كتاب (النصّ القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر) تأليف: د/ قطب الريسوني
عرض وتقويم

الكاتب : مونعيم مزغاب
قصد كتاب (النصّ القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر) للدكتور/ قطب الريسوني إلى تأسيس منهج تدبّري للقرآن الكريم يستقي ‏ركائزه مما أسّسه علماء السَّلف، مع دعوته للاستفادة ‏من المناهج الحديثة، وهذه المقالة تعرِّف بالكتاب، وتعرض لمحتوياته، مع طرح بعض الملاحظات حوله.

تمهيد:

  إنَّ المتتبّع للدّرس التفسيري المعاصر، وللقراءات الحديثة للنصّ القرآني، لا يسعه إلا أن يلحظ الاضطراب الواسع في التعامل مع كلام ربّ العالمين، وما ينتج عنه من فتنة عند عوام المسلمين، بل قد يتعدّاه إلى بعض المتخصّصين ممن لم ينتبهوا إلى خطورة بعض المناهج المعتمدة في استنباط الدلالات القرآنية وتوجيهها.

وإن كانت ثلّة من أهل العلم قد انبرت لردّ جملة من الشبهات الناتجة عن اعتماد مناهج غير سليمة، فإنّ الدكتور/ قطب الريسوني[1] ألَّف كتابًا -فاز بجائزة محمد السادس للدراسات الإسلامية سنة 2010م- وسمه بـ(النصّ القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبّر؛ مدخل إلى نقد القراءات وتأصيل علم التدبّر القرآني)، يتجاوز الردّ على الشبهات المنفردة إلى تأسيس منهج تدبّري[2] سليم للقرآن الكريم يستقي ركائزه مما أثله علماء السَّلَف من قواعد وضوابط في أصول التفسير، مع دعوته للاستفادة من المناهج الحديثة والاستثمار الجيد للفكر الإنساني دون الوقوع في تبنّي نماذج تأويلية غارقة في مجافاة طبيعة النصّ القرآني باعتباره نصًّا إلهيًّا مقدّسًا لا كلامًا بشريًّا عاديًّا.

بيانات الكتاب:

عنوان الكتاب: (النصّ القرآني من تهافت القراءة إلى أُفُق التدبّر؛ مدخل إلى نقد القراءات وتأصيل علم التدبّر القرآني) للدكتور/ قطب الريسوني. وهو من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، وطُبع بالرباط الطبعة الأولى سنة 2010م - 1431هـ، وجاء في 581 صفحة من الحجم المتوسّط.

هدف الكتاب:

لقد نَصّ الكاتبُ على بواعثه من التأليف وهدفه منه وحدّدها في أربعة، أنقلها من مقدّمة الكتاب بتصرّف كما يأتي[3]:

أ-بيان جهود علماء الأمة في حياطة التفسير بالنظر الصحيح، والتدبّر بقواعدهم، والارتياض بأساليبهم، تحصيلًا للدّربة، والمرن، والملكة التفسيرية.

ب-تقويم جهود المفسِّرين في خدمة النصّ القرآني على نحو يميط اللثام عن ثغرات النَّظَر ومزالق الفهم.

ج-تعقّب المشروع الحداثي في قراءة النصّ القرآني، وتتبّع أباطيله التي أغرت بالتهجّم على الوحي، وإصغار أمره، وإيثار غيره بالتجلّة والإكبار.

د-صياغة منهج محكَم لتفسير النصّ القرآني يصلح أن يكون فاتحةً لعلم التدبّر.

منهج الكتاب:

لقد حدّد الدكتور/ قطب الريسوني منهجَه العلمي المعتمد في مؤلَّفه، وجعله مرتكزًا على خمس ركائز، وذكرها مبينًا جدواها ووظيفتها كما يأتي[4]:

أ-الاستقراء: وذكر المؤلّف أنه أفاد منه في تتبّع الموضوعات ذات الصلة بعنوان البحث وهو ذو شقّين؛ أولهما: نقد القراءات المعاصرة للنصّ الديني. والثاني: كمنهج علم التدبّر القرآني. كما كان المنهج الاستقرائي خيارًا أثيرًا في تتبّع الشبهات والتخرّصات وتعقّب أصحابها بالدليل الناهض والحجّة الملزمة.

ب-التأصيل: توسّل به الدكتور الريسوني في وضع قواعد التدبّر الأمثل للقرآن الكريم وصياغة نظرية تأويلية إسلامية قادرة على مقارعة البدائل المنهجية الغربية وصدّ غارتها على النصّ القرآني، مع الترحيب بالجديد النافع الذي يحفظ للقداسة صبغتها، وينزل الوحي منزلته المنيفة.

ج-النقد: وهو منهج استعان به الكاتب باعتباره عنصرًا مكينًا في المنظومة المنهجية للبحث لا يأتي وزن الآراء وسدّ الثغرات إلا به، وقد وظّفه في تعقّب القراءات المعاصرة للنصّ القرآني وبيان عوارها في ضوء الأدلة العلمية والمعايير المنهجية والمنطقية.

د-الموازنة: وقد انتفع المصنّف بها في تبيّن المحاسن والآفات، وتجلية الفروق بين المختلفات أو المتشابهات في الصورة دون المخبر، كما أعملها في مجال التمييز بين هدي السّلَف في تفسير النصّ القرآني، ومنهج القراءات المعاصر، واحتكم إليها في استجلاء الفروق بين مناهج القراءة المعاصرة في الإجراء والمآل.

هـ-التوثيق: وهو منهج ثابت في الدراسات الأكاديمية، ويظهر عند العزو إلى المصادر، وتوثيق الآي، وتخريج الأحاديث، وبيان رُتبتها إذا رُويت في غير الصحيحين.

أولًا: محتويات الكتاب ومضامينه:

استوى البحث في صورته النهائية موزّعًا على مقدّمة مركّزة، وأربعة فصول، وخاتمة جامعة، وذلك كالآتي:

اعتنت المقدّمة بالكشف عن بواعث التأليف، ومكمن الجدة فيه، وبيان خطّة البحث ومنهجه المختار في حقل الدرس والتقويم.

ووسم الفصل الأول بعنوان: ضوابط تفسير النصّ القرآني عند علماء المسلمين؛ نحو نموذج للمفسِّر الأمثل. وتحته ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في بيان ضوابط التأهيلوالمبحث الثاني: في بيان ضوابط التأويلوالمبحث الثالث: في بيان ضوابط الفهم والتنزيل.

وعنونَ الفصل الثاني بـ: مزالق المفسِّرين القدامى والمحدثين؛ رؤية نقدية. وتحته ثمانية مباحث؛ المبحث الأول: تسلُّط العقل على النصّوالثاني: التعصب المذهبيوالثالث: الاستغناء باللغة عن الرواية والسماعوالرابع: الأخذ بالأحاديث الضعيفة والموضوعةوالخامس: الأخذ بالإسرائيلياتوالسادس: الأخذ بالأقوال التفسيرية الشاذةوالسابع: الغلوّ في التفسير الإشاري. والثامن: التكلّف في التفسير العلمي.

وخصّص الفصل الثالث للإجابة عن سؤال القراءات المعاصرة للنصّ القرآني؛ تأويل أم تبديل؟ وتحته ثمانية مباحث؛ المبحث الأول: القراءة التاريخية؛ محمد أركون أنموذجًا. والثاني: القراءة الهرمنيوطيقية؛ نصر حامد أبو زيد أنموذجًا. والثالث: القراءة اللغوية التشطيرية؛ محمد شحرور أنموذجًا. والرابع: القراءة النسوية للنصّ القرآني؛ آمنة ودود أنموذجًا. والخامس: روافد القراءة المعاصرة للنصّ القرآني. والسادس: أسباب تهافت القراءة المعاصرة للنصّ القرآني. والسابع: مقاصد القراءة المعاصرة للنصّ القرآني. والثامن: موازنات واستنتاجات.

وجاء الفصل الرابع ليعالج: ضوابط القراءة الراشدة للنصّ القرآني؛ مدخل إلى علم التدبّر. وتحته ثلاثة مباحث؛ المبحث الأول: آداب القراءة الراشدة للنصّ القرآني. والثاني: قواعد القراءة الراشدة للنصّ القرآني. والثالث: خوارم القراءة الراشدة للنصّ القرآني.

وأودع الخاتمة ثماني خلاصات جامعة حول واقع القراءات المعاصرة للنصّ القرآني، وآفاق التدبّر القرآني المنشود.

وألحق بالكتاب خمسة ملاحق مفيدة متعلّقة بالموضوع، وهي:

1- مصطلحات القراءة المعاصرة للقرآن الكريم (مشروع معجم).

2- مسرد مصادر القراءة المعاصرة للقرآن الكريم.

3- مسرد الردود على القراءة المعاصرة للقرآن الكريم.

4- فتوى مجمع الفقه الإسلامي بجدّة حول القراءة المعاصرة للقرآن الكريم.

5- الكلمة الختامية لمؤتمر (العودة إلى القرآن الكريم)، حول القراءة المعاصرة للقرآن الكريم.

وأنهى العمل بفهرس للمصادر والمراجع، وفهرس تفصيلي لموضوعات الكتاب شغل أزيَد من عشرين صفحة.

ثانيًا: كتاب النصّ القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر؛ نقد وتقويم:

أ) مميزات الكتاب:

لا شكّ أنّ اقتحام الكتابة في منهج التعامل مع النصّ القرآني وقواعده يتطلّب شجاعة عِلْمية مُبصرة وخبرة منهجية محكمة، والكتاب الذي بين أيدينا يشكّل عنوانًا للإقدام العلمي ولسعة الاطلاع، ومن خلال استكشاف طريقة المصنِّف في التأليف وأسلوبه في صياغة الأفكار وترتيبها والربط بينها، يمكن تحديد مزاياه المنهجية ومميزاته الموضوعية والمعرفية كما يأتي:

- التماسك المنهجي:

يظهر التماسك المنهجي في بناء الكتاب جليًّا من خلال حُسْن ترتيب أفكار الكتاب، وتهيئة كلّ فكرة لما يأتي بعدها في تلاؤم وتناسق بديعين بين المطالب والمباحث والفصول، فيستوقف القارئَ التفاعلُ الإيجابيُّ بين الأفكار والتدرج المتّئد دون استعجال أو ارتجال.

كما يتجلّى أيضًا في العُدّة المنهجية الموظّفة انطلاقًا من الاستقراء والتأصيل العلمي المؤسِّس لقواعد التدبّر مرورًا بالنقد الموضوعي وصولًا إلى الموازنة بين الأقوال وبيان الفروق بينها.

ذلك التماسك والتناسق المنهجي مكّنه من البناء المتراصّ والتسلسل المنطقي الموصل إلى خلاصات علمية في كلّ فصل، وإلى نتائج غنية معرفيًّا ومحكمة منهجيًّا في آخر الكتاب.

- صياغة القواعد المساعدة على القراءة الراشدة للقرآن الكريم:

لم يكن لهذا العمل أن يصل إلى ما وصل إليه من إتقان مكّنه أن ينافس على جائزة محمد السادس للدراسات الإسلامية سنة 2010م ويفوز بها لولا ما تميّز به صاحبه من قدرة على التقعيد، خاصّة ما يتعلّق بصياغة قواعد مقاصدية وأخرى سياقية ناظمة للقراءة الراشدة المساعدة على التدبّر السليم للنصّ القرآني، وقد كان الكاتب موفّقًا إلى حدّ بعيد في ذلك، فتجده في كثير من المواضع يبني رأيه بناءً علميًّا حجاجيًّا متينًا، فيجمع أطراف الحديث في شكلِ قاعدة ملخّصة لجملة من الاستدلالات والنقاشات، ومن نماذج تلك القواعد قوله: «...ومن هنا نخلص إلى صياغة القاعدة المقاصدية الآتية: كلُّ تأويل صادَمَ مقصدًا من مقاصد الشريعة فهو مردود»[5]، وقوله: «ومن هنا نخلص إلى صياغة القاعدة السياقية الآتية: إذا تزاحمت التأويلات في مورد التعارض قُدّم الأقرب إلى سياق المقام أو الحال على غيره»[6]، و«إذا تزاحمت وجوه التأويل في مورد التعارض قُدّم الأقرب إلى السياق النصّي المقام على غيره»[7]، وغير ذلك من القواعد الجامعة[8].

بل إنه فصّل القول في جملة من القواعد المنهجية للقراءة القرآنية الراشدة وبيّن مسالك تنزيلها خاصّة في المبحث الثاني من الفصل الرابع، ومن جملتها: قاعدة تحقيق المفردة القرآنية[9]، وقاعدة السياق القرآني[10]، وقاعدة التأويل القرآني[11]، وقاعدة الترجيح[12]، وقاعدة النظر الشمولي[13]، وقاعدة النظر المقاصدي[14].

ولن نجافي الصواب إن قلنا إنه كتاب خالص في قواعد تدبّر القرآن الكريم.

- صياغة منهجية بديلة للتدبّر القرآني تدافع البدائل المنهجية المتهافتة:

لقد تمكّن الباحث بامتياز من الكشف عن تهافت مجموعة من القراءات المعاصرة ومزالق كثير من المفسِّرين القدامى والمحدثين، وانتقدها بمنهجية علمية محكَمة، وأسّس على أنقاضها ما يمكن اعتباره نظرية في التدبّر الراشد للقرآن الكريم، منطلقة من ضوابط وآداب، ومرتكزة على قواعد ومقاصد، منبهًا إلى خوارم القراءة الراشدة الواجب تجنّبها، مشيرًا إلى مؤهّلات المفسِّر الواجب امتلاكها أخلاقيًّا وعلميًّا ومنهجيًّا ليكون قادرًا على الفهم الصحيح والتنزيل السليم لآي القرآن الكريم.

وهذه الميزة البارزة في ثنايا الكتاب عبّر عنها عنوانه الفرعي بشكلٍ واضح: «مدخل إلى نقد القراءات (المتهافتة) وتأصيل علم التدبّر القرآني».

- غِنَى المسلك التطبيقي في الدراسة:

بعيدًا عن النمط التنظيري المغرِق في التجريد، نُلْفِي الكاتب يربط كلّ فكرة نظرية وملاحظة منهجية بأمثلة دالّة وواضحة مستقاة من المكتوبات التفسيرية سواء عند القدامى أو المحدثين.

وإن كان هذا المسلك التطبيقي قد شمل كلّ فصول الكتاب ومباحثه إلّا أنه كان أكثر بروزًا في الفصل الثاني؛ حيث خصّص للشواهد التطبيقية مطالب خاصّة، منها: الشواهد التطبيقية على تسلّط العقل على النصّ[15]، والشواهد التطبيقية على التعصب المذهبي[16]، والشواهد التطبيقية على الاستغناء باللغة[17]، والشواهد التطبيقية على الأخذ بالأحاديث الضعيفة والموضوعة[18]، والشواهد التطبيقية على الأخذ بالإسرائيليات، والشواهد التطبيقية على الأخذ بالأقوال التفسيرية الشاذة[19]...وغيرها.

- حُسْن التوثيق والتزام الأمانة العلمية في العزو إلى المصادر والمراجع:

إنّ خوض غمار مشروع علميّ وازن يتغيَّا التقعيد لعلم التدبّر القرآني الراشد جعل الكاتب يتسلّح بالتوثيق العلمي المحكم بضوابطه الأكاديمية المتعارف عليها، وقد كان ذلك ركيزة رئيسة بها اكتمل العمل وبلغ غايته، وأسهم في إثراء البحث، وكان عنوانًا لمدى مجهود الباحث، ومدى اطّلاعه، ومستوى إلمامه بموضوع البحث وقدرته على الاستمداد من المظانّ العلمية قديمها وحديثها، وأمانته في العزو السليم إلى المصادر والمراجع المعتمدة والتي بلغت أزيَد من ثمانية ومائة مصدر ومرجع من مختلف الفنون.

ب) ملاحظات على الكتاب:

لا شكّ أن ما سبق ذِكْره من مميزات الكتاب المنهجية وإيجابياته المعرفية لا يحول دون تسجيل بعض التنبيهات العامّة التي لا تخدش في جودة الكتاب ولا تُنقص من قيمة الإنتاج العلمي الذي بين أيدينا، ومن باب تجويد الجيّد يمكن أن أهدي للكاتب بعض الملاحظات التي لاحتْ لي من خلال تصفّحي للكتاب وإمعان النظر في منهجه وأسلوبه، وسأسجّلها ضمن ملاحظتين كليّتين تندرج ضمنهما جملة من الجزئيات.

أولًا: ملاحظات حول ضوابط التحصيل العلمي التي لا يستغني عنها المفسِّر:

- بيّن الكاتب ضمن حديثه عن «ضوابط التحصيل العلمي التي لا يستغني عنها المفسر» أنّ التأهيل الاجتهادي للمفسِّر ينطلق من امتلاك جملة من الأدوات المعرفية، أوصلها إلى عشرٍ، وذكرَ منها علوم اللغة العربية التي فرّعها إلى ثلاثة: علم اللغة، وعلم النحو، وعلوم البلاغة، وأفرد بالذِّكر أيضًا (معرفة الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في التفسير)، وجعله علمًا مستقلًّا، واتّكأ في ذلك على ذِكْرِ ابن عطية لهذا الفنّ في تفسيره، ولكني أرى أنّ هذه مسألة جزئية من قضايا اللغة العربية فكان يجمُل بالكاتب إدراجها ضمن مبحث (المعرفة باللغة العربية) فهي مندرجة ضمن علوم البلاغة، وإلّا فإنّ إفرادها بالذِّكْرِ إيهام أنها علم مستقلّ بذاته، وهي ليست كذلك.

- وحين حديثه عن تلكم المؤهلات العلمية للمفسِّر ذكر (العلوم النظرية البحتة)[20] وما تساعد عليه من استجلاء الأبعاد الجديدة في الآيات وتوسيع مدلولاتها، لكنه أدرج الحديث عن (التصوّف) في هذا الباب، وكان حريًّا به أن يفرد له مبحثًا خاصًّا لمدارسته والإجابة عن سؤال: هل التصوّف علم ضروري يندرج ضمن المؤهّلات الواجب تمكّن المفسِّر منها -كما ينصّ على ذلك ابن جزي رحمه الله- أم لا؟ ذلك أن التصوّف ليس من العلوم النظرية البحتة.

- بالإضافة إلى هذا، فإنه أغفل ذكر (علم المنطق) ضمن تلك العلوم الواجب تحصيلها، فسبق إلى ظني أنه على مذهب جمعٍ من العلماء يرون أن لا طائل منه في تفسير النصوص، لكنّي قد وجدته أشار إليه في سياق آخر، حيث قال إنّ «حركة الذِّهن أو العقل في اتجاه تفجير النصّ القرآني، وتوليد دلالته المتفوّقة زمانًا ومكانًا، لا تستغني عن رفد علوم الدراية؛ كعلم أصول الفقه وعلم المقاصد فإنها ميزان للفهم... بل إنّ الحاجة قد تمسّ إلى علوم الحكمة والمنطق»[21].

ثانيًا: ملاحظات على بعض النماذج التطبيقية في الكتاب:

لقد كان الكاتب موفّقًا إلى حدّ بعيد في استدعائه لنماذج من النصوص التفسيرية التي يعزّز بها ما يأتي به من قضايا نظرية ومقاربات معرفية، غير أنه لم يكن كذلك في بعضها ممّا لاح لي، ومن ذلك:

في سياق مدارسته لمزالق المفسِّرين، وحين استعراضه نماذج تطبيقية من التعصب المذهبي في الفقه[22] قدّم مثالًا لتعصّب ابن العربي المعافري لمذهبه المالكي في صيام الستّ من شوّال، وهو مثال قد يكون واضحًا من حيث المقاربة الفقهية، لكنه غير مناسب في سياق المقاربة التفسيرية؛ ذلك أنّ الكاتب لم يذكر الآية القرآنية التي فسّرها ابن العربي واستقوى بها تعصبًا لمذهبه، ولم يبيّن وجه التعصّب في تفسيره، فكان بالإمكان أن يختار آية أخرى يظهر في تفسيرها التعصّب المذهبي للمفسِّر، أمّا مسألة صيام الست من شوّال فدليلُها -عند من عدّها سُنّة وعند من اعتبرها مكروهة- من السنّة لا من القرآن.

وعلى ذات المنوال، وفي فقرة التعصّب المذهبي في العقيدة[23] أنكر على المعتزلة مذهبهم في مصير الفاسق إِذْ قالوا بخلوده في النار، وأشار إلى كشاف الزمخشري، دون أن يُورد الآية التي انطلق منها، ليظهر التفسير الصحيح لها ووجه الخطأ في تأويل المعتزلة، واكتفى بإيراد حديث نبوي وتعليق ابن حجر عليه؛ وما دام البحث في التفسير القرآني فقد كان من باب أَوْلى توجيه النقاش نحو تفسير الآيات وعقد المقارنة بين تفسير أهل السنّة والجماعة وتفسير المعتزلة، وبيان قوة الحجّة التفسيرية أو ضعفها وعلاقة ذلك بالتعصب العقدي.

هذه الملاحظة لا تمنعنا من الاعتراف أن الدكتور الريسوني قد كان موفّقًا حين تفادى تغييب القول التفسيري في خضم حديثه عن (التعصّب المذهبي في السياسة)، حيث ناقش تفسير الشيعة المتهافت لقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}[النحل: 68]؛ إِذْ قالوا إنّ النحل هم الأئمة، فقد رَووا عن أبي عبيد الله قال: نحن النَّحْل التي أوحى الله إليها: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة، {وَمِنَ الشَّجَرِ} يقول من العجم، {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يقول: الوالي[24].

خاتمة:

قدّمتُ في هذه المقالة عرضًا وتقويمًا لكتاب: (النصّ القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبّر؛ مدخل إلى نقد القراءات وتأصيل علم التدبر القرآني)، للدكتور/ قطب الريسوني، وهو كتاب مميّز أثرَى المكتبة العلمية في أصول التفسير وقواعده، وجهدُ المؤلِّف فيه لا تخطئه العين، وإنه من المفيد أن يجعل طلبة العلم نسخة من هذا الكتاب في مكتباتهم الخاصّة باعتباره مرجعًا في طريقة تأليفه وفي موضوعه الذي قعد لمنهج التدبّر الراشد للقرآن الكريم، وقد جال صاحبه بين جملة من القضايا الشائكة في مجال القراءة التفسيرية والتأويلية للذِّكر الحكيم.

وأودّ التنبيه على مسألة غاية في الأهمية سبق أن نبّه إليها الأستاذ محمد مصطفى عبد المجيد حين قال: «إنَّ حصر مفهوم التدبّر في استخراج الفوائد القرآنية واللطائف الخفية هو في الحقيقة أسْرٌ يحرم المتدبِّر من آفاقٍ واسعة من ثمرات جنةِ التدبُّر الغَنَّاء، فينبغي للمتدبّر أن يُحَرِّر تصوُّره من هذا الأَسْر، وأن يحيا تدبُّر القرآن في معناه الصافي النّقي الذي يراه في صفات مَن أثنى الله عليهم في كتابه، ويقرؤه في أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام والصالحين من هذه الأمة»[25].

هذا، ونسألُ اللهَ تعالى أن يجعل القرآنَ العظيم ربيعَ قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا، ويجعلنا ممّن يتدبّر القرآن حقّ تدبره مؤتمِرًا بأمر الله -عز وجل- القائل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29].

وصلى اللهُ وسلّم على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.

 

 

[1] الدكتور/ قطب الريسوني حصل على البكالوريوس من جامعة عبد الملك السعدي بتطوان سنة 1995م، والماجستير من جامعة غرناطة بإسبانيا سنة 1998م، والدكتوراه من جامعة كومبلوتنسي بمدريد سنة 2000م. فاز بالجائزة الثانية لجائزة محمد السادس للكتاب الإسلامي عن كتابه: (المحافظة على البيئة من منظور إسلامي) سنة 2007م، وفاز سنة 2012م بجائزة عبد الله كنون للدراسات الإسلامية والأدب المغربي، عن كتابه: (صناعة الفتوى في القضايا المعاصرة: معالم وضوابط وتصحيحات).
وعمل رئيسًا لقسم الفقه والأصول في كلية الشريعة في جامعة القاهرة، وهو عضو مجمع الفقه الإسلامي في الهند، وصدر له أكثر من عشرين مؤلفًا في الدراسات الفقهية والأصولية، علاوة على ستّ مجموعات شِعرية ونثرية.
ومن مؤلفاته: التيسير الفقهي مشروعيته وضوابطه وعوائده؛ التوقّف عند الفقهاء دراسة تأصيلية تحليلية؛ الاجتهاد القضائي المعاصر ضرورته ووسائل النهوض به؛ قاعدة ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة؛ قاعدة تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة وتطبيقاتها المعاصرة في المجال البيئي.

[2] يعرِّف ابن عاشور التدبّر بقوله: «هو تَعَقُّب ظواهر الألفاظ؛ لِيُعْلَم ما يَدْبُر ظواهرَها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة»، التحرير والتنوير، (3/ 252). وقال عبد الرحمن حبنَّكة الميداني -رحمه الله-: «هو التفكّر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكَلِم ومراميه البعيدة»، قواعد التدبّر الأمثل لكتاب الله تعالى.

[3] النصّ القرآني، ص8- 9.

[4] النصّ القرآني، ص13- 14.

[5] النصّ القرآني، ص477.

[6] النصّ القرآني، ص478.

[7] النصّ القرآني، ص479.

[8] انظر مثلًا: النصّ القرآني، ص480، وفيها: «إذا تزاحمت وجوه التأويل في مورد التعارض قُدّم الأقرب إلى السياق الثقافي على غيره»، و«كلّ تأويل ينابذ السياق الثقافي ويجري على خلاف أصول التأويل الإسلامي فهو مردود».

[9] النصّ القرآني، ص439.

[10] النصّ القرآني، ص447.

[11] النصّ القرآني، ص466.

[12] النصّ القرآني، ص480.

[13] النصّ القرآني، ص488.

[14] النصّ القرآني، ص491.

[15] النصّ القرآني، ص145.

[16] النصّ القرآني، ص153.

[17] النصّ القرآني، ص164.

[18] النصّ القرآني، ص172.

[19] النصّ القرآني، ص179.

[20] النصّ القرآني، ص36.

[21] النصّ القرآني، ص473

[22] النصّ القرآني، ص155.

[23] النصّ القرآني، ص154.

[24] النصّ القرآني، ص159.

[25] التدبّر، والتحرر من أسْرِ اللطائف القرآنية، محمد مصطفى عبد المجيد، مقال منشور على موقع مركز تفسير للدراسات القرآنية، على هذا الرابط: tafsir.net/article/5087.

الكاتب

الدكتور مونعيم مزغاب

حاصل على دكتوراه اللغة العربية وآدابها، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))