عرض كتاب
Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study
لـ Stephen J. Shoemaker
مقدّمة:
دراسة تاريخ القرآن هي مساحة من أهمّ مساحات الدراسات الغربية منذ انطلاقها وإلى الآن، ورغم اختلاف النظرات الغربية لتاريخ القرآن في كثير من تفاصيل عملية الجمع والتدوين وفق رؤاها المختلفة للمرويات الإسلامية، إلا أنها ظلّت في جزء كبير من مسيرتها وفي رؤية كثير من أبرز أعلامها على اتفاق مع مجمل الرؤية الإسلامية لتاريخ القرآن، إلا أنه في العقود الأخيرة ومع بروز الاتجاه التنقيحي بتشكيكه الشامل في مصداقية المرويات الإسلامية وقدرتها على بناء سردية موثوقة تاريخيًّا عن تاريخِ القرآن وصدرِ الإسلام، تكاثرت الكتابات التي تشكّك في السردية الإسلامية التقليدية وتميل لطرح رؤى وفروض مغايرة عن تاريخ القرآن، ويدخل في هذا السياق كتاب شوميكر (Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study) الصادر منذ عامين، والذي يتبنَّى نظرة تنقيحية لتاريخ الإسلام والقرآن.
في هذا المقال نحاول تقديم عرض لهذا الكتاب يعرِّف بأهمّ أفكاره ورؤاه؛ لتعريف القارئ العربي بالطروحات الغربية الحديثة في هذا السياق لتكوين رؤية جيدة عنها ثم تناولها بالنقاش والنقد.
تمهيد: الكتاب ومؤلِّفه:
اسم الكتاب: خلق القرآن دراسة تاريخية نقديةCreating the Qur’an: A Historical-Critical Study نشرته: University of California Press; First Edition (July 26, 2022 في 370 صفحة.
مؤلِّفه: ستيفن ج. شوميكر Stephen J. Shoemaker:
بروفيسور متخصّص في تاريخ المسيحية وبدايات الإسلام، تركّز أبحاثه على الأدب المسيحي وأصول الإسلام، من كتبه: (ظهور نبي: ظهور الإسلام بعيون مسيحية ويهودية: 2021)، وأيضًا مؤلِّف كتاب (نهاية العالم ونهاية الإمبراطورية: 2018)، دراسة تجادل بأنّ الإسلام المبكِّر كان حركة مدفوعة باعتقاد أخروي ركّز على الفتوح، وهو أيضًا مؤلّف كتاب (وفاة نبي: نهاية حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبدايات الإسلام: 2011)، دراسة عن (محمد -صلى الله عليه وسلم- التاريخي)، تركّز على التقاليد المتعلّقة بنهاية عهده، يتبع شوميكر مدرسة سميث الأمريكية الشهيرة وينتهج نهجها، وهي مدرسة تهتمّ بالدراسات المقارنة، أحدث كتبه بعنوان: (خلق القرآن: صناعة آخر الكتب المقدسة القديمة)، بدعم من معهد بحوث العلوم الإنسانية بجامعة ويسكونسن ماديسون، والصندوق الوطني للعلوم الإنسانية، ومركز الدراسات المتقدمة في جامعة ريغنسبورغ (DFG).
حصل شوميكر على أكثر من مليون دولار أمريكي لدعم أبحاثه من خلال الزمالات والجوائز من مختلف المؤسّسات، مثل: مؤسّسة جون سيمون، والمجلس الأمريكي للجمعيات العلمية، ومعهد الدراسات المتقدمة، والمركز الوطني للعلوم الإنسانية، معهد رادكليف للدراسات المتقدمة في جامعة هارفارد، ومؤسّسة روكفلر، ومؤسّسة ألكسندر فون هومبولت، والمؤسّسة الألمانية للبحوث، والوقف الوطني للعلوم الإنسانية، وهو أيضًا محرّر مجلة الدراسات المسيحية المبكّرة.
المشروع الذي نتج عنه هذا الكتاب تم تصميمه في الأصل ضمن نطاق مشاركة مركز الدراسات المتقدمة مجموعة بحثية في جامعة ريغنسبورغ بتمويل من المؤسسة الألمانية Forschungsgemeinde، وتم دعم هذا المشروع أيضًا من قِبَل الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية2021- 2022.
بدأ تفكيره في هذا المشروع بشكلٍ جدّي في خريف عام 2018، عندما استضافه غيوم كرئيس دولي في المركز متعدّد التخصّصات بجامعة بروكسل الحرة، وأضاف أنه استلهم هذا الكتاب من أحد أعمال بارت إيرمان الرائعة، يسوع قبل الأناجيل، كان بارت أحد أساتذته.
خطّته التحقيق في ظهور القرآن باعتباره تقليدًا كتابيًّا جديدًا من منظور جديد لفهم القرآن باعتباره ملفَّقًا كتابيًّا متأخرًا كملفَّق توراتي، فرضيته إنّ عملية إنتاج القرآن برمّتها لم تخضع للبحث الكافي من منظور نقدي.
لم يترجَم الكتاب إلى اللغة العربية، هدفه محاولة جعل ما قام به عبد الملك بن مروان والحجّاج بأنه تغيُّر شامل في المصحف، ويعتبر نسخة مغايرة.
عرض الكتاب:
ألَّفَ شوميكر كتابه بعد المقدّمة من تسعة أبواب:
1. الرواية التقليدية لأصول القرآن: المذهب السنِّي.
2. عبد الملك، والحجّاج وتركيب القرآن.
3. التأريخ بالكربون المشعّ وأصول القرآن.
4. الحجاز في العصور القديمة المتأخرة: الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلاد مهد القرآن.
5. القراءة والكتابة واللفظ وبيئة القرآن اللغوية.
6. تذكّر محمد: وجهات نظر من علوم الذاكرة.
7. إعادة تذكّر محمد: التقليد الشفهي والذاكرة الجماعية.
8. المخطوطة القرآنية كعملية تكوينية: كتابة التقليد المقدّس في العصور القديمة المتأخرة.
9. السياق التاريخي للقرآن في نظر القرآن.
الاستنتاجات.
منهج الكاتب في الكتاب:
يسير الكاتب في هذا الكتاب على خطى سميث، الذي يؤكّد بحقّ أن (مؤرِّخ الدين... لا يقبل حدود الشريعة ولا المجتمع في تشكيل المجال الفكري) ولا الأسطورة أو غيرها من المواد الدينية، يجب أن تُفهم على أنها نصوص في السياق، باعتبار أنها أعمال محدّدة من التواصل بين أفراد محدّدين زمانًا ومكانًا، وعلى النقيض من الأخطاء التي ارتكبها العديد من (المستشرقين) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن المؤكّد أن نهجه لا يسعى إلى تصوير الإسلام على أنه آخر، وبدلًا من ذلك، فإنّ هدفه مقارنة بدايات الإسلام مع بداياته التوحيدية في الشرق الأدنى ذات الصلة بالتقليد الإبراهيمي الذي نشأ منه نفس السياق.
يدعو في دراسته إلى تمييز حاد عن النزعة (الاستشراقية) التي تصوّر الإسلام على أنه شيء غريب أو غريب الأطوار، وأنه ليس ديانة جديدة ظهرت بشكلٍ عفوي من العزلة الثقافية للحجاز، وترفض رؤيته أيّ تجانس للتراث الإسلامي، يهدف إلى اكتشاف التنوع المدفون الذي تجلّى في الحركة الدينية الجديدة التي أسّسها محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه، وبناء على ذلك فإنه يحاول عرض الإسلام ليس باعتباره (نظامًا جوهريًّا ثابتًا) بقليل من التدفق الاجتماعي والتاريخي؛ ويسعى في هذه الدراسة إلى فحص الإسلام بعيدًا عن الأخطاء الكلاسيكية والتحريفات الاستشراقية في القرن التاسع عشر، منهجه فهم التاريخ المبكّر للمصحف ضمن التقليد المنهجي للدراسات الدينية المعروفة باسم (المذهب الطبيعي)، وينظر إلى نموذج الثقافة الدينية كظاهرة، وإن كان هذا يتعارض مع رؤية دبليو سي سميث، يمكن فهمه بدون توجيه قضائي من السلطات الدينية وبدون الاعتراف بالالتزامات الميتافيزيقية، يمكن للمرء استخدامها لفهم وشرح مجالات الثقافة الأخرى... فليس من الضروري أن نؤمن لكي نفهم.
يأخذ كأساس لدراسته (الأطروحات حول المنهج) الثلاث عشرة الأساسية لتاريخ الأديان على النحو الذي وضعه بروس لينكولن[1]، من أجل إعطاء فكرة أفضل عن أساس نهجه، يقتبس من أبرز الأطروحات التي طرحها لينكولن، ويظنّ أنها غير مألوفة تمامًا لكثير من العلماء الغربيين المتخصّصين في الدراسات الإسلامية، ويرى بأنّ نفس الأسئلة المزعزعة للاستقرار وغير الموقّرة التي قد يطرحها المرء حول أيّ خطاب ينبغي أن تطرح بالفعل حول الخطاب الديني، أوّلها: (من يتكلم هنا؟)، أي: من هو الشخص أو المجموعة أو المؤسسة المسؤولة عن النص؟ أيًّا كان مؤلّفه المفترض أو الظاهر، و(إلى أيّ جمهور؟ وما السياق في فوريته واتساعه؟ من خلال أيّ نظام من الوساطات؟ وماهية المصالح؟) فضلًا عن ذلك (بماذا يمكن للمتحدِّث (المتحدِّثين) إقناع الجمهور؟ وما العواقب إذا ما حدث لهذا المشروع من عواقب كي يقنع وينجح؟ ومن يفوز وبماذا، وكيف؟ وعلى العكس من ذلك، من يخسر؟).
المقدمة:
مهّد لأفكاره بأقوال بعض المستشرقين: اتّهم أصول القرآن بالغموض واتّهم مخالفيه بأنهم لا يعرفون إلا القليل عن السياق أو الظروف التي ظهر فيها القرآن لأول مرة، ويبدو أنه ظهر في عالم مشبع بالتوحيد الإبراهيمي، مع بعض الاستثناءات البارزة التي تحكمها إلى حدّ كبير وجهات النظرة الإسلامية التقليدية للقرآن، وكما لاحظت أنجيليكا نويفرت أن الدراسات القرآنية لا تعتمد على مناهج الدراسات الدينية كما تُمارس حاليًا على المستوى الدولي، ولكنها لا تزال تتبع مجموعة محدودة وانتقائية من الأساليب التي تميل إلى أن تكون جوهرية في موقفها من القرآن، مع الالتزام بالخضوع للتقاليد الإسلامية، وليس لأساليب ووجهات نظر الدراسات الدينية والكتابية، وهذا ما يعكس فشل الدراسات القرآنية في تحقيق هذا الهدف، وكما ورد في كتاب روبنسون[2]: يجب ألا ندرس أصول القرآن وفقًا لقناعات التقاليد الإسلامية اللاحقة، ولكن باستخدام الأدوات القياسية للنقد التاريخي التي طبقها العلماء منذ فترة طويلة على الكتابات المقدّسة، ودون السماح للتراث الإسلامي بأن يملي شروط دراسته، وهذا النهج يحقّق فهمًا أفضل للقرآن نفسه، ويضيء تاريخ ظروف نشأته، وتشكيله، وتقديسه، ولكن شوميكر وعَد بأنه سيسمح أيضًا للقرآن بالتحدّث مباشرة إلى فهمهم وذلك للتنوّع والإبداع، فالقرآن في النهاية شاهد على حركة دينية جديدة، حركة من الواضح أنه تم تصميمه على غرار الديانات التوحيدية الإبراهيمية الأخرى، ومع ذلك فهو يعيد صياغة العديد من التقاليد الكتابية بطرق جديدة وفي سياقات مختلفة.
ما يعرضه شوميكر مجرّد وجهة نظر حول القرآن كما يراه مؤرّخ الدين، وليس كما يراه مسلم مؤمن، أو عالم فقه اللغة، يسعى شوميكر إلى فهم النصّ باعتباره نتاجًا للتاريخ البشري؛ لأنه أيضًا نصّ يخاطب البشرية جمعاء وينتمي إليها، وكان لهذا المسار في الواقع تأثير ملحوظ بشكلٍ خاصّ على دراسة الإسلام، ويرجع ذلك إلى التأثير الهائل لويلفريد كانتريل سميث[3] في دراسة الإسلام خلال النصف الأخير من القرن العشرين، وفقًا لسميث، يجب على المرء أن يتعامل مع القرآن كما يتعامل المسلم المؤمن ويسعى إلى فهمه على هذا الأساس، ألقت تقاليد سميث وآراؤه في احترام المعتقدات الدينية على أتباعه بظلالها الطويلة فيما يتعلّق بالقرآن على وجه الخصوص، خاصة في أمريكا الشمالية، حيث كان ولا يزال يمثّل مصدر قلق، أن استيعاب قناعات المؤمنين لا يزال واسع الانتشار، وفي عام 1951، أسس سميث معهد الدراسات الإسلامية في جامعة ماكجيل، وكان لهذه المؤسّسة وخريجيها التأثير العظيم في تطوّر الدراسات الإسلامية في أمريكا الشمالية، أنشأ سميث هذا المركز وبرنامج الدكتوراه الخاصّ به بشكل صريح بهدف ترسيخ هذه الدراسة المنهجية للإسلام من قِبَل غير المسلمين بشكل مباشر[4].
وتناول في السياق ميرسيا إلياد[5] كان معاصرًا تقريبًا لسميث، قاد برنامجًا حيويًّا لمقارنة الأديان في جامعة شيكاغو التي كانت ترتكز على افتراضات مماثلة حول الدين، تم تحديدها في شيكاغو باعتبارها دراسة (تاريخ الأديان)، كان إلياد وطلابه منخرطين فيما لا يحمل سوى القليل من التشابه إلى الممارسة الفعلية للتاريخ الديني، كما ظهرت في جامعة غوتنغن خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، تحول العلماء الألمان الذين طوروا هذا النهج الرائد بعيدًا عن المصالح العقائدية التي أرشدت معظم علماء الكتاب المقدس في ذلك الوقت، ودافعوا عن تاريخية راديكالية وبذلوا كلّ جهد ممكن لتحقيقها، ما كان يقوم به إلياد في شيكاغو، وسميث في ماكجيلوهارفارد في هذا الشأن، يختلف بشكل لافت عن الاهتمام الأسمَى لفهم الظواهر الدينية لتاريخ الأديان في وقتها المباشر، وأبعد من ذلك ما نراه في لاهوتفريدريش شلايرماخر، الذي سعى إلى إنقاذ الدين من انتقادات العلم الحديث والنقد التاريخي من خلال تحديد حقيقة الدين الحقيقية وجعلها في مكان خاصّ ضمن تجارب الحدس والشعور.
الرواية التقليدية لأصول القرآن: المذهب السُّنِّي:
قام فيه شوميكر بنقد نموذج نولدكه، وهو الأنموذج الذي كرّسه نولدكه لرواية تدوين المصحف السُّنيّة، كما أوضحت أنجيليكا نويفرت، على سبيل المثال فإنّ عمل نولدكه صار كـ«كنيسة الصخرة» لا يتزحزح؛ ونتيجة لذلك أصبح نموذج نولدكه عقيدة راسخة للكثير من الدراسات المعاصرة حول القرآن، احتضان نموذج نولدكه للتقليد السُّنّي اعتبره شوميكر من الآثار الضارة، اعتبره السبب في توقف التقدم في مجال الدراسات القرآنية، ولهذا السبب، أعربت باتريشيا كرونه عن أسفها لأنه عندما يتعلق الأمر بدراسة القرآن، كثيرًا ما يبدو الإسلاميون الغربيون «المستشرقون» وكأنهم مسلمون، وعرّج على ما أحدثه العديد من خلفاء نولدكه -فريدريش شوالي، وجوثولف بيرجستراسر، وأوتو بريتزل- واصل تحسين عمله وكذلك توسيع تأثيره من خلال طبعة جديدة، كان شوالي أوّل مَن تولى المهمّة، وأسفرت جهوده عن نشر نسخة محدثة من دراسة نولدكه السابقة، في هذا المجلد، افترق شوالي بشكلٍ خاصّ عن نولدكه فيما يتعلّق بروايات جمع القرآن الأوّل في عهد أبي بكر، يرى شوالي أن هذا التقليد غير موثوق به وتبنّى المصحف العثماني.
عبد الملك، والحجّاج وتركيب القرآن:
في هذا الفصل قام شوميكر بنقد نموذج نولدكه- شفاليان، وأصرّ على أن عبد الملك كان له دور فعّال في إنشاء وإنفاذ النسخة القانونية للقرآن[6]، مصلحته واضحة في برنامجه الإمبراطوري على عكس الخلفاء السابقين، كان لدى عبد الملك الموارد اللازمة لمحاولة مثل هذا التنقيح وفرض النصّ الناتج، وأشرف على المشروع إلى حدّ كبيرٍ أحد نوابه؛ الحجّاج بن يوسف، وإن لاحظ بيير لارشر بحقّ، أنّ «مصحف عثمان» هو الاسم «التقليدي» للنسخة الرسمية التي فرضها الخليفة الأُموي عبد الملك، وعلّق شوميكر: على أيّ حال، بِغَضِّ النظر عمّا إذا كنّا نتبنَّى مثل هذه الفرضية أم لا[7]، ويرى شوميكر أن الحجّاج هو العامل الرئيس في توحيد القرآن، ويعترف بأنّ بول كازانوفا وألفونس مينجانا أوّل مَن لفَتا انتباههم إلى ذلك[8]، وجادَل كلٌّ منهم بشكلٍ مستقلّ، وخلص إلى احتمال أن يكون المصحف قرآنًا مروانيًّا وليس عثمانيًّا وأن عبد الملك والحجّاج لعبوا دورًا تنقيحيًّا، ليس مجرّد إضافة تحسينات طفيفة.
التأريخ بالكربون المشع وأصول القرآن:
في هذا الفصل تناول شوميكر نقد التأريخ بالكربون المشع لمخطوطات القرآن، واستدلّ بتجربة روبن الذي اختبر ثلاث عيّنات مختلفة تم تحليلها واستخدامها في أربعة مختبرات مختلفة وكانت النتائج مختلفة، وعرّج على مخطوطات توبنجن وبرمنجهام، وأكّد أن من التبسيط للغاية الاعتماد على التأريخ بالكربون المشعّ كما لاحظ ذلك فيديلي، وأنه غالبًا ما يُفترض التأريخ بالكربون المشع فرض تاريخ الرَّق بالكامل على تأريخ النصّ؛ ولهذا فإن النتائج لا تعطي الوقت الذي كُتبت فيه المخطوطة، بل الوقت فقط للكائن النباتي أو الحيواني الذي يعمل بمثابة دعم للكتابة، وجاء بنماذج من مخطوطة تبيِّن أن الرَّق المستخدم يبدو من أعمار مختلفة كما في مخطوطة توبنغن[9].
تبيّن على الأرجح إنتاجها في أوائل القرن الثامن ولكن تم استخدام على الأقل قطعة واحدة من الرَّق، تحديدًا الصحيفة 28، تم إنتاجها قبل ذلك بكثير - في وقت ما بين (605- 669م) حسب التأريخ بالكربون المشعّ، وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هناك مشاكل مماثلة في عرض مشروع مخطوطات برلين حول بيانات طرس صنعاء: التواريخ المتغيرة من ليون وتم تجاهل كييل تمامًا في تحديد عمرِ المخطوطات القرآنية، لا يوجد أيّ تفسير لاستبعادهم من التحليل، إذا كان المرء لا يزال متمسكًا ببعض الأمل في التمكن من إيجاد مخرج بسبب الفوضى في هذه الطريقة، ما تم إخضاعه للتحليل بالكربون المشع، لم تكن النتائج مطمئنة على الإطلاق، كان لدى فرانسوا ديروش عيّنات من مصحفين مؤرخين تم تحليلهما في مختبر ليون: أحدهما يشير إلى إنتاجه عام 1020م والآخر عام 907م. تم تحديد عمرِ المخطوط الأول بالكربون المشع عند 1130 سنة مضت ± 30 سنة، أو بين (871- 986م) باحتمال 95% (774- 994م). التواريخ الأكثر احتمالًا، كما أفاد ديروش «مرتبة بترتيب تنازلي 937 و895 و785م. النتيجة الأقرب، أي 937م، يفصل بينها ثلاثة وثمانون عامًا من التاريخ المذكور في بيانات النسخ»[10].
حتى لو استخدمنا الحد الأعلى للنطاق الزمني -أي 986م- ولا يزال الفرق قائمًا يبلغ أربعًا وثلاثين سنة، نحو ثلث قرن، وبالنسبة للمخطوطة الأخرى، تم تحديد تاريخ الكربون المشع عند 1205، مع تاريخ معاير يبلغ بين 716 و891م (704-941 م). يحدد ديروش الاحتمالات مرة أخرى بترتيب تنازلي: 791 و806 و780م، تبيّن أن النتيجة الأكثر احتمالًا، 791م، وتبين أنها قبل التاريخ الفعلي بـ 116 سنة، في هذه الحالة أنّ التاريخ الأعلى أقرب بشكل معقول من التاريخ الفعلي من السنة التي نُسِخ فيها القرآن، ومع ذلك، تغيب هذه المعلومات المحددة وفيما يتعلق بإنتاجه، فإنه لن يحلّ الحيرة في تأريخ القرآن.
الغلاف الورقي، صفحة: 370
الحجاز في العصور القديمة المتأخرة: الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلاد مهد القرآن:
في هذا الفصل تناوَل الحجاز، وتبنَّى وجهات نظر المستشرقة كرونه، وحصر التجارة في تجارة محلية محدودة، وزايد عليها واعتبرها أسطورة، التجارة التي كان المكّيون يعملون فيها مجرّد تجارة محلية، وقال بحماس: علينا أن نشكر باتريشيا كرونه على وجه الخصوص على تبديدها لأسطورة مكة باعتبارها المركز الكبير لتجارة التوابل الدولية[11]، وكان المكّيون يتبادلون السلع من اقتصادهم الرعوي، ولم تتمكّن مكة من إنتاج ما يكفي من الغذاء لسكانها، كما فعل كلّ من فرانك بيترز وفريد لقد قرّر دونر أيضًا وجاء كما هو متوقع وصل إلى نفس النتيجة[12]، ما بيّنته كرونه في مغالطة تجارة التوابل وقامت بتصحيح الأسطورة الاستشراقية باعتبارها الجديد بإجماع العلماء، يمكننا أن ننظر إلى كتاب بيترز عن مكة كمثال على التجارة المكية والاقتصاد المكي، حتى بين العلماء الذين يتبعون نهجًا أكثر تقليديًّا تجاه المصادر الإسلامية، فقد لا يكون صحيحًا فيما يتعلق بالحياة التجارية في مكة قبل ميلاد النبي -صلى الله عليه وسلم-... لأن الشبكات التجارية في القرنين الخامس والسادس أكثر إشكالية بكثير، والمصادر العربية اللاحقة تحثّ بقوّة على مثل هذا الارتباط، إنّ التجارة الدولية في الشرق الأدنى عشية ظهور الإسلام تثير جدية الشكوك فقد كان المال في مكة قليلًا... والازدهار التجاري لمكة قبل الإسلام وهمٌ في أسوأ الأحوال، ومبالغة كبيرة في أحسن الأحوال؛ ولذلك لم تكن مكة مركزًا رئيسًا للتجارة الدولية، بل كانت مركزًا صغيرًا، قرية نائية يعتمد اقتصادها على الرعي، وكما قرّرت كرونه في النهاية (سواء كان المكّيون يتاجرون خارج البلاد أم لا)، فإنّ مكة المكرمة عشية الإسلام سؤال لا يمكن الإجابة عنه.
القراءة والكتابة واللفظ وبيئة القرآن اللغوية:
تناوَل فيه معرفة القراءة والكتابة في أوائل القرن السابع في الحجاز، وخلص إلى أن الكتابة في الواقع كانت مكلفة جدًّا وغالبًا ما كانت نادرة، لدرجة تحتّم أن حركة محمد الدينية الجديدة ونصّها المقدس يفهم في سياق بيئة غير متعلّمة أمية وشفهية بشكلٍ أساسي، وقد أزال روبن وبفعالية كلّ غموض حول هذا الأمر وقام بالتنبيه بكلّ وضوح إلى أن (الكتابة) لم تكن تمارس على الإطلاق في زمن محمد؛ ولذا فإن الكتابة باللغة العربية لم تكن مجهولة تمامًا في الحجاز على عهد محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما لاحظ شتاين، فإنّ العدد الهائل من هذه الشخبطة (الكتابة على الصخور) يمكن أن يعطي المرء وبسهولة انطباعًا خاطئًا بأنّ شبه الجزيرة العربية كانت (معقلًا لمحو الأمية)، يبدو أن هناك اتفاقًا واسع النطاق بين الخبراء على أن الثقافة العربية في جميع جوانبها المهمّة شفهية بشكلٍ أساسي، كما فعل ماكدونالدز وقد أثبتت الدراسات الآن وعلى وجه الخصوص، حتى اعترفت أنجيليكا نويفرت مؤخرًا بأن تقنية الكتابة لم تلعب دورًا حاسمًا في الحياة الثقافية لجزيرة العرب قبل الإسلام، فيما يتعلّق بالأمر مستويات معرفة القراءة والكتابة في مكة والمدينة؛ نظرًا للغياب التام لوجود أي آثار، هذا ما يؤكد أن الثقافة في الحجاز أمّية وشفوية في الأساس، وفقًا لماكدونالدز، من الألفية الأُولى قبل الميلاد حتى ظهور الإسلام، كانت اللغة العربية القديمة (لغة عامية لبدوٍ رُحَّل أميين غير متعلِّمِين)، وعلى أساس هذه الدراسات تعتبر حركة محمد الدينية الجديدة نشأت داخل مجتمع غير متعلم بكلّ المقاييس، وحتى في ظلّ وجود نظام محدود للكتابة، فقد ظلّت الشفهية هي الميزة المميزة والوسيلة الموثوقة، ويجب أن نفهم أنّ سكان الحجاز القديم، كانوا دائمًا على حافة المجاعة والجفاف والموت... لا توجد حكومة ولا قانون، فقط الأسرة والقبيلة، لا توجد سجلات تاريخية، فقط قصائد شفهية بشكل أساسي، ومن المؤكّد تقريبًا أن كلمات القرآن لم تُكتب خلال حياته في الحجاز ولكن كُتبت في وقت لاحق وفي مكان أو أماكن أخرى، ولا يمكننا حتى أن نقول بأيّ قدر من اليقين أن الكعبة بمكة، يشير القرآن ويحدد بوضوح موقع البيت بـ«بكة» وليس مكة، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96][13].
تذكّر محمد: وجهات نظر من علوم الذاكرة:
تناوَل فيه القرآن في بيئة تفتقر الكتابة، لهذا تم الحفاظ على القرآن في تقليد شفهي، كان مهمة تقع على عاتق أكتاف كثيرة، وتطلب تدوينه بعد وفاة المنادي، التعامل مع النقل شفهيًّا، دون الالتزام الكامل بكتابه بعض الوقت، بالضبط كما يذكر التقليد الإسلامي، ومع ذلك، نأتي إلى اعتبار مكانة القرآن كنصّ مكتوب، فإنه يلتقي مع تأكيد مثير للدهشة أن (النظرية الأكثر ترجيحًا عند وفاة المعلن)، فإنّ الوحي الذي تم تلقّيه حتى هذا الوقت كان مثبتًا كتابيًّا، وذلك على شكلِ نُسَخٍ تم وضعها بموافقته من قِبَل بعض صحابته، مع أن هذه الأشكال المكتوبة لم يراجعها النبي بنفسه كتنقيح نهائي في شكل مخطوطة، هكذا، وتريد نويفرت أن يصدق، دون وجود أدلة كثيرة على الإطلاق، أنه بحلول وقت وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كان كلّ الوحي قد نزل ودوّنه بعض أتباعه بصيغته المكتوبة النهائية، وأنّ محمدًا قد فحص نسخهم وكان لديه نظر للموافقة، وكلّ ما تبقّى تنظيمه في مجلد، مع إضافة بعض التعديلات النهائية إلى النصّ في السياق، صحيح أن عمل نويفرت كان له تأثيرٌ كبيرٌ على الكثير من الدراسات القرآنية الحديثة، وهذا أمر متطرف بعيد عن السائد، على العكس من ذلك، لاحظ دانييل ماديجان، «هناك اتفاق عام في غير المسلمين، لم يُكتب القرآن بشكله الحالي وقت وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم-»[14].
إعادة تذكّر محمد: التقليد الشفهي والذاكرة الجماعية:
تناوَل فيه كيفية عمل الذاكرة؛ وبَيَّن أنّ ذاكرتنا تعمل بمستويات عالية جدًّا من التجزئة وقابلية للخطأ، وخلال فترة زمنية قصيرة جدًّا، لا تصل إلى أكثر من أيام أو حتى ساعات، تصبح ذاكرتنا متدهورة في جودتها ودقّتها، على العموم، ذكرياتنا تتحوّل إلى أن تكون غير دقيقة بشكلٍ مدهش، لا سيما في ظلّ عدم وجود أيّ سجل مكتوب، ويكون من الصعب العمل بشكل فردي أو جماعي في مجتمع معقد، وعادة ما يحدث هذا سواء في الذاكرة الشخصية أو الجماعية، وبالفعل فقد حدّد العلماء مثل هذا النسيان المنتظم وإعادة التذكّر على أنه (خصائص تكيفية) أساسية للذاكرة، وإغفال هذا يشكّل مشكلة كبيرة؛ إِذْ لا يزال هناك إصرار عظيم من معظم المتخصصين في تاريخ صدر الإسلام والدراسات القرآنية على تحديد الكلمات كما لو كان النصّ مجرّد نسخة مما قاله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك، في غياب تثبيت النصّ بالكتابة كما كان يتلوه محمد أو تحت إشرافه، قد يلجأ بعض العلماء إلى ما هو رائع قدرة الشعوب السابقة -وخاصّة العرب- على التذكّر الشفهي بدقة لا تصدَّق، أثبت التحقيق العلمي في الذاكرة البشرية خلال القرن الماضي مرارًا وتكرارًا أن هذا ببساطة غير صحيح، وهكذا كشفَت نتائج بارتليت أنه على الرغم من وجود أجزاء من الذاكرة في الواقع مأخوذة من القصة، إلا أنه عندما يتم تذكرها، يجب أن يعاد بناؤها عن طريق ملء فجوات كبيرة بتفاصيل تكميلية[15].
المخطوطة القرآنية كعملية تكوينية: كتابة التقليد المقدس في العصور القديمة المتأخرة:
تناوَل فيه المخطوطة القرآنية الأوّلية، مهَّد بموقف لارسن ويعدُّ الموقف الأكثر قبولًا في دراسة المشكلة الإزائية (السينوبتيّة) في تحديد إنجيل مرقس كأوّل مجموعة مكتوبة شفهية في تقليد يسوع، ومع ذلك، فهذا الإنجيل، لم يُنتج ككتاب ليتمّ توزيعه وقراءته ولكنه كان يشبه إلى حدّ كبيرٍ كتاب المعلِّم أو التبشير بالبشارة، ونظرًا للغياب التام لأيّ دليل على الوجود المسيحي في وسط الحجاز، يتبقى لنا أن نستنتج بأنه من المؤكد تقريبًا أنّ أتباع محمد قد اعتمدوا هذه التقاليد بعد ذلك بدؤوا احتلالهم للشرق الأدنى الروماني والساساني، نفس الشيء ويمكن أن يقال أيضًا وبطريقة أكثر أو أقل عن الأحاديث الموازية المتعلقة بنوح وموسى وإبليس/ الشيطان. وكما جادل جوزيف ويتزتوم وآخرون بشكل مقنع، بأن التقاليد المتعلقة بالشخصيات والأحداث من الكتاب المقدس العبري تبدو كذلك، لقد وصلت إلى القرآن من خلال المصادر المسيحية وليست اليهودية، ويرى في التقاليد الإسلامية المبكرة مخاوف وصَفَها بالتناقضات بين المجموعات الإقليمية، وصَلَت إلى مستوى أصبحت تهدد بإحداث انقسامات خطيرة داخل المجتمع ما لم يتم اتخاذ إجراءات حيالها.
حاوَل أن يطبِّق الأبوكريفا الكتابية الموجودة في التقاليد اليهودية والمسيحية، تمثِّل «الأبوكريفا apocrypha» الكتابات الملفَّقة وهي نوع من الأدب الكتابي «الحي»، والتي ظلّت محتوياتها مفتوحة للتعديلات والإضافات المستمرة بواسطة المجتمعات التي استخدمتها، واتهم شوميكر القرآن نفسه، في العقود الأولى من القرن العشرين يبدو أن وجودها كان يشبه إلى حدّ كبير الأبوكريفون الكتابي، والفرق الرئيس بين هذا الأبوكريفون العربي القديم المتأخر وغيره من المؤلّفات، أنه مثل كتاب المورمون، على سبيل المثال، مجموعة دينية رفعته في نهاية المطاف إلى سلطة كتابية جديدة.
يبدو أنّ لارسن وكريس كيث يقدمان أفضل النماذج وأكثرها قابليةً للتطبيق، واستيعابًا كيف سارت تعاليم محمد على طريق مماثل من جبلة مقدسة للكتاب المقدس الكنسي، وأسهب في ذلك ليخلص إلى أنه «لا ينبغي لنا أن نتوقع العثور على نصوص مغلقة ومستقرة ذات تأليف فريد تم توزيعها بشكل موحد في هذا الشكل على جمهور واسع، بدلًا من ذلك، فإن النصوص عمومًا ظلت مفتوحة ومتغيرة، مع تأليف معقد ومجهول في كثير من الأحيان، تم حلّ المتغيرات وإزالتها ليس في لحظة الإنتاج، ولكن فقط، مرة أخرى، من خلال عملية غير تاريخية من التوحيد، والتقديس، والإصدار من خلال سلطة فاعلة ما، وهي السلطة التي تخدم في جوهرها في نهاية المطاف كمؤلّف النصّ. وبناءً على ذلك، يجب علينا، كما يوضح مروجيك، وصف الإنتاج النصي للكتبة القدماء بأنه (مشاريع) -مفتوحة ومتعددة الأجيال- بدلًا من (الكتب)»[16].
السياق التاريخي للقرآن من وجهة نظر القرآن:
تناوَل فيه السياق التاريخي، وعرّج على ورقة بن نوفل، يذكر في أحاديث بدء الوحي بأنه مسيحي اعتنق الإسلام، والمناسبة الوحيدة التي يظهر فيها ورقة يظهر لأداء وظيفة اعتذارية، عندما يرتبك محمد بهذه التجارب الرائعة، يشرح ورقة له أنه بدأ يتلقَّى الوحي مثل الناموس الذي نزل على موسى، كما لاحظ جون وانسبرو، جميع الشخصيات المسيحية التي تظهر في الروايات الإسلامية هم (دائمًا من خارج الحجاز) وتقديمهم «دائمًا لا مبرر له، ومكانهم الأصلي المزعوم موضع شك»[17].
ويرى شوميكر أنه «كان هناك حضور مسيحي كبير في مكة، فمن المتوقع ذلك نظرًا لصغر حجم المستوطنة، لا بدّ أن المدينة بأكملها كانت ذات طابع مسيحي بدرجة عالية، هذا المجتمع المسيحي الكبير يمكنه تفسير هذا العمق الكبير بمعرفة التقليد المسيحي الذي يتوقعه القرآن من جمهوره، ناهيك عن البصمة القوية للأنماط الليتورجية المسيحية الواضحة في القرآن، إذا كان هذا هو الحال، وهي فرضية لا أؤيدها، فنحن يجب أن نفترض أن التقليد الإسلامي اللاحق قد زيف عمدًا عقيدة المكيين، الإيمان المسيحي لأغراض اعتذارية، وذلك لإخفاء حقيقة أن محمدًا طوّر حركة دينية جديدة مباشرة من التقليد المسيحي، وقد طرح غونتر لولينغ هذه الفرضية بالضبط»[18].
وخلص إلى أن القرآن عمل مركَّب ومكوَّن، مركَّب لأنه يجلب نصوصًا مستقلة وغير متجانسة جزئيًّا؛ تتألّف وتم تجميعها معًا باستخدام تقنيات التركيب في سياق كتابي، وليس فقط كلامًا شفهيًّا عفويًّا أو تجميعًا عشوائيًّا، وهذا لم يأتِ إلا بعد عقود من تبنِّي النقل الشفهي والتكيف المستمر للتقاليد، وقد تم تحقيق ذلك في التشكيل النهائي للنصّ القانوني للقرآن الكريم تحت إشراف وتنسيق عبد الملك بن مروان هذا هو القرآن الذي لدينا اليوم: إمبراطوري النسخة إنتاجًا وتنفيذًا بفضل الممارسة الفعّالة للسلطة السياسية. كثير من التاريخ السابق للقرآن يكتنفه الغموض، مما يتطلّب منّا المضيّ قُدُمًا بحَذَرٍ وتشكك، مسترشدين دائمًا بتأويل الشك، والنقد التاريخي، والدراسة التاريخية للأديان، والاستنتاجات نزل القرآن في ثلاثة أماكن: مكة، والمدينة، والشام[19].
خاتمة:
حاولنا في هذه المقالة تقديم عرض لكتاب Creating the Qur’an: A Historical-Critical لـ ستيفن ج. شوميكر، وإيضاح أفكاره الأساسية حول تاريخ القرآن، وحول الصِّلَة بين تاريخ القرآن وتاريخ الكتب السابقة، وحول السردية الإسلامية التقليدية ومصداقيتها، وهذا الكتاب في حاجة لنقاشات جادة تتناول مرتكزاته الفكرية والمنهجية، ونأمل أن يكون هذا العرض بدايةً ودافعًا لمثل هذه النقاشات.
[1] بروس لينكولن (مواليد 1948) Bruce Lincoln: أستاذ فخري في تاريخ الأديان في مدرسة اللاهوت في جامعة شيكاغو، حيث شغل أيضًا مناصب في مركز دراسات الشرق الأوسط، وفي أقسام الأنثروبولوجيا والكلاسيكيات، شارك في تأسيس برنامج الدراسات المقارنة لسنوات عديدة كان اهتمامه الأكاديمي الأساسي هو دراسة الديانة الهندو أوروبية، حيث جاء عمله لانتقاد الافتراضات الأيديولوجية للبحث في الأصول الهندية الأوروبية المزعومة، منذ أواخر التسعينيات، تعاملت أعماله بشكل مكثف مع المشكلات المنهجية والقضايا المتعلقة بالدين والسلطة والسياسة.
[2] تشيس إف روبنسون (من مواليد 1963): هو مؤرّخ أمريكي للإسلام، شغل منصب الرئيس والأستاذ المتميز في مركز الدراسات العليا بجامعة نيويورك، كما درس أيضًا في الجامعة الأمريكية في القاهرة والجامعة العبرية في القدس، وهو محرر المجلد الأول من تاريخ كامبريدج الجديد للإسلام. من منشوراته: الإمبراطورية والنخب بعد الفتح الإسلامي: تحول شمال بلاد ما بين النهرين. 2000، التاريخ الإسلامي. 2003. وإعادة النظر في المدينة الإسلامية في العصور الوسطى 2001، النصوص والوثائق والمصنوعات اليدوية: الدراسات الإسلامية 2003، عبد الملك 2005، تراث النبي: الشرق الأوسط والإسلام 2009، تاريخ كامبريدج الجديد للإسلام: المجلد الأول، تشكيل العالم الإسلامي، من القرن السادس إلى القرن الحادي عشر 2010. الحضارة الإسلامية في ثلاثين شخصية: 2016.
[3] ولفريد كانتويل سميث (1916- 2000): واحد من أبرز المتخصِّصين في حقل الدراسات الدينية، وبالتحديد في فرعَي الأديان المقارنة والدراسات الإسلامية. نال شهادة الدكتوراه من جامعة برنيستون، وكان موضوع أطروحته هو: (مجلة الأزهر: تحليل ونقد). واشتغل أستاذًا بجامعاتٍ مرموقة عِدَّة، أهمها جامعتا هارفارد وماكجيل. نُشرت له كتب عديدة من أهمها: (الإسلام في التاريخ الحديث: التوتر بين الإيمان والتاريخ في العالم الإسلامي: 1957)، و(نحو لاهوت عالمي: الإيمان وتاريخ الأديان المقارن: 1989)، و(ما هو النص المقدَّس: منظور مقارن: 1993).
لكن أهم كتبه على الإطلاق، الذي ارتقى لرتبة الكلاسيكيات، هو كتابه: (معنى الدين وغايته: منظور جديد لتقاليد البشر الدينية: 1962). يقع هذا الكتاب في 340 صفحة تقريبًا، حوالي 150 صفحة منها عبارة عن هوامش شارحة (طويلة) في معظمها. ويتوزع على مقدمة وخاتمة وبينهما ستة فصول، تحمل العناوين الآتية على الترتيب: (الدين) في الغرب، ثقافات أخرى: (الأديان)، حالة الإسلام الخاصة، هل مفهوم (الدين) مفهوم كافٍ؟، التقليد المتراكم، الإيمان.
[4] Shoemaker, Stephen J. (2022), Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study, p. 7.
[5] ميرتشا إلياده (بالرومانية: Mircea Eliade) (9 مارس 1907 - 22 أبريل 1986): كان رومانيًّا ومؤرخ أديان وكاتب قصص خيالية وفيلسوفًا وأستاذًا في جامعة شيكاغو. كان مفسّرًا رائدًا للتجارب الدينية؛ إِذْ أسّس نماذج في الدراسات الدينية استمرت حتى يومنا هذا. أثبتَتْ نظريته القائلة بأن الظهورات الكشفية المقدّسة تشكّل أساس الدين، وتقسم التجربة الإنسانية للواقع إلى مكان وزمان مقدسين ومدنسين =فعاليتها بشكل واضح. من أهم إسهاماته في الدراسات الدينية نظريته حول (العودة الأبدية)، التي تنص على أن الأساطير والطقوس لا تحيي ذكرى الظهورات الكشفية المقدّسة فحسب، بل وتشارك فيها فعليًّا، على الأقل من وجهة نظر المتدينين.
تُعتبر أعماله الأدبية من الأنماط الخيالية العجائبية والسير الذاتية. أشهرها روايات: (الليالي البنغالية)، (الغابة المحرمة)، (إيزابيل ومياه الشيطان)، (رواية مراهق قصير النظر)، الروايتان القصيرتان (الآنسة كريستينا) و(شباب بلا شباب)، (سر الدكتور هونيغبرغر)، (مع الفتيات الغجريات).
في وقت مبكّر من حياته، كان إلياده صحفيًّا وكاتبًا، وهو تلميذ للفيلسوف والصحفي الروماني اليميني المتطرف ناي إيونسكو، وعضوًا في جمعية كرايتيريون الأدبية. في الأربعينيات من القرن العشرين، شغل منصب الملحق الثقافي في المملكة المتحدة والبرتغال. عبَّر إلياده عدة مرات خلال أواخر ثلاثينيات القرن العشرين علنًا عن دعمه للحرس الحديدي، وهو منظمة سياسية فاشية ومعادية للسامية. تعرضت مشاركته السياسية في ذلك الوقت -إلى جانب ارتباطاته اليمينية المتطرفة الأخرى- لانتقادات متكرّرة بعد الحرب العالمية الثانية.
اشتهر إلياده بسعة اطلاعه، وكان يجيد التحدث بخمس لغات (الرومانية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، والإنجليزية)، ويجيد القراءة بثلاث لغات أخرى (العبرية، والفارسية، والسنسكريتية). انتخب عضوًا في الأكاديمية الرومانية بعد وفاته.
[6] Shoemaker, Stephen J. (2022), Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study, p. 14.
[7] Shoemaker, Stephen J. (2022), Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study, p. 49.
[8] Shoemaker, Stephen J. (2022), Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study, p. 57.
[9] Shoemaker, Stephen J. (2022), Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study, p. 80.
[10] Shoemaker, Stephen J. (2022), Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study, p. 81.
[11] Shoemaker, Stephen J. (2022), Creating the Qur’an: A Historical-Critical Study, p. 97.
[12] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 98.
[13] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 110.
[14] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 119.
[15] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 153.
[16] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 212.
[17] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 246.
[18] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 248.
[19] Shoemaker, (2022), Creating the Qur’an, p. 259 -257.