فلقتين، وكان بينهما الطريق اليَبَس الذي نجى الله به بني إسرائيل من فرعون وبطشه. ثم كانت المعجزة الثانية بانضمام الفلقتين وعودة الماء إلى حالته الأولى لإغراق فرعون ومن كان معه من جنده وقومه.

(12) ومنها معجزة نتق الجبل فوق بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر، وتهديدهم بإسقاط الجبل عليهم لتثاقلهم في امتثال أوامر الله تعالى، وتراخيهم في تنفيذ الأحكام التي حملها إليهم رسولهم من عند الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 171].

(13) ومن المعجزات التي أكرم الله بها سيدنا موسى منحة له ولبني إسرائيل معجزة تظليل الغمام عليهم وهم في التِّيه، فكان السحاب يسير معهم فوقهم يمنع عنهم لفح الشمس، ويقيهم شدّة حرّها.

(14) ومنها معجزة المنّ الذي كان يرسله اللهُ عليهم كلّ صباح من الفجر إلى طلوع الشمس، وهو مادة بيضاء حلوة كانوا يتغذون بها أجود غذاء، وكانت تغنيهم عن الخبز المعتاد، وكانوا أيضًا يصنعون منها نوعًا من الخبز.

(15) وكذلك معجزة السلوى: وهو طائر السُّمَانى[2] المعروف أو نوع قريب منه. كان يرسله اللهُ عليهم آخر النهار من كلّ يوم، فكان لهم من هذا وذاك أطيب غذاء يتجدّد لهم كلّ يوم، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 57].

(16) ومن المعجزات التي أكرم الله -سبحانه وتعالى- بها سيدنا موسى وامتن بها على بني إسرائيل معجزة الحَجَر وتفجير الماء منه، فإنهم لما فقدوا الماء وهم في التِّيه واشتد بهم العطش في الصحراء المحرقة استغاثوا بموسى -عليه السلام-، فسأل ربه أن يسقيهم. فأمره الله -سبحانه وتعالى- أن يضرب الحجر بعصاه فضربه، فتفجر الماء منه عيونًا غزيرة اثنَى عشرة عينًا للأسباط الاثني عشر، فكان في ذلك ريّهم وسقي دوابهم وكفايتهم في وجوه حاجاتهم إلى الماء. وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة: 60].

هذه ست عشرة معجزة من المعجزات التي أكرم اللهُ بها رسوله موسى -عليه السلام-، وهي كثيرة لا تقف عند هذه الست عشرة، وما دام الأمر كذلك:

1- فكيف يفهم قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾[الإسراء: 101].

2- وما هي على التعيين هذه الآيات التسع من بين الآيات الكثيرة التي أشرنا إليها؟

3- وهل كانت هذه الآيات التسع موجّهة إلى قومٍ معيّنين غير من وُجِّهَت إليهم الآيات الأخرى؟

4- وإذا كان الجواب على هذا بالإيجاب فكيف يستقيم ذلك مع قوله تعالى في الإخبار عن فرعون وما كان منه: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾[طه: 56]؟

والجواب عن هذه الأسئلة الأربعة: أن الآيات الكثيرة التي أكرم اللهُ بها رسوله موسى -عليه السلام- وأيّد بها رسالته منها تسع آيات هي التي قصد بها فرعون وقومه كما تشير إلى ذلك آية سورة الإسراء: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 101] فإن ما أخبرت به هذه الآية من رد فرعون على موسى -عليه الصلاة والسلام- ذلك الرد الذي هو غاية في العناد والتكذيب والسفاهة يدلّ على أنّ الآيات التسع التي أوتيها موسى -عليه السلام- قد كانت موجّهة إلى فرعون وقومه.

وهذا المعنى يفيده بصراحة ووضوح قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾[النمل: 9-12].

الآيات التِّسع البينات:

وفي سبيل تعيين هذه الآيات التسع نُورد ما قاله النسفي في التفسير متابعًا فيه الزمخشري صاحب الكشاف، قال -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ [طه: 56] ما نصّه: «﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ﴾ أي فرعون، ﴿آيَاتِنَا كُلَّهَا﴾ وهي تسع آيات: العصا، واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل.

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾[الإسراء: 101]. قال النسفي تبعًا للزمخشري أيضًا ما نصّه: «﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بني إسرائيل.

ثم قال: وعن الحسن: الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور». اهـ.

وهكذا يعتمد كلّ من الزمخشري والنسفي في تفسير آية (طه): ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ على ما نُسب إلى ابن عباس من أن آيات فلق البحر، وتفجير الماء من الحجر، ونتق الجبل هي من الآيات التسع التي وُوجِهَ بها فرعون وقومه.

كما أنهما أوردَا في تفسير آية الإسراء ذلك الذي نُسب إلى ابن عباس وقدماه على غيره من الأقوال.

وهذا أمر عجيب، وشيء لا يُطمأن إليه، ولا ينبغي أن يعتمد عليه في تفسير الآيات التّسع وتعيينها، ولا يكفي لقبول ذلك أن يكون منسوبًا إلى ابن عباس، فكم كذب الناس على ابن عباس -رضي الله عنهما-، وكم نسبوا إليه من الأقوال ما هو منه براء، على أنه لو صحّت نسبة ذلك القول إليه فهو مجتهد غير معصوم الرأي كغيره من المجتهدين.

إنه عجيب حقًّا أن تعدّ معجزة فلق البحر من المعجزات التي وُوجِهَ بها فرعون ليرتدع عن عناده وضلاله، ويكفّ عن كفره وفجوره، كما هو الشأن في المعجزات التي يراد بها الإنذار والتهديد.

إنّ معجزة فلق البحر قد أرادها الله تعالى لتكون نهاية لطغيان فرعون، وإهلاكًا له، وقضاء عليه وعلى الملأ من قومه، وإذًا لا ينبغي أن تُعَد من المعجزات التي وُجّهت إليه لهدايته وإرشاده كي يعدل عن غيّه، ويكفّ عن فجوره وبغيه، وإنما هي الحدث الأكبر الذي كان به هلاكه ونهاية أمره، وهلاك الممالئِين له من قومه.

أما المعجزتان الأخريان: وهما معجزة الحَجَر ومعجزة نتق الجبل، فقد كانتا مع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر، ونجاتهم من فرعون الذي أهلكه الله.

كانت معجزة الحجر منحة لهم، ونعمة عظيمة امتن الله بها عليهم لما عطشوا واشتدت حاجتهم إلى الماء، ولجأوا إلى موسى -عليه السلام- أن يستسقي لهم، فأوحى الله -سبحانه وتعالى- إليه أن يضرب بعصاه الحجر، فلما ضربه موسى بعصاه انفجرت منه اثنتا عشرة عينًا بعدد الأسباط الاثني عشر كما قدّمنا.

وكذلك معجزة نتق الجبل، كانت خاصّة ببني إسرائيل لكنها كانت محنة لهم وإنذارًا شديدًا وتهديدًا بإسقاط الجبل عليهم وإهلاكهم لما تراخوا وتثاقلوا في القيام بأمر الله وتنفيذ أحكام التوراة التي حملها إليهم رسولهم من عند الله تعالى، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

ومن ذلك يُعلم أن ما روي عن الحسن البصري أصحّ وأثبت مما نسب إلى ابن عباس، وأن الآيات التسع التي حدثت عنها آية سورة الإسراء، وآية سورة النمل ليس منها معجزات البحر والحجر ونتق الجبل.

هذا -والذي حقّقه العلامة الألوسي صاحب [روح المعاني]- في تفسير آية الإسراء: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أنه قد روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في ذلك عدّة روايات، وأن أصح ما روي عنه هو أن الآيات التسع هي: «العصا، واليد، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم». اهـ.

وهي التي نسبت في بعض الروايات إلى الحسن -كما قدّمنا-، ثم يقول الشيخ الألوسي: «إنّ نسبة ذلك إلى الحسن هي على خلاف ما وجدناه في الكتب التي يعوّل عليها في أمثال ذلك». اهـ[3]. ويخلص من ذلك أن الآيات التسع هي العصا، واليد، والسنون، ونقص الثمرات بمختلف الآفات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.

فالعصا واليد لا يحتاج فيهما بعد ما تقدّم إلى زيادة بيان.

وأما السنون فهي مدّة القحط والجدب، وكانت سبع سنوات لم يثبت لهم فيها نبات ولا زرع بسبب احتباس المطر.

وأما نقص الثمرات فهو بوقوع التّلَف فيها بما سُلّط عليها من مختلف الآفات، ورُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ القحط أُصيب به أهل البادية وأصحاب الماشية، فأما نقص الثمرات فقد أُصيب به أهل الحضر.

والمراد بالطوفان المطر الشديد الذي غمر حروثهم وزروعهم، وقد دام عليهم ثمانية أيام في ظُلمة لم يروا معها شمسًا ولا قمرًا، ولم يستطيعوا أن يخرجوا فيها من بيوتهم.

وقيل: إنّ هذا الطوفان هو ماء المطر الغزير الذي تسرّب إلى بيوت القبط فغمر كلّ ما فيها من متاع وأثاث، وبلغ ارتفاعه قامة الرجل وهو واقف إلى ترقوته، فإذا قعد غرق.

ومع أنّ بيوت بني إسرائيل وبيوت القبط كانت متجاورة متشابكة لم يدخل شيء من ذلك المطر بيتًا من بيوت بني إسرائيل.

أما الجراد فكان كثيرًا شديد الحملات عليهم، قضى على الزروع والثمار وعلى كلّ شيء، حتى أكل ثيابهم وسقوف بيوتهم وأبوابها، ولم يدخل شيء منه في بيوت بني إسرائيل.

وأما القمل وهو القراد فكان يسبح في ثيابهم وأجسادهم وفراشهم ومطاعمهم، فكانوا لذلك يلاقون منه أشدّ العنت والأذى في صحوهم ورقادهم وسائر أحوالهم. أما بنو إسرائيل فقد كانوا في أمن وسلام من ذلك كلّه.

ولقد كانت الضفادع كبيرها وصغيرها تمتلئ بها بيوت القبط، وكان تَأَذِّيهم بها بالغًا غايته، حتى إنها كانت تقفز في قدورهم وهي تغلي، بل كانت تقفز في وجه أحدهم إذا كان يتكلم أو كان يأكل تحاول أن تدخل في فمه. ولم يكن شيء من ذلك في أي بيت من بيوت بني إسرائيل.

أما الدم فقد حوّل اللهُ -سبحانه وتعالى- مياه الأقباط دمًا لا يحرز أحدهم شيئًا من الماء إلا وجده دمًا، ولا يستقي من معين أو مسيل ماء صاف إلا وجد ما يستقيه دمًا، ولقد كان يجمع بين الإسرائيلي والقبطي على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء صافيًا على حين ما يكون ما يلي القبطي دمًا خالصًا.

وقد نصّت على هذه الأنواع من العقوبات التي عُوقب بها فرعون وقومه تلك الآيات القرآنية التي عينت بالتفصيل ما أيّد لله به موسى -عليه السلام- من المعجزات التسع، يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 130]، ويقول -سبحانه وتعالى-: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾[الأعراف: 132-133].

فإذا ضُمّت هذه الآيات السبع إلى الآيتين الأصليتين اللتين حدّث عنهما القرآن في عدّة سور وهما العصا واليد، كان المجموع تسع آيات هي التي يشير إليها قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، وقوله سبحانه في سورة النمل: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ [النمل: 12]، وهي الآيات التي وُوجه بها فرعون وقومه، كما صرّحت بذلك هذه الآية القرآنية من سورة النمل.

وقد رأى فرعون هذه الآيات التسع كلّها ولكنه كذّب بها كلّها وأبى أن يؤمن ويخضع للحقّ، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ [طه: 56]، وكما قال سبحانه: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر: 42]، وينبغي أن يُعلم أنه إذا كانت هذه الآيات التسع هي التي وُوجه بها فرعون وقومه كما أسلفنا فإنّ آية العصا من بينها قد كانت لها آثارها العظيمة مع بني إسرائيل أيضًا، فهي التي ضرب بها البحر فانفلق، وكان في ذلك نجاتهم من فرعون وقومه الذين أهلكهم اللهُ بالغرق في ذلك البحر نفسه، وهذه العصا هي التي ضرب بها الحجر لما عطش بنو إسرائيل وطلبوا الماء فتفجّرت منه ينابيع وعيون بعدد الأسباط الاثني عشر، فآثار معجزة العصا كانت عامة فيهم وفي فرعون وقومه.

أما غير هذه الآيات التسع من المعجزات الأخرى فقد كان المقصود بها بني إسرائيل وحدهم.

هذا وقد قال بعض العلماء: إنّ الآيات التسع التي قال الله -سبحانه وتعالى- في شأنها: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ إنما هي آيات الأحكام الشرعية الأساسية التي وردت في التوراة، وفي أمهات الكتب السماوية:

- تأمر بعبادة الله تعالى وحده عبادة خالصة من شوائب الشِّرك والشّك، ومن النفاق والرياء.

- وتأمر كذلك ببر الوالدين بِرًّا صادقًا خالصًا من شوائب التأفّف والضجر، وذلك بإكرامهما وإحسان خدمتها، والشفقة بهما، والعطف عليهما.

- ثم هي التي تأمر بالاعتدال في معاملة الإنسان لأخيه الإنسان، بأن يرعى حقّه، ويُوفي له بعهده، ويؤدّي إليه أمانته، ثم لا يتكبر عليه، ولا يتجبر، ولا يتفاخر ولا تعالى، ولا يعتدي على أحد في نفس أو عِرض أو مال.

وهذا كما فصّلَته الآيات من سورة الأنعام جاءت بمثل ما ورد في التوراة وغيرها من الكتب السماوية المقدّسة: قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 151-153].

ومثل هذا قد جاء مفصّلًا في سورة الإسراء في قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 23-27].

قال أولئك العلماء: إنّ الموافقات التي نجدها بين ما ورد في القرآن في هاتين السورتين: (الأنعام والإسراء) وما ورد في التوراة متعلقًا بالأحكام الشرعية وأصول الأخلاق الدينية قد تساعد على الحكم بأن المراد بالآيات في قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ إنما هي آيات الأحكام، وليست الآيات الكونية التي هي المعجزات وقوارع العقوبات.

وقالوا أيضًا: إنه يؤيّد هذا الحكم ما ورد من الأخبار الصحيحة التي تصرّح بهذا المراد فقد روى الإمام أحمد والطبراني والبيهقي والنسائي وابن ماجه، والترمذي وقال: حسن صحيح. وكذلك الحاكم وقال: صحيح لا نعرف له علّة. كما رواه خَلق كثير عن صفوان بن عسال[4] أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله -يريدان النبيّ محمدًا صلى الله عليه وسلم- فأتياه -صلى الله عليه وسلم- فسألاه عن قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾.

قال أولئك العلماء: إنّ الظاهر أن هذين اليهوديّين كانا يقصدان السؤال عن الآيات التسع أي شيء هي؟ وهل يقول فيها هذا النبي بنحو ما هو مسطور في التوراة فيكون ذلك دليلًا على صدقه؟

فلمّا وجدَا أنه قد انطبق كلامه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك على ما ورد في التوراة سُرَّا بذلك وفرحَا وقامَا يقبّلان يديه وقدميه. فإنه -عليه الصلاة والسلام- قد أجابهما بقوله: (لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وعليكم يا يهود خاصة ألا تعتدوا في السبت) فقبَّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبيّ الخير.

قالوا: فهذه تسع آيات من آيات الأحكام الشرعية والوصايا الخلقية، وأما العاشرة فهي كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصّة باليهود ألا يعتدوا في السبت.

وبهذا يتبيّن أن الآيات التي أوتيها سيدنا موسى -عليه السلام- والتي ورد ذكرها في سورة الإسراء هي آيات الأحكام الشرعية كما وردتْ بهذا المعنى في التوراة، وكما نبّه إلى ذلك بجوابه السديد على سؤال اليهوديين نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.

وخلاصة القول: أنّنا في هذا الموضوع أمام ثلاثة أمور كلّ منها له شأنه وقدره العظيم، وإنما من أجل ذلك تستوجب أن تقف عندها وقفة تفهّم وتدبّر وقوّة وانتباه، لنصل فيها إلى حُكْم فصل تطمئن إليه النفس وتقرّه مبادئ الدين.

- الأمر الأول: قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ مع ما أجاب به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليهوديين اللذَيْن قيل إنه -عليه الصلاة والسلام- قد علم من حالهما أنهما يسألان عن الآيات التسع التي هي آيات أحكام، فإن ذلك الجواب يدلّ بظاهره على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرى أن الآيات التسع في قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ هي آيات أحكام، وليست هي الآيات الكونية.

- الأمر الثاني: قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾[النمل: 9-12].

وهو واضح الدلالة على أنّ الآيات التسع التي أوتيها سيدنا موسى -عليه الصلاة والسلام- هي آيات كونية ومعجزات قاهرة، وعقوبات قد قصد بها فرعون وقومه الكفار الفجرة.

- الأمر الثالث: ما روى عن الحَبر ابن عباس -رضي الله عنه- وهو أصحّ ما روي عنه في هذا الموضوع -كما قدّمنا- أنه فسّر التِّسع الآيات البينات في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ بأنها هي العصا، واليد، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وهو تفسير منطبق على ما أفادته آيات سورة النمل؛ من أنّ الآيات التسع هي آيات كونية، ومعجزات العصا واليد، وليست آيات أحكام.

وعلى هذا يُقال: كيف يكون التوفيق بين الحكم بأنّ الآيات التسع البينات هي آيات أحكام شرعية، كما يُستفاد من ظاهر خبر اليهوديين وما أجاب به على سؤالهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبين الحكم بأنّ تلك الآيات هي آيات كونية كما أشارتْ إلى ذلك سورة النمل، وفصّلته سورة الأعراف؟

الجواب: أن كلمة (الآيات التسع البينات) لا شك أنها تُطلق على تلك الآيات الكونية والمعجزات الباهرة القاهرة التي أيّد الله بها رسوله موسى -عليه السلام- وكان فيها قوارع العقوبات لفرعون وقومه جزاء عتوّهم وكفرهم، كما أشير إلى ذلك إجمالًا في قوله تعالى: ﴿تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ [النمل: 12] وفصل تفصيلًا تامًّا بينًا في سورة الأعراف كما قدّمناه، وهذه الآيات التّسع الكونية هي التي فسّر بها ابن عباس -رضي الله عنهما- كلمة ﴿تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ في قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ كما علمنا.

لكن ماذا يُصنع في خبر اليهوديين وما أجابهما به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سألاه عن هذه الآية من سورة الإسراء إِذ ذكر لهما أشياء هي آيات أحكام وليست من الآيات الكونية التي أشرنا إليها آنفًا؟

والجواب عن ذلك من وجهين:

- الأول: أنه يمكن أن يكون المراد من الآيات التسع البينات الواردة في سورة الإسراء آيات للأحكام على نحو ما ورد في التوراة، وكما هو ظاهر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه تفسير لها في جوابه على سؤال اليهوديّيْن، فقد أوردها -عليه السلام- تسعة أشياء أحكامًا عامة، ثم ختمها بحكم خاصّ باليهود ألا يعتدوا في السبت.

وهذه غير آيات أخرى هي من الآيات الكونية والمعجزات القاهرة قد أشارت إليها سورة النمل، وأنها تسع آيات أيضًا، حتى إنه إذا سأل سائل عن تسع آيات بينات أُوتيها سيدنا موسى -عليه الصلاة والسلام- فأُجيب بأنها تلك الآيات الكونية، فإن ذلك يكون جوابًا صحيحًا وسديدًا؛ لأنّ للرسول موسى -عليه الصلاة والسلام- تسع آيات بينات هي آيات كونية ومعجزات باهرة، وعقوبات قاهرة قد أخذ اللهُ -سبحانه وتعالى- بها فرعون وقومه.

- الوجه الثاني: أنه لا يجب أن نحكم بأن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أجاب به اليهوديين كان شرحًا وتفسيرًا لآية: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ وأنه يرى أن (الآيات التسع البينات) في الآية الكريمة مراد بها آيات الأحكام، وإنما كان كلامه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك كلامًا حكيمًا أراد به أن يحقّق رغبتهما في الوقوع على ما عنده من العلم بالآيات البينات التي أراد الله أن يؤيّد بها رسوله موسى -عليه الصلاة والسلام-، وهي آيات الأحكام والأخلاق التي يعهدونها مسطورة في التوراة، ليتخذوا مما يقوله فيها دليلًا على صِدْقه إذا جاء موافقًا لما في التوراة، ولعلّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون قد أدرك منهما هذه الرغبة، أو لعلّه علم ذلك مما أوحاه الله إليه، وعلى هذا يكون جوابه لليهوديين بذِكْر آيات من آيات الأحكام إنما كان لغرض خاصّ هو إفادتهما بالآيات التسع التي يعرفانها من التوراة، ويريدان معرفة ما يقوله فيها، وليس لبيان الآيات التسع البينات التي قال الله في شأنها: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، فإنّ هذه هي الآيات الكونية التي نبهت إليها آية النمل، وفصلتها آيات الأعراف.

ويحتمل أيضًا أنّ سؤال اليهوديين إنما كان عن الآيات التسع التي هي الآيات الكونية، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يصرفهما بأسلوب حكيم إلى ما هو أنفع لهما وأجدى عليهما، وأولى أن يشتد فيه حرصهما واهتمامهما بالبحث عنه، والوقوف عليه، وذلك هو آيات الأحكام الدينية التي في الاستمساك بها وإحسان العمل على وفقها سعادة الدنيا والدين.

وأيًّا ما كان فليس هناك دليل يفيد العلم والقطع بأن كلمة ﴿تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ في قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ مراد بها شيء آخر غير تلك الآيات الكونية والمعجزات الباهرات، وقوارع العقوبات التي أنزلها الله على فرعون وقومه الفجرة الكافرين، وكان ذلك تأييدًا من الله تعالى لرسوله موسى عليه وعلى نبيّنا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والتسليم.

كلمة الختام:

قد تم القول في الجملة الأولى من الآية الكريمة وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ حسبما مَنَّ الله -سبحانه وتعالى- به من التوفيق والتيسير، وعلى قد ما منح من العلم والفهم.

ونرى هنا -إتمامًا للفائدة- أنه يحسن أن نفسِّر الجملة الثانية من الآية الكريمة باختصار وهي قوله تعالى: ﴿فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ﴾ فإنه قد يحتاج فيها إلى بيان المسائل التالية:

1- المسألة الأولى: من هو ذلك الشخص المأمور بالسؤال؟

2- المسألة الثانية: من هو المطلوب سؤاله؟

3- المسألة الثالثة: ما هو ذلك الشيء المطلوب بالسؤال؟

4- المسألة الرابعة: كيف عطفت هذه الجملة الثانية بالفاء، وهي جملة طلبية متضمنة حضور المخاطب المأمور الذي معه الحديث على الجملة الأولى الخيرية المقتضية غيبة المحدث عنه؟

5- المسألة الخامسة: بمَ يتعلّق الظرف في قوله سبحانه: ﴿إِذْ جَاءَهُمْ﴾؟

وفي الجواب عن المسائل الثلاث الأُولى قد اختلفت كلمة المفسِّرين. ولهم في ذلك رأيان:

- الأول: أنّ المأمور بسؤال بني إسرائيل هو سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أمره الله -سبحانه وتعالى- أن يسأل بني إسرائيل الذين كانوا في عهده -عليه الصلاة والسلام-، أو الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام سؤال تقرير، يقرّرون في جوابه حقيقة ما يعرفونه في كتبهم عن سيدنا موسى -عليه الصلاة والسلام- وما جرى له مع فرعون وقومه، حينما جاءهم بتلك الآيات البينات، وما ردّ به عليه فرعون من قوله: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 101]، وتقدير الكلام على هذا الرأي هكذا: فاسأل يا محمد بني إسرائيل عنه؛ أي عن موسى، وما كان منه مع آبائهم من بني إسرائيل حين جاءهم وما جرى بينه وبين فرعون وقومه ودعاهم إلى الإيمان به والتصديق برسالته.

- الرأي الثاني: أن المأمور بالسؤال هو سيدنا موسى -عليه الصلاة والسلام-، أمره الله تعالى أن يسأل بني إسرائيل الذين كانوا في مصر يسعون في معايشهم، ويعملون تحت سلطان فرعون وفي دولته.

أمره الله -سبحانه وتعالى- أن يسأله من فرعون؛ أي يطلبهم منه؛ فالسؤال هنا بمعنى الطلب، ومعنى هذا أن يطلب من فرعون أن يخلي سبيلهم ولا يحول بينهم وبين الخروج مع نبيهم موسى ليسير بهم إلى حيث يريد من أرض الله كما أمره الله.

وذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[الأعراف: 104-105].

وكذلك قوله تعالى: ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[الشعراء: 16-17].

وقوله -عز وجل-: ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ﴾ [طه: 47].

ولقد كان اهتمام موسى -عليه الصلاة والسلام- بخروج بني إسرائيل من مصر عظيمًا جدًّا؛ لأنه كان يريد أن يبعدهم من مواطن الكفر والشِّرْك والفجور، ويخلّصهم من العذاب الذي كان فرعون وقومه ينزلونه بهم، وكذلك مما عسى أن ينزل بتلك المواطن من عذاب الله وسخطه.

وقيل: إنّ السؤال في قوله تعالى: ﴿فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ مستعمل في معناه الظاهر وهو سؤال الاستفهام والاستخبار، فالرسول موسى -عليه السلام- قد أمره الله تعالى أن يَسأل بني إسرائيل عن حالهم ومبلغ تدينهم وإيمانهم وقوّة استمساكهم رسالته، وهل هم مستمرّون على متابعته، مصمّمو العزم على تأييده ومناصرته والكفاح معه؟

هذا الوجه قد جوّز إرادته بعض العلماء.

ولكنا نرى أنه لا يتم عليه المعنى باستقامة في بقية الآية؛ فإنه لا يظهر عليه سِرّ غضب فرعون على موسى -عليه السلام-، وردّه عليه ذلك الرد السفيه وقوله له: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾، لكن هذا الرّد يظهر جيدًا ترتبه بالفاء على ما قبله فيما وردت به الآية الكريمة إذا حمل السؤال في قوله تعالى: ﴿فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ على المعنى الأول الذي هو طلبهم من فرعون، وأمر فرعون أن يخلى سبيلهم ليذهبوا مع نبيّهم كما أوضحنا ذلك آنفًا.

أما الجواب عن المسألة الرابعة: فهو أن الفاء على الرأي الأول وهو أن المأمور بالسؤال محمد -صلى الله عليه وسلم- هي فاء الفصيحة، والأمر فيها ظاهر.

وأما على الرأي الثاني وهو أنّ المأمور بالسؤال سيدنا موسى -عليه السلام- فهي للعطف بتقدير فعل ماض من القول معطوف على ﴿آتَيْنَا﴾ تصير به الجملة المعطوفة جملة جبرية معطوفة على مثلها، والتقدير: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات، فقلنا له: اسأل بني إسرائيل.

وأما الجواب عن المسألة الخامسة: فهو أن الظرف ﴿إِذْ﴾ على الرأي الأول متعلّق بمقدر من المقدرات بعد قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ على ما أوضحناه.

وأما على الرأي الثاني فهو متعلّق بالفعل الماضي المقدر بعد الفاء في قوله سبحانه: ﴿فَاسْألْ﴾، والتقدير: ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقلنا له: اسأل بني إسرائيل حين مجيئه إليهم؛ أي قلنا له حين مجيئه إليهم: اسألهم من فرعون، واطلب منه أن يخلي سبيلهم، فلما طلب منه ذلك غضب واستكبر وردّ عليه ذلك الرّد الفاجر السفيه.

والحمد لله رب العالمين

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «مجمع اللغة العربية بمصر»، العدد (34)، 1 نوفمبر 1974م. (موقع تفسير).

[2] بتخفيف الميم بعد السين المضمومة المشددة.

[3] روح المعاني (15/ 169)، المطبعة المنيرية.

[4] صفوان بن عسال هو أحد الصحابة الأجلاء، غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اثنى عشرة غزوة، وله -رضي الله عنه- عشرون حديثًا.

الكاتب

الدكتور عبد الرحمن تاج

شيخ الأزهر الأسبق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))