قراءة في كتاب
الواو ومواقعها في النَّظْم القرآني
للدكتور/ محمد الأمين الخضري

يُعَدُّ كتاب (الواو ومواقعها في النَّظْم القرآني) للدكتور/ محمد الأمين الخضري من أبرز الكتب التي اختصّتْ بدراسة باب الفصل والوصل من علم المعاني في القرآن الكريم، وهذه القراءة تُسَلِّط الضوء على هذا الكتاب، وتستعرض أهدافَه ومحتوياته، وأبرز مميّزاته، وأهم الملحوظات حوله.

تمهيد:

  يُعَدّ علمُ البلاغة من أشرف علوم العربية وأجلّها؛ حيث إنه العلمُ الذي أسهم في كشف اللثام عن إعجاز النَّظْم الكريم، فزاده رفعةً أنْ نشأ في رحاب الإعجاز القرآني، وتلك منقبةٌ عظيمة من مناقب هذا العِلْم، ومدخل رئيس إلى فهم الإعجاز وتصوّره، يقول أبو هلال العسكري: «وقد عَلِمْنَا أن الإنسان إذا أغفل علمَ البلاغة وأخَلّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصّه اللهُ به من حُسْن التأليف، وبراعة التركيب، وما شَحَنَه به من الإيجاز البديع والاختصار اللطيف، وضمَّنه من الحلاوة، وجلَّله من رونق الطلاوة، مع سهولة كَلِمِه وجزالتها وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها وتحيّرتْ عقولهم فيها»[1]، ولا يخفى أنّ علم البلاغة منتهى علوم العربية من دلالة وصرف ونحو.

هذا، وقد استقر علم البلاغة على ثلاثة أقسام: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، تحت كلّ باب منها فصول ومباحث وتقسيمات أقرّها البلاغيون في مؤلَّفاتهم، وحديثنا في هذه القراءة لكتاب (الواو ومواقعها في النظم القرآني)[2] يختصّ بباب الفصل والوصل الذي يُعَرَّف بأنه عطف بعض الجمل على بعض، أو ترك العطف[3]؛ ولذلك تداعيات بلاغية يسفر عنها المتفقّه في هذا الباب. كما استقر الفصل والوصل في علم المعاني من علوم البلاغة الثلاثة، والفصل والوصل من أدقّ أبواب علوم البلاغة مسلكًا وأصعبها مرتقًى، شهد بذلك البلاغيون وفي مقدمتهم عبد القاهر الجرجاني، حيث يقول: «اعلم أنّ العلم بما ينبغي أن يُصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد أخرى؛ من أسرار البلاغة، ومما لا يتأتّى لتمام الصواب فيه إلّا الأعراب الخُلَّص، وإلّا قوم طُبِعوا على البلاغة، وأتوا فنًّا من المعرفة في ذَوْق الكلام هم به أفرادٌ»[4].

والدراساتُ التي تناولتْ هذا الباب دراسة تفصيلية تحليلية، والتي تضع إزاءها جلّ وأهمّ ما قيل في هذا الباب من كتب اللغويين والبلاغيين والمفسّرين قليلةٌ جدًّا؛ نظرًا لمشقّة هذا البحث من جهة دقّته وغموضه، وتشعُّب أقوال المفسّرين وتناثرها في تفاسيرهم المليئة بالظواهر اللغوية والبلاغية، إلّا أن الدكتور/ محمد الأمين الخضري[5] -رحمه الله- في كتابه هذا (الواو ومواقعها في النَّظْم القرآني)، الذي هو عبارة عن رسالته للدكتوراه، قد تجشّم عناء هذا البحث المُضْنِي، يقول الدكتور واصفًا هذه المشقّة: «لقد كانت دراسة الواو وحدها، وتتبُّع وجوه بلاغة النَّظْم القرآني من خلالها عملًا شاقًّا ومُضنيًا، تذكرتُ معه نصيحة أحد أساتذتي الأجلّاء، وإشفاقهم عليّ من صعوبة هذا العمل عند تسجيله، حتى إنّ أحدهم طلب مني الاقتصار على دراسة الواو في سورة البقرة وحدها، ولكنني -مع تقديري لهذه النصيحة- آثرتُ أن تكون الدراسة شاملة لجميع سور القرآن مهما اقتضى منِّي ذلك»[6]. همةٌ عظيمة رزقنا اللهُ من فضله.

وهذا الجهد البيّن في هذا الكتاب يُحتاج إلى إبرازه إلى المتخصّصين ونشره، ومراجعة قواعد الفصل والوصل التي أقرّها البلاغيون وعَرْضها على آيات النَّظْم الكريم، ومن هنا تأتي أهمية قراءة وتسليط الضوء على هذا الكتاب الذي يحاول مراجعة قواعد الفصل والوصل ويكشف عن أسرار جديدة ونكات لطيفة تغاير ما قرّره البلاغيون في تقعيدهم لهذا الباب، وتكشف ما في التفاسير وحواشيها من دُرر بلاغية ونظرات عميقة غابتْ عن المصنّفات البلاغية، والمؤلِّف إذًا يؤكّد ويعوّل على أنّ بلاغة الفصل والوصل تنطلق من المقام ومقتضياته وتداعيات السياق، وليس قواعد جامدة يسير عليها هذا الباب، وكذلك سائر أبواب البلاغة، والمؤلِّف بهذه الدراسة الجادّة يبرز روح البحث البلاغي ومنطلقاته المقامية؛ إذ البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، سواء وافَق ذلك قاعدةً أو خالفها.

محتويات الكتاب:

قسّم المؤلِّفُ كتابَه إلى مقدّمة، وفصول، ومباحث، جاءت على النحو الآتي:

المقدمة؛ وبيَّن فيها أمورًا جليلة، تُجْمِل ما في الكتاب من تحليل وتفصيل، فبيَّن أولًا أن قواعد الفصل والوصل التي أقرّها البلاغيون وُضِعت في المقام الأول للحُكم على الجُمَل من حيث الصواب والخطأ، وما قادهم إلى ذلك أنّ القواعد التي وَضَعوها وُضِعت في غيبةٍ من القرآن الكريم[7]، ثم أورد بعد ذلك مدخلًا لدراسة الفصل والوصل عند البلاغيّين، وذكر بعض المصطلحات العمومية التي عبّرت عن الفصل والوصل قبل أن يستقر هذا الباب؛ فمن ذلك ما وُصف بحُسن الخروج، وبراعة التخلّص، والاستطراد، والاقتضاب، ومعالم الوقف والابتداء في الكتابة[8].

ثم وضّح بعد ذلك أنَّ أوّل من أفردَ بابًا للفصل والوصل عبد القاهر الجرجاني؛ إِذْ هو أول من أقرَّ هذه القواعد في كتابه (دلائل الإعجاز)، واستدعى المؤلِّفُ الأسسَ الفكرية التي بنَى عليها الجرجاني قواعد الفصل والوصل، ومن أهمها وأوّلها علم النحو الذي يُعنى في المقام الأول بسلامة الأساليب وصحّتها ومن ثم تقرير القواعد على أساسها، وإِذْ يستدرك المؤلِّف على ذلك ويوضّح أنّ البلاغة تتجاوز ذلك إلى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومراعاة السياق والمقام، وهذا ما يُعْنَى به التفكير البلاغي في المقام الأول، فبَعد سلامة الأسلوب تبدأ المحاكمة البلاغية القائمة على الذّوق ومطابقة الكلام لمقتضى الحال.

ثم استدرك على مسلك البحث في الواو بأنّ النظرة اقتصرتْ على الواو لتكون أداة الوصل بين الجمل التي لا محلّ لها من الإعراب، وإخراج ما عداها من حروف العطف؛ وما ذاك إلّا تقرير للقواعد التي أقرّها علماء اللغة والنحو من أنّ الواو تكون لمطلق الجمع، أمّا ما سواها من الحروف فتضمّن معنًى زائدًا على مُطلق الجمع، فاختصّت الواو بمزيد من الحاجة لتسويغ العلاقة المصحّحة للوصل بها، وهو سير على خطا النحاة[9]. كما بَيَّن أن قواعد الفصل والوصل أَهملَت العطف بين المفردات؛ نظرًا لوضوح المناسبة وأنها ليستْ في حاجة إلى جامع كما في الجمل التي لا محلّ لها من الإعراب[10].

ثم ختم هذه المقدّمة بنبذة عن مواضع الفصل والوصل، وهي: كمال الاتصال، وكمال الانقطاع، وشبه كمال الاتصال، وشبه كمال الانقطاع، والتوسّط بين الكمالين[11].

ثم بيّن بعد ذلك جملة من الأحكام والمآخذ النقدية على تلك القواعد، هي كالآتي:

1. أنّ قواعد الفصل والوصل تمّت بعيدة عن القرآن الكريم.

2. أن أيّ دراسة تحاول تقنين الأساليب الأدبية ووضع القواعد يجب أن تبدأ بالاستقراء والتتبّع لما أنتجته القرائح على مئات السنين، وهذا لم يتوافر لهذا التراث الضخم.

3. أن للقرآن الكريم سمة خاصّة عن النصوص الأدبية، وهذا الأمر لا يمكن تجاهله أو تجنّبه.

4. إذا صحّ بالتتبع والاستقراء إيجاد قواعد ونُظُم تحكم الأساليب الأدبية في الفصل والوصل، فإنها لا تعدو أن تكون وسائل تعليمية لإحكام طرائق التعبير عن الناشئة، لكنها لا تستطيع وضع قواعد لتفسير ذوب القلوب وهو ينساب بين الكلمات[12].

ثم ابتدأ بالفصل الأول معنونًا له: (عطف المفردات وذكر فيه عشرة مباحث، حاول فيه المؤلّف أن يؤصّل لبلاغة عطف المفردات، فبدأ المبحث الأول بسؤالٍ نصّه: أين عطف المفردات من دراسة البلاغيين؟ فقرّر فيه ما ذكره في المقدّمة أن البلاغيين لم يتجاوزوا ما أثبته الجرجاني ولم يتعدوا دائرة الجُمَل، إلّا ما جاء من ابن الزملكاني والعلوي حيث أفرَدَا له مساحة في دراستيهما. وعلّل سبب عزوف جُلّ البلاغيين عن هذا النهج بأمرين:

أولًا: عمق الأثر الذي تركه الجرجاني.

ثانيًا: المنهج الذي رسمه السكاكي من حيث التقسيم والتفريع، مما اقتضى تمزيق مبحث الفصل والوصل، فجاء عطف المفردات في أحوال المسند إليه[13].

ثم عرّج على بعض اللطائف البلاغية من إزاء عطف المفردات، وهو ما يُعرف بالتفصيل لإبراز التفاوت بين المتعاطفات، وذكر في ذلك سبعة أمثلة أختارُ منها واحدًا لعرضه وبيانه.

يقول تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة: 127]، حيث فَصَل بالمفعول بين المتعاطفين إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-؛ لإبراز التفاوت بين عَمَلِهما، فعَلَى الأب تقع مسؤولية العمل والبناء، وهي بالنسبة له تبعة معنوية ومادية معًا، أمّا مسؤولية إسماعيل لا تتجاوز المساعدة والعمل البدني[14].

أمّا المبحث الثاني فعنون له: (التشريك في الحكم بين الحقيقة والمجاز وحتى يتبين كلام المؤلف في هذا المبحث سأبدأ بالمثال ليتّضح المقال، يقول تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، يكون تفسير الآية بالمنطق النحوي أنَّ عِلْم الله مُساوٍ للراسخين في العلم؛ إِذْ إنّ المتعاطفين -الله والراسخون- متشاركون في فعل العلم، هذا من جهة المنطق النحوي، ومن أجل ذلك لجأ الزمخشري هنا إلى تأويل العلم بالاهتداء، ومن ثم ردّ عليه ابن المنيّر بقوله: «وما أراها صدرتْ منه إلّا وهمًا، حيث أضاف العلم إلى الله وإلى الراسخين في العلم، فأطلق الاهتداء على الراسخين، أو غفل عن كونه ذكَرَهم مضافِين إلى الله تعالى في الفعل المذكور»، واستنتج الدكتور محمد الأمين من كلام ابن المنيّر أنَّ ذِكْر الراسخين معطوفًا على لفظ الجلالة يعطي إيحاء بأنّ عِلْمهم الذي اكتسبوه في الحقيقة مضاف إلى الله تعالى، ومنسوب إليه؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، فهم من بحار علمه يغترفون[15].  وأقول: إنّ الأصل في الكلام أن يحمل على الحقيقة ما وجدنا في ذلك سبيلًا، ولا يُلجأ إلى المجاز إلّا بقرينة دالّة وسياق مرجّح، وهذا أصل من أصول قواعد التفسير[16]. ونعود الآن لكلام المؤلِّف الذي قرّره في بداية هذا المبحث بعد أن وضّحنا بالمثال، يقول: «والتشريك يعني في عُرف النّحاة مشاركة المعطوف للمعطوف عليه في الإعراب، وما يتبعه من أحكام... وهذه القضية قد أثارتْ جدلًا طويلًا في كثير من آيات القرآن، والسبب تحكّم القواعد النحوية وجمودها أمام نصوص مطلقة تستعصي على المناهج الضيّقة المحدودة، وتتطلّب ذكاءً ووعيًا خاصًّا في استنباط العلاقات التي تتنوّع وتختلف باختلاف مقاماتها»[17].

وبيّن في المبحث الثالث: (عطف التوطئةحيث قصَد فيه المؤلِّف إلى أنَّ القصد من العطف هو المعطوف، وأن المعطوف عليه بمثابة افتتاح كلام، وساق في ذلك عددًا من الأمثلة والأغراض البلاغية لعطف التوطئة، كما أكّد المؤلِّف في ثنايا عرضِه أنّ عطف المفردات يُعَدُّ مجالًا خصبًا للدراسات البلاغية، وهو إنْ ضاقتْ عنه كتب البلاغة فله في كتاب الله المرتع الخصب؛ ومن ضمن الأغراض البلاغية لعطف التوطئة ذَكَر: عطف التوطئة للتنزيه والتشريف، والتوطئة لتربية المهابة، والتوطئة في العطف للترغيب، والحقيقة والمجاز في عطف التوطئة، والفرق بين عطف التوطئة والبدل، والفرق بين عطف التوطئة وعطف البيان[18].

ولكي يتّضح المقال أكثر أُورد مثالًا واحدًا مما أورده المؤلِّف على التوطئة في العطف في الترغيب، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28- 29]، والشاهد هنا أنْ نَفَّر اللهُ أمهات المؤمنين من مُتَع الحياة وزينتها بالعطف على الدنيا؛ تحقيرًا لها {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}، وجاء الترغيب بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك عن طريق العطف على الذات العليّة {تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فبقاؤهن مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- طريق إلى إرضاء الله وتحصيل الأجر العظيم[19].

أمّا المبحث الرابع وهو: (عطف التسويةلم يُطِل المؤلِّف في هذا المبحث، وكاد أن يسميه عطف التشبيه إلّا أنه لم يُرِد العدول عن تسمية شائعة تعارف عليها أهل العلم، وقصد المؤلِّف من هذا العنوان أنّ هناك أسرارًا في هذا العطف غير التشريك في الحكم، وساق في ذلك عددًا من الأمثلة والأغراض، وذكَر من أغراض التسوية أمورًا؛ منها: المبالغة في تحقّق المعنى، ومثاله قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، استنتج المؤلِّف من هذه الآية أنه تعالى يريد أن يلفت العقول إلى سِرّ قدرته وهيمنته على خلقه وخضوع الكلّ لمشيئته طائعين ومكرَهين، شأنهم شأن الظِّل الذي هو عَرَضٌ قائم بذات صاحبه، لا يملك الخروج عن قانون الجوهر الذي هو قائم به، فكان العطف مُشْعِرًا بالمساواة في الخضوع بين الجواهر والأعراض[20]. ولعلّ الأوْلى أن يكون الغرض من العطف تحقّق المعنى دون المبالغة.

وذكَر في المبحث الخامس الذي عنون له بـ: (عطف الصفاتالفرق بين بعض الصفات المعطوفة والمفصولة لأغراض يقتضيها المقام، ومثل ما سبق في المباحث يسوق المؤلِّف أغراضًا لعطف الصفات، فذكر أمورًا: عطف الصفات غير المتضادّة، وعطف الصفات المتضادّة، وإيهام التقابل بين الصفات، وترك العطف للتكميل، والعطف للتقسيم، وبلاغة واو التقسيم، والعطف في صفات الله تعالى.

وأختارُ هنا مثالًا لترك العطف للتكميل أو الاحتراس، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، ذكر المؤلِّف أنّ هذه الآية جاءتْ عقب النهي عن موالاة اليهود والنصارى ووصف مَن وَالَاهُم بالنفاق، ثم جاء عقب هذه الآية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، فكان الموطن موطن الدعوة إلى التعاطف والمحبة بين المؤمنين، فلما جاء قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} كان مظنّة أن يتوهَّم واهِمٌ أنّ الذّلة وصف غالب على المؤمنين، فإذا كان الأمر مع الكافرين ظهرتْ عزّتهم في شِدّة لا تقبل التهاون[21].

أمّا المبحث السادس جاء بعنوان: (واو الإلصاق)، وبيّن المؤلِّف في بداية الأمر أنّ هذه التسمية جاءتْ من قِبَل الزمخشري، التي قصد بها أنها الواو التي تتوسّط بين جملة الصفة وموصوفها، فهي ليستْ للعطف إنما هي مزيد لغرض التأكيد، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4]، هذا وقد تفاوتتْ آراء العلماء في هذه الواو، أَوْصَلَها المؤلِّف إلى سبعة آراء ثم أَجْمَلَها في صورة كلية لا تخرج عن واو العطف، أو واو الحال، أو الزائدة، وقد ناقش المؤلِّف هذه الآراء بعرض شمولي وتحليل دقيق[22].

وتحدّث في المبحث السابع عن:(عطف المترادفاتأوضح الدكتور في هذا المبحث تنزُّه القرآن الكريم عن ما يُوهِم الترادف وأن لا معنًى يُضاف من عطف المترادفات، ويؤكّد أن لا وجود للترادف في القرآن أصلًا، وهو غير وارد في بيان الله ومعجزته[23]. وبنظرات ثاقبة وتأملات دلّل المؤلِّف على ما ذكره، وساق عددًا من الأمثلة التي يُتَوهّم أنها من الترادف وما هي منه في شيء.

أختارُ واحدًا من سبعة أمثلة أوردها المؤلِّف، يقول تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]، أورد المؤلِّف هذا المثال ناقدًا السيوطي بأنه قال أنّ الظُّلْم والهضم من الترادف، فأوضح أنّ الكلمتين متغايرتان، وأنّ عطف الهضم على الظُّلْم من الترقّي بنفي الأعظم، وهو الظُّلم الذي يُذْهِب الحقَّ كلَّه فلا يُثاب على الطاعة أو يُعاقب بغير معصية، ثم ينفي الأدنى وهو نقصان الثواب وهضم بعض الحقّ تأكيدًا للعدل الإلهي[24].

ثم أورد في المبحث الثامن الذي عنون له بـ: (الواو للترتيب)، ومن الطبيعي جدًّا أنْ يُورد آراء العلماء في إفادة الترتيب من الواو أو عدمه، وبيّن أنّ مؤدَّى الرأي الذي يذهب إلى أنّ الواو لا تُفيد الترتيب إنما هي لمطلق الجمع قد ساق إلى أمرين؛ الأول: اختصاص الواو بمبحث الفصل والوصل، بحكم أنها الوحيدة من بين حروف العطف التي ليس لها معنى زائد. والثاني: إهمال الحديث عن عطف المفردات؛ لأنها إن كانت معطوفة بغير الواو رُوعي عند العطف تحقّق معاني الحروف التي أثبتها النحاة، في حين أن مجيء الواو لا يترتب عليه إلّا الضمّ والجمع[25]. ثم يؤكّد أنه لا لوم على النّحاة فيما ذكروه إِذْ كان هدفهم وضع قواعد تحكم الخطأ من الصواب في الأساليب[26].

والمؤلِّف إذًا يقرّر في هذا المبحث أنّ ترتيب المتعاطفات له غرضه البلاغي في النَّظْم الكريم، وأنه يجب تلمُّس أسرار هذا التقديم والتأخير، كما استأنس في رأيه هذا برأي بعض العلماء السابقين الذين أكّدوا من وجود حكمة من هذا الترتيب، فأورد كلام الرماني، والسهيلي، والشهاب الخفاجي.

ومن الأغراض البلاغية التي أورد في هذا الشأن الترقّي في النفي، ومثاله قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34]، ذكر المؤلِّف أنه لو ابتُدِئ بذكر البنين كما يلي هذه الآية: {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس: 36]، لكان ذِكْر ما بعده من فضول الكلام؛ إِذْ مَن يفرُّ من ابنه، ففراره من غيره أولى[27].

ووضح في المبحث التاسع من: (توهم الزيادة في صور العطف حيث يتوهم المتعجّل في بعض صور العطف من آيات الذِّكر الحكيم الاستغناء عن المعطوف أو المعطوف عليه فيتجرّد له العطف من الفائدة، وقد بيّن المؤلِّف بالأمثلة دفع هذا التوهُّم.

فكان مما أورد على ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80]، قد يتبيّن للمتعجّل أنه يمكن الاستغناء عن الكفر الذي هو معطوف على الطغيان، لكن طبيعة النَّظْم القرآني تأبى ذلك، والسياق يؤيّد ويعضد عطف الكفر على الطغيان، والآية مَسُوقة لتفسير عملٍ قام به الخضر، وكان مثارَ استنكار موسى -عليه السلام-، وهو قتل غلام بغير جريمة توجب القصاص: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكهف: 74]، فلو جاء التفسير بغير صورة العطف واكتفى بالكفر لأوهم أنّ ارتداد الأبوين وممالأتهما له في ضلاله إنما كان بدافع الحبّ له، فكان قوله: {طُغْيَانًا} جوابًا شافيًا في أنّ كفرهما ليس طواعية بدافع الحبّ وحده، وإنما كان بسبب طغيان الابن وحمله على الأبوين معًا، فيكون قد ارتكب أكثر من جريمة[28].

وعلى غرار ما سبق فقد وضح في المبحث العاشر المعنون له بـ: (الواو ودلالتها على الجمع قصد من هذا المبحث التنبيه على أنّ معنى الجمع الذي هو لازم للواو لا يفارقها، لم يسلم من اعتراض النّحاة مما دعاهم إلى تأويل الواو بمعنى (أو) حتى صارتْ دلالتها على التخيير والإباحة موضعًا من مواضعها، وهي محاولة من صنيع ذلك لتصوّر المعنى وتصحيحه عوضًا عن السعي لاكتشاف بلاغة العطف بها[29]. وأورد المؤلِّف عددًا من الأمثلة التي خفي فيها معنى الواو. ومن الأغراض البلاغية التي ساقها لبيان ما خفي فيها المعنى المبالغةُ في الجمع، ومثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]، بيّن المؤلف أولًا رأي شرّاح (الكشاف) حول عبارة الزمخشري: «ومن يكفر بشيء من ذلك»، هل قصد معنى (أو) أو أراد تعلُّق الحكم بكلّ فرد من المتعاطفات على حِدة لا تعلّقه بالمجموع. ورأى المؤلِّفُ أنّ الجمع هنا مقصود للمبالغة؛ لأنّ الآية دعتْ إلى الإيمان بالله ورسله وكتبه، وذلك يُفهم منه أنّ الكفر بأيٍّ منها كُفر بالجميع، فجاءت الواو مؤكِّدة على كمال الضلال لمن جمع في الكفر بين الأمور المتعاطفة كلّها؛ ولذا وصفه اللهُ بالضلال البعيد، فكأنّه يقول: إذا كان الكفر بواحد منها ضلالًا فكيف إذَا كَفر بالجميع؟! هل بعد ذلك ما هو أبعد ضلالًا منه؟! فهذه المبالغة في وصف كمال ضلالهم هي بلاغة الجمع بالواو. وهذا المعنى لا يكون إذا كانت الواو بمعنى (أو)[30].

أمّا الفصل الثاني فقد خصّصه لعطف الجُمَل، فذكر فيه ستة مباحث جاءت على النحو الآتي:

المبحث الأول؛ وبيّن في مقدّمته القصور الناجم عن اتّباع كلّ ما جاء بعد عبد القاهر دون تمحيص وتحليل، وعرض تلك القواعد على النّظم الكريم، كما بيّن قِلّة الأمثلة التطبيقية التي تعمّم تلك القواعد وتقوّم بناءها وتُرسّخ ركائزها[31].

قدّم المؤلِّف في المبحث الأول قراءةً فاحصة ناقدة لقواعد الفصل والوصل، فذكرها في خمس نقاط وضح فيها رؤاه النقدية؛ فذكر أولًا: كمال الاتصال، وبيّن أنّ علماء البلاغة حصروا الفصل هنا في التوكيد والبيان والبدل، معلِّلِين وجوب الفصل بأنّ الجملة المبينة أو المؤكّدة أو المبدلة تستغني بالرابط المعنوي عن الواصل اللفظي؛ لأنها تنزل من الأول منزلة نفسها، فلا مجال لعطف الشيء على نفسه[32].

وأبرز ما جاء عن المؤلِّف هنا عدم حصره للتوكيد في موضع الفصل، إنما هناك مواطن -لا سيّما في النَّظْم الكريم- جاءت مؤكِّدة مع الوصل، وأورد المؤلِّف عددًا من الأغراض التي يستدلّ بها على نقض ما جاء عند البلاغيين، فاستدلّ على ما يأتي: التوكيد اللفظي، والتوكيد المعنوي، والجمع بين الأمر والنهي، والجمع بين النفي والإثبات، وغير ذلك من الأغراض[33].

 وأنتقِي من الأمثلة ما أورده على عطف التوكيد اللفظي، يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]، يذكر المؤلِّفُ أنّ العطف هنا أشعَر بالمغايرة بين التوكيد والمؤكّد، فدلّ على أن الله نجّاهم مرتين: مرّة حين نجّاهم بهلاك عدوّهم الذي يتربص بهم، ومرّة حين نجّاهم من العذاب الذي أهلك به عدوّهم، فتكاثر المعنى بذلك العطف مما لا يستطيع الفصل الوفاء به[34].

ثم ذكر ثانيًا: شبه كمال الاتصال، وهو الذي تنزل فيه الجملة الثانية منزلة الجواب من الأولى، فيفصل بينهما كما يفصل بين السؤال والجواب[35].

وساق في هذا الشأن عددًا من الأغراض، منها: عطف الاستئناف لإبراز التناقض، ومثاله قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص: 36- 37]، الشاهد قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى}، يقول المؤلِّفُ: فاعتبار الفصل مُراعى فيه استشراف السامع وتطلُّعه إلى جواب موسى، والعطف قدح لزناد الفكر، واستدراج إلى حُسن التأمّل، ودعوة إلى التدبّر، والموازنة بين المتناقضين مستثمرًا استشراقه وتيقّظه لمعرفة الجواب في توجيهه إلى غرض لا يكفي بمجرّد الجواب، بل ليقف موقف الناقد المتأمّل ليوازن بين الحقّ والباطل[36].

وأحسب أنّ الاستشراف والتساؤل لا يضيع مع الواو، بل يمضي صاعدًا على طريق الاستئناف إلى درجة التأمل في الجواب والمقارنة بينه وبين ما أثار السؤال[37].

 ثم ذكر ثالثًا: كمال الانقطاع، وهو ما فقد بينهما الجامع، وما فقد فيها التناسب خبرًا وطلبًا، وما كان بينهما جامع غير ملتفت إليه[38].

ثم بيّن أنّ ما فقد بينهما الجامع لا وجود له في أدنى أساليب العربية فضلًا عن قمّتها في القرآن الكريم، وأنّ عبد القاهر صاحب الفكرة لم يمثّل له بمثال واحد.

أما بُعْد المناسبة أو خفائها لا انعدامها خبرًا وطلبًا، فالأمثلة القرآنية تكشف اهتزاز هذه القاعدة، مما اضطربتْ فيها أقوال المفسِّرين والبلاغيين[39]. وعلى ذلك فإنّ القول بالتعبير بالانقطاع دَخِيل على الدراسات البلاغية وكان أَوْلى أن يقرّ في كتب النحاة.

ونظرًا لطبيعة هذا الموضوع فإنّ المؤلِّف لم يطل فيه، فالأغراضُ التي استنتجها هما غرضان: ترك التناسب للتهكّم، والتشديد والتنبيه على أهمية المأمور به أو المنهي عنه[40].

ومن الأمثلة الدالة على العطف بين الطّلب والخَبَر، ما جرى مجرى التهكُّم، يقول تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 55- 59]، يقول المؤلِّف: «يا له من استخفاف واحتقار للمجرمين، أنْ يلتفت إليهم ربّ العزة وملائكته بعد الإخبار عن نعيم المؤمنين، والتسليم عليهم من ربّ رحيم، ويخاطَبوا بهذا الأمر الذي يحمل في طياته معنى التهكُّم والتحقير، ثم يتخيّر للأمر لفظ يدلّ ظاهره على التكريم، وحقيقة الأمر فيه طلب الابتعاد عن عباده المخلصين، كما يُبعد الأجرب عن الصحيح»[41].

ثم يذكر رابعًا: شبه كمال الانقطاع، وهو أحد وجوه الفصل بين الجمل إمّا وجوبًا أو احتياطًا، وساق المؤلِّفُ في هذا الشأن عددًا من الآيات موضحًا رأيه ورأي البلاغيين والمفسِّرين.

واختتمَ المبحث الأول بالموطن الخامس وهو: الوصل للتوسّط بين الكمالَيْن، وهذا موضع من مواضع الوصل بين الجمل، وسبب الوصل أنّ العطف يقتضي المغايرة ووجود مناسبة، وتحقّق الجامع، والذي أضافه المؤلِّف هنا هو التكلّف في الحديث عن الجامع حتى استخدم فيه معارف شتى من أدب وفلسفة وعلم وبيان، وعندما عرض المؤلِّفُ كلامهم على بعض أمثلة الذِّكر الحكيم استنتج أنّ إجماع البلاغيين على اشتراط الاتحاد بين المسند والمسند إليه تنقضه هذه الشواهد، واستدلّ على ما استدلّ به السبكي، وذلك بقوله تعالى: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88]، فالمسندان المسّ والمجيء، والمسند إليهما الضرّ والأنبياء -عليهم السلام-، المناسبة فيه كالشمس[42]، وهذه كناية عن بُعْد المناسبة أو عدمها. وعلى شاكلة هذه الأمثلة اهتدى المؤلِّف إلى أنّ وجود الجامع وتحقّق المناسبة لا يوجِبان الوصل، وإنما الذي يوجبه أو يحسّنه دواعي المقام وتحقّق القصد إلى الجمع[43].

وذكر في المبحث الثاني: (الواو بعد همزة الاستفهام)، مبينًا آراء العلماء في ما إذا كانت الهمزة مقدّمة أصالة على حروف العطف، الواو والفاء وثم، وهو مذهب سيبويه والجمهور، أو أن الهمزة في موضعها الأصلي وأنّ العطف على جملة مقدّرة بينها وبين العاطف، وهو مذهب الزمخشري، ومثاله قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} [الحج: 46]، والتقدير: (أمَكَثُوا فلم يسيروا)[44]، ثم نبّه المؤلِّف أن تلك التخريجات قامتْ على أُسس نحوية وليس من دواعي أسرار البلاغة[45]. ومن الأغراض التي ساقها المؤلِّف ليستدلّ على بلاغة الواو بعد همزة الاستفهام: المبالغة في إنكار المعطوف، وغير ذلك من الأغراض[46]، ومثال المبالغة في إنكار المعطوف، قوله تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الواقعة: 47- 48]، نقل المؤلِّف هنا رأي الزمخشري بأنّ دخول الهمزة على المعطوف: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} للإيحاء بأنه أشدّ استبعادًا في نظر المشركين، كما أشعر العطف بالترقّي في الإنكار[47].

وذكر في المبحث الثالث:(عطف التلقين)، والمراد به عطف كلام متكلّم على متكلّم آخر، بقصد إقرار الكلام السابق، والزيادة عليه، وذكر المؤلِّف أنه من مفاتن اللغة ومواطن الجمال فيها[48].

ومن الأغراض التي ذكرها: التهييج والإلهاب، وأغراض أخرى[49]، ومثال التهييج والإلهاب، قوله تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 113- 114]، نقل المؤلِّف عن الزمخشري أنّ فرعون لم يكتفِ بإجابة السحرة إلى ما طلبوه من الأجر، لكنه زادهم بما لم يتوقّعوه من الحظوة والزُّلفى لديه: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[50].

وذكر في المبحث الرابع: (الواو الفصيحة)، وهي التي تفصح عن معانٍ مقدَّرة قبلها؛ إيماء إلى أنها من الكثرة ما لا يحيط الوصف بها، أو مما لا يتعلّق بذكرها غرض، أو للإيجاز، وهي لا تقع إلا في الكلام البليغ[51].

ومن أغراضها في الكلام بحسب ما ذكر المؤلِّف: الإفصاح عن علّة مقدَّرة، والإفصاح عن المقابل المقدّر، والواو الفصيحة في القصص القرآني[52].

وأسوق مثالًا على الإفصاح عن علة مقدَّرة، يقول تعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21]، الشاهد قوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} تعليل معلله محذوف، أي: ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك، أو معطوف على تعليل مضمر، أي: لنبيِّن به قدرتنا ولنجعله آية[53].

وفي المبحث الخامس ذكر: (حذف الواو مع المعطوف)، وهو الذي يُطلق عليه البلاغيون: (الإيجاز بالحذف)؛ لأنهم يقدِّرون له معطوفًا مع الواو يعبّرون عنه بألفاظ تدل عليه لتقريب المعنى، وإفصاح عن المقدر[54].

وساق المؤلِّف في هذا المبحث خمسة أغراض منها: التنبيه على أنّ المذكور من الضدين هو الأهمّ والأنسب للمقام، ومثاله قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]، نقل المؤلِّف رأي أبي حيان هنا، حيث ذكر أنّ الآية الكريمة جاءت في معرض الردّ على المشركين وتخويفهم من عذاب الله، فكان الأهم والأنسب للمقام الإنذار لا التبشير، فاكتفى به دليلًا على المتروك[55].

وختم الفصل الثاني بالمبحث السادس الذي عنونه بـ: (حذف الواو وحدها)، وذكر آراء العلماء في حذف الواو مع المفردات والجُمَل، والذي مال إليه المؤلِّف عدم جواز الحذف؛ لأن الواو حرف وُضِع للربط حين يتحقّق معنى الجمع والمغايرة، فلو كان ذكرها وإسقاطها سواءً لضاعت الفوارق بين ما يتّصل من الجُمَل اتصالًا ذاتيًّا حيث لا مغايرة، وما يتّصل بالواو الدالّة على معانيها الموضوعة لها[56].

ثم ساق عددًا من الأمثلة مما يستدلّ به على صحة الرأي القائل بعدم جواز الحذف، فكان مما ذكره كثرة ذِكْر الأحكام والتشريعات بغير عاطف تنبيهًا على استقلالها، وإشعارًا أن كلّ تشريع قائم بذاته، وليس تابعًا لما قبله، مما يعطيه مزيدًا من الاهتمام، وإن يكن بينها من الجامع ما يصح معه العطف، كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180]، حيث فصل عما قبله ولم يعطفه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179][57].

أمّا الفصل الثالث فقد درس فيه: (عطف القصة على القصة)، والمؤلِّف لم يُطِل في هذا الفصل، منوِّهًا أنّ عطف القصص في القرآن الكريم يحتاج إلى دراسة مستفيضة[58]، كما نوَّه أنّ هناك فرقًا بين عطف قصة على قصة وعطف القصة على القصة، الأوّل أصل يُطلق عليه مجموعة الأحداث أو الحدث الذي يتناول شخصًا أو مجموعة أشخاص يصوّر القرآن مصائرهم، والتركيز على مواضع العِبرة، أمّا عطف القصة على القصة فيقصد به عطف مجموع جُمَل على مجموع جُمَل أخرى للاتفاق في الغرض العام، وإن لم يكن هناك تناسب بين مفردات الجُمَل أو اتفاق في الخبرية والإنشائية[59].

وعلى غرار ما سبق ذكر في الفصل الرابع: (واو الاستئناف)، وهي الواو التي يُقصد بها ابتداء الكلام وقطعه عمّا قبله[60]. وذهب المؤلِّف بحسب ما نقله من سليمان المرحوم صاحب (مذكرات الفصل والوصل) إلى أن هذه الواو لا ترِد كثيرًا في كُتب البلاغيين، والذي حمل النحويين على أنها من الاستئناف عدم ظهور المعطوف عليه، إلّا أن المؤلِّف فتّش في كلام النحويين، وأظهر أنّ خفاء العطف هنا هو عدم إشراك عطف المفرد على المفرد، بخلاف عطف الجُمَل على الجُمَل التي تسوّغه هذه الواو[61].

وبيّن المؤلِّفُ بلاغةَ هذه الواو وربطها بين الجُمَل، وقد ذكر عددًا من الأمثلة على بلاغة القطع والاستئناف، فمما أورده؛ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2]، يذكر المؤلِّفُ أنّ في الآية أجَلَيْن: أجَل الموت، وأجَل الساعة. وجاء الأجَلان في الآية متغايرين في الإعراب، فكان لتغيُّر السَّبْك دلالته على التفاوت بين الأجَلَيْن؛ تعظيمًا لشأن الساعة، وإيحاءً بأنها أمرٌ ثابت ومقدَّر قبل أن يخلق الإنسان[62].

وعقد الفصل الخامس لـ: (عطف الخاصّ على العام وعكسه)، وبيَّن في مقدمته القواعد التي قرّرها النحاة والبلاغيون بأنّ الشيء لا يُعْطَف على نفسه، إلّا أنهم أجازوا عطف الخاصّ على العام، كما اشترط البلاغيون في هذا العطف أن يكون الخاصّ مندرجًا في حُكْم العام لا مجرّد كونه فردًا من أفراده، وذلك لإخراج الصفة والبدل ونحوهما مما لا يقع معطوفًا مع أنه فرد من أفراد العام[63].

كما بيَّن المؤلِّفُ أنه إذا كان البلاغيون قد حصروا أغراض هذا العطف في التنبيه على كمال الفضل، أو كمال النقصان في المعطوف، إلّا أن هناك أغراضًا أخرى، وهي: عطف الخاص لأنه العمدة المقصود بالسياق، والاهتمام بالمعطوف لدفع الإيهام، والتنبيه على كمال العناية بالمعطوف، والتنبيه على أنّ المعطوف أدخل في تحقيق الغرض، وذكر الخاصّ للتعريض، وذكر الخاصّ للتعظيم، وعطف الخاصّ للمبالغة.

وأسوق مثالًا هنا لعطف الخاصّ للمبالغة، يقول تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [البقرة: 96]، فالمشركون بعض الناس، وفي عطفهم على ما يعمُّهم مبالغة في ذمّ اليهود، وهم أهل كتاب، بشدّة الحرص على الحياة حتى زادوا في حرصهم على مَنْ لا يؤمن بالله ولا يقرّ ببعثٍ من المشركين، الذي هم أَوْلى بالحرص على حياة لا يؤمنون بسواها، فكان ذكر هذا الخاصّ مبالغة في الذم والتوبيخ[64].

أمّا الفصل السادس فقد ذكر فيه ثلاثة مباحث، تحدث في المبحث الأول عن: (الواو الزائدة)، وذكر أنها وردتْ على ألسنةِ البلاغيين فيما سُمِّي بالوصل لدفع الإيهام، كما في مثالهم: (لا وأيّدَك الله)، ثم ذكر أنّ هذه الواو لا وجود لها في النَّظْم الكريم، ثم ناقش بعد ذلك الآيات التي زُعِم فيها أنّ الواو زائدة، مما يُتَوهّم تجرّدها من فائدة، فناقش الواو بين الصفات، والواو الداخلة على ما يصح علة، وزيادة الواو في جواب الشرط.

وأسوق مثالًا على الواو بين الصفات، يقول تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53]، جاء في بعض الآراء أنّ الواو التي وقعتْ بين الكتاب والفرقان زائدة، إلّا أن المؤلِّف ينبِّهك أنّ الذي يليق بإعجاز القرآن أنّ الواو إذا دخلتْ بين الصفات دلَّت على المغايرة، وكمال كلّ صفة في معناها التي سِيقتْ من أجله، فالآية في سياق مجال تقريع بني إسرائيل على كُفرهم بنعم الله، وتوبيخهم على جرائمهم التي ارتكبوها بعد كلّ نعمة يمنُّ الله بها عليهم، فبَعد أن ذكَّرهم بإنجائهم من عذاب فرعون، ذكَر ما أنعم به عليهم من إنزال التوراة مسجّلة مكتوبة في ألواح لا يتكلّفون مشقّة تدوينها، ولا يخشون نسيانها، ثم هي علم في الهداية والفصل بين الحقّ والباطل حتى لا يزيغ عنها إلّا من طبع اللهُ على قلبه، فالفرقان جيء به هنا زيادة في النكير على من ضلَّ وبين يديه كتاب واضح المعالم[65].

وذكر في المبحث الثاني: (الواو الاعتراضية)، وابتدأ ببيان الخلاف الذي وقع بين النحاة والبيانيين؛ ذلك بأنّ النُّحاة اشترطوا أن تكون الجملة المعترضة واقعة بين جزأي كلام يتطلّب أحدهما الآخر ويرتبط به في حكم الإعراب، كأن تقع بين مبتدأ وخبر، وفعل ومفعول به. أمّا البيانيون فالاعتراض عندهم يأتي في أثناء الكلام، كما يأتي بين كلامَيْن متّصلين معنى، وإن لم يتصل لفظًا، كما أجاز الزمخشري وقوع الاعتراض في آخر الكلام، وكأنه لا يشترط وقوعه بين جزأي كلام أو كلامَيْن متّصلين[66]. ثم بَيَّن بعد ذلك أنّ ما استقر عليه النُّحاة والبلاغيون أنّ الواو التي تتصدّر الجملة المعترضة تسمى واوًا اعتراضية، وهي غير العاطفة والحالية، ومن ثم يقرّر بحسب النماذج التي درسها أنّ الربط معنى أصيل في الواو سواء كانت اعتراضية أو عاطفة أو حالية، ويؤكّد أنه إذا كان وجودها وعدمها سواءً فهذا عين الزيادة وهي مرفوضة في النَّظْم الكريم ولا يليق به، وإذا كانت استئنافية فقد أثبت أن الاستئناف ليس معنى من معاني الواو[67]. ومن الأمثلة التي ساقها المؤلِّف ليوضح الفكرة، قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 19- 20]، الشاهد هو الجملة الاعتراضية في قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}، حيث يرى المؤلِّف أن المناسبة بين قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} وبين قوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} إِذْ إنهم يبالغون في حماية أنفسهم من أصوات الرعد والبرق، بوضع أصابعهم في آذانهم؛ أملًا في النجاة والهرب من الموت الذي يتوقَّونه ويحذرونه، ولكن هذه المحاولة تبوء بالفشل لأنّ الله لهم بالمرصاد، وعذابه يحيط بهم من كلّ جانب، فلا مهرب ولا مفرّ من سلطان الله، فالتقابل بين الجملتين واضح جلي؛ بين محاولة للنجاة والفرار من الموت، وقطع لأسباب هذه المحاولة[68].

وختمَ الفصل بالمبحث الثالث بدراسته لـ: (الواو الحالية)، منوّهًا أولًا بصنيع البلاغيين أنهم ألحقوا الجملة الحالية بمبحث الفصل والوصل وجعلوه تذنيبًا له، واستدرك على ذلك بأنّ مِن حقّ الواو في الجملة الحالية أن تترتّب عليها فروق دقيقة، وأنّ بين إثباتها وحذفها أسرار لا يكشف عنها إلّا ذوق بلاغي[69]، كما بَيَّنَ ووضح الفرق بين العطف والحال[70].

ومن الأمثلة التي ساقها المؤلِّف ليوضح الفرق قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ} [آل عمران: 99]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف: 86]، فقوله تعالى: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا} حال في الآيتين، والفرق بين دخول الواو في الثانية وتركها في الأولى أنّ الإنكار على أهل الكتاب متوجِّه إلى غرضهم من الصدّ ليكشف خبث طويّتهم من كتمان الحقّ وتحريف الكتاب؛ ولذا شفعه بقوله: {وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ} فابتغاء العوج مع علمهم بالحقّ هو عين الضلال الذي يستنكره النَّظْم الكريم، أمّا الآية الأخرى فإنها تهدف إلى تعديد ما يأتيه قوم شعيب من الجرائم ونهيهم عنها، فكان دخول الواو دليلًا على أنه جريمة متقرّرة لديهم، كما أنّ الصدّ جريمة مستقلّة أيضًا، فهو ينهاهم عن الصدّ عن سبيل الله كما ينهاهم عن الانحراف مقارنًا للصدّ أو مفارقًا له، وهذا هو معنى ملازم لها لا يفارقها، سواء كانت عاطفة أو حالية أو للمعيّة[71].

هدف الكتاب، ومنهجه:

أولًا: هدف الكتاب:

بيَّن المؤلِّفُ في مقدّمة كتابه هدفين رئيسين من الكتاب:

الهدف الأول: وهو الهدف العام الذي يبيّن شيئًا من أسرار إعجاز النظم الكريم من خلال مبحث الفصل والوصل الذي بدوره يبرز النكات البلاغية من تعاطف المفردات والجمل أو فصلها[72].

الهدف الثاني: وهو الهدف الخاصّ، وينقسم إلى قسمين:

الأول: وهو الذي يسعى من خلاله المؤلِّف -رحمه الله- إلى كشف عطاءات الواو مع اختلاف مواقعها في النَّظْم القرآني، وما يترتب على ذلك من وجوه البلاغة، وبيان الدور المنوط بالواو ووظيفتها الرئيسة، وهي إحداث التلاحم بين مفردات القرآن وجُمله وأغراضه وقصصه، سواء كانت الواو عاطفة أو اعتراضية أو استئنافية أو غير ذلك[73].

الثاني: وهو متفرّع عن الأول ومترتّب عليه؛ إِذْ هو النّظر في قواعد الفصل والوصل التي أقرّها البلاغيون ومدى ملاءمتها لمواقعها في النَّظْم الكريم، وما إذا كانت في حاجة إلى تعزيز أو إضافة أو استدراك[74].

ثانيًا: منهج الكتاب:

يتّضح من خلال التنظير الذي ساقه المؤلِّف، وما شفَعه بالتطبيق أنه اتبع المناهج الآتية:

1- المنهج الوصفي: وهو الذي عُني بعرض التعريفات ومناقشتها.

2- المنهج الاستقرائي: وهو الذي عُني باستقصاء الآراء في الحقول العلمية المشتركة في ظاهرة الفصل والوصل، من كتبِ النحاة والمفسرين وحواشيها، وكتب البلاغيين وما يتبعها من الشروح، كما شمل ذلك بعض مفردات القرآن الكريم[75].

3- المنهج التحليلي: وهو الذي عُني بتحليل الآيات واستنباط اللطائف والنكت البلاغية.

4- المنهج النقدي: وهو الذي عُني بفحص المفاهيم والتعريفات والأساليب، وتقييمها وتمييز ما فيها من كمال وإحاطة أو قصور وافتقار.

الإشكاليات الرئيسة للكتاب وتخلّقها:

تتمحور إشكالية كتاب (الواو ومواقعها في النَّظْم القرآني) حول ثلاث نقاط مرتبطة بعضها ببعض، يمكن إجمالها على النحو الآتي:

أولًا: حصر قواعد الفصل والوصل في دائرة الجمل فقط، وجعل عطف المفردات بعيدًا عن دائرة البحث البلاغي، والذي دعا البلاغيين إلى ذلك أمران؛ الأول: القول بالتشريك في الحكم الإعرابي بين المتعاطفين. والثاني: طبيعة المنهج الذي اقتضته نظرية النَّظْم، وهم بذلك حذوا حذو عبد القاهر الجرجاني[76].

ثانيًا: اضطراب قواعد الفصل والوصل التي أقرّها البلاغيون أمام نصوص النَّظْم الكريم؛ إِذْ إنّ هذه القواعد لا تعدو أن تكون وسائل تعليمية لإحكام طرائق التعبير عند الناشئة، فكثيرًا ما يظهر التكلُّف في كيفيات اشتغال هذه القواعد في تفسير النصّ القرآني بغرض إخضاعه لتلك النصوص[77].

ثالثًا: صعوبة تقنين وحصر أساليب القرآن الكريم؛ فوجهُ إعجازه، وعطاؤه المتدفق، ووجهُ بلاغته تستعصي حصر أسراره في قواعد وقوانين وقوالب تؤطّر من أغراضه ومراميه[78]، يقول المؤلِّف في هذا الصّدد: «وبذلك يتضح من حصيلة ما قدّمناه أنّ عبد القاهر استفاد من الدراسات السابقة له، خاصّة ما يتّصل بالثقافة النحوية التي أحكم عليها حديث الفصل والوصل كجزء من نظرية النَّظْم، وهي دراسة شابها القصور بسبب محاولته تقنينها وضبطها بمقاييس النحو وأحكامه، فألبسها بذلك ثوبًا ضاقَ عنها فكان لا بد أن يمزّق هذا الثوب أو تحتبس الأنفاس داخله»[79].

وإذا كانت هذه الإشكالية فكيف قاربها المؤلِّف؟

في ضوء حرص المؤلّف على تقديم رؤية منهجية نقديّة على كشف عطاءات الواو في النظم القرآني وصولًا إلى المعاني القرآنية والنكات البلاغية في سياقاتها، قَوَّم المؤلِّف كتابه على ستة فصول، تمكن من خلال المناهج التي سلكها أن يهتدي إلى استكشاف المعايير المنهجية التي توجب الفصل من الوصل أو العكس، وهي معايير تنطلق من النّسق البنيوي والروابط المعنوية الكامنة في النصّ نفسه، والتي ترتكز على مقتضيات المقام ودواعيه، وهي ليستْ مجرّد قواعد خارجية يرتد إليها النصّ القرآني، فوجود الجامع بين المفردات أو الجمل وتحقّق المناسبة كما هو معروف عند النحاة، لا يوجب الوصل، إنما الذي يوجبه ويستحسنه دواعي المقام وتحقّق القصد من الجمع. ووصولًا إلى الأهداف التي نشدها وصاغها المؤلِّف لمقاربة الإشكالية، يمكن أن نقاربها في منحيين رئيسين:

المنحى الأول: الروابط الداخلية، وتتمثل في المعالجة الفنية أو اللغوية:

برزتْ أوجه المعالجة الفنيّة عند المؤلّف في توجيه العطف بالواو إلى أربعة أقسام، توجّه القسم الأول إلى المفردات، ثم إلى الجُمَل، ثم إلى القصص، متدرّجًا من الأدنى، ثم عالج بعد ذلك بعض المسائل المتخصّصة بالواو، وعلى هذا الأساس يمكن أنْ نُقارب حل إشكالية المؤلِّف من هذه النقاط:

أولًا: عطف المفردات: يُعَدُ هذا القسم إضافة من المؤلِّف إلى الدّرس البلاغي ليلفتَ النظر إلى الحاجة الماسّة من إضافته وضمه إلى مباحث الفصل والوصل، وفتحِ آفاقٍ جديدة في النظر فيه، والوعي بمدى انسجام عطف المفردات مع عطف الجُمَل والقصة، وأنّ الاهتمام بدلالة المعاني وطرق تأديتها هو المحرّك الأول في الدرس البلاغي، وليس الاعتماد على قاعدة التشريك في الحكم الإعرابي كما جاءتْ عند النحويين، ولكي يصل المؤلِّف إلى تهاوي قاعدة التشريك جَمَعَ بعضًا من آيات النَّظْم الكريم في عطف المفردات، ولجأ إلى التدبّر وطول النظر حتى يستنبط المعاني من العطف، ويُظهر النكات منه، فتمكن من تسليط الضوء على معانٍ وأغراض بلاغية تتبلور من السياق الداخلي للنصّ، كما أثبته في عطف التوطئة والتسوية والصفات، إلى آخر المباحث العشرة التي ساقها في هذا الفصل وبين فيها الأغراض البلاغية الكامنة في هذا الفصل، وبهذا المبحث تجلَت الرؤية الإبداعية والارتقاء في مدارج المعاني، ويكون بذلك مهّد للفصل الثاني بعطف الجُمَل.

ثانيًا: عطف الجُمَل: من البناء الذي كوَّنه المؤلِّف وأسّسه في الفصل الأول، ومن المعاني التي اهتدى إلى استنباطها من النَّظْم الكريم، بَين المؤلِّفُ اهتزازَ قواعد الفصل والوصل في الجُمَل والمقرّرة في كتب البلاغية، وأن آيات النَّظْم الكريم لا سيما عطف الجمل لا يحكمها إطار قاعدي، وأنّ المعاني تتحرك بحسب الأغراض المرام تحقّقها، وهو مع ذلك يوضح كيف أنّ التكلُّف يظهر أحيانًا إلى أن يُلْجَأ إلى كلّ أساليب التخريج والتقدير الممكنة لكي يتّسق الشاهد القرآني مع النمط القاعدي. وقد تركّزت الرؤية النقدية في هذا الفصل أكثر من غيره؛ لكونه حاكم قواعد الفصل والوصل في عطف الجُمَل، وعرضها على آيات النَّظْم الكريم، فوجد أنّ المعاني القرآنية تتجاوز تلك القواعد، وأنّ عطاء المعاني في النَّظْم الكريم جعل القواعد تهتز فيها وتضيق، كما بيّنه على سبيل المثال التوكيد اللفظي، فإنّه من المقرّر عند النُّحَاة عدم صحة العطف اللفظي، إلّا أنّ الشواهد القرآنية جاءتْ في مثل هذا موصولة بالواو؛ إشعارًا بنوع مغايرة، هو سرّ بلاغة العطف، فلا مانع من اجتماع عِلّتي التوكيد، والإشعار بالمغايرة متى وجد في ذلك سرّ أو نكتة بلاغية، فالفكر البلاغي يتحرّك على أساس المعنى أولًا خصوصًا في القرآن الكريم، ثم يُستأنس بالقواعد بعد ذلك إن سارت في ركاب المعاني.

كما أنّ المؤلّف لم يكتفِ بنقد قواعد الفصل والوصل في هذا الفصل إنما أضاف بعضًا من أنواع عطف الجُمَل التي تمثّل ظاهرة أسلوبية، تتقاطع معها بعض قواعد الفصل والوصل، كما أورده في عطف التلقين، والواو بعد بلاغة الاستفهام، والواو الفصيحة، فكلّ تلك الفصول تحرّك فيها المؤلِّف على أساس أنّ المعنى هو الذي يتصرّف في تركيب العبارة متجاوزًا متطلّبات الصحة اللغوية والنحوية؛ فمضامين النصّ الكريم تفرض نفسها على التركيب لتكون العبارة خادمة للمعنى ومؤدية ومبرزة للغرض.

ثالثًا: عطف القصة على القصة: بعد أنْ بدأ المؤلِّف بعطف المفردات ثم الجُمَل، وسّع البحث في الفصل الثالث ليصله على عطف القصة على القصة، وبيّن أنّ هذا العطف خارج عن نطاق القواعد التي تحكم عطف الجُمَل، فمعايير عطف الجُمَل المقتضية اشتراط الجامع، والتوافق في الخبرية والإنشائية، لا تطبّق في عطف القصة، إنما يُكتفى في عطف القصة التناسب في المعنى بين مضمون القصّتين دون اشتراط التناسب بين جُمَلِها ومفرداتها، وبهذا المعيار يميز المؤلِّف في هذا الفصل عن ما سبقه من الفصول، إِذْ إن دائرة الكلام توسعَت وتشعبَت أطرافه، فكان الملائم بحسب ما ورد في القصص القرآني أنْ تكون الأُطر العامة مختلفة عن المفردات والجُمَل؛ فإنّ ما يحدّد العطف من عدمه هو الغرض الذي يتعلّق الحديث عنه لتكون الجملة إحدى هذه اللبنات، فالتناسب ينصرف إلى العلاقة بين الغرضين لا إلى خصوص الجُمَل المكونة.

رابعًا: متفرّقات: في الفصول المتبقية من الكتاب راجع المؤلِّف بعض المسائل المتعلقة بالواو؛ الواو الاستئنافية والاعتراضية والزائدة والحالية، وعرض فيها جملةً من الأحكام التي تقتضي خروج الواو عن مسارها من العطف، إلّا أنّ المؤلِّف عرض كلّ تلك المسائل على النَّظْم الكريم ليبين ويوضح أصالة العطف في الواو أيًّا كان حالها، مستدلًّا بالفرق بين وجودها وعدمها وأن المعنى يفترق، مما يدفع إلى تأويلات بعيدة عن المعاني المرادة، ويوهم بزيادة الواو أو عدم دلالتها على الربط.

المنحى الثاني: الروابط الخارجية، وتتمثّل في النصوص والأدوات والأُطر التي استعان بها المؤلِّف:

وهي على ما يأتي بيانه:

أولًا: احتكام المؤلِّف إلى النّظم الكريم أولًا، وطول التدبّر والمكث عند معانيه، ثم النظر في القواعد التي وضعها البلاغيون، فالمعنى الذي يخالف القاعدة يقدَّم معناه وسبكه وطريقة بنائه في النصّ القرآني على تلك الأصول المرسومة، فأغلب تلك القواعد جاءت من أمثلة مصنوعة أوقعت التحيّز لرؤية قاعدية مبنية على تلك الأمثلة، وحتى إن وردَ فيها شيء من كلام العرب، إلا أنها لم تبتدئ من النَّظْم الكريم، فضلًا أن للقرآن الكريم فرائدَ لم تسلك من قبل وأنساقا لها بنياتها الداخلية الخاصّة كما في طرق الفصل والوصل بين المفردات والجُمَل، كما استثمر المؤلِّف ظاهرة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، حيث تسقط الواو في موضع وتثبت في موضع آخر، والألفاظ والعبارات متّحدة، فكشف عن عطاءات الواو من النصّ نفسه دون اللجوء إلى إطار قاعدي تتقولب حوله المعاني، فكان المتشابه اللفظي مَعِين وزاد يكشف عن دقّة الفروق البيانية، ويسهم في كشف عطاءات الواو.

ثانيًا: رصْد الأصول الفكرية التي بنيتْ عليها قواعد الفصل والوصل، وهي قواعد نحوية قائمة في الغالب على مبدأ الصحة والخطأ، والمؤلِّف في هذا الصّدد لا يكتفي باستنطاق الآيات القرآنية ومدى مخالفتها للقاعدة، إنما يتعدّى ذلك إلى البحث عن الدوافع التي وجّهت تلك القواعد والعمل بمقتضاها وما يترتّب عليها، ومن هنا فإنه قابل بين عمل اللغويين والنّحاة والإطار الخارجي الذي سَيَّجُوه حول وضع اللغة وطريقة بنائها وسبكها، وموافقة الكلام للقواعد المستنتجة، وبين عمل البلاغيين الذي يدور على جهات الحُسن في تأدية المعاني وموافقة الكلام لمقتضى الحال، متجاوزِين الأُطر اللغوية التي انتهجها اللغويون لبيان الصحّة والخطأ في الأساليب إلى استنطاق المعاني الفريدة بعيدًا عن مواضعات اللغة؛ فعمل البلاغيين يبدأ بعد استيفاء الكلام الصحّة النحوية، ومع ذلك لم يسلَم البلاغيون أحيانًا من الوقوع في إطار القاعدة النحوية، يقول المؤلِّف: «ومن ثم حفلَتْ كتب التفاسير بمحاولات متباينة في الالتزام بقواعد الفصل والوصل، أو الخروج عنها حين يتعذّر التوفيق بين المثال والقاعدة»[80].

ومن المعلوم أنّ قواعد الفصل والوصل استقرّتْ على يدي عبد القاهر الجرجاني، الذي ظهرتْ وغلبتْ ثقافته النحوية في باب الفصل والوصل، والدليل على ذلك تخصيصه حرف الواو من حروف العطف في مبحث الفصل والوصل التي لها من الاتساع ما لا يكون مع الفاء التي تكون إمّا على سبيل التعقيب أو التسبب، بخلاف المعنى الزائد عن مطلق الجمع للواو[81].

وبناء على ما تقدّم فإنّ المؤلّف عالج مسائل الفصل والوصل مفرّقًا بين الصناعة النحوية والصناعة البلاغية، وبيّن أنّ النحاة يقفون عند أساليب الصحة والخطأ، وأنّ البلاغيين ينظرون إلى تأدية المعاني بأحسن صورها؛ وبتصوّر هذا المعنى وإدراكه لا يكون للكلام أغراض متناهية أو قوالب جاهزة، لا سيما النَّظْم الكريم، إنما معانيه وأغراضه متنامية، والمؤلِّف بذل الجهد والوسع للوصول إلى أغراضٍ من كلّ فصل ومبحث عقده.

ثالثًا: وعي المؤلّف بكلام أهل العلم والاستفادة منه، حيث حقّق كلّ مسألة في الكتاب بالرجوع إلى مصادرها الرئيسة، فجاءتْ مسائله غزيرة بالأقوال متبصرة بالفهوم، مما مكن المؤلِّف من الوصول إلى جذر الفكرة ورأسها، والآراء والنتائج التي بُنيت على تلك الجذور، كما أخرج المؤلِّفُ نفائسَ الآراء التي حوَتها بطون المصنّفات من كتب التفسير والبلاغة، وهي ثروة لم يُلتفت إليها، يقول المؤلف: «وقد أدهشني أن رواد البلاغة وأعلام البيان ممن جمعوا بين التأليف في البلاغة والكتابة في التفسير، قد أثبتوا في تفاسيرهم، وحواشيهم عليها، الكثيرَ من المباحث الشائقة والممتعة في بلاغة العطف بالواو، دون أن تجد لها أثرًا في مصنفاتهم البلاغية»[82].

رابعًا: المكنة العلميّة التي رُزقها المؤلّف، وبصيرته الثاقبة وحسّه البلاغي المبني على الذّوق المدرّب بأصناف الكلام، فباب الفصل والوصل من أدقّ أبواب البلاغة، ومع ذلك فإنّ المؤلّف بما امتلك من أدوات أعانته على بلوغ المقصود، أهم تلك الأدوات؛ الأداة النقدية، التي أوصلتْه إلى استيعاب معنى النصّ ومقاربة المراد منه، ثم تحليليه وتفكيك أجزائه وتتبّع احتمالاته، ثم إصدار الحكم بما يتوافق مع قواعد الفصل والوصل أو لا يتوافق معها، إضافة إلى أنه لو وجدَ العلة المرضية في رأي سُبق إليه للفصل من عدمه، فإنه يجتهد بالتدبّر والتأمّل ويضيف ما لمسه من نكات ولطائف بلاغية. كما نقد بعض التسميات التي وردتْ عند أهل العلم، ومع ذلك فقد أَوْرَدَهَا كما هي ثم قدّم رأيه النقدي بكلّ تجرّد وموضوعية.

خامسًا: تبصّر المؤلف بالسياق الداخلي (اللغوي) الكامن من عناصر مقالية داخل النصّ، والسياق الخارجي وهو ما يحيط بالنصّ من عوامل خارجية من حال المخاطِب، والمخاطَب، وأسباب النزول، وجُلّ الملابسات المحيطة بالنصّ[83]، وهذا الوعي أسهم بشكل كبير ومؤثّر في الوصول إلى الأهداف التي ارتجاها المؤلِّف، فلم يكتفِ المؤلِّف بظاهرة الفصل أو الوصل في الآية إنما تأمّل في السياق القرآني بنظرة إجمالية، وسياق السورة بنظرة خاصّة، وربط القول بالغرض منه والمقاصد الأساسية التي تدور عليها المعاني، يقول المؤلِّف: «إنّ للقرآن الكريم سمة خاصّة تختلف عمّا سواه من النصوص الأدبية، وهو الأمر الذي لا يمكن تجاهله في دراسة الفصل والوصل بوجه خالص، تلك السمة هي ما يتعلّق بآيات القرآن من أسباب النزول، التي يُعَدّ تجاهلها جنايةً تمزّق أواصر الجُمَل، وتقضي على لُحْمة النَّسَب بين الآيات والسّور»[84].

سادسًا: الموازنة بين الأقوال والآراء، وتقديم بعضها على بعض مع ذِكْر التعليل وتوضيحه وبيانه، مثل قوله: «هذا ما استطعتُ حصره من الآراء التي ذكرت في هذه الواو منها ما يستحقّ المناقشة، ومنها المتهافت الذي لا يستحقّ الوقوف عنده، مثل القول بالزيادة غير المفيدة...، ويمكن بلورة هذه الآراء وتصنيف الواو معها إلى أنواع ثلاثة»[85]. ومع تعدّد الآراء إلا أنّ منهج المؤلّف يميل إلى تحليل معاني الحروف والمفردات والأساليب على الأصل، ولا يحيد عن ذلك إلا إذا تعذّر، فمن أقواله: «فليس أمامنا إلا أنْ نقول إنّ الواو خُلقتْ للربط، وهو معنى أصيل فيها لا يفارقها، سواء كانت عاطفة أو اعتراضية أو حالية»[86]، ويعضد ذلك براعة المؤلِّف في صياغة الأسئلة واستشكالاتها العلمية التي من شأنها أن تفتح الذّهن وتفتقه وترشد إلى تتبع مسالك المباني ومقاربة معانيها.

أبرز مزايا الكتاب:

1. الجِدَّة في الطّرح؛ والتي تمثّلت في المنهج التحليلي والنقدي الذي سلكه المؤلّف، فقد استطاع أن يُضيف بعض المباحث التي تجاوزها البلاغيون؛ عطف المفردات، كما استطاع أن يستدرك على بعض قواعد الفصل والوصل، كما قدّم تأويلات مُقْنِعة حول من زعم زيادة الواو في القرآن الكريم، والقطع في الواو الاستئنافية.

2. التنوّع في الجانب التطبيقي، حيث شملت الدراسة آيات عديدة من النّظْم الكريم، تنوّعت مقاماتها؛ مما أثرى التحليل والتوجيه البلاغي.

3. ورع المؤلِّف وإجلاله للقرآن الكريم ومعانيه، ثم لكلام العلماء، فنجده دومًا ما يقدّم الرأي الذي يليق بإعجاز النَّظْم الكريم معنًى ولفظًا.

4. استقصاء جُلّ المواضيع المتعلّقة بالواو، فبالرغم من وسع الموضوع وتشعّبه، وتعدّد فصوله ومباحثه إلا أنّ المؤلِّف تمكَّن من الإحاطة بالموضوع جمعًا وتوجيهًا.

خاتمة:

هذه قراءة موجزة لكتاب: (الواو ومواقعها في النَّظْم القرآني) تؤكِّد على تحقّق الأهداف التي توخّاها المؤلِّف، وهي كشف عطاءات الواو في النَّظْم الكريم، وسخاء المعاني والأغراض التي خرجتْ إليها، وهي أغراض تخلَّقتْ من داخل النصّ القرآني وتكوَّنت من روابطه المعنوية، سواء كان ذلك على مستوى المفردات أو الجُمَل أو عطف القصة، وكلّ ذلك لا يتحقّق بقواعد وأُطر ثابتة ونظرات مسبقة، فروابط النسق القرآني لا تحيط بها قواعد، وهذا ما أكّده المؤلّف في بداية الكتاب حين أبرز المآخذ النقدية على قواعد الفصل والوصل، وأجملها في أربع نقاط، وتُعَدُّ هذه النقاط مرشدة للمتخصّصين دراسةً وتنقيبًا ومراجعةً وفحصًا، والنظر في كتب علماء التراث، واستثمار ما أضافه المؤلِّف وعمل موازنة ومقاربة، كما أشار المؤلِّف إلى نقطة جديرة بالعناية والاهتمام، ألَا وهي العناية بالعطف في القصص القرآني، فهذا الموضوع يحتاج إلى دراسة مستفيضة لبيان المناسبات الخاصّة، دون الاكتفاء بالاشتراك في ظواهر عامة[87]، وأنوّه أنّ الكتاب حوى بعض اللطائف البلاغية التي لم يُسبق إليها، وهي جديرة بالاطلاع والمدارسة، وكلّ ما حواه الكتاب انطلق من الفهم السليم للتراث مما مكّن مؤلِّفه من صناعة نقديّة في كتابه، نقّح فيها بعض الأفكار وحرّر مسائلها، وهذا الجهد والمنهجية التي هي طريقة التفكير في حاجة إلى إبرازها والإفادة منها، والحقيقة إنّ هذا الجهد المبذول من المؤلِّف -رحمه الله- يدعونا إلى مزيد من النظر في كتب علماء البلاغة والإعجاز والمفسِّرين، واستنطاقها، وتطوير وتوسيع آفاق البحث في باب الفصل والوصل، والإفادة مما قدّمه من رؤى نقدية وأدوات منهجية، وأن نستثمر في هذا العلم الشريف، ونزيد به وعيًا وتبصرًا للذِّكْر الحكيم.

نسأل اللهَ أن ينفع بجهود علمائنا ويبارك فيها. هذا واللهُ أجلّ وأعلم، وصلى اللهُ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] الصناعتين، ص7.

[2] هذا الكتاب يقع في مجلد واحد وبلغ عدد صفحاته (588) صفحة، وهو من نشر مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1436هـ/ 2015م.

[3] ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة، ص246.

[4] دلائل الإعجاز، ص222.

[5] هو الأستاذ الدكتور محمد الأمين الخضري -رحمه الله- أستاذ البلاغة والنقد في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف، وهو من طلاب الشيخ محمد محمد أبو موسى، يقول عنه الشيخ هو والدكتور محمود توفيق: «هما من طراز نادر؛ إِذْ إنّ عملهما -فيما أحسب- لله، ولا يبغيان الظهور والبروز». نقل هذا الكلام عن الدكتور محمد أبو موسى الدكتور أحمد السديس في كتاب: فرائد نفيسة من مقدّمات الدكتور محمد أبو موسى وسيرته، ص54، ولم يترك الدكتور محمد الأمين عددًا كبيرًا من المؤلَّفات -فيما أعلم- إلّا أن من يطّلع على ما كتب يلحظ أنه أغنى الموضوعات التي كتب فيها، وفتح أبوابًا جديدة في المعرفة فيما قدّمه. من مؤلفاته:
• من أسرار حروف الجر في الذِّكْر الحكيم.
• من أسرار حروف العطف في الذِّكْر الحكيم (الفاء، ثم).

[6] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص12.

[7] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص10.

[8] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص16.

[9] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص26.

[10] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص28.

[11] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص32-43.

[12] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص43-44.

[13] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص50.

[14] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص54.

[15] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص58-59.

[16] ينظر: قواعد الترجيح في التفسير، (2/ 387).

[17] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص57.

[18] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص69-83.

[19] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص80.

[20] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص90-91.

[21] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص112.

[22] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص123، 131 وما بعدها.

[23] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص149.

[24] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص157.

[25] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص161.

[26] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص165.

[27] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص182.

[28] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص191.

[29] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص199-200.

[30] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص204-205.

[31] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص219.

[32] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص219.

[33] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص220-252.

[34] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص222.

[35] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص252- 253.

[36] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص268.

[37] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص256.

[38] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص269.

[39] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص269.

[40] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص272-278.

[41] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص274.

[42] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص286.

[43] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص286.

[44] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص297.

[45] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص298.

[46] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص305-334.

[47] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص305.

[48] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص335.

[49] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص335-343.

[50] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص339.

[51] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص345.

[52] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص348-364.

[53] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص350.

[54] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص365.

[55] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص369.

[56] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص377.

[57] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص379.

[58] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص402.

[59] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص395-396.

[60] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص427.

[61] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص429.

[62] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص438.

[63] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص461.

[64] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص482.

[65] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص507-508.

[66] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص527.

[67] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص531.

[68] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص532-533.

[69] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص547-548.

[70] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص559.

[71] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص551.

[72] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص11.

[73] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص11.

[74] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص11.

[75] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص102.

[76] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص49.

[77] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص44، 219.

[78] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص45.

[79] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص43.

[80] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص219.

[81] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص26.

[82] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص10.

[83] للاستزادة من هذا الموضوع يرجع إلى كتاب: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة؛ دراسة نظرية تطبيقية، للدكتور/ سعد بن محمد الشهراني، والكتاب من مطبوعات مركز تفسير للدراسات القرآنية.

[84] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص43.

[85] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص131.

[86] الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص531.

[87] ينظر: الواو ومواقعها في النظم القرآني، ص402.

الكاتب

الدكتور محسن بن علي الشهري

حاصل على الدكتوراه من كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية، وله عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))