دراسة لمخطوط المصحف المحفوظ بمكتبة (آيا صوفيا) برقم (23) بإستانبول

للقرآن الكريم عددٌ كبيرٌ من المخطوطات المنتشرة في العديد من المكتبات الدولية، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بإحدى المخطوطات المحفوظة بمكتبة آيا صوفيا بإستانبول، وتستعرض عددًا من الجوانب المادية والعلمية المتعلقة بالنسخة.

  خلق الله تعالى القلم، ورفع به الهِمَم، وعلَّم به الأُمم، وللقلم قصة مع تعاقب الزمن عجيبة، يحكيها كلّ جيل لمَن بعده، فكلما زاد الحِبر على الورق زادت به المعارف، وكلما رشَق اليراعُ مدادًا سقَى شجر العلم الوارف.

وأقدس ما خطَّه القلم وأشرف ما سالت له الدواة كلام الباري -سبحانه وتعالى- الذي ملأ أركان مكتبات العالم يمنةً ويسرةً من أقصى الشرق إلى آخر الغرب.

وبين أيدينا نسخة للمصحف الشريف من أنفَس مكتبات العالم، فهي نسخة من محفوظات مكتبة «آيا صوفيا» بمدينة إستانبول، بتركيا برقم «23»، وفيما يلي سنحاول أن نتعرض لها من جانبيها: المادي والعلمي.

أولًا: الجانب المادي:

1- بيانات الحفظ والورق والخط والحجم:

تمتد هذه النسخة بين أيدينا على سبعٍ وستين ورقةً أفقية الشكل كأوراق السجِلّ، في خمسة أسطر للصفحة الواحدة، بخط كوفي كبير واضح جليّ، بمداد أسود للنصّ وذهبي لفواتح السور وأحمر لنقاط الإعراب، بمقاس «330×220» للورق «235×155» للنص المكتوب.

2- التجليد والزخرفة والتذهيب:

جُلِّدت النسخة بتجليدٍ من الجِلْد الملوَّن باللون البُنِّي، محفوف بإطار ذهبي من جوانبه وكعبه، ومرسوم عليه أشكال مموَّهة بالنبات متداخلة فيما بينها يظهر منها ألوان مختلفة كالأحمر والذهب والخُضرة، ثم على بطانته لوحتان من القماش يحيط بهما إطارٌ من الذهب ذو ثلاث طبقات، مزخرفتان بأشكال بديعة من النبات الذي توزّعَت صوره على شكل أرضية فاتحة اللون عليها أوراق خضراء، وفي منتصفها مزركشات ملونة بالخُضرة والحُمرة والذهب بأشكال منحنية تطوِّقها الأزهار والعروق النباتية.

ثم في الوجه الذي يسبق النصّ القرآني ويلحقه رُسمت زهرة كبيرة بعِرقها الأخضر الطويل وتاجها ذي الكؤوس الذهبية على خلفية ترابية اللون مقسَّمة الشكل.

ورُسمت دائرة مطموسة بالذّهب المطفأ، على إطارها ومنتصفها نقاط سوداء في بعض نهايات الآيات دلالةً على رؤوس الآيات، ودائرة مزخرفة بالذّهب مزينة بالأشكال المختلفة وبداخلها مكتوب مسمَّى الأرقام العشرية (عشرون، ثلاثون، أربعون) دلالةً على العُشور، ودائرة ذهبية متوسطة الحجم مميزة الشكل ذات زاوية حادة تقف عند رأس كلّ خمس آيات دلالةً على الخُموس، ثم قلادة مزينة بالذّهب مزركشة بالأشكال النباتية بداخلها مكتوب بالذهب «سجدة» بالخطّ نفسه.

ولم تظهر فواتح السور في هذه النسخة إلا في سورة لقمان، حيث كُتبت بالكوفي الكبير المذهّب وإلى جانبها قلادة كبيرة بديعة مزركشة بالشكل النباتي ملوَّنة بالذهب.

3- حالة النسخة:

هذه النسخة ليست كاملةً، وإنما هي مقطع قرآني يحمل آياتٍ من سور: العنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب، وهي مع ذلك بها خروم في بعض مواضعها؛ فقد ابتدَأَت من أثناء الآية [45] من سورة «العنكبوت» هكذا: {...الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}، إلى أول الآية [68]: {وَمَنْ أَظْلَمُ...} في الورقة (11/ب) فلم يذكر منها إلا هاتين الكلمتين، ثم انتقل في الورقة التالية إلى الآية [25] من سورة «الروم» إلى آخر السورة، ثم تلاها سورة «لقمان» بكاملها إلَّا الآية الأخيرة كتب منها: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...} في الورقة (47/ب)، ثم في الورقة التالية استفتح بسورة «السجدة» من: {...الرَّحِيم: ألم} إلى الآية [17] منها لم يكملها: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ...} في الورقة (54/ب)، وفي الورقة التالية ابتدأ من آخر الآية التاسعة من سورة الأحزاب: {...وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} إلى أول الآية الثلاثين من سورة الأحزاب: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ...}، وعندها ينتهي المخطوط.

ثم إنّ النسخة قد أُصيبَت ببعض الآفات من رطوبة وتفكُّك وتمزُّق أثّرَت على بعض الورق وأزالت من وضوح بعض الحبر، ولعلّ الخروم المشار إليها ليست من الناسخ بل هي من سقطات التفكك وإعادة التجليد كما هي عليه الآن؛ لأن الترقيم فيها متسلسل.

4- تاريخ النَّسْخ:

هذه النسخة لم تُقيَّد بتاريخِ نسخٍ أو اسمِ ناسخٍ لتدلّ على الزمن المكتوبة فيه، ولم يدوّن عليها أيّ إشارة تُشير إلى زمن نسخها، مما جعلها مقطوعة النسب إلى حقبة واضحة.

ولكن إذا أمعنّا النظر في خطّها نجده من الكوفي القديم المنقّط بعلامات أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ، والمعجم بعلامات نصر بن عاصم الليثي المتوفى 91هـ. ولم تظهر عليه حركات الفراهيدي المتوفى 170هـ. وهو وإن لم يكن دليلًا واضحًا على كتابتها قبل الفراهيدي إلا أنها من مكتوبات القرن الثالث أو الرابع على أبعد تقدير.

ثانيًا: الجانب العلمي:

1- النقط والإعجام:

استخدم الناسخ في هذه النسخة علامات أبي الأسود؛ فقيَّد نقاط الإعراب التي أشار إليها بلون أحمر بنقطة حمراء فوق الحرف تمامًا عند الفتح، وعلى موازاة السطر بجانب الحرف عند الرفع، وتحته عند الخفض، وبنقطتين عند التنوين، ولم يُشِر إلى الشَّدة، واستخدم نقط الإعجام لتمييز الحروف المتماثلة عن بعضها على شكل خطوط مائلة صغيرة دقيقة؛ فوضع فوق الثاء ثلاثةَ خطوط، وفوق التاء خطَّين، وتحت الباء خطًّا واحدًا.

2- الرسم العثماني:

هذه النسخة التي بين أيدينا تكاد تخلو من لفظة تخالف الرسم العثماني إلا بعض الكلمات، ومثالها[1]:

الرسم العثماني

رسم النسخة

الصورة

فإيي

فإياي

وسعة

واسعة

ظاهرة زيادة الياء

الأنهار

3- أعداد الآيات في النسخة[2]:

اختلفت الأقوال في ضبط أعداد آيات سور القرآن بين ستة اشتهروا بأسماء أماكنهم التي يُنسبون إليها، فصار القول يسمَّى بهم، وهُمْ قول المكي والمدني الأول والثاني والكوفي والبصري والشامي.

وصار النُّسّاخ يعتمدون أحد هذه الأقوال حسب روايتهم أو رواية أهل بلدهم لها، وبعض النساخ تراه يلفّق بين الأقوال فيجمع بين قول هذا في عدد من السور وذاك في سور أخرى.

ونسختنا التي بين أيدينا لم تَحْوِ القرآن كاملًا بل كانت مَقطعًا قرآنيًّا لعدّة سور لم يذكر فواتحها إلَّا في واحدة وهي سورة لقمان؛ حيث ذكر أنها أربع وثلاثون آيةً وهو قول الشاميين والبصريين والكوفيين.

 أما ما سواها من مقاطع السور مثل سورة العنكبوت فهي تسع وستون كما اتفقت الأقوال استدلالًا بالعُشور.

ثم المقطع المكتوب من سورة الروم ستون آيةً استدلالًا بترقيم العشر الأخير لآخر آية، وهو قول الكوفيين والبصريين والشاميين، وهو كذلك قول المدني الأول، ولكن هذه النسخة لا تتفق معه حيث انفرد المدني الأول في: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} على أنها رأس الآية [55] فخالفه الناسخ واتّفق مع الباقين.

ومقطع سورة السجدة؛ دلَّ على أنه اعتمد قول الكوفيين والشاميين والمكيين والمدنيين بكونها ثلاثين آيةً ما أثبته في العشر على رأس عشر آيات والخمس بعدها، وقد خرج الكوفيون من حسبة الناسخ لعدم اعتماده {ألم} رأس الآية الأولى، وهو مما انفرد به الكوفيون.

وباستقراء الأقوال التي اعتمدها في السور نجد أن العدَّ الغالب فيها هو العدُّ الشامي فقط، وهو القول الذي يبدو أنه اعتمده في نسخته هذه.

خاتمة:

هذه النسخة قديمة جدًّا ونفيسة جدًّا في ميزان الوثائق التاريخية، تحمل بين طيّاتها أعمالًا تشير إلى حقائب زمنية أُولى من إعجام وتنقيط ورسم ثم زخرفة وتذهيب؛ ولذلك أفرَدْنا لكلّ واحدة من هذه الإشارات ما يكفي لبيانها من العبارات، فدلَلْنا على مكانها وحجمها ونوعها ومدادها وقلمها وجِلْدها وزمنها وحالتها، ثم أضَفْنا لذلك شرحًا يفيد بيان حركة المحتوى من نقطها وإعجامها ورسمها وأعداد آياتها، ثم رجّحْنا القول المعتمد في ضبط عدد الآيات، وهذا جهد المقلّ، والحمد لله رب العالمين.

 

[1] (فإيي): ينظر: مختصر التبيين لهجاء التنزيل، أبو داود، سليمان بن نجاح، مجمع الملك فهد - المدينة المنورة، 1423هـ-2002م، ج5، ص1482.

- (وسعة): قال أبو داود: «حذف الألِف في قوله: وسعة وفإيي». ينظر: المصدر السابق نفسه، ج5، ص1482.

- (الأنهر): قال في شرح مورد الظمآن: «ثم قال: (وحذفوا ذلك ثم الأنهار ... وابن نجاح راعنا والأبصار) أخبر مع إطلاق الحكم الذي يشير به إلى اتفاق شيوخ النقل بأن كُتّاب المصاحف حذفوا ألِف ذلك، وألِف الأنهار...». ينظر: دليل الحيران على مورد الظمآن، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن سليمان المارغني، دار الحديث، القاهرة. ج1، ص86.

[2] ينظر: البيان في عدّ آي القرآن، أبو عمرو الداني، مركز المخطوطات والتراث - الكويت، الطبعة الأولى، 1414هـ-1994م. ص203، 204، 205، 206، 207.

الكاتب

عبد العاطي الشرقاوي

باحث في مجال التراث الإسلامي، حصل على درجة الماجستير في التفسير والحديث من جامعة الشارقة، وله عدد من البحوث والتحقيقات والمؤلفات.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))