بحث: هل يفضي تطوّر نظام الكتابة للقول بتراجع الرواية الشفوية للقرآن؟
لـ"جاك جودي" عرض وتقويم

المؤلف : بلقاس حسن
يهتمّ كثير من الباحثين الغربيين بدراسة العلاقة بين الحالة الشفهية والكتابية للقرآن؛ في هذا السياق يطرح جودي رؤيته حول كون تطوُّر نظام الكتابة له علاقة بتراجع القراءة الشفوية للقرآن، هذا المقال هو عرض وتقويم لطرح جودي وأثره في تصوره لتاريخ تدوين القرآن.

بحث: هل يفضي تطوّر نظام الكتابة للقول بتراجع الرواية الشفوية للقرآن؟
لـ"جاك جودي"؛ عرض وتقويم
[1]

مقدمة:

  الحمد لله الذي أنزل القرآن ووعد بحفظه، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، والصلاة والسلام على مَن وعَدَه ربُّه بحفظه للقرآن في صدره: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 16- 17]، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ولمّا كان كتاب الله -عز وجل- بهذه المنزلة الرفيعة، والمكانة العالية؛ حَرص أعداء الإسلام قديمًا وحديثًا على تحريف ألفاظه ومعانيه، والتشكيك في أخباره وأوامره ونواهيه، بل في أصله بأساليبَ شتى وطرقٍ مختلفة للنّيْل منه، وتشكيك المسلمين في مصدر قوَّتهم وعِزِّهم، والحيلولة بينهم وبينه؛ فأخذ الأعداء من الغربيين، ممن تسمَّوا بالباحثين ممن فعل التكوينُ الكنَسي فعله في نشأتهم، وممن لا تزال الروح الصليبية تسكُن نفوسَهم، يشكّكون المسلمين في أصل القرآن، وتاريخه، زاعمين اقتباسَه وأخْذَه من الكتب الدينية قبله وتأثّره بها.

ومن الدراسات التي حاولت التشكيك في أصل القرآن الكريم وتاريخه ما سطره الأنثروبولوجي البريطاني جاك جودي (ت: 2015م) من خلال بحثه الموسوم بـ: (هل يفضي تطوّر نظام الكتابة للقول بتراجع الرواية الشفوية للقرآن؟)[2] في مؤتمر جامعة ماينز الذي قدّم فيه إشارات حول مصدرية القرآن وجنسه، إضافةً إلى ادّعائه تراجع حفظه في الصدور بظهور نظام الكتابة.

ومن هذا المنطلق جاءت هذه المقالة لإعطاء نظرة حول مضامين الدراسة ودراستها دراسة نقدية من خلال عرض المادة العلمية في الكتاب، لعرضها أمام القارئ حتى يكون على بيّنة من أمره، بأنّ ما ورد في هذا الدراسة عبارة عن تكرار لما سطره المستشرقون من تخرّصات بعيدة كلّ البعد عن الحقائق العلمية والتاريخية والأثرية، وستنتظم المعالجة في محورين:

المحور الأول: بحث جاك جودي، عرض وبيان.

المحور الثاني: بحث جاك جودي، نقد وتقويم.

المحور الأول: بحث جاك جودي، عرض وبيان:

استهلّ جاك جودي الحديث عن هذا الموضوع بقوله: من الخطأ دائمًا المجادلة في السؤال المطروح، ولكن هناك عدد من المعاني المحتملة لـ«تنقيح نظام الكتابة». يمكن أن يشير أولًا إلى تطوير الخطوط الأبجدية على عكس النوع المقطعي أو المنطقي السائد في الشرق الأدنى. يمكن أن نشير أيضًا إلى التفاصيل الفنية المختلفة من الكتابة العربية المصنوعة في بغداد مثل علامات التشكيل من أجل المساعدة في تعليم اللغة للأجانب، أو بدلًا من ذلك لتنمية الخطّ كشكلٍ فني. وأخيرًا، يمكن أن يشير إلى الميل المتزايد لأيّ تقليد أدبي لتولّي بعض الأنشطة التي كانت تتم حتى الآن في التقليد الشفهي وبالتالي تغيير طابعها وعواقبها.

وأشار إلى أن كلّ هذه «التنقيحات» موجودة مع أيّ نص مكتوب؛ وأنه سيركز ملاحظاته على هذا الأخير قائلًا: من الواضح أنه عندما يتم إدخال الكتابة إلى مجتمعٍ ما، يكون هناك انفتاح في آنٍ واحد نحو بعض مجالات الاتصال الجديدة واستبدال تلك القديمة بهذه الوسيلة الجديدة، أعني على سبيل المثال المجالات الجديدة التي يتم فيها فتح نمط جديد تمامًا من التعليم باستخدام لوحات الكتابة أو السبورة السوداء أو الكتب المدرسية كأساس للتدريس، وإنشاء مؤسّسة جديدة، والمدرسة، والموظفين الجدد، والمعلمين، إضافة إلى التلاميذ (الأطفال عادة).

وأضاف إلى أنه في الوقت نفسه، تعاني أشكال التنشئة الاجتماعية الأصلية بالدرجة الأُولى حيث صار تعلّم العيش في المجتمع يتم إزالته جزئيًّا من المشاركة المباشرة مع الأقارب، ويتم نقله إلى القسم والمعلم، وأن هذا التغيير يقلّل من التواصل بين الوالدين والطفل، والذي يكون في الغالب عن طريق الكلام الشفهي في أيّ ثقافة، ويزيد من عنصر الكتابة والقراءة، وهو ما تدور حوله المدرسة في المقام الأول. إنه تحوّل لا يأتي كثيرًا مع التنقيح كما هو الحال مع بداية الكتابة، حيث يحدث التحسن بمرور الوقت فرقًا في تطوير النصوص والوسائل المساعدة على القراءة. بينما ظهرت الكتابة نفسها في بلاد ما بين النهرين باستخدام نصّ لوغرافي، من الواضح أن الأبجدية جعلت الكتابة أبسط (بعد الصعوبة الأولية لكسر الشفرة) والقراءة بشكل أسرع. قارن كمية (ونوعية) الكتابة التي أنتجها علماء يونانيون يعملون بأبجدية كاملة (أو حتى العبرية التي تعمل بأحرف ساكنة) بتلك التي تم إنتاجها في الكتابة المسمارية التي مثّلت تطورًا لأشكال أكثر مرونة.

ثم تحدّث عن بداية الرواية قائلًا: بدأت الرواية في أواخر الفترة الكلاسيكية، لكن تطوّرها الحقيقي حدث فقط مع تقنية الكتابة التي حدثت مع اختراع المطبعة، مما سمح في النهاية بإعادة إنتاج النصوص الطويلة بثمن بخس، وبالتالي أقامت علاقات مختلفة تمامًا بين المؤلِّف والقرّاء، بين البائعين والمشترين، على خلاف ما كان موجودًا في السابق في هذه النواحي، كما هو الحال في العديد من الجوانب الأخرى، فإنّ ما يمكن أن نطلق عليه تنقيحات في النصّ يسهم في شيء ما، ليس فقط في فتح مجالات جديدة، ولكن أيضًا في استبدال المجالات القديمة. في حالة السرد، تم تغيير النوع بأكمله بشكل جذري مع الحكايات الشعبية التي يتم سردها في سياقات شفهية لم يتم استبدالها كثيرًا، واستمرت في الحضانة، ولكنها استكملت بقصص خيالية طويلة من نوع جديد ومختلف تمامًا. والواقع أنّ تطوّر السرد نفسه، الذي غالبًا ما يُنظر إليه على أنه فنّ من فنون الثقافة الشفوية، قد شجّعه بلا شك اختراع الكتابة ثم الطباعة لاحقًا. ظهرت الرواية الإفريقية في سياق ما بعد الاستعمار عندما تحوّلت الثقافات الشفوية إلى حدّ كبير، في ممارساتها التواصلية، في علاقتها بين الراوي والجمهور، من خلال اعتماد الكلمة المطبوعة.

وأضاف أنه لم يكن الوضع مختلفًا جوهريًّا عن النصوص الدينية حيث إن الأعمال الرئيسة لأديان العالم، العهد القديم لليهود، العهد الجديد للمسيحيين، قرآن المسلمين، النصوص الموازية في الهندوسية والبوذية، كلّها نتاج حتمي للثقافات المكتوبة. وهي تختلف عن تلاوة الثقافات الشفوية البحتة بطريقتين مهمّتين؛ أولًا: هي أطول بكثير. ثانيًا: فهي متّسقة عبر الزمان والمكان.

ونبّه إلى أنه ينبغي أن نكون حذرين للغاية عندما نتحدث عن تراجع انتقال في النقل الشفوي الذي يمكن أن يعني شيئين: تراجع؛ مقارنةً بالنقل في الثقافات الشفوية البحتة، وتراجع في المكونات المنقولة شفهيًّا في المجتمعات ذات الكتابة، وهو ما سمّاه «التقليد الشفهي»؛ لأنه يجب أن نتذكر أنّ وصول وسيلة اتصال جديدة لا تحلّ محل السابق (باستثناء بعض المجالات المحدودة)، فهي تضيف إليها. يضيف الكلام إلى الإيماءات والكتابة على الكلام والوسائط الكهربائية إلى الكتابة. وبينما تتطوّر البشرية، فإنها تستخدم عددًا متزايدًا من قنوات الاتصال، والقنوات اللاحقة تفترض دائمًا وجود الأقدم.

 التواصل بين الأم والطفل لا يتم أبدًا كتابيًّا، وذلك للقول فقط لأن الطفل لا يعرف الحروف بعد؛ لأن جميع الثقافات، التي تم اختراع الكتابة فيها، تم تقسيمها إلى مجموعتين، إلى ثقافتين فرعيتين، واحدة تتكون من أولئك الذين يستطيعون القراءة والأخرى لمن لا يستطيع. لذلك، كان لا بد للإنسان من إجراء قدر كبير من التواصل مع إخوانه من البشر من خلال الكلام بدلًا من الكتابة.

مضيفًا أنّ حقيقة الحفاظ على النقل الشفهي في هذه المناطق لا تعني أنّ المحتوى غير متأثر بالكلمة المكتوبة. بعيدًا عن ذلك، تتأثّر الشفوية في نطقها وبناء جملتها ومحتواها. قد يكون محتوى الحكايات التي تخبرها الأم لطفلها مستمدًّا من مصدر مكتوب، مثل «حكايات خرافية»[3] لبرّو، أو حتى من القرآن نفسه.

وأشار إلى أنّ مجيء الكتابة يقضي على ضرورة حفظ النصوص الطويلة في الواقع، وأنه في الثقافات الشفوية سيكون من المستحيل فعليًّا استعادة عمل طويل مثل القرآن، حتى لو كان بإمكان المرء أن يتخيّله على أنه منتج شفهي (وهو أمر مستحيل أيضًا). حتى القصار من هذه النصوص قد يكون ملتزمًا بالذاكرة بطرق يمكن اعتبارها عمومًا غريبة في الثقافات الشفوية. على سبيل المثال، في المدارس الأولى في بلاد ما بين النهرين، كان على الطلاب كتابة درسهم على جانب واحد من لوح طيني، ثم قلب اللوح بحيث يتم إخفاء الكتابة وإعادة إنتاج النصّ. بمعنى آخر، تم استخدام الكتابة كأداة لتطوير الذاكرة الشفوية.

وأضاف أنه نتيجة لذلك، لم تَعُد التلاوات الدينية للثقافات الشفوية، مثل Bagre (أسطورة باغري) تختلف مع كلّ أداء؛ والواقع أنه لن يفعل ذلك إذا تمّت قراءته ببساطة. بدلًا من ذلك، فهو ملتزم بالذاكرة ثم يُتلى كما لو كان منتجًا شفهيًّا. ومن ثم، تم بذل جهد غير عادي في المدارس الدينية (وكانت معظم المدارس المبكّرة دينية) لحفظ النصوص كما هو الحال في بلاد ما بين النهرين، كان هذا بسبب أن المعرفة المكتوبة كان يعتقد على ما يبدو أنها غير موجودة بشكلٍ صحيح إلا إذا تم استيعابها، مثل المعرفة في الثقافات الشفوية، وجعلت جزءًا من الجسم داخليًّا بالإضافة إلى الجهاز اللوحي خارجيًّا. حتى اليوم قد نتصرّف كما لو كان هذا هو الحال. غالبًا ما يُفهم «معرفة القصيدة» على أنها القدرة على تلاوة تلك القصيدة.

بالطبع هناك بعض السياقات التي تكون فيها عملية استيعاب الكلمة المكتوبة داخليًّا بحيث «نعرف» (حفظ) ما هو موجود دون استشارة ذات أهمية أساسية، كما هو الحال مع الإرشادات الموجودة على زجاجة الدواء أو تلك التي تخبرنا كيف يعمل جهاز إلكتروني. هذا صحيح بشكلٍ خاصّ بالنسبة لبعض الأدوات المكتوبة التي تعتبر أساسية لمزيد من العمليات مع الكلمة المكتوبة، والتي يمكن أن يقال إنها مشتقة من مراجعة المعرفة المكتوبة المضمَّنة في النصّ بدلًا من النصّ نفسه (على الرغم من أن هذا الجانب الأخير يدخل في النظر). أُشير هنا إلى الأبجدية نفسها، أو إلى النصوص المنطقية، وهي مجموعة أطول بكثير من العلامات التعسّفية إلى حدٍّ ما للكلمات.

ثم تحدّث عن الحروف الأبجدية قائلًا: لدينا ترتيب عشوائي لحروف العلّة والحروف الساكنة، ABC، الذي يُعتبر أمرًا ضروريًّا للحفظ عن ظهر قلب بترتيب معيّن بحيث يمكن للمرء استخدامه لأغراض مثل الفهارس. إنه أمر تعسّفي تم تمريره بطريقة رسمية بأشكال أدبية ومنطوقة لعدة آلاف من السنين. الأمر نفسه ينطبق على العلامات المستخدمة في الرياضيات. مرة أخرى، يجب تعلّم الترتيب وضربهما الأوّلي عن ظهر قلب حتى نتمكن من إجراء المزيد من العمليات الذهنية أو المكتوبة؛ من الضروري تعلّم العلامات بترتيب معيّن حتى نتمكن من إجراء العمليات الذهنية أو المكتوبة التي يعتمد عليها الحساب. في هاتين الحالتين، نحتاج إلى تعلّم الإشارات عن ظهر قلب بترتيب معيّن حتى يمكن إجراء المزيد من العمليات، وهي عمليات يكاد يكون من المستحيل إجراؤها في الوضع الشفهي البحت؛ ليس هذا هو الحال بالضرورة بالنسبة للأميين في مجتمع الكتابة حيث يمكنهم أيضًا تعلم تشغيل هذه الأجهزة من التكنولوجيا الفكرية، حتى دون معرفة كيفية القراءة والكتابة، حيث يمكنهم الحصول عليها من خلال الكلمة المنطوقة من شخص يستطيع ذلك. تتمثّل إحدى المشكلات المتعلّقة بهذا الاستخدام الوسيط للشفهية في اكتشاف كيف يعرف شخصٌ ما شيئًا ما أو موضوعًا ما إذا لم يحفظه في الذاكرة ثم يقم بإعادته لفائدة الفاحصين؟ كيف يمكننا التأكّد مما إذا كان هو أو هي قد التحق بالمدرسة، واستمع إلى المحاضرات، وفهم ما قاله المعلم إذا لم نستخدم بعض آلية الاختبار هذه؟

وفي إجابته عن هذا السؤال يقول: تعتمد الإجابة، جزئيًّا على الأقل، على كيفية رغبتنا في استخدام هذه المعرفة لاحقًا. إذا أردنا التحدّث إلى مواطن فرنسي، فنحن بحاجة إلى استيعاب معرفتنا بالكلمات الفرنسية. إذا أردنا الترجمة من أجلِ النشر، فإنّ هذا النوع من المعرفة غير ضروري. وقد عرف الناس مترجمين بارعين للغاية غير قادرين على التحدّث باللغة المعنية. مع الموضوعات الأخرى، تكون المعرفة الداخلية أقلّ أهمية، إذا كنت تعرف كيفية إجراء التشخيص بمساعدة الإنترنت (أو كتاب مدرسي طبي) أو إذا كنت تعرف أين تبحث عن «الحقائق» حول كوسوفو في الموسوعة.

ثم انتقد المنهج المعتمد في حفظ الكتب المقدّسة من طرف التلاميذ قائلًا: إنّ تعلّم تلاوة نصّ ديني طويل عن ظهر قلب مثل القرآن أو الكتاب المقدّس ليس مكافئًا لتعلّم تقنيات العقل والأجهزة الضرورية لمزيد من التعلّم. أولًا، يقضون وقتًا طويلًا في المدارس يمكن تكريسه لأنشطة أخرى. على سبيل المثال، خذ العديد من المدارس الابتدائية الإسلامية التقليدية حيث قد يستغرق تعلم تلاوة القرآن كلّ وقت الطالب، ولا يترك شيئًا يكتسب أشكالًا أخرى من المعرفة، ويلتزم بتذكّر شيء كان متاحًا بالفعل في شكل مكتوب، وضع تخزين فائق وأكثر دقّة. هذا يعني أنّ الطلاب كان عليهم قضاء جزء كبير من وقتهم في حفظ النصّ، في التكرار الحرفي، في تعلم القراءة (بالمعنى الحرفي) عن ظهر قلب بدلًا من اكتساب أشكال أخرى من المعرفة.

مشيرًا إلى أنّ الشيء نفسه موجود في Yeshiva، المدارس الدينية للتقاليد اليهودية، حيث يمكن رؤية العلماء واقفين على مكاتب، يتأرجحون إلى الوراء والأمام، بينما يتعلمون قراءة النصّ لتكرارها لاحقًا. كان الشيء نفسه ينطبق على العديد من المدارس المسيحية المبكّرة وحتى في فرنسا في القرن الثامن عشر، كتب فوريه وأوزوف (1977) عن نظام في المناطق الريفية كان يعلّم التلاميذ أكثر قليلًا من قراءة قانون الإيمان. ولم يتقدّم المرء من هذا النوع من التعلّم إلا في مؤسّسات التعلّم المتقدّم إلى شيء أكثر إبداعًا واستكشافًا وفرصة كانت متاحة فقط لعدد قليل جدًّا. كما رأينا، يرتبط هذا «التظاهر بالشفافية» عمومًا بالنصوص الدينية. تبدو هذه العملية غريبة بالنسبة لنا الآن، لكنها سمة من سمات معرفة القراءة والكتابة. في الخمسة آلاف سنة الأولى من الحضارات المكتوبة، تم تعلّم القراءة والكتابة في المعابد والكنائس والمساجد. كان المعلمون قساوسةً واستخدموا حتمًا النصوص الدينية كجزء رئيس من تعليمهم. كانت الاستثناءات الجزئية هي اليونان القديمة والصين، المجتمعات التي لم تشترك في دين واحد مكتوب بالطريقة التي كانت مميزة للشرق الأدنى (ودياناته) والهند. في تلك المجالات، تم توفير قدر أكبر من الحرية في العملية التعليمية التي -بلا شك- كان لها بعض التأثير على الموضوع الذي تم استخدامه ومناقشته. يبدو أنّ محو الأمية كان أقلّ تقييدًا، على الأقل بالنسبة للجماهير.

وذكر أنه حتى في اليونان القديمة، كان نصّ هوميروس ملتزمًا بالذاكرة بطريقة مماثلة؛ وينطبق الشيء نفسه على الفيدا، على الرغم من أنّ هناك القليلَ من الشّك في أنّ كليهما موجود في شكلٍ مكتوبٍ؛ لأن هذا النمط من التعلّم لم يقتصر بأيّ حال من الأحوال على الشرق الأوسط. أصبح Rig Vedaالذي تم تحويله إلى نصّ مكتوب موضوعًا للتعلّم المكثّف عن ظهر قلب من قِبَل البراهمة الذين تعلّموا قراءته في مدارسهم حتى يتمكنوا من إلقاء القصيدة شفهيًّا دون اللجوء إلى النصّ المكتوب، كان هذا هدفهم. يقتصر تدخل معظم كهنة البراهمة في الطقوس على قراءتهم أو تلاوتهم لنصّ ثابت، من غير المرجح أن يتم التعامل مع المعرفة العلمية بهذه الطريقة. هل تم حفظ أرسطو بهذه الطريقة؟ ولكن، كما رأينا، لا تزال هناك ضغوط لجعلنا نحفظ، وبالتالي نكون قادرين على إعادة إنتاج ما هو مكتوب في الكتب شفهيًّا، مثلما توجد ضغوط على صانعي الخطاب لعدم قراءة إسهاماتهم في المناظرة ولكن في أسوأ الأحوال لمراجعة الملاحظات لأنها تبدو أكثر واقعية، وأكثر صحة، وأكثر إقناعًا، إذا كانت الكلمات تأتي مباشرة من قلب المتحدِّث بدلًا من قراءتها مباشرة من النصّ.

 هناك بعض التغيير في دور النصوص المكتوبة بمرور الوقت. لدينا تطوّر في الأشكال الأدبية مثل الروايات التي يتم مسحها ضوئيًّا بدلًا من استيعابها، على الأقل بالمعنى الحرفي، والتي ترتبط بالقراءة السريعة. وينطبق الشيء نفسه على الأعمال غير الخيالية، وخاصّة على النصوص الفلسفية أو العلمية مثل تلك الخاصّة بأرسطو في اليونان القديمة والتي تُقرأ من أجل «معناها»، و«جوهرها»، و«أفكارها»، بدلًا من حفظها عن ظهر قلب. ويبدو أنّ هذه العملية المهمة جدًّا لتطوير العمليات المعرفية تعني انخفاضًا معيّنًا في الإرسال الشفهي في الفترة المحيطة بـ«تنقيح» استخدامات الكتابة، بدلًا من النظام المكتوب نفسه. ومع ذلك، فإنّ عملية مسح النصّ، للقراءة السريعة، تمّت من خلال ما يمكن اعتباره -بشكلٍ أكثر تحديدًا- تنقيحاتٍ للنظام المكتوب. كان هناك بالطبع توحيدٌ للتهجئة التي رافقت اختراع الطباعة. في نظام الكتابة الأبجدية الذي ورثناه من الفترة الكلاسيكية، طوّرنا طرقًا للإشارة إلى الفواصل بين الكلمات والجُمَل والفقرات والفصول؛ لتمييز بداية الحروف ونهايتها، وإظهار الأسئلة، والكلام المباشر.

وختم كلامه بقوله: في حين أن صقل الكتابة، وحتى وجودها، يؤثّر شيئًا ما في تقليل أهمية التقليد الشفوي؛ فإنه يشجع أحيانًا أيضًا على الشفوية في سياق واحد مكتوب من خلال الاستمرار في عرض المعرفة الحقيقية على أنها شيء مكتوب في الأصل يجب أن يكون أنتجت شفويًّا عند الطلب. هذا ينطبق بشكلٍ خاصّ على المعرفة الدينية، ولكنه يشمل العلمانية أيضًا في سياق التعليم المدرسي والجامعي. علاوة على ذلك، يجب على المرء أن يتذكر أن القراءة بصوت عالٍ كانت، حتى وقت قريب، الشكل الرئيس للقراءة، حتى من أجل تنوير الفرد أو الاستمتاع بقراءة النصّ، تم تحويل النصّ إلى اتصال شفهي. لذلك، عند الرجوع إلى الماضي، لم تؤدّ التنقيحات في النصّ إلى تراجع في الشفهية ولكن من شبه المؤكّد أنها عزّزت دورها؛ يمكن أن يقال أنّ محو الأمية جعل الناس يكادون يتكلّمون.

المحور الثاني: بحث جاك جودي، نقد وتقويم:

بعد جرد المادة العلمية في الكتاب يتّضح أن البحوث الواردة فيه تركزت في جانبين اثنين: جانب أشار فيه جاك جودي إلى الأصول غير الإسلامية للقرآن الكريم ودعوى تراجع حفّاظه بظهور نظام الكتابة، وجانب تناول جنس القرآن.

أولًا: ادّعاؤه أنّ الأعمال الرئيسة لأديان العالم؛ العهد القديم لليهود، العهد الجديد للمسيحيين، قرآن المسلمين، النصوص الموازية في الهندوسية والبوذية =كلّها نتاج حتمي للثقافات المكتوبة.

الغاية من هذا الكلام إثبات بشرية القرآن، تلك الفِرية التي حاول المستشرقون دائمًا أن يُثبتوا من خلالها أن القرآن الكريم نُقل أو وُضع من تأليف محمد -صلى الله عليه وسلم- وهي في الحقيقة فِرية سُبقوا إليها؛ حيث يشهد التاريخ أن النقاد من الكفار وغير المسلمين منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يزالوا يُكرّرون آراء مشركي مكة حيال القرآن بأنه ما هو إلا قول البشر، أو أنّ محمدًا -عليه السلام- الذي لقّبوه بالأمين قد أصبح شاعرًا أو ساحرًا مجنونًا؛ أو أنّ بشرًا آخر علّمه القرآن، كما ذكر القرآن عنهم قولهم: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5].

وإذا كان يقصد أنّ القرآن مأخوذ من التوراة فهو ادّعاء سقيم لا يستند إلى دليل، بل الدلائل ترده، «ولعل من أوضح البراهين لإثبات ما نحن بصدده؛ عدم إحالة أعداء محمد إلى هذا النص العربي لمّا أرادوا نفي حقيقة النبوّة عنه؛ إِذْ إنّ أهل مكة لمّـا ضاقت عليهم الحِيَل وسُدّت أمامهم فُرَج التشكيك؛ زعمـوا أنّ فـتًى أعجميًّا هو الذي كان يعلّم محمدًا ما كان يدعو إليه غيره. ولو أنّ هذا النصّ العربي المزعوم كان موجودًا؛ لقال المناكفون لهذا النبي: إنّك قد قرأت هذا النص، أو إنّ مِن أهلِك أو رفاقِ الطفولة أو الشباب مَن قرأ عليك هذه النصوص، ووعيتَها عنه، ثم جئتَنا تتلوها علينا!»[4].

 من جهة أخرى، من المعلوم أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، من ذلك ما ذكره مؤلّف كتاب (مَن كتب القرآن؟) وهو بصدد الردّ على هذه الفِرية الصلعاء، حيث أشار إلى أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لكان أعداؤه أوّل مَن يتهمه بذلك، وقد كانوا متلهفين لتشويه سمعته[5].

كما أشار إلى أننا لو فرضنا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ ويكتب، فإنّ الترجمة الأولى للعهد الجديد باللغة العربية لم تظهر إلا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمائتي سنة[6]، وهذه حقيقة أكّدها المؤلف الأمريكي كينيث إي. بيلي (ت:2016م) وهو بصدد الحديث عن النُّسَخ العربية للتوراة، حيث أشار إلى أنّ أوّل خطّ عربي كُتبت به التوراة يُرجِعُه المختصّون إلى بدايات القرن الثامن أو القرن التاسع[7].

 كلّ هذه الدلائل توضح أن التوراة بعهدَيْها لم تُترجَم إلى العربية إلا بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بزمن بعيد، إضافةً إلى أنّ كلًّا من اليهودية والمسيحية لم تنتشِرَا في شبه الحجاز آنذاك، كما تؤكّد ذلك المصادر التاريخية المسيحية نفسها، من ذلك ما صرحت به الموسوعة الكاثوليكية الجديدة[8].

ثم كيف يكون هذا القرآن منقولًا وفيه آيات عتابٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم- كسورة عبس:﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ [عبس: 1- 10]، وكقوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]، لو كان القرآن مأخوذًا من ثقافة مكتوبة لكتمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات التي جاءت في حقّه. يدلُّ على ذلك قولُ أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: «وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾»[9].

وبهذا يظهر أن القول بأنّ القرآن الكريم مجرّد نتاج حتمي للثقافات المكتوبة قول باطل. قال القرضاوي -رحمه الله-: «ومَن قرأ القُرآن وتدبّره، وكان على شيء مِن العِلم بحال المجتمع العربيّ، والمجتمعات الأُخرى، وقت نزوله، تبيَّن له -بما لا يقبل الشكّ- أنَّ القرآن كان فاعلًا لا مُنفعلًا، ومُؤثرًا لا مُتأثرًا، فقد صحّح العقائد الباطلة السائدة، وصوَّب المفاهيم الخاطئة المسيطرة، وأبْطَل التقاليد الظالمة، وألْغَى الأوضاع الفاسدة، وحمل على الأباطيل المتوارثة حملةً لا نظير لها، وردَّ على الجاحدين المشركين وأهْلِ الكتاب من اليهود والنصارى، وبيَّن أنهم حرَّفوا وبدَّلوا، وكتبوا الكتب بأيديهم ثم قالوا:﴿هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 79]، ووضح أنه جاء ﴿بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]»، ثم أضاف قائلًا: «فمَن زعم أنّ القرآن نتاج الثقافة السائدة، فقد جهل القُرآن، وجهل الواقع التاريخي، وغاب عن الوعي. ولقد قرأ بعض الأجانب المُنْصفين القرآن، فقال: لو وُجد هذا المصحف في فلاة، لعَلِمَ قارئُه أنَّه كلام الله. وقالت (نبيا أبوت) أستاذة الدراسات الساميَّة بجامعة الملكة في كاليفورنيا: القرآن مهما كان محتواه، فإنَّه ليس مِن صُنع البشر، فإذا أنْكَرْنا كَوْنه مِن الله فمعناه: أنَّنا اعتبرنا محمّدًا هُو الإله»[10].

ثانيًا: ادّعاؤه حقيقة الحفاظ على النقل الشفهي في هذه المناطق لا تعني أن المحتوى غير متأثّر بالكلمة المكتوبة. بعيدًا عن ذلك، تتأثر الشفوية في نطقها وبناء جملتها ومحتواها. قد يكون محتوى الحكايات التي تخبرها الأم لطفلها مستمدّةً من مصدر مكتوب، مثل: «حكايات خرافية» لبرو، أو حتى من القرآن نفسه.

يظهر أن القصد من كلام هذا المستشرق أن قصص القرآن الكريم ما هي إلا مجرد حكايات خرافية حيث قرنها بالحكاية الخرافية للكاتب والشاعر الفرنسي شارل برو الذي وضع الحجر الأساس لنوع حديث في الكتابة الأدبية وسمّاه بـ(الحكاية الخرافية)»[11]. وما يُدري هذا الغَمر أن احتواء القرآن الكريم لبعض القصص يُعتبر من البراهين على إعجازه علمًا أنّ «إعجاز القرآن ليس آتيًا من حيث إنّه احتوى أروع القصص وأحسنها لبلوغه النهاية في الفصاحةِ وحسنِ المعاني وعذوبة الألفاظ مع التلاؤم المنافي للتنافر، والتشاكل بين المقاطع والفواصل وحَسْب، بل لأنّه قد أتى ذِكر الأُمم الماضية، وأخبار الكائنات الآتية، وجميع ما يحتاج إليه العباد إلى يوم القيامة من المعارف والمنافع بأعذب لفظ وتهذيب، وفي أحسن نَظْم وترتيب».

 ثم إنّ «هذه القصص القرآنية تتضمّنُ من الإعلام والدلائلِ، والمعارفِ، واللطائف والعِبَر ما لا تتضمنه قصصُ العالَم بأسره بحيث لو تتبَّعتَ أيها القارئ الكريم ما جرى في هذه القصص من أحداث ووقائع وما تخلّلها من حوار ونقاش وما تضمنته من ظروف وملابسات، لوجدتَ أنّ الله سبحانهُ وتعالى أراد أن يُعطيك الصورةَ الإنسانيةَ الكاملَةَ، مختارًا ثلّة من عباده الصالحين وذلك بتدرّج وتطوّر متنافسين؛ حابكًا ما جرى معهم خلال عصور متباعدة بنسجٍ بلاغي فريد، مخرجًا للبشرية دقائقَ الأحداث التي كان لها الأثر الكبير على استمرارية الوجود بأسمى وأروع وأحسن القصص»[12].

بل «إنّ القصة القرآنية من أهم الوسائل التي استخدمها الإسلام -على الرغم من تطورات الحياة- لتغذية العقول وتهذيب النفوس، والترويح المنشود، فهي تفتح في النفس البشرية مغالق الإلهام، عندما تعايش أنبياء الله ورسله في رحلتهم مع أقوامهم كي تأخذ عنهم وتتعلّق على أيديهم وتثبت معهم، فالقصة في القرآن باب من أبواب البيان القرآني العظيم»[13].

فكيف يصحّ بعد هذا مقارنة قصص القرآن مع الحكايات الخرافية المنبنية على الخرافات إلى عالم الوهم من خلال اللجوء إلى الشخصيات الخيالية، والقبول بما يخالف الطبيعة وتصوير العالم غير الواقعي.

ثالثًا: قوله: إنّ مجيء الكتابة يقضي على ضرورة حفظ النصوص الطويلة. في الواقع، في الثقافات الشفوية، سيكون من المستحيل فعليًّا استعادة عمل طويل مثل القرآن، حتى لو كان بإمكان المرء أن يتخيّله على أنه منتج شفهي (وهو أمر مستحيل أيضًا).

 المراد من هذا الكلام أنّ القرآن كان نصًّا شفويًّا في بدايته ثم كُتب بعد مدة زمنية، مما يمكن معه ضياع بعضه وسقوط حفظه من الصدور. وهذا تدليس على القارئ إِذْ من المعلوم أن القرآن الكريم وحي من عند الله على النبي -صلى الله عليه وسلم- «بلّغه -عليه السلام- كما أُنزل إليه من ربه وإلى الناس عامة، وإلى أصحابه خاصّة، فحفظوه في صدورهم وتلوه بألسنتهم، وكتبه كُتّاب الوحي بأيديهم»[14].

إضافة أن الروايات قد تواترت بحفظ القرآن الكريم في الصدور والسطور في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما رواه عثمان -رضي الله عنه-: «كُنَّا عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نُؤَلِّفُ الْقُرآنَ من الرِّقَاعِ، قال عثمانُ‏: كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَنْزِلُ عَلَيْهِ السّورَةُ ذَاتُ العدَدِ، فكانَ إذا نزلَ عليهِ الشَّيْءُ دَعَا بعضَ منْ كانَ يَكْتُبُ، فَيَقُولُ‏: ضَعُوا هؤلاء الآياتِ في السُّورَةِ التي يُذْكَرُ فيها كذا وكذا»[15].

فهذا الحديث يدلّ على أن القرآن كان يدوّن بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الكُتّاب يكتبون تحت مراقبته، يدلّ على ذلك ما رواه الزُّهْرِيُّ عن ابن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبيه عن جَدِّهِ زيد بن ثَابتٍ قال: «كُنْتُ أَكْتُبُ الوَحْيَ عند رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وكانَ إذا أُنْزِلَ عليه أَخَذَتْهُ بَرْحَاءُ شديدةٌ وَعَرِقَ عَرَقًا مِثْلَ الجُمَانِ ثُمَّ سُرِّيَ عنه، فكُنْتُ أَدْخُلُ عليه يَقْطَعُهُ الْقِتْبُ أو كَسِرَهُ فَأَكْتُبُ وَهُوَ يُملي عَلَيَّ فما أَبْرَحُ حَتَّى تَكَادُ تَنْكَسِرُ رِجْلِي مِنْ ثِقَلِ القرآنِ وحتّى أَقُول لَا أَمْشِي على رِجْلٍ أَبَدًا، فإذا فَرَغْتُ قال: اقْرَأْهُ. فَأَقْرَأُهُ فَإِنْ كان فيه سَقْطٌ أَقَامَهُ ثم أَخْرُجُ به إلى النَّاسِ»[16].

ثم إنّ جبريل كان يعارض النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- القرآنَ في كلّ سَنة، وعارضه في العام الذي تُوفي فيه مرّتين؛ روى البخاري عن فاطمة عليها السلام: «أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ جِبْرِيلَ كان يُعَارِضُنِي بالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ...»[17].

فكانت هذه العرضة الأخيرة بِمنْزلة المراجعة النهائية للكتاب الحكيم، عُرض فيها القرآن الكريم مرّتين، فأُثبِت فيه جميع الأوجه الثابتة غير المنسوخة، وتُرك ما نُسِخ منه، فما ثبَت في هذه العَرْضَة هو القرآن المحكم. قال ابن كثير (ت: 774هـ): «والمراد من معارضته له بالقرآن كلّ سنة: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى؛ ليُبقِيَ ما بَقِي، ويُذهِبَ ما نُسخ؛ توكيدًا، أو استثباتًا وحفظًا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره -عليه السلام- على جبريل مرّتين، وعارضه به جبريل كذلك»[18].

ثم إنّ الله وصف هذا القرآن بقوله: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: 49]، وقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث القدسي-: «إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الماءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ»[19]، قال النووي (ت: 676هـ): «فمعناه: محفوظ في الصدور لا يتطرّق إليه الذهاب بل يبقى على مرّ الأزمان»[20].

إنّ حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة، يقول ابن الجزري (ت: 833هـ): «ثم إنّ الاعتماد في نقل القرآن على حِفْظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة»[21]. ولا يزال حِفْظ القرآن شعارًا لهذه الأمة، وشوكةً في حلوق أعدائها، تقول المستشرقة الإيطالية لورا فاليري (ت: 1989م): «إنّنا لَنجد اليوم، على الرغم من انحسار موجة الإيمان، آلافًا من الناس القادرين على ترديده عن ظهر قلب، وفي مصر وحدها عددٌ من الحفّاظ أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل في أوروبا كلّها»[22].

وبهذا يتبيّن أنّ ادّعاءَ أنّ القرآن كان نصًّا شفويًّا في بدايته ثم كُتب بعد مدة زمنية، مما يمكن معه ضياع بعضه وسقوط حفظه من الصدور =ادعاءٌ لا يصمد أمام مجموع الأدلة التي تُثبِت أن القرآن الكريم حُفظ في الصدور وفي السطور زمانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ونقَلَه أصحابه إلى مَن بعدهم.

رابعًا: قوله: إنّ تعلُّمَ تلاوةِ نصٍّ ديني طويل عن ظهر قلب مثل القرآن أو الكتاب المقدّس ليس مكافئًا لتعلّم تقنيات العقل لمزيد من التعلم. أولًا، يقضون وقتًا طويلًا في المدارس يمكن تكريسه لأنشطة أخرى. على سبيل المثال، خُذ العديد من المدارس الابتدائية الإسلامية التقليدية حيث قد يستغرق تعلّم تلاوة القرآن كلّ وقت الطالب، ولا يترك شيئًا يكتسب أشكالًا أخرى من المعرفة.

يشير جاك جودي هنا إلى واحد من الشروخ المنهجية التي لا تزال سائدة في أوساط المدارس التي يحفظ فيها التلاميذ القرآن حيث يكتفون بمجرّد الحفظ طوال الوقت دون الانفتاح على اكتساب العلوم الأخرى. وكوني ممن مَرّ بالتجربة التي يصفها الرجل فيظهر أنه صائب في فكرته هاته، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، إِذْ يفترض أن يتم استغلال هذه المرحلة التي لا يزال فيها ذهن الطالب خاليًا من مشاغل الحياة في صقل مواهبه بانفتاحه على حفظ المتون المتضمنة للعلوم والمعارف الإسلامية بدل الاكتفاء بحفظ القرآن وحده، فما أن ينتهيَ الطالب من حفظ القرآن الكريم حتى يكون قد حفظ معه أمهات المتون المتضمّنة للعلوم الإسلامية من نحوٍ وصرف ومصطلح وفقه وأصول وغيرها.

وهذا لا يعني الدعوة للشروع في دراسة العلوم قبل حفظ القرآن، فإنّ «السلف لا يعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن»[23]. قال ابن تيمية (ت: 728هـ) رحمه الله: «وأمّا طلب حِفْظ القرآن، فهو مقدَّم على كثير مما تسميه الناس علمًا؛ وهو إمّا باطلٌ، أو قليلُ النفع، وهو أيضًا مقدَّم في حقّ من يريد أن يتعلّم علم الدين من الأصول والفروع، فإنّ المشروع في حقّ مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم: من الكلام، أو الجدالِ والخلاف، أو الفروعِ النادرة، والتقليدِ الذي لا يحتاج إليه، أو غرائبِ الحديث التي لا تثبُت ولا ينتفع بها، وكثيرٍ من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كلِّه»[24].

خاتمة:

بعد عرضِ مضامين هذه الدراسة التي تناوَل فيها جاك جودي الحديث عن مدى الاستعانة بنظام الكتابة للوصول إلى استنتاجات حول تراجع الرواية الشفوية والذي أشار فيه إشارات طفيفة إلى أصل القرآن وجنسه تبين ما يأتي:

1. إدخال الكتابة إلى المجتمعات، يؤدي إلى الانفتاح على بعض مجالات الاتصال الجديدة واستبدال الرواية الشفوية بالكتابة. وقد أثبت الدراسة أن هذا لا يشمل القرآن الكريم فهو محفوظ في الصدور والسطور في كلّ الأزمان.

2. ظهور الكتابة، يقلّل من التواصل بين الوالدين والطفل، والذي يكون في الغالب عن طريق الكلام الشفهي في أيّ ثقافة، ويزيد من عنصر الكتابة والقراءة.

3. الأعمال الرئيسة لأديان العالم، العهد القديم لليهود، العهد الجديد، والقرآن والنصوص الموازية في الهندوسية والبوذية، كلّها نتاج حتمي للثقافات المكتوبة.

وعمومًا فقد تبيّن بأنّ ما ورد في هذه الدراسة من مضامين تتعلّق بأصل القرآن وجنسه بعيدة كلّ البعد عن الحقائق العلمية والتاريخية، وبالتالي فمضامين الدراسة تتعارض مع الإسلام، بل مع مسلّماته مما هو معلوم من الدِّين بالضرورة، وهي كثيرة جدًّا لا تخلو منها صفحة من صفحاته، وأبرزها:

ادّعاء أنّ القرآن مقتبس ومأخوذ من الكتب السابقة.

ادعاء أنّ القرآن نتاج حتمي للثقافات المكتوبة.

ادعاء أنّ القرآن مثله مثل الحكايات الخرافية.

ادعاء أنّ ظهور الكتابة أثّرَ على حفظ القرآن في الصدور.

والحمد لله ربّ العالمين

 

[1] جاك جودي (1919-2015 Jack GOODY): كاتب ومفكر وأنثروبولوجي وعالم اجتماع بريطاني، كان أستاذًا بارزًا للأنثروبولوجيا بجامعة كمبريدج. له عدّة دراسات، أبرزها: الموت، التقاليد، التكنولوجيا، الدولة في إفريقيا، الإسلام في أوروبا، سرقة التاريخ وأسطورة باغري وغيرها. Wikipedia, The free Encyclopedia.

[2] Does the refinement of the writing system allow usto draw conclusions about the decline of the oral transmission? Jack Goody, p, 140-150. Results of the contemporary research on the Quran, the question of historio-critical text of the Quran, edited by, Manfred S. Kroop, Beirut, 2007.

[3] شارل بِرّو Charles Perrault: عاش 12 يناير 1628 - 16 مايو 1703م، أديب فرنسي، وُلِد في باريس وتُوفي فيها، وهو النجل الأصغر لأسرة برجوازية. وهو الذي وضع الحجر الأساس لنوع حديث في الكتابة الأدبية وأسماه بالحكاية الخرافيّة، وجمع تحت لواء تلك الأساطير التي سطّرها قلمه المبدع... www.marefa.org

[4] هل القرآن مقتبس من كتب اليهود والنصارى، سامي عامري، رواسخ، ص87.

[5] “The first problem with this argument is that Muhammad (Peace and Blessings be uponhim) as we mentioned earlier was illiterate and could not copy what he could not read.(…) Had he not been illiterate, as the Qur’an itself stated, would this have not been easy to prove during Muhammad’s lifetime by his enemies who were eager to discredit him?”, who wrote the Quran, p. 12

[6]  “Secondly, even if one were to assume, for argument’s sake, that he could read, then thefirst Arabic translation of what is known as the “Old Testament” was not produced untilsome two hundred (200) years after Muhammad’s (Peace and Blessings be upon him) death and the first Arabic translation of the “New Testament” did not appear until onethousand years after his death", Ibid.

[7] This important manuscript is probably the earliest copy of the gospels in Arabic. It has five different scribes and the earliest of them uses a modified Kufic script. The script has been dated by experts as from the eighth or ninth century”, The Arabic Versions of the Bible, KENNETH E. BAILEY HARVEY STAAL, p, 4.

[8] "The Hijaz [Arabian Peninsula] had not been touched by Christian preaching. Hence organization of the Christian church was neither to be expected nor found, New Catholic Encyclopedia, Op.Cit, V. 1, p. 721-722.

[9] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، بَابُ مَعْنَى قَوْلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى[النجم: 13]، وَهَلْ رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، ر:288.

[10] كيف نتعامل مع القرآن العظيم، يوسف القرضاوي، دار الشروق، ط3، القاهرة، 2000، ص22- 23.

[11] ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

[12] الإعجاز القصصي، مؤلِّف مجهول، ص2- 3.

[13] الإعجاز القصصي في القرآن، سعيد عطية علي مطاوع، دار الآفاق العربية، ط1، القاهرة، 2006، ص7.

[14] كيف نتعامل مع القرآنالعظيم، يوسف القرضاوي، دار الشروق، ط3، القاهرة، 2000، ص21.

[15] سنن الترمذي، الترمذي، ر: 3086. (5/ 123).

[16] أدب الاملاء والاستملاء السمعاني، ص77.

[17] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام، ر: 3624.

[18] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (1/ 51).

[19] صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها الدنيا، ر: 2865.

[20] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، النووي (17/ 198).

[21] النشر في القراءات العشر، شمس الدين أبو الخير بن الجزري، (1/ 6).

[22] قالوا عن القرآن، عماد الدين خليل، ص28.

[23] المجموع شرح المهذب، النووي، ص38.

[24] مجموع الفتاوى، ابن تيمية الحراني (23/ 54)

المؤلف

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))