بلاغة التشبيه في القرآن الكريم
بلاغة التشبيه في القرآن الكريم[1]
إنّ فنّ التشبيه هو أحدُ الأركان الأساسية للبلاغة العربية وفصلٌ مهمّ من فصول الإعجاز البياني للقرآن الكريم، ما زال -ولا يزال- موضعَ اهتمام مفكِّري علماء المسلمين الدائبين على معرفة بلاغة القرآن.
والذي نحن بصدده في هذا المقال ليس هو البحث عن أركان التشبيه ومسائله وأحكامه؛ فقد كفانا علماء البلاغة مؤونة البحث عنها في كتبهم؛ بل الذي نهدف إليه هنا إثبات أمرين:
الأول: إنّ التشبيه فنٌّ من فنون التعليم وأسلوب من أساليبِ التفهيم ونقلِ المعاني العلمية والأدبية إلى الآخرين؛ كما يكون وسيلةً لإثبات حقائق نظرية أو تجريبية؛ ولذلك يجب الاهتمام به في نطاق أوسع من نطاق الموضوعات التي كانت تحدّده وتحصره حتى الآن، ومعرفة هذا الأمر مما لا بدّ منه لورود صميم البحث عن بلاغة القرآن.
الثاني: إنّ القرآن استعمل التشبيه لتبيين الحقائق العلمية والعملية والمحسوسة والمعقولة، وجعله وسيلةً لإثباتها وإقامةِ البراهين لها؛ وبالتالي تكون أساليب التشبيه في القرآن خيرَ شاهد على ما ادّعيناه من عموم نطاقه وشموله المجالاتِ العلميةَ والأدبية كافّة:
ونبحث عن هذين الأمرين في قسمين:
القسم الأول: استخدام التشبيه أوّلًا كدليل لإثبات الحقائق، وثانيًا كأداة لإيضاح المعنى المقصود.
القسم الثاني: استعمال التشبيه في القرآن للغرضين المذكورَيْن.
وبعد هذه المقدّمة الوجيزة نبدأ مقالنا بتفصيل القسمين كالآتي:
القسم الأول: استخدام التشبيه لإثبات الحقائق ولتوضيح المعنى:
إنّ دراسة الأغراض التي ذكرها البلاغيون للتشبيه لا تترك مجالًا للشّك في أنّ الغرض الرئيس من هذا الفنّ إمّا إثباتُ الحقائق أو تبيينُ مرادِ المتكلّم وتوضيحُه؛ فإنهم ذكروا من أغراضه:
1. بيان إمكان المشبَّه بإيراد التشبيه كبرهان له؛ كما في قول الشاعر:
فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنت منهم .. فإنَّ المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ
فقد أراد الشاعر أن يُثبت لممدوحه «أنّه فاق الأنام وفاتهم[2] إلى حدٍّ بَطَلَ معه أن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة؛ بل صار كأنه أصلٌ بنفسه وجنسٌ برأسه وهذا أمر غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدعى له حاجة أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح؛ فإذا قال: (فإنّ المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ)، فقد احتجّ لدعواه وأبان أنّ لِما ادّعاه أصلًا في الوجود»[3].
والأغراض الثلاثة الباقية يعود أمرها إلى الإيضاح والتبيين وتفهيم المعنى وتقريبه إلى ذهن السامع أو قلبه بأخصر بيان وأبلغ كلام؛ فإذا قال القائل: «هو كالرّاقم على الماء»[4]، في تقرير حال مَن لا يحصل مِن سعيه على طائل، فقد أخرج المعنى من صورته المعقولة إلى صورة مشابهة لها محسوسة، ووضعه على مسرح الحسّ والعيان، وفي تبيين مقدار حال المشبَّه في قوله تعالى: ﴿الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ [النور: 35]، ينتقل المخاطب والسامع من الوصف بالسماع إلى الرؤية بالأبصار، وهذا غاية في البلاغة والبيان، وكذا يحصل للسامع في بيان حال المشبَّه في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: 104]، من تصوّر حال المشبّه ووضوحه ما لا يخلفه أيُّ تعبير ولا يسُدّ مسَدّه أيُّ بيان.
وقد ذكروا من أغراض التشبيه أيضًا: تزيين المشبَّه أو تشويهه أو استطرافه[5]، ولا يخلو أيٌّ منها من إفادةِ بيانٍ وتوضيح.
فتبيّن بما ذكرنا أنّ أغراض التشبيه كلّها تدور حول محورَيْن أساسَيْن:
الأول: استخدامه كبرهان لإثبات الحقائق.
الثاني: الاستفادة منه كأحسن أداة لنقل المعنى إلى السامعين بحيث يفهمونه في أول ما يُلقى إليهم مقرونًا بالتشبيه.
والتشبيه نظرًا إلى المحور الأول يتلاقى هو والتمثيل في «علم المنطق». بيان ذلك: أن البرهان حسَب تقسيم المنطقيين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: «القياس، والاستقراء، والتمثيل»، ويقصدون بالتمثيل: تشبيه جزئي بجزئي في معنى مشتركٍ بينهما، ليثبت في المشبه الحكم الثابت في المشبه به المعلّل بذلك المعنى؛ وبعبارة أخرى: المقصود به بيان مشاركة جزئي بجزئي آخر في علّة الحُكْم ليثبت فيه ذلك الحكم[6]، كما يقال: «النبيذ حرام لأن الخمر حرام»، وقد ثبتت عِلِّيّة الإسكار للحرمة بدليل الدوران والترديد[7]، فالتمثيل في الحقيقة داخل في إطار التشبيه، كما أنّ التشبيه يمكن أن يعتبر من مقولة التمثيل: والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلقًا، فكلّ تمثيل تشبيه، وبعض التشبيه ليس بتمثيل[8]، ويتميز التمثيل بأن ما يشترك فيه طرفاه يجعل بدليل الدوران والترديد علّة لتعدية الحكم الثابت للمشبه به إلى المشبه؛ فقول الشاعر:
وكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرَى شرفٍ .. كما عَلَت برسولِ الله عدنانُ[9]
قوله هذا يتحوّل إلى تمثيل هكذا: بعض الآباء يعلو بأبنائهم؛ لأنّ عدنان علَتْ برسول الله، وأركانه الأربعة، هي:
1- الأصل أو المشبَّه به، وهو «عدنان».
2- الفرع أو المشبَّه، وهو «بعض الآباء».
3- الوصف المشترك بينهما أو الجامع، وهو «الانتساب إلى الأبناء».
4- النتيجة، وهي الحكم بعلوّ بعض الآباء بأبنائهم.
وتعتمد هذه النتيجة -قوةً وضعفًا- على مستوى صلاحية الوصف لأن يكون علّة للحكم.
إنّ اشتراك المنطقيين والبلاغيين لا ينحصر في مجال التمثيل؛ فهما يتواردان على قسيم التمثيل وهو الاستقراء؛ فإنّ الاستقراء عبارة عن تصفح الجزئيات لإثبات حكمٍ كلّي[10]؛ فالمستقرئ عندما يتصفح جزئيات ما يدخل تحت نوع واحد أو جنس واحد ويصل إلى نتيجة واحدة في غالب الجزئيات أو أغلبها يحكم بثبوتها لجميع الجزئيات، والذي ينتهي به إلى هذا الحكم الكلي في الحقيقة اشتراكها في المعنى الكلي، أو بتعبير آخر مشابهتها في الجنس أو النوع، وهي مشابهة ذكرها علماء البلاغة في أقسام وجه الشبه[11].
المحور الثاني من المحورين الأساسين اللذَيْن يدور حولهما أغراض التشبيه هو الإيضاحُ والتفهيم بأخصر بيان وأبلغ كلام، فنقول: هناك حالتان ترجع إحداهما إلى نفس المعنى خفاءً وغموضًا أو ظهورًا ووضوحًا، والأخرى إلى المخاطب بلادة وغباوةً أو ذكاءً وتوقّدًا.
فإذا كان المعنى واضحًا وظاهرًا وتريد أن تجعله أظهر وأوضح تأتي بتشبيهٍ يوضح ما في ذات المشبه من الغرائز أو خارج ذاته من العوارض والأوصاف؛ فتقول: «هو كالأسد في الشجاعة» و«هذا أبيض كالثلج» و«وجهه كالبدر» وغيرها، وهذا النوع يستعمل في الأغراض المتداولة كما يستعمل في المقاصد العلمية. وإذا كان المعنى غامضًا وخفيًّا وتريد أن تجعله ظاهرًا وواضحًا تأتي بتشبيه لتخرج الخفي والغامض في صورة الجلي والواضح؛ كما في إخراج ما لا يقع عليه الحاسة إلى ما يقع عليه، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ...﴾ [النور: 39]، وكما في إخراج ما لم تجرِ به العادة إلى ما جرت به، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف: 171]، وكما في إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة، نحو قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾ [الرحمن: 24].
وإذا كان المخاطب غبيًّا بليدًا ترعى مقتضى حاله وتأتي بتشبيه بسيط كي يفهم المعنى، وكلّما كان أغبى زدتَ في وضوح التشبيه، وإن كان المخاطب ذكيًّا متوقّدًا وتريد أن تسبر غور فهمه وذكائه أو تثير إعجابه وتحسينه، فتأتي له بتشبيه يحتاج إلى التأوّل الذي يتطلّب تأمّل المخاطب ودقّته وهو ما يسمّى بالتمثيل[12]. ويقول الإمام الجرجاني في البحث عنه ما ملخّصه: «ثم عن ما طريقه التأويل يتفاوت تفاوتًا شديدًا فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه ويعطي المقادة[13] طوعًا حتى أنه يكاد يداخل الضرب الأول [وهو التشبيه الذي لا يحتاج إلى التأوّل] مثل تشبيه الحُجّة بالشمس في إزالة الحجاب، ومنه ما يحتاج فيه إلى شيء من التلطّف وهو أدخل قليلًا في حقيقة التأول وأقوى حالًا في الحاجة إليه، كما في تشبيه ألفاظ الكلام بالعسل في الحلاوة، ومنه ما تقوى فيه الحاجة إلى التأول حتى لا يعرف المقصود من التشبيه فيه ببديهة السماع، كقوله القائل: «هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها»[14].
وصفوة القول في هذا القسم أن التشبيه يستخدم إمّا كبرهان لإثبات المدعي وهو ما يسمى في علم المنطق بالتمثيل، ويمكن أن يسمى في علم البلاغة بالتشبيه البرهاني، وإمّا كأحسن أداة لإيضاح المعنى المقصود وهو ما يمكن أن يسمى بالتشبيه البياني.
وبعد هذا البحث الموجز حول الغرضين الرئيسين للتشبيه آنَ لنا أن ندخل صميم الموضوع، وهو بلاغة التشبيه في القرآن الكريم كما وعدنا أن نبحث عنه في:
القسم الثاني: استعمال التشبيه في القرآن:
أ. أمّا استعماله لإثبات الحقائق، فيجب القول بأنّ هذا النوع مع ما له من الأهمية في البحث عن الأساليب البيانية في كلام الله سبحانه، لم يحظَ بعناية من علماء البلاغة، ولم يعيروه اهتمامًا أو أغفلوا عنه، فهذا العالم الفاضل البارع ابن ناقيا البغدادي قد ألَّف كتاب «الجمان في تشبيهات القرآن» ولم يذكر شيئًا من تشبيهاته البرهانية.
ولعلّ السبب الذي حمل ابن ناقيا ومَن حذا حذوه أن يترك هذا النوع هو أن البحث عن بلاغة القرآن وإعجازه البياني يستلزم المقايسة والمقارنة، وبالتالي تنزيه كلام الله تعالى عن أن يكون له نظير أو شبيه من كلام البشر، وما يوجد في كلام فصحاء العرب وشعرائهم إنما يكون غالبًا من نوع التشبيه البياني؛ ولذلك صرف البلاغيون جُلّ اهتمامهم إلى الكشف عن بدائع التشبيهات البيانية دون البرهانية منها.
ومهما يكن من أمرِ هؤلاء العلماء وتركهم التشبيهات البرهانية فقد وقع في رُوعي أن أفكّر فيها وأبحث عنها وأفتح طريقًا جديدًا أمام المُلمّين بتشبيهات التنزيل العزيز.
ولا يُمكنني في هذا المقال أن أفصّل القول فيها؛ ولذلك أحاول أن أعرض على القارئ الكريم نماذج منها في الموضوعات المختلفة كالآتي:
1- إثبات توحيد الله سبحانه بالتشبيه البرهاني:
من الواضح أن إثبات التوحيد بالتشبيه البرهاني لا يتأتى إلا في القضية السالبة لا الموجبة؛ لأنه تعالى بالبرهان العقلي وبالدليل النقلي كما في قوله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] =تنزّه عن أن يكون له مثل أو نظير، فكيف يمكن إثبات وحدانيته بالقياس إلى غيره قياسًا إيجابيًّا. أمّا إثبات توحيده بالتشبيه البرهاني وفي قضية سالبة تقرن بدليل ينفي المشابهة والمماثلة بين الله وغيره فهذا أمر ممكن؛ ومما جاء في كلام الله تعالى قوله: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ [النحل: 17]، فقد نفى اللهُ حكمَ المساواة والمماثلة بين طرفي التشبيه المفروض وقرن به العلّة وهي تضاد الطرفين في أنّ المشبه المفروض قادر على الخلق والمشبه به المفروض غير قادر عليه؛ فينتفي بذلك المشابهة[15]، فعلى هذا لا نحتاج إلى تكلّف حملِ التشبيه في الآية الكريمة على التشبيه المقلوب حسَب زعم المخاطبين بالآية، وهم المشركون[16]؛ لأنّ الكلام ليس في مقام ترجيح أحد طرفي التشبيه، بل في مقام افتراض تسوية المخلوق بالخالق والأصنام والأوثان برب العالمين ونفيها بالاستفهام الإنكاري.
ويعضد ما بينّاه من معنى التشبيه في الآية قوله تعالى في سورة أخرى: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ [الرعد: 16]، فقد بيّن الله تعالى أن ما يمكن أن يُجعل عِلّة لاتخاذ شريك له في العبادة هو القدرة على الخلق، وهي منتفية من المخلوق بالوجدان والبداهة، وهذه العِلّة هي نفس ما يُشعِر به قوله: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ﴾ وقوله بعد آية: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [النحل: 20]، وكذلك يُقوّي ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عن المشركين مخاطِبين آلهتهم: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 97- 98].
2- إثبات المعاد بالتشبيه البرهاني:
أ) قَيسُ العود بالبدء؛ كما في قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: 29]؛ فيؤول الكلام إلى: «عودكم ممكن ومحقّق في المستقبل؛ لأن خلقكم أول مرة كان جائزًا وقد تحقّق»، فقد شبَّه العَود بالبدء في الحكم بجوازه وإمكانه بسبب أمر مشترك بينهما، وهو استغراب الوجود في البدء والعود أو لا وإزالته بالتعقل والتفكر في قدرة الله التي بها يزول كلّ استغراب وإليها ينتهي أمر كلِّ خَلْق.
وجاء في القرآن آيٌ أخرى قد قِيس فيها أمرُ العَود بالبدء بالتشبيه البرهاني؛ منها قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: 104]، وغيرها[17].
ب) قياس إحياء الموتى بإحياء الأرض؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ [الأعراف: 57]، والتشبيه البرهاني أو التمثيل المنطقي في هذه الآية هو: «إحياء الموتى ممكن ومحقّق، والجامع بينهما هو الاستغراب المرتفع بالتأمّل في قدرة الله تعالى».
ومن الآية التي يستنبط منها هذا البرهان قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الروم: 19]، وآيات أخرى[18].
3- إثبات قدرة الله تعالى بالتشبيه البرهاني:
وقد هدى اللهُ سبحانه العباد على قدرته بإيراد التشبيه البرهاني، كما في قوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام: 133]؛ فقد قِيست قدرتُه على إذهاب المخاطبين واستخلافِ ما يشاء من الخَلْق بعدهم، قيست قدرته تلك بإنشائهم من ذرية قوم آخرين.
ومن هذا القسم الأول قوله تعالى: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ [يوسف: 6]، وآيات أخرى[19].
والتشبيهات البرهانية هذه ليست بقليلة في القرآن الكريم، ولا يسعنا في هذا المجال استيعاب جميعها، فنكتفي بالنماذج المذكورة وندع تفصيلها لفرصة أخرى.
ب. التشبيهات البيانية في القرآن الكريم:
ورد في التنزيل تشبيهات لا في مقام الاستدلال على وجود شيء أو إثبات حكم لموضوع؛ بل في مقام التوضيح والتبيين اللذَيْن لا ينحصران في الحالات المعدودة التي ذكرت في كتب البلاغة؛ بل يشملانها وغيرها مما وجدت إلى بعضه سبيلًا؛ منه:
1. تقريب المعنى إلى نفس المخاطب وتصويره في خياله، وذلك في مقام وصف نعيم الآخرة أو عذابها وما أُعد فيها للمطيعين وأصحاب الجنة أو العاصين وأصحاب النار؛ فبما أن أنواع النعمة أو العذاب في الآخرة لا تكون من جنس نعيم الدنيا أو عذابها، فلا يمكن تشبيهه إحداهما بالأخرى إلا على سبيل التقريب؛ كوصف الحور والغلمان والأكواب والآنية وغيرها[20].
2. التسوية بين الشيئين المماثلين في الحكم أو الأثر[21].
3. المكافأة والمجازاة.
ولا يفيد هذا المعنى من أدوات التشبيه إلا «الكاف» نحو قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]، وقوله سبحانه: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [القصص: 77]، وقوله -عز وجل-: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف: 51][22].
هذه هي بعض ما استطعت أن أجد إليه سبيلًا من الأغراض البيانية المصوغ لها بعض التشبيهات القرآنية، ولعلّنا إذا أنعمنا النظر في كلام الله سبحانه نستطيع أن نكشف النقاب عن بعضها الآخر.
وكما أشرنا سابقًا لم يهتمَّ علماءُ البلاغة في بحثهم عن تشبيهات القرآن إلا بالتشبيهات البيانية، سواء في بحوثهم العامة عن البلاغة، أو فيما خصوه ببلاغة القرآن وتشبيهاته؛ وممن خصص كتابًا بها ابن ناقيا البغدادي الذي سبق ذكره وذكر كتابه (الجمان في تشبيهات القرآن).
ويمتاز هذ الكتاب باستخدام الأسلوب النقدي في عرض بلاغة أكثر التشبيهات؛ أعني أنه أولًا يعرض تشبيهه الآية وبراعتها وبهاءها وما استطاع أن يستنبط من محسِّناتها ثم يتبعه بإيراد تشبيهات من نفس التشبيه في أشعار العرب، ويذكر أحيانًا محاسنها وما يؤخذ عليها، وبالتالي يصل القارئ نتيجة هذا العرض والإيراد إلى أنه لا يمكن قياسها بتشبيهات القرآن، ويتبين له أن ما في القرآن فريد في نوعه لا يدركه بُعد الهمم ولا يناله غَوص الفطن.
وربما يصرّح بهذه النتيجة المفهومة والمستنبطة من أسلوبه النقدي، فهو مثلًا بعد ذكره تشبيه الآية: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74]، ونَقْله أبياتًا من شعراء العرب وقع فيها هذا التشبيه، يقول: «ومعنى التشبيه بعد أتم وأوفى وأعلى بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾»[23]. وكذلك بعد نقل تشبيه الآية الكريمة: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ [الصافات: 48- 49]، وذكر شعر عديّ بن زيد العبادي المتضمن لنفس التشبيه[24] =بعد ذلك كلّه يقول: «...إلا أنه لم يوصف البيض في هذا الباب بأحسن ولا أجمع لمعاني الوصف مما نطق به التنزيل؛ فإن لفظة ﴿مَكْنُونٌ﴾ متضمنة معنى السلامة والخلوص من جميع العوارض التي تتنقص رونقه وتشين بياضه وتكسف بهاءه...»[25]. ويزيد تأكيدًا لما بيّنه من محاسن كلام الله: «وعلى إكثار الشعراء من تشبيه النساء ووصفه بما يدلّ على حال المشبه به فما أتوا ببلاغة تشبيه القرآن ولا قدروا على نقل لفظه [المكنون] من هذا المكان وقد أطالوا وأقصروا وأوردوا وأصدروا»[26]. وينقل جملة من أشعار الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين في مثل ذلك التشبيه، وبينها وبين التشبيه في كلام الله بَون لا يُتصوَّر مداه، وغور لا يُدرَك منتهاه.
فابن ناقيا يُعَدّ بحقّ أوّل من فتح الطريق أمام مَن يريد دراسة بلاغة القرآن بالنقد والتحقيق، وكتابه «الجمان» يُعَدّ من أهم مصادر تشبيهات القرآن، وندع البحث عن محاسنه وما يؤخذ عليه لوقت آخر إن شاء الله تعالى؛ وهو الموفق للسداد، ونرجو في جميع أمورنا منه الرشاد.
[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (التراث العربي بدمشق)، السنة الرابعة عشرة، العدد 54، 1414هـ/ 1994م. (موقع تفسير).
[2] فات فلانًا في كذا: سبقه، راجع: المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وزملاؤه، دار المعارف، مصر، 1392هـ، باب الفاء.
[3] أسرار البلاغة، الإمام عبد القاهر الجرجاني، تصحيح السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة، لبنان، 1398هـ، ص103.
[4] شرح المختصر، سعد الدين التفتازاني، مع تعليقات عبد المتعال الصعيدي، المكتبة المحمودية، مصر (3/ 3).
[5] شرح المختصر (3/ 36، 37).
[6] حاشية ملا عبد الله بن شهاب الدين اليزدي على «تهذيب المنطق والكلام»، مسعود بن عمر التفتازاني، إيران، طبعة حجر، ص143.
[7] الدوران: هو ترتب الحكم على الوصف الذي له صلاحية العلية وجودًا وعدمًا؛ كترتب الحرمة في الخمر على الإسكار. والدوران علامة كون المدار -أعني الوصف- علّة للدائر -أعني الحكم-.
والترديد، ويسمّى بالسبر والتقسيم أيضًا، هو أن يتفحّص أولًا أوصاف الأصل، وترِد علة الحكم على هذه الصفة أو تلك ثم يبطل ثانيًا عليته حتى يستقر على وصف واحد. راجع: حاشية ملّا عبد الله بن شهاب الدين اليزدي على «تهذيب المنطق والكلام»، ص144.
[8] ولا يشتبه علينا التمثيلان: التمثيل في المنطق وهو ما بينّا تعريفه هنا ويكون قسمًا من أقسام البرهان الثلاثة، والتمثيل في البلاغة وهو ما نبحث عنه قريبًا في الكلام على التشبيه البياني، ونسبة هذا الأخير إلى التشبيه أيضًا عموم وخصوص مطلقًا. راجع: أسرار البلاغة، ص75.
[9] البيت لابن الرومي من قصيدة يمدح بها إسماعيل بن بلبل، راجع: ديوان ابن الرومي، شرح عبد الأمير عليّ مهنّا، دار مكتبة الهلال، 1411ه (6/ 179).
[10] حاشية ملا عبد الله علي «تهذيب المنطق والكلام»، ص39- 40.
[11] شرح المختصر (2/ 17- 18). ومفتاح العلوم، يوسف بن أبي بكر السكاكي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي- مصر، 1356هـ، ص158. والجمان في تشبيهات القرآن، ابن ناقيا البغدادي، تحقيق الدكتور/ أحمد مطلوب والدكتورة/ خديجة الحديثي، دار الجمهورية- بغداد، 1387هـ، ص43.
[12] والتمثيل عند الجمهور هو: ما يكون وجهه وصفًا منتزعًا من متعدّد سواءٌ كان الوصف حسيًّا أم عقليًّا أو اعتباريًّا وهميًّا. وعند الجرجاني هو: ما يكون وجهه وصفًا غير حسي منتزعًا من متعدّد. وعند السكاكي هو: ما يكون وجهه وصفًا غير حقيقي (أي غير متحقق حسًّا ولا عقلًا) منتزعًا من متعدّد. راجع: حاشية الدسوقي على شرح المختصر، إستنبول (2/ 395- 396).
[13] أعطاه مقادته: انقاد له، راجع: لسان العرب، محمد بن مكرم، ج3، الدار المصرية للتأليف والترجمة- القاهرة، حرف الدال، فصل القاف.
[14] أسرار البلاغة، ص72- 74.
[15] راجع: الكشاف عن حقائق التنزيل، محمد بن عمر الزمخشري، منشورات مكتبة آفتاب، طهران (2/ 405). ومجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو عليّ الطبرسي، شركة المعارف الإسلامية، طهران، 1379هـ (6/ 354). والميزان في تفسير القرآن، العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1396هـ (12/ 232).
[16] راجع: إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد للشؤون الجامعية، حمص، سورية 1408هـ (5/ 280- 282).
[17] سورة الأنعام: آية 94، والكهف: آية 48.
[18] سورة الفاطر: آية 9، والزخرف: آية 11، و(ق): آية 11.
[19] سورة آل عمران: آية 40، 47. وسورة النساء: آية 163 وغيرها.
[20] نحو قوله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ سورة الطور: آية 24، وأيضًا سورة الصافات: آية 65، والرحمن: آية 58، والواقعة: آية 23، والإنسان: آية 15، 19.
[21] نحو قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ سورة السجدة: آية 18، وأيضًا القصص: آية 19، والمجادلة: آية 18. وآيات أخرى.
[22] وأيضًا: سورة التوبة: آية 36، وهود: آية 38، و(طه): آية 126.
[23] الجمان، ص41- 50.
[24] وهو قوله: «كدمي العاج في المحاريب أو كالـ .. بيض في الروض زهوه مستنير»، راجع: الجمان، هامش: ص242.
[25] الجمان، ص243.
[26] الجمان، ص243.