التفسير في المغرب الأقصى والأندلس في القرنين السادس والسابع الهجريّيْن
أشهر اتجاهاته وأبرز مميزاته

الكاتب : محمد الدرقاوي
كان لعلماء المغرب الأقصى والأندلس جهودٌ كبيرة في التفسير، وانتظمتْ هذه الجهود في عدّة اتجاهات، ويحاول هذا المقالُ التعريفَ بأبرز هذه الاتجاهات ومميزات التفسير في القرنين السادس والسابع الهجريّين.

 الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

أمّا بعد:

  فقد كان لعلماء المغرب الأقصى والأندلس جهودٌ عظيمة في التفسير، وانتظمتْ هذه الجهود في عِدّة اتجاهات، وفي هذه المقالة سنحاول التعريف بأبرز اتجاهات التفسير في المغرب الأقصى والأندلس خلال القرنين السادس والسابع الهجريّيْن ومميزات التفسير خلال تلك الفترة، وذلك بعد تمهيد نُعَرِّف فيه بمفهوم الاتجاه التفسيري والفرق بينه وبين المنهج التفسيري.

تمهيد:

أولًا: مفهوم الاتجاه التفسيري:

الاتجاه لغةً: قال ابن منظور -رحمه الله-: «وجه الكلام: السبيل الذي تقصده به. والوجهة: القِبْلَة وشبهها في كلّ وجهة، أي في كلّ وجه استقبلته. واتجهتُ إليك أتّجه: أي توجّهتُ. وتوجه إليه: ذهب»[1]، ما فهمته من هذا الكلام أنّ الإنسان يحدّد الهدف ثم يتّجه إليه، وهذه هي الحقيقة اللغوية لهذا المصطلح.

التفسير لغةً: من خلال بحثي عن معنى هذا المصطلح في كتب اللغة وجدتُه يدور كما قال ابن فارس -رحمه الله-: «فسر: الفاء والسين والراء كلمة واحدة تدلّ على بيان شيء وإيضاحه. من ذلك: الفَسْر، يُقَال: فَسَرْت الشيءَ وفسَّرته. والفَسْر والتَّفْسِرَة: نظرُ الطبيب إلى الماء وحُكْمُه فيه»[2].

الاتجاه التفسيري اصطلاحًا: «هو الهدف الذي يتّجه إليه المفسِّرون في تفاسيرهم ويجعلونه نصب أعينهم وهم يكتبون»[3]، وبعبارة أخرى: الخصائص الفكرية التي يميل إليها المفسّر في تفسيره للقرآن الكريم، وقد يكون هذا الميل إلى مسائل العقيدة وتقريرها وبسط معالمها والذَّوْد عنها وما يتعلّق بها فيكون هذا التفسير ممثّلًا الاتجاه العقدي، ومثل ذلك في الفقه واللغة والتصوّف وغير ذلك[4].

ثانيًا: الفرق بين الاتجاه والمنهج عند المفسِّرين:

يحسُن بنا أن نقدّم في هذه المقالة ببيان الفرق بين الاتجاه والمنهج؛ لأن هذه المصطلحات لا نكاد نجدها عند أصحاب الدراسات القرآنية الأوائل، ولذلك وقع الخلاف بين الباحثين والدارِسين في تعريف هذه المفردات ولا نجدهم يتّفقون على معنى واحد.

«فالاتجاه مصطلح حديث، ويُطلق على الهدف الذي يتّجه إليه المفسِّرون في تفاسيرهم ويجعلونه نصب أعينهم وهم يكتبون»[5]، وهذا التعريف ينسجم مع المعنى اللغوي للمصطلح، وهذا دليل قوي؛ ولذلك مال إليه كثيرٌ من الباحثين المعاصرين في الدراسات القرآنية، منهم: عبد الرزاق هرماس، وفهد الرومي، ومحمد سيدي مولاي، ومولاي عمر بن حماد، وغيرهم. وأمّا مصطلح المنهج فمعناه: «القواعد العامة والأدوات التي يستعملها المفسِّر في بيان معنى الآية القرآنية»[6].

من خلال هذه التعاريف يتبيّن لنا الفرق بين الاتجاه والمنهج؛ فالأول هو أنّ المفسِّر يضع هدفًا ثم يسير إليه، مثل: المفسّر يميل إلى علم اللغة، فإنّ تفسير هذا المفسِّر يغلب عليه الاتجاه البياني، وقِسْ على ذلك الفقه والعقيدة والتصوّف وغير ذلك، وأمّا المنهج -كما ذكرنا آنفًا- فهو القواعد والأدوات التي يكشف بها المفسِّر معنى الآية القرآنية، وهذا هو الفرق الجوهري بين المصطلحَيْن في الدراسات التفسيرية.

اتجاهات التفسير في المغرب الأقصى والأندلس خلال القرنيْن السادس والسابع الهجريّيْن:

من خلال النظر في الثروة التفسيرية خلال المدّة الزمنية التي ذكرنا يمكننا القول بأن أشهر الاتجاهات التفسيرية التي كانت موجودة في هذه الفترة، هي:

أولًا: الاتجاه الصوفي: هو الاتجاه الذي ينبني على مقدّمات فلسفية ونظرية تنقدح في ذهن الصوفي ثم يُنزِل القرآنَ عليها بعد ذلك[7].

هذا الاتجاه فيه تفاسير مقبولة تتّفق مع أصول التفسير، وهناك تفاسير غير مقبولة من الناحية العِلْمية؛ لأنها لا تحترم قواعد تفسير النصّ القرآني.

وأشهر المفسِّرين الذين يمثّلون هذا الاتجاه:

1- أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم بن محمد التجيبي الحرالي المراكشي، أصله من الأندلس، ولكنه وُلد ونشأ بمراكش، وتلقّى علومه عن أشهر علماء المغرب في عصره، توفي سنة 638هـ، قال محمد بن شريفة عن تفسيره: «وفيه يتناول الحرالي القرآن الكريم آيةً آيةً بل كلمةً كلمةً، وهذا التفسير مع الأسف مفقود الآن، فيما أعلم، ولا يوجد منه إلّا نصوص أُعجب بها البقاعي ونقلها في تفسيره المسمى (نظم الدّرر في تناسب الآيات والسور)»[8].

مثال من تفسيره: «قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ}[البقرة: 151]، قال الحرالي: أي الفقه فيه، {وَالْحِكْمَةَ}، قال الحرالي: فخصّ تعليم الحكمة من عموم تعليم الكتاب؛ لأن التوسل بالأحكام جهد عمل، والتوسّل بعلم الحكمة يسر منال عقل؛ لأن الحكمة منال الأمر الذي فيه عُسر بسببٍ فيه يُسر، فينال الحكيم بحكمته لاطلاعه على إفضاء مجعول الأسباب بعضها لبعض، مما بين أسباب عاجل الدنيا ومسببات آجل الآخرة ما لا يصل إليه جهد العامل الكادح، وفي تكملة الكتاب والحكمة بكلمة (ال) إنهاء إلى الغاية الجامعة لكلّ كتاب وحكمة بما يعلمه الأوّلون والآخرون».

ثم قال: «وبذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلّم في علوم الأوّلِين بكلمات يعجز عنها إدراك الخَلْق، نحو قوله -صلى الله عليه وسلم-: (استاكوا بكلّ عود ما خلا الآس والرّمان فإنهما يهيجان عرق الجذام)؛ لأن الخَلْق لا يستطيعون حصر كليات المحسوسات، غاية إدراكهم حصر المعقولات، ومن استجلى أحواله -صلى الله عليه وسلم- عَلِمَ اطلاع حسّه على إحاطة المحسوسات، وإحاطة حكمها وألسنتها، ناطقها وأعجمها حيًّا وجمادها جمعًا، لما في العادة حكمة، ولما في خرق العادة آية»[9].

2- ابن برَّجان، هو أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبي الرجال محمد بن برَّجان اللخمي الإفريقي الإشبيلي الصوفي، من الوافدين على المنطقة، توفي سنة 536هـ بمراكش، له تفسير يُسمى: (تنبيه الأفهام إلى تدبُّر الكتاب الحكيم وتعرُّف الآيات والنبأ العظيم)، هذا التفسير فَسَّر فيه من سورة غافر إلى سورة الناس[10].

مثال من تفسيره: قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}[غافر: 4]: «وقد قال الله تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}، فالجدال في الله تكذيبهم بأسمائه وصفاته كقولهم: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[السجدة: 10]، وكذلك تكذيبهم بأنه يَسمع سِرَّهم ونجواهم، وقول بعضهم: إنه لا يعلم المعلومات على التفصيل ولا هو مُرِيدها ولا مُشِيئها ولا يقدر عليها على التفصيل وتفصيل التفصيل، وجدالهم في آيات الله: هو ردُّهم على الرّسل والكتب وإلحادُهم بآيات الوجود في المخلوقات إلى أنها عن توليدات وأسباب -زعموا- تتسبب عن أسباب وأواسط بتوسط عن موجودات، إلى غير ذلك من ضلالهم ونسيانهم ذِكْرَ الله وآلاءَه.

وكذلك صرفوا ما أظهره -جل ثناؤه- على أيدي الرّسل والأولياء من معجزات وكرامات خَرَق لهم بذلك العادات، جعل ذلك لهم آيات على صدقهم، وأقامها مقام قوله: صَدَقُوا، أنَا أرسلتهم إلى المعلوم والمعهود في جري العادات، وأنّ ذلك زعموه عن أواسط باطنة وأسباب غير ظاهرة للعيان، كما قال أولئك فيها: إنها سحر، والمعنى بذكر الجدال هنا: هو ردُّهم نصائح الله -جل ذكره- وما بلَّغتهم الرُّسُل من كتبٍ وحكمةٍ وأمرٍ ونهي، وكلّ ذلك آيات ودلائل على وحدانيته وإثبات رسالاته وصِدْق كتبه، وفرقان بين حلاله وحرامه»[11].

3- العلّامة صاحب التواليف الكثيرة محيي الدين أبي بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائي الحاتمي المرسي بن عربي، المتوفى سنة 638هـ[12]. تفسيره مليء بالنظريات الفلسفية والصوفية؛ لأنّ المفسّر محيي الدين بن عربي كان كثيرَ الاطلاع على المدارس الفلسفية؛ ولذلك غلب على تفسيره الجانب الفلسفي الذي دفعه إلى تمثُّل التصوّف النظري في القرن السابع الهجري.

فمثلًا: عندما تعرّض لقوله تعالى في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[النساء: 1] الآية، نجده يقول: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}: «اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم -وهو ربكم- وقاية لكم، فإنّ الأمر ذمٌّ وحمدٌ، فكونوا وقايته في الذمّ، واجعلوه وقايتكم في الحمد؛ تكونوا أُدباء عالِمين.

وفي سورة آل عمران عند قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}[آل عمران: 191]، يقول: أي: شيئًا غيرك، فإنّ غير الحقّ هو الباطل، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك، {سُبْحَانَكَ} ننزهك أن يوجد غيرك، أي: يقارِن شيءٌ فَرَدانيّتك أو يُثَنِّي وحدانيتك»[13]، وهذه الآيات بيّنَت لنا أنّ ابن عربي الصوفي تأثّر كثيرًا بنظرية وحدة الوجود، وهذه النظرية كما هو معلوم أَخَذَها من الفلسفة اليونانية ثم بدأ يفسّر النصوص القرآنية على حسب هذه النظرية.

وهذه هي أشهر التفاسير في الاتجاه الصوفي في هذه الفترة، ولكن أغلب التفاسير الصوفية مفقودة في هذه المرحلة.

ويظهر لنا مما سبق أن الاتجاه الصوفي في هذه الفترة كان منقسمًا إلى قسمين: قسم متعلّق بالتصوّف النظري الذي كان يمثّله محيي الدين بن عربي، والتصوّف العملي الذي كان يمثّله أبو الحسن الحرالي -رحمهم الله-.

ثانيًا: الاتجاه الفقهي: هو الاتجاه الذي يُعْنَى فيه بدراسة آيات الأحكام وبيان كيفية استنباط الأحكام منها[14].

هذا الاتجاه هو أدقّ الاتجاهات التفسيرية في استخراج الأحكام الشرعية العملية، والمفسِّر لا يستطيع أن يسلك هذا الاتجاه حتى يكون فقيهًا؛ لأنّ هذا المنهج يحتاج إلى اطّلاع واسع على المدارس الأصولية والفقهية التي تؤهِّل المفسِّر إلى سلوكِ هذا الاتجاه.

وأشهر ما وصل إلينا من كتب التفسير التي اهتمّت بهذا الاتجاه في هذه الفترة سنذكرها فيما يأتي:

1- أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي، المتوفَّى سنة 543هـ. نحا فيه منحى الاستخراج الفقهي من الآيات التي تتضمّن أحكامًا فقهية[15]، قال مناع القطان -رحمه الله-: «نلاحظ عن ابن العربي في تفسيره أنه رجل معتدل منصف، لا يتعصّب لمذهبه كثيرًا، ولا يتعسّف في تفنيد آراء المخالفين كما فعل الجصّاص -رحمه الله-، وإن كان يتغاضى عن كلّ زلّة علمية تصدر من مجتهد مالكي»[16].

مثال من تفسيره: قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[النساء: 8].

في هذه الآية ثلاثة أقوال:

«الأول: أنها منسوخة، قاله سعيد وقتادة، وهو أحدُ قولي ابن عباس.

الثاني: أنها مُحكمة، والمعنى فيها الإرضاخ للقرابة الذين لا يرثون إذا كان المال وافرًا، والاعتذار إليهم إن كان المال قليلًا، ويكون هذا على هذا الترتيب بيانًا لتخصيص قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}[النساء: 7]، وأنه في بعض الورثة غيرُ معيَّن، فيكون تخصيصًا غيرَ معيَّن، ثم يتعيَّن في آية المواريث.

وهذا ترتيب بديع؛ لأنه عموم ثم تخصيص ثم تعيين.

الثالث: أنها نازلة في الوصية، يوصِي الميت لهؤلاء على اختلافٍ في نقل الوصية لا معنًى لها.

وأكثر أقوال المفسِّرين أضغاثٌ وآثارٌ ضِعاف.

والصحيح أنها مبيِّنةٌ استحقاقَ الورثة لنصيبهم، واستحبابَ المشاركة لمن لا نصيب له منهم بأن يُسْهَم لهم من التركة ويُذكر لهم من القول ما يؤنسهم وتَطِيب به نفوسهم.

وهذا محمول على الندب من وجهين:

أحدهما: أنه لو كان فرضًا لكان ذلك استحقاقًا في التَّرِكَة ومشاركةً في الميراث لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول؛ وذلك مناقضٌ للحكمة وإفسادٌ لوجه التكليف.

الثاني: أنّ المقصود من ذلك الصِّلَة، ولو كان فرضًا يستحقونه لتنازعوا منازعة القطيعة»[17].

2- الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمّنه من السُّنّة وآي الفرقان، للإمام القرطبي، المتوفى 671هـ[18]. قال الذهبي -رحمه الله-: «نلاحظ عن هذا التفسير أنه يُفيض في ذِكْرِ مسائل الخلاف ما تعلّق منها بالآيات عن قُرْب، وما تعلّق بها عن بُعد، مع بيان أدلة كلّ قول»[19].

مثال من تفسيره: قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}[الطلاق: 2]، قال القرطبي -رحمه الله-: «قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا} أمرٌ بالإشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإنْ راجع من غير إشهاد، ففي صحّة الرجعة قولان للفقهاء. قيل: المعنى: وأشهِدوا عند الرجعة والفُرْقة جميعًا. وهذا الإشهاد مندوبٌ إليه عند أبي حنيفة، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة: 282]، وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفُرْقة. وفائدة الإشهاد ألّا يقع بينهم التجاحُد، وألّا يُتَّهَم في إمساكها، ولئلّا يموت أحدهما فيدَّعي الباقي ثبوتَ الزوجية ليرث.

والإشهاد عند أكثر العلماء على الرّجعة نَدْبٌ، وإذا جامَع أو قَبَّل أو بَاشَر يريد بذلك الرّجعة، وتكلّم بالرجعة يريد به الرّجعة، فهو مُرَاجِعٌ عند مالك، وإن لم يُرِد بذلك الرّجعة فليس بمراجِع.

قال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبّل أو باشَر أو لمس بشهوة فهو رجعة، قالوا: والنظر إلى الفرج رجعة.

وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلّم بالرّجعة فهو رجعة.

وقد قيل: وطؤه مراجعة على كلّ حال، نواها أو لم ينوها. ورُوي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان مالك يقول: إذا وَطِئ ولم ينوِ الرّجعة، فهو وطءٌ فاسد، ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العِدّة الأولى، وليس له رجعة في هذا الاستبراء»[20].

3- أحكام القرآن لابن الفرس، المتوفّى سنة 597هـ[21]. ابن الفرس -رحمه الله- سلك في هذا الكتاب منهج المقارنة بين الآراء الفقهية، ويُسمى هذا المنهج بالمصطلح المعاصر بالفقه المقارَن، وهذا يدلّ على الملَكة الفقهية عند المفسِّر -رحمه الله-.

مثال من تفسيره: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}[النساء: 6]، قال ابن الفرس -رحمه الله-: «الأمر بالإشهاد أمر ندبٍ عند أكثر العلماء، وبعضهم يراه أمر إيجاب.

والمعنى: إذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهِدوا على الدّفع، أي: لا تدفعوه إلّا بشهود، وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وغيره أنّ المعنى: فأشهِدوا عليهم فيما استقرضتم منهم.

واختُلف إذا بلَغ اليتيمُ فطَلَبَ الوصيَّ بماله:

ففي المذهب أنه إذا زعم الوصيُّ أنه دفعه إليه لم يُقبَل منه إلّا ببيِّنة خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنّ القول قوله مع يمينه؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}[النساء: 6]، فأمَر الولي بالتوثّق لنفسه والإشهاد عند تسليم الأمانة التي في يده إلى غير من ائتمنه عليها، فلولا أنه يضمن إذا جحد لم يكن للأمر بالتوثّق فائدة.

وقد اختُلف فيمن دُفع إليه مالٌ ليدفعه إلى رجل آخر من دَيْن له على الدافع أو هبة أو صدقة أو شبه ذلك، فقال: قد دفعتُ، وقال الذي أُمِر بالدفع إليه: لم يدفع إليّ، فقال ابن القاسم: إن لم تقم للرسول بيِّنة بالدفع غرم.

وقال ابن كنانة: إن كان المال يسيرًا لم يضمن وصُدّق، وإن كان كثيرًا ضمن إن لم يُشْهِد.

وقال ابن الماجشون: القول قول الرسول مع يمينه، والآية حُجّة لقول ابن القاسم؛ لأنه كان يجب أن لا يدفع إلّا بإشهاد؛ كالوليّ لليتيم لأنهما دفعَا إلى غير مَن دفعَ إليهما.

وقال اللخمي: قول ابن الماجشون أبينُ، وقد قيل في قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}[النساء: 6]، أنّ ذلك لدفع التنازع لا لأنه لا يُقبل قوله؛ كما قيل في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة: 282]، إلّا أن تكون العادة الإشهاد فلا يبرأ إلّا بذلك»[22].

 أبرز مميزات التفسير في المغرب الأقصى والأندلس خلال القرنَيْنِ السادس والسابع الهجريّيْن:

يمتاز التفسير في هذه المدّة التي ذكرنا بمميزات عديدة؛ أبرزها -بحسب ما بدَا لنا- ما يأتي:

الميزة الأولى: جمع التراث التفسيري وتنقيحه، ويظهر هذا للمطّلع على كتب التفسير التي ألّفها المعاصرون، فقد استفادتْ هذه التفاسير من مختلف أُمّات التفاسير المتقدّمة.

الميزة الثانية: أنّ التفسير في هذه الفترة انتقل من التفسير بالمأثور إلى التفسير بالرأي ويظهر هذا كثيرًا في التفاسير التي ذكرنا؛ لأنّ هذه الفترة عَرفت تطوّرات سياسية انعكستْ على الدرس التفسيري.

الميزة الثالثة: كان علم التفسير في هذه الفترة يغلب عليه الجانب الإصلاحي، ويظهر هذا في الاتجاه الصوفي والاتجاه الفقهي، بمعنى أن المفسِّر يضع من بين أهداف تفسيره إصلاح المجتمع، وهذا النوع من المنهج قليلٌ مَنْ سَلَكَه من المفسّرين.

الميزة الرابعة: أغلب علماء التفسير في هذه الفترة كانوا يعتمدون في تفسير النصّ القرآني على القرآن الكريم والسنّة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

الميزة الخامسة: بدأ علماء التفسير في هذه الفترة بالاهتمام بقواعد التفسير، وأوّل كتاب ظهر في هذا المجال هو كتاب أبي الحسن الحرالي -رحمه الله- المسمَّى: (مفتاح باب المقفل لفهم القرآن المنزل)، ولا أعلم كتابًا في القواعد التفسيرية قبل هذا الكتاب.

خاتمة:

اعتنت هذه المقالة بإظهار أشهر الاتجاهات التفسيرية في القرنَيْن السادس والسابع الهجريّيْن، وقد خلصَت المقالة إلى أنّ الصحيح في تعريف الاتجاه التفسيري أنه الهدف الذي يتّجه إليه المفسِّر في بيان معنى الآية القرآنية، بينما المنهج التفسيري فيعبِّر عن القواعد والأدوات التي يستعملها المفسِّر في تفسير النصّ القرآني.

كما انتهت المقالة إلى أنّ الاتجاهات التفسيرية التي كانت حاضرة في القرنيْنِ السادس والسابع الهجريّيْنِ في المغرب الأقصى والأندلس هي: الاتجاه الصوفي، والاتجاه الفقهي، وأنّ الاتجاه الصوفي في هذه الفترة كان منقسمًا إلى قسمين: قسم متعلّق بالتصوّف النظري الذي كان يمثّله محيي الدين بن عربي، وقسم متعلّق بالتصوّف العملي الذي كان يمثّله أبو الحسن الحرالي، رحمهم الله. وأمّا الاتجاه الفقهي فظهر في كتبِ الأحكام، مثل: كتاب (أحكام القرآن) لأبي بكر بن العربي، وكتاب (أحكام القرآن) لابن الفرس، رحمهم الله.

 

 

[1] لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط3، 2004، (15/ 171).

[2] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، دار ابن الجوزي، القاهرة، ص641.

[3] التفسير والمفسِّرون ببلاد شنقيط، سيدي محمد مولاي، ط1، دار يوسف بن تاشفين، 2008م، ص131.

[4] التفسير والمفسرون ببلاد شنقيط، سيدي محمد مولاي، ص131. [بتصرف].

[5] التفسير والمفسرون ببلاد شنقيط، سيدي محمد مولاي، ص131.

[6] مناهج البحث العلمي، عبد الرحمن بدوي، ط3، دار النشر، وكالة المطبوعات شارع فهد السالم- الكويت، 1977م، ص5. [بتصرف].

[7] اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، فهد الرومي، ط3، مؤسسة الرسالة، 1997، (1/ 367).

[8] تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير، محمد بن شريفة، تح: محمادي بن عبد السلام الخياطي، ط1، 1997م، ص9.

[9] تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي في التفسير، محمد بن شريفة، ص278- 279.

[10] التفسير والمفسّرون في غرب أفريقيا، طرهوني، ط1، دار ابن الجوزي، 2005م، (2/ 841). [بتصرف].

[11] تنبيه الأفهام إلى تدبّر الكتاب الحكيم وتعرّف الآيات والنبأ العظيم، ابن برجان، ص3- 4.

[12] سير أعلام النبلاء، الذهبي، تح: شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، ط2، 1982م، (23/ 48).

[13] التفسير والمفسّرون، محمد حسين الذهبي، دار الحديث، القاهرة، 2004م، (2/ 299).

[14] علوم القرآن، نور الدين عتر، مطبعة الصباح، ط6، 1996م، ص103.

[15] الأعلام، الزركلي، ط5، دار المعلم للملايين، 2002م، (6/ 230).

[16] مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، 2015م، ص367.

[17] أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي، تح: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2003م، (1/ 428- 429).

[18] طبقات المفسِّرين، الداوودي، تح: لجنة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1883م، (2/ 69).

[19] التفسير والمفسرون، الذهبي، (2/ 403).

[20] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تح: عبد الله بن عبد المحسن التركي ومحمد رضوان عرقسوسي، مؤسسة الرسالة، ط1، 2006م، (12/ 40).

[21] سير أعلام النبلاء، الذهبي، (21/ 363).

[22] أحكام القرآن، لابن الفرس، تح: منجية بنت الهادي النفزوي السوايجي، دار ابن حزم، ط1، 2006م، (2/ 68- 69).

الكاتب

محمد الدرقاوي

حاصل على ماجستير الدراسات القرآنية من الكلية متعددة التخصصات بالناظور - المغرب.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))