كتاب (تفسير القاضي عياض الفقهي) للدكتور/ زوهير الغريسي
عرض وتقويم

الكاتب : مونعيم مزغاب
اعتنى كتاب (تفسير القاضي عياض الفقهي) للدكتور/ زوهير الغريسي بتسليط الضوء على تفسير القاضي عياض لآيات الأحكام، والوقوف على ملامح منهجه من خلالها، وتأتي هذه المقالة لتعرِّف بالكتاب، وتستعرض محتوياته، مع تسجيل بعض الملاحظات حوله.

تمهيد:

  تعدّدت أنواع التفسير القرآني بحسب زاوية التركيز المعتمَدة من قِبَل المفسِّر، فهناك كتب انصبّ اهتمام أصحابها على ألفاظ القرآن الكريم وبيان معاني مفرداته؛ ككتاب (مفردات القرآن) للراغب الأصفهاني، و(غريب القرآن) للسجستاني. وتوجد تفاسير اعتنت بالتفسير العلمي الذي يربط بين القرآن والعلوم الكونية؛ مثل تفسير طنطاوي جوهري.

ونلفي تفاسير اهتمّت بما يتعلّق بالعلوم العربية من نحوٍ وبيانٍ وبديع، وهناك كتب توجّهت باهتمامها نحو الآيات المتعلّقة بالأحكام الشرعية، وهو ما يسمّى: التفسير الفقهي.

واشتهرتْ عدّة مصنفات في هذا النوع من التفسير، منها ما تم تأليفه من أصحاب الكتب أنفسهم؛ مثل: (أحكام القرآن) لابن العربي، و(أحكام القرآن) للقرطبي. ومنها ما جمعه تلامذتهم ونسبوه إلى المفسِّرين؛ مثل: (أحكام القرآن) للشافعي محمد بن إدريس، والذي جمعه البيهقي المتوفى سنة 485هـ، وعلى منواله يأتي التفسير الذي بين أيدينا، فمضامينه كُتبت في القرن الخامس والسادس الهجري، وجمَعه ورتّبه الدكتور/ زوهير الغريسي في القرن الخامس عشر الهجري.

وسأعمل في هذا المقال على عرض هذا الكتاب وتقويمه وبيان مزاياه وسلبياته.

أولًا: كتاب (تفسير القاضي عياض الفقهي)؛ عرض وبيان:

- بيانات الكتاب:

يأتي كتاب (تفسير القاضي عياض الفقهي) ضمن منشورات مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية/ المغرب، ألّفه الدكتور/ زوهير الغريسي، المغربي الجنسية. طُبع هذا الكتاب بدار نشر المعرفة، الرباط- المغرب، سنة 2020.

جاء المصنَّف في ثلاثمائة صفحة من الحجم المتوسط، وقدَّم له الدكتور/ إدريس مقبول -وهو مدير مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية- بمقدّمة مركّزة من صفحتين ونصف.

وهو في أصله أطروحة تقدَّم بها الباحث لنيل شهادة الدكتوراه بكلية الآداب بجامعة المولى إسماعيل بمكناس سنة 2014م، تحت إشراف الدكتور/ عبد العليّ المسئول. وكان عنوانها: «التفسير الفقهي في تراث القاضي عياض (ت 544هـ): جمع وترتيب ودراسة».

- التعريف بالكاتب:

المؤلِّف هو الدكتور/ زوهير الغريسي، مغربي الجنسية، من مواليد سنة 1391 هجرية- الموافق لسنة 1971م، متخصّص في قضايا التفسير والفقه. وهو باحث بمركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الإستراتيجية.

حاز شهادة البكالوريا تخصّص علوم رياضية سنة 1989م، وتحصّل على الإجازة/ الباكالوريوس من جامعة القرويين بفاس سنة 1997م، ثم تحصّل على الماجستير في تخصّص القرآن الكريم ومستويات الدَّرْس اللغوي من كلية الشريعة سايس عام 2007م، وناقش أطروحة الدكتوراه بكلية الآداب بجامعة المولى إسماعيل بمكناس سنة 2014م، شعبة الدراسات الإسلامية، وحدة: (الدرس القرآني والعمران البشري)، تحت إشراف الدكتور/ عبد العليّ بن عبد الرحمن الفيلالي المسئول[1]، وهو أحد كبار شيوخ علوم القرآن والتفسير والفقه بالمغرب الأقصى.

- هدف الكتاب:

إنّ المصنَّف الذي بين أيدينا غايته الأساس الإسهام في ملء الفراغ الحاصل في الدراسات العياضية من خلال تقديم (القاضي عياض المفسِّر) بعد أن اشتهر القاضي عياض الفقيه والشارح للحديث، وهو عمل غير مسبوق، خاصّة وأنه يركّز على تفسير آيات الأحكام العملية دون غيرها من قضايا الاعتقاد والقصص القرآني.

كما أنّ الكتاب يهدف إلى التعرُّف على منهج عياض المفسِّر، ومعرفة مدى استثماره الأصول الشرعية والقواعد الأصولية والخلاف الفقهي في تقرير الأحكام واستنباطها والترجيح بينها.

- منهج الكتاب:

تختزن مباحثُ الكتاب الذي بين أيدينا المعروضةُ في شكلٍ تسلسلي منطقي غاية في الإحكام =نقاشًا علميًّا بنفَسٍ فقهي أصولي ونفَس تفسيري، يهدف تشابكهما إلى التوجيه الحكيم للقارئ النبيه إلى مفاصل الجهد الذي بذله القاضي عياض -رحمه الله- الدالّ على باعه الطويل في شرح دقائق القرآن الكريم.

وقد كشف الدكتور/ الغريسي عن منهجه في الكتاب ضمن مقدّمته، ويمكن عرضه وتلخيصه كما يأتي:

- قام بجمع ما يتعلّق بتفسير عياض لآيات الأحكام من ثنايا كتبه.

- عمدَ إلى ترتيب المتن التفسيري حسب ورود الآيات في المصحف الشريف؛ تسهيلًا للبحث عنها.

- الإشارة إلى المصادر التي منها أخذ كلامَ عياض؛ كي يتسنّى لقارئه الوقوف على موارده.

- الالتزام بنصّ كلام القاضي عياض -مع التعليق على ما يحتاج إلى إيضاح في الهامش- مع عزوه إلى مصدره في الهامش.

- دراسة المادة التفسيرية دراسة متأنية لمعرفة مدى توظيف عياض علوم الحديث والفقه والأصول واللغة وغيرها لاستنباط الأحكام من القرآن الكريم.

- استخلاص منهج القاضي عياض في تفسيره الفقهي.

- ترك الكاتب تناول بعض القواعد الأصولية في تفسير عياض لقلّة النماذج التطبيقية لها من جهة، وبغية عدم التطويل في الدراسة من جهة أخرى.

- محتويات الكتاب:

لقد جاءت مباحث الكتاب على الشكل الآتي:

افتتحه بمقدمة كشف فيها عن دوافع الكتاب وأهميته، وبَيّنَ منهجه المعتمد فيه وخطّته، ثم شكر وتقدير.

وتضمّن الكتاب بابَيْن، خصّص الأولَ لدراسة أصولية لمنهج عياض في تفسيره الفقهي لآيات الأحكام، استهلّه بفصل أوّل تضمّن تعريفًا بالقاضي عياض -رحمه الله- مع بيان أصله ونَسَبِه ومولده ونشأته، مركّزًا على حياته العِلْمِيّة وتكوين شخصيته الفقهية وتتلمذه على شيوخ العلم في مختلف الفنون، وكشف عن مصادر عياض في التفسير والفقه والأصول وما برع فيه من علوم، وما خلّفه من مصنفات وتلاميذ.

وثنّى بفصلٍ ثانٍ اعتنى فيه بعرض منهج عياض في التفسير بالمأثور وبالرأي، وجعل الفصل الثالث في استكشاف أثر جملة من القواعد الأصولية في استنباط أحكام القرآن عند عياض، منها أثر قواعد العموم، وأثر قواعد الخصوص، وأثر قواعد المنطوق والمفهوم في الاستنباط، مع دراسة نماذج من استثمار أحكام النَّسْخ عند عياض.

وخصّص الباب الثاني من الكتاب لعرض متن التفسير الفقهي للقاضي عياض من خلال ترتيبه حسب ترتيب الآيات والسور في المصحف الشريف، واستهلّه بخطبة أبي الفضل عياض التي ضمّنها سور القرآن، وقد استقاها الباحث من كتاب (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة) لأحمد زكي صفوت.

وختم الكتاب بخاتمة جامعة في ثلاث صفحات ونيف، أجمل فيها مختلف الملاحظات والنتائج المتوصّل إليها على طول الدراسة، أردفها بلائحة للمصادر والمراجع ثم فهرس عام لموضوعات الكتاب.

ثانيًا: تفسير القاضي عياض الفقهي؛ نقد وتقويم:

أولًا: أبرز مميزات الكتاب:

يمكن أن نقسم مزايا الكتاب إلى محورين أساسين: محور خاصّ بالدراسة، ومحور خاص بالمتن التفسيري.

أ- مزايا الدراسة للدكتور/ الغريسي:

من خلال استكشاف طريقة المصنِّف في التأليف يمكن تحديد مزاياه المنهجية ومميزاته الموضوعية كما يأتي:

1- حسن اختيار الموضوع لأهميته:

إنّ شهرة القاضي عياض تولّدت عن انتشار مصنفاته القيّمة في مختلف العلوم، قد نعَتها الإمام الذهبي بقوله: «وجمعَ وألّف، وسارتْ بتصانيفه الرُّكبان، واشتهر اسمه في الآفاق، وتواليفه نفيسة»[2]، وقد وزّع الدكتور/ الغريسي تلك المصنفات البالغ عددها ستة وعشرين إلى مجالات: العقيدة، والسنّة وعلومها، والسيرة النبوية، والفقه، واللغة، والتراجم والتاريخ والرجال.

وواضح أنه -رحمه الله- لم يؤلِّف كتابًا مستقلًّا في التفسير بله التفسير الفقهي، مما قد يفهم منه بعضُهم أن القاضي عياض -رحمه الله- لم يهتم بالقرآن وعلومه وتفسيره، فكان اختيارُ الباحث -مشكورًا- جمْعَ ما تناثر من تفسير لآيات الأحكام في بطون التراث العلمي للقاضي =اختيارًا موفقًا سديدًا.

كيف لا يكون عياض مهتمًّا بالقرآن وقد شهد له ابنُه محمد أنه كان من «حُفّاظ كتاب الله تعالى والقيام عليه، لا يترك التلاوة له على كلّ حال، مع القراءة المستعذبة، والصوت الجهير، والحظّ الوافر من تفسيره، والقيام على معانيه، وإعرابه، وشواهده، وأحكامه، وجميع أنواع علومه»[3].

ومما يزيد جمْعَ تفسير القاضي عياض أهميةً كونُه استمدّه من جملةٍ من المصنفات التفسيرية السابقة عليه، وقد أسعفنا الباحث في دراسته بذِكْر أغلب مصادر التفسير وعلوم القرآن التي اعتمد عليها أبو الفضل -رحمه الله- في شروحاته وتعليقاته على الآيات، ومن أهمها:

1- مشكل إعراب القرآن، لمكيّ بن أبي طالب القيسي.

2- الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه، لمكي بن أبي طالب القيسي.

3- تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة.

4- تفسير غريب القرآن، لابن قتيبة.

5- تفسير بقي بن مخلد الأندلسي.

6- تفسير السدّي الصغير.

7- تفسير الثعلبي.

8- تفسير الطبري.

9- تفسير القرآن، لأبي زكريا يحيى بن عليّ التبريزي.

10- تفسير يحيى بن سلام البصري.

11- الردّ على من غلط في التفسير والحديث، للقشيري.

12- شفاء الصدور، وهو تفسير النقاش.

13- مختصر تفسير يحيى بن سلام، لابن أبي زمَنَين.

14- معاني القرآن، لأبي جعفر النحّاس.

15- معاني القرآن، للفرّاء.

16- معاني القرآن وإعرابه، للزجّاج.

2- المسلك التطبيقي في الدراسة:

بعيدًا عن النمط التنظيري المغرِق في التجريد، نُلْفِي الكاتب يربط كلّ فكرة وملاحظة حول منهج القاضي بأمثلة دالّة وواضحة من مكتوباته التفسيرية، كما أن الدراسة ركّزت على الجانب الأصولي وما يتعلّق به من قواعد وضوابط لارتباطه العملي التطبيقي بالأقوال الفقهية المستنبطة من آيات الأحكام، وكذا ما تم توظيفه من قواعد الترجيح بين الآراء المتعدّدة في تأويل الآية الواحدة.

فقد شكّل الجزء الخاصّ بالدراسة مجالًا للتطبيق الأصولي المحكَم المستمد من التراث الأصولي لمختلف المدارس، حيث جال بنا الباحث المقتدر الدكتور/ الغريسي في بيان كيفية تنزيل القاضي عياض للمفاهيم الأصولية والقواعد المرتبطة بها من قضايا العموم والخصوص، وحَمْل المطلق على المقيد، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، وقضايا المنطوق والمفهوم، وإشكالات النَّسْخ والاشتراك والشرط، وغيرها.

3- الإشارة إلى التفسير الموضوعي عند القاضي عياض:

لم يكن تخصيص البحث للتفسير الفقهي عند عياض مانعًا للباحث أن يشير إلى إسهام القاضي في نوع آخر من التفسير وهو التفسير الموضوعي، فمِن جميل المباحث التي اعتنى بها الدكتور/ زوهير الغريسي مبحث: (عناية عياض بالتفسير الموضوعي)، وقد أتى في سياق بيانه لمنهج القاضي في التفسير، حيث نبه الدكتور إلى جملة من الخصائص التي تميّز التفسير الموضوعي والخطوات المنهجية المتّبعة فيه، وبيّن أنّ القاضي -رحمه الله- قد «اعتنى بهذا الجانب من التفسير، وأولاه بالغ اهتمامه، ومنهجه في كتاب (الشفا) حريّ أن يكون نموذجًا في التفسير الموضوعي»[4].

وما يزيد هذا الملحظ تأكيدًا، إشارة الباحث إلى أن القاضي عياض في كتابه الماتع (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) «أورد ما يزيد على سبعمائة آية، مما له علاقة بنبينا -صلى الله عليه وسلم- وإخوانه، وعضدها بعددٍ كبيرٍ من الأحاديث والآثار التي عزّز بها ما أورده من مسائل، فأكمل بها موضوعًا بالغ الأهمية هو: حقوق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الخَلْق، وما يستتبعها من أمور»[5].

ومن الأمثلة التي دعا الباحث إلى الرجوع إليها لمعرفة إسهام القاضي في التفسير الموضوعي، مثال (معاني الزكاة) من خلال الاطلاع على تفسيره للآية 42 من سورة البقرة ضمن المتن التفسيري من الكتاب الذي بين أيدينا. فيكون قد جمع بين التفسير الفقهي والتفسير الموضوعي في صعيد واحد.

4- غنى الاستمداد في الدراسة:

جدير بالذِّكْر أنّ السياحة العلمية بين مباحث القسم الدراسي من كتاب (تفسير القاضي عياض الفقهي) تمنحك مُتْعَة الاطلاع على استدلالات مؤسِّسي المذاهب الفقهية وكبار شُرّاح الحديث النبوي، وعلى اجتهادات فقهاء وأصوليين متنوعي المشارب والأزمان، وعلى اختيارات القاضي عياض في الفقه والتفسير وعلى تطبيقاته لأصول الفقه وقواعده؛ مما يدلّ على «غنى الاستمداد». وهو ما يفسِّر توظيف الكاتب واعتماده على أزيد من 100 مصدر ومرجع عِلْمِي من أمهات الكتب وعيونها.

فالبحث غَنيّ باستمداد الحكمة وفصل الخطاب من التراث الفقهي والأصولي والتفسيري، والمقام لا يسعف لعرض الأمثلة على هذا، وما قدّمته أعلاه لا يغني عن قراءة الكتاب وتصفّح أسراره.

ب- مميزات المتن التفسيري:

تمكّن الباحث من جمع وترتيب مادة غزيرة من إسهامات القاضي عياض في تفسير آيات الأحكام والتعليق عليها، فتميّز المتن الذي بين أيدينا بمميزات وخصائص يمكن تسجيلها كالآتي:

1- الانتصار للمذهب المالكي في غالب الأحيان:

وهي مسألة عادية باعتبار انتساب القاضي -رحمه الله- للمذهب المالكي، غير أنه لا يتعصّب للمذهب دون استدلال؛ «وهو لا يَرُدّ قولَ المخالف إذا كان مدعمًا بدليلٍ بيِّنٍ لا يمكن تضعيفه ولا تأويله، وقد يخالف مالكًا ويعتذر له في عدم أخذِه بالحديث أنه لم يبلغه، كما أنه قد يَرُدّ أقوالَ بعض المالكية ويحتج عليهم بالدليل السمعي والعقلي. ولعياض اجتهادات مهمّة في كثير من المسائل الفقهية»[6].

2- اتّباع منطق الخلاف العالي في التحليل والمقارنة والاستدلال:

ومن أمثلة ذلك: تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة: 241]، حيث أورد أقوالَ المذاهب في أحكام المتعة للمطلقة، حيث قال: «وزيد يراها منسوخة، وهو قول ابن المسيب وغيره... وغير هؤلاء لا يرى نسخًا ولا تخصيصًا وأنها واجبة لكلّ مطلقة مدخول بها أو لا، مسمّى لها أو لا؛ وهو قول عليّ وابن عباس والحسن وجماعة. فيأتي للعلماء فيها خمسة أقوال: وجوبها عمومًا، وهو هذا القول. واستحبابها في جميعهن، وهو قول ابن المسيب. واستحبابها في الجميع غير المفروض لها قبل الدخول وحدها فلا شيء لها، وهو قول مالك وأصحابه. ووجوبها في الجميع إلا في هذه وحدها، وهو قول محمد بن مسلمة من أصحابنا والشافعي وجماعة. وإيجابها في غير المدخول بها التي لم يفرض لها، وندب في المدخول، وهو قول ابن عباس وأهل العراق»[7].

3- الميول إلى البحث عن العِلَل والأسرار في الأحكام الشرعية:

ومن أمثلة ذلك قوله عند تفسير آية التيمم: «...فمعناه المراد به استباحة الطاعة المشترط فيها الطهارة، أو رفع الحدث الموجب لها، فهو في معنى التنظيف والتحسين، وشرع عند تعذّر الماء بدلًا منه؛ لئلا تطول المدّة بعادمه، وتركن النفس إلى الدّعة بتركه، فيصعب عليها الرجوع إلى مكرّر الطهارة»[8].

4- توظيف أسباب النزول في فهم آيات الأحكام:

ومن أمثلة ذلك: تفسيره قول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة: 195]، حيث قال: «وأحسن ما قيل في هاته الآية أنها في تركِ الإنفاق في الجهاد والخروج له... فيه جواز الاستقتال في الحرب، ومنية الشهادة، وحمل الإنسان وحده على الكفار إنْ علم أنهم يقتلونه في حَمْلتهِ تلك، وليس هو من إلقاء اليد إلى التهلكة، وقد فعله كثير من الصحابة والسَّلَف، ورُوي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وعليّ مما أجازه هذا، قالوا فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة: 207]، ونحوها من الآيات. ورُوي عن مالك مثله في الرجل إذا علم من نفسهِ قوة وعنى أن يبارز الجماعة»[9]، ومعلوم أن سبب نزول الآية ما رواه أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- الذي قال: «إنما نزلتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار؛ لمّا نصر اللهُ نبيَّه وأظهر الإسلام قلنا: هلمّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيمَ في أموالنا ونصلحها وندَعَ الجهاد»[10].

5- توظيف السياق في الترجيح بين معاني الألفاظ القرآنية:

بَيّنَ الدكتور/ الغريسي -مشكورًا- أهمية مراعاة السياق وأثره في التفسير، وأشار إلى أنواع عِدّة من السياقات التي يجب الانتباه إليها، واقتصر على عرض نموذج واحد من توظيف القاضي عياض لها، وهو السياق المقالي العام الذي يقتضي «أن يُنظر إلى القرآن الكريم بصفته وحدة موضوعية متكاملة في نسق مترابط لا تناقض فيه ولا اختلاف...»[11].

واتخذ مثالًا على ذلك اختلاف الفقهاء في مسألة وَضْع الصّداق لغير المدخول بها انطلاقًا من تفسيرهم لقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}[البقرة: 237]، حيث قال الدكتور/ زوهير بعد عرضه لما نقله عياض من أقوال للفقهاء: «انطلاقًا من توظيف السياق المقالي العام، وبعد النظر والاجتهاد، يرجّح عياض رأي المالكية بأنّ المراد من قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}[البقرة: 237]، هو الوليّ وليس الزوج، كما يؤكِّد ما ذهب إليه بقوله: «وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[البقرة: 237]، يُشْعِر بصحة التعليل الذي ذكرناه»[12].

ثانيًا: أبرز السلبيات:

إنّ ما سبق ذِكْره من بعض مميزات الكتاب المنهجية والمعرفية لا يمنع من تسجيل بعض التنبيهات العامّة التي لا تخدش في جودة الكتاب ولا تُنقص من قيمة الإنتاج العلمي الذي بين أيدينا، ومن باب تجويد الجيد يمكن أن أهدي للكاتب بعض الملاحظات التي لاحت لي من خلال تصفّحي للكتاب وإمعان النظر في منهجه وأسلوبه.

1- غياب فهرس تفصيلي للمتن التفسيري:

إن كانت لي مؤاخذة على صاحب الكتاب فهي أنه لم يخصّص فهرسًا للآيات التي تضمّنها المتن التفسيري، وقد عددتُها فألفيتُها تتجاوز التسعين آية[13]، ولا يخفى ما للفهارس من وظيفة تسهم في تسهيل وصول القارئ إلى المعلومة التي يبحث عنها دون عناء كبير.

2- عدم التركيز على الاختيارات الفقهية للقاضي عياض:

إنّ المجهود المبذول من قِبَل الكاتب لا يخفى في جمع وترتيب القول التفسيري عند القاضي عياض، غير أنه كان يَجْمُل به أن يُظْهِر للقارئ الاختيارات الفقهية للقاضي عياض وترجيحاته وتعليلاتها، مما يزيد الإنتاج العلمي للغريسي رونقًا جماليًّا وفائدة معرفية. ولعلّ عذر الكاتب في هذا أن غالب اختيارات القاضي لن تخرج عمّا أدرجه من أقوال المذهب المالكي باعتباره مالكيًّا.

3- غياب الدراسة المقارنة:

كنتُ أتمنى من المؤلِّف أن يُبْحِر في كتب أئمة التفسير الفقهي ليعقد مقارنة بين بعض الأقوال التفسيرية للقاضي عياض مع ما قرّره أمثال ابن العربي والقرطبي من المالكية، أو غيرهم من أساطين المذاهب الفقهية الأخرى؛ أمثال الجصاص الحنفي (ت 370هـ)، أو إلكيا الهراسي الشافعي (ت 504هـ)، أو أبي يعلى الفراء الحنبلي (ت 458هـ)، لكان ذلك مساعدًا على بيان مدى تأثُّر وتأثير القاضي عياض في المفسِّرين ممن كانوا قبله أو جاؤوا بعده، وإبراز القيمة العلمية المضافة في تفسيره الفقهي.

4- عدم إدراج بعض الآيات وتفسيرها ضمن المتن التفسيري:

أسقط الباحث سهوًا بضع آيات من التفسير، أذكرُ من بينها:

أولًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}[سورة النساء: 43].

فقد استشهد جمعٌ من المفسِّرين في شرحهم لهذه الآية، وفي جوابهم عن: هل يغتسل من الإنزال أم من مجرّد التقاء الختانين؟ بقولِ القاضي عياض في معرض شرحه لحديث: (الماءُ من الماء)، حيث قال: «قال القاضي: لا نعلَمُ من قال به من بعدِ خلاف الصحابة، إِلا ما حُكي عن الأعمش، ثم داود الأصبهاني وخالفه كثيرٌ من أصحابه وقالوا بمذهب الجماعة. وقد رُوي أنّ عمر حمَل الناسَ على تركِ الأخذِ بحديث: (الماءُ من الماء)؛ لمّا اختلفوا فيه، وسأل أزواجَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. ومعنى: (الماءُ من الماء)، أي: إنما يجبُ الغسلُ بالماء لإنزال الماء»[14].

ثانيًا: ومنها تفسيره لقول الله تعالى: {طه}[طه: 1].

 حيث نقل عنه القرطبي في تفسيره ما نصّه: «وقد ذكر القاضي عياض في (الشفاء) أن الربيع بن أنس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلّى قام على رِجْلٍ ورَفَع الأخرى، فأنزل الله تعالى: {طه}، يعني: طَإِ الأرضَ يا محمد»، وفيه حكم الصلاة على رجلٍ واحدة. وقال عياض أيضًا في تفسير {طه}: «وقِيل: هو أمرٌ مِن الوَطْءِ، والهاءُ كنايةٌ عن الأرض، أي: اعتَمِدْ على الأرض بقَدَمَيْك، ولا تُتْعِب نفسَك بالاعتماد على قَدَمٍ واحدة»[15].

ثالثًا: ما ورد في تعليقاته على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الأحزاب: 56].

حيث قال: «قال القاضي أبو الفضل: وقد فَرّق النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث تعليم الصلاة عليه بين لفظ الصلاة ولفظ البركة، فدلّ أنهما بمعنيين، وأمّا التسليم الذي أمَر الله تعالى به عبادَه فقال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلتْ هذه الآية على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمَر اللهُ أصحابه أن يسلِّموا عليه، وكذلك مَن بعدهم أُمِروا أن يسلّموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند حضورهم قبره وعند ذِكره...».

ثم قال بعد ذلك: «اعلم أنّ الصلاة على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فرضٌ على الجملة غير محدّد بوقت؛ لأمرِ الله تعالى بالصلاة عليه وحمل الأئمة والعلماء له على الوجوب وأجمعوا عليه، وحكى أبو جعفر الطبري أنّ محمل الآية عنده على الندب وادّعى فيه الإجماع، ولعلّه فيما زاد على مرة. والواجبُ منه الذي يسقط به الحرج ومأثم ترك الفرض مرّة كالشهادة له بالنبوّة، وما عدا ذلك فمندوب مرغَّب فيه من سنن الإسلام وشعار أهله...».

إلى أن قال: «قال القاضي أبو عبد الله محمد بن سعيد: ذهب مالك وأصحابه وغيرهم من أهل العلم أنّ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فرضٌ بالجملة بعقد الإيمان لا يتعيّن في الصلاة، وأنّ مَن صلّى عليه مرّة واحدة من عُمْره سقط الفرض عنه.

وقال أصحاب الشافعي: الفرض منها الذي أمَر اللهُ تعالى به ورسولُه -صلى الله عليه وسلم- هو في الصلاة، وقالوا: وأمّا في غيرها فلا خلاف أنها غير واجبة، وأمّا في الصلاة فحكى الإمامان أبو جعفر الطبري والطحاوي وغيرهما إجماع جميع المتقدِّمين والمتأخِّرين من علماء الأمة على أنّ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهّد غير واجبة...، وقال أبو بكر بن المنذر: يستحبّ أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنْ تَرَكَ ذلك تاركٌ فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم، وهو قول جُمَلِ أهل العلم، وحُكِي عن مالك وسفيان: أنها في التشهّد الأخير مستحبّة وأنّ تاركها في التشهد مسيء. وشذّ الشافعي، فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة، وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمُّد تركِها دون النسيان»[16].

خاتمة:

كانت هذه جولة سريعة بين مباحث الكتاب ومسائله، لا تُغْنِي إطلاقًا عن قراءته وسبر أغوار أفكار صاحبه بتعبيره وأسلوبه الأصلي؛ فلم أقصد تقديم عرض تلخيصي للكتاب بقدر ما أردتُ تقديم إطلالة عليه وعلى محتوياته، وتنبيه القارئ إلى نفاسة الكتاب وأهميته في بابه، مع بيان بعض المآخذِ التي لا يخلو عنها عملُ بَشَر؛ فالكمال لله وحده سبحانه.

وإني أعتبرُ بحقّ أنّ كتاب: (تفسير القاضي عياض الفقهي) يُعَدُّ إضافة متميّزة تندرج ضمن العلم المنتفَع به، والذي يجعل عمل صاحبه متصلًا غير منقطع. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إِذَا ماتَ الإنسَانُ انقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدعُو له».

وفي الختام، أسأل اللهَ تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء همومنا. آمين.

 

[1] الدكتور/ عبد العليّ المسئول، أستاذ التعليم العالي للقرآن الكريم وعلومه واللغة العربية وعلومها بكلية الآداب سايس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس المغرب منذ سنة 1995م، ومن كتبه المنشورة: الكافي في التجويد، الإيضاح في علم القراءات، معجم مصطلحات علم القراءات القرآنية وما يتعلق به، القراءات الشاذّة ضوابطها والاحتجاج بها في الفقه والعربية، ما جرى به العمل عند المغاربة في رواية ورش من طريق الأزرق أداءً ورسمًا، اللغة العربية وتقويم الألسنة، القراءات والقرّاء بفاس دراسة في تاريخ الأعلام والمناهج والمدارس.

[2] سير أعلام النبلاء، (20/ 214).

[3] التعريف بالقاضي عياض لولده أبي عبد الله محمد، تقديم وتحقيق: الدكتور/ محمد بن شريفة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، الطبعة الثانية، 1982م، ص4.

[4] تفسير القاضي عياض الفقهي، ص68.

[5] تفسير القاضي عياض الفقهي، ص68.

[6] تفسير القاضي عياض الفقهي، الغريسي، ص292.

[7] انظر: تفسير القاضي عياض الفقهي، ص136.

[8] التنبيهات (1/ 21- 22). (انظر: تفسير القاضي عياض الفقهي، ص230).

[9] إكمال المعلم، (6/ 324). (انظر: تفسير القاضي عياض الفقهي، ص58).

[10] أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، رقمه: 2512.

[11] تفسير القاضي عياض الفقهي، الغريسي، ص63.

[12] تفسير القاضي عياض الفقهي، ص65.

[13] اختلف العلماء في عدد آيات الأحكام في القرآن؛ فمنهم من قال: إنها خمسمائة، ومنهم من قال: إنها لا تتجاوز المائتين، قال محمد صدِّيق بن حسن القنوجي في (نيل المرام من تفسير آيات الأحكام)، (ص9)، ط. دار الكتب العلمية: «وقد قيل: إنها خمسمائة آية، وما صح ذلك، وإنما هي مائتا آية أو قريب من ذلك، وإن عدَلْنا عنه وجعلنا الآيةَ كلَّ جملة مفيدة يصحّ عن أن تسمَّى كلامًا في عُرف النحاة؛ كانت أكثر من خمسمائة آية». هذا، علمًا أن هذا العدد مرتبط بالآيات المشتملة على الأحكام الفقهية الخالصة المباشرة، وإلا فإن المفسِّر الفطن يمكنه أن يستخلص من آيات القصص القرآني وآيات الترغيب والترهيب والأمثال أحكامًا فقهية عملية.

[14] إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، (2/ 196). انظر أيضًا: تفسير القرطبي، (5/ 205).

[15] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، (1/ 107).

[16] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، (2/ 63). وراجع أيضًا: تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، المحقق: سامي بن محمد سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ- 1999م، (6/ 460).

الكاتب

الدكتور مونعيم مزغاب

حاصل على دكتوراه اللغة العربية وآدابها، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))