القرآن الكريم والفيلم الوثائقي، أية علاقة؟
القرآن الكريم والفيلم الوثائقي، أية علاقة؟[1]
القرآنُ هو كلامُ اللهِ -سبحانه وتعالى- غير مخلوق، المنزَّل على النبيّ محمد -صلى الله عليه وسلم- باللغة العربية المعجزة المؤيّدة له، المتحدَّى به العرب لإثبات النبوّة والعالم لإثبات الرسالة الخاتمة، المتعبَّد بتلاوته، المنقول إلينا بالتواتر، وهو مصدر الاستقرار الروحي والانتعاش الفكري والتذوّق الوجداني، اجتهد العلماء في كلِّ تفاصيله كلٌّ حسب تخصّصه ليبرهنوا بالحُجج العلمية والأدلة الدامغة على قوّته وجماليّـته من بداية نزوله إلى يومنا هذا، مما يعني أنَّ الجهد الفكري والعملي المستفرغ في خدمته لن يقابله جهد آخر معاصر لتراكم التمحيص والتدقيق في التعامل معه عبر قرون عدّة؛ فكانت مدارس تفسيره آية في المناهج العلمية من حيث تفسيره بالمأثور أو الإشارة أو البيان اللغوي... والآن بعض الاجتهادات المقرونة بتخصّصات أصحابها كالإعجاز العلمي وغيره... لكن هذه المدارس صارت على منهج محدّد وفق ما تقتضيه آداب البحث العلمي في علوم القرآن مع الاستعانة بالمناهج المعاصرة دون أيّ حرج أو لَبْس[2].
لقد أخَذَ القرآنُ الكريم عنايةً وجهدًا خاصًّا؛ سواء من الناحية النقلية أو العقلية باعتبار أنَّ طبيعة التعامل معه كانت تختلف في منهجها بينَ النقل والعقل، فالنقل ثابت في الشّكل المقرون بوسيلة تفسير القرآن بالقرآن والسنّة النبوية، ومظانّ هذا الشّكل يتبيّن في تفسيرِ النصّ بالنصّ، أمّا مِن حيث العقل فهو حاضر وثابت في الوسيلة والتفعيل في كلٍّ من تفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالسنّة واجتهاد الصحابة والتابعين واللغة العربية. فالعقل هو أداة عملية ووظيفية لكن بإرادة تقعيدية تأصيلية غير مجرّدة؛ وهو خاضع لمنهج الاستقراء والاستنباط دون جرد آليات ومحدّدات ووسائل التعامل مع القرآن الكريم. ومنهج التفسير بالمأثور إنْ عَرف نوعًا من الجمع في مراحل تاريخية يمكن أن تُعتبر في نظر البعض أنها حدَّت من العملية العقلية، فإنَّ بيان الآليات المعتمدة في صياغته منذ القرون الأولى تَبقى إرادة منطوية في العملية العقلية المؤسّسة لهذا المنهج، وهذا كلّه يحيل على أنَّ القرآن الكريم كتاب مقدَّس لكنه مفتوح للدراسة يحمل في نصوصه احتمالات لا متناهية من التأويل والتوليد، وهذه الخاصية كعنوان تفيد بأنه يستكشف المستقبل ويستجيب لضرورات الحاضر، وأنّ هدايته حاضرة ومواكبة لكلّ مستجدات العصر، وأنّ القرآن الكريم عنوان التنمية المستدامة للأُمّة الإسلامية لكن بقراءات تقعيدية بعيدة عن التنزيلية والإسقاطية الذاتية المفرغة أو الأيديولوجيات الحاملة المغرضة[3]، وحتى لا نقع فيما يقارب ذلك من أيّ زاوية، أو اعتماد التكليف في تقريب موضوع القرآن الكريم والفيلم الوثائقي، فإنَّ القرآن الكريم هو الكفيل بالإجابة عن هذه العلاقة من خلال الكون المنظور، فما هي زاوية القرب في الموضوع؟
القرآن الكريم وسؤال المنهج:
لا ينكر أحدٌ أنَّ القرآن الكريم يكابد مجموعة من التحديات على مستوى الداخل مقدار ما يكابده من التحديات على مستوى الخارج، والتحديات الداخلية لا تخرج عن كونها قائمة على ثلاثة أبعاد:
الأول: يكمن في أهل حفظه وتداوله بالمنهج الاستهلاكي المتداول الموروث، وهي إمّا وارثة أو مورثة لقدسيته الصورية مع إغفال قدسيته العلمية والعملية.
الثاني: يكمن في أهل رفضه ومحاربته بالمنهج الأيديولوجي المشكّك وهي ذات الأفكار الغوغائية الفوضوية الرافضة لكلّ مقومات القبول العلمي الثقافي الإسلامي الإنساني المنضبط والمشترك.
الثالث: يكمن في أهل الجهل بأحكامه ومناهج المختصِّين المتعاملين مع نصوصه (علماء القرآن)، وهي إمّا ذات جهل عفوي ومِن ثمّ وجب التوجيه والمحاورة؛ وإمّا ذات جهل مركَّب وهي المطّلعة على هذه المناهج غير أنها متنكّرة أو رافضة لها. أمّا التحديات الخارجية فهي تتوافق كذلك مع الداخلية وتكملها، وتقوم على بُعْدَيْن:
الأول: يكمن في أهلِ قراءة نصوص القرآن الكريم من ذوي القريحة العلمية المشبَّعة بالمناهج الغربية والمعتمدة في تحليلها على واقع معيَّن والمتوافقة مع قناعاتها الهادفة إلى ترسيخ أيديولوجية معيّنة باسم التنمية، وهي غالبًا ما تتطاول على النصوص القرآنية باسم الاختلاف غير أنه اختلاف معطل.
والفئة الثانية: فهي إمّا مستخدمة أو مستبلدة بسبب ادّعاء الفكر في تحليل نصوص القرآن أو مواجهتها، مغيبة لأدنى مستويات التكليف العقلي والنفسي عناء قراءة هذه النصوص؛ سواء قراءة صورية أو معمّقة وهذا بسبب «مفهوم المنهج» الذي أصبح مطيّة مَن لا مطيّة علمية له؛ والمنهج في عصرنا الحالي مصطلح يدل على:
أ. مجموعة الطرق التي يتبعها العقل من أجل اكتشاف الحقيقة والبرهنة عليها.
ب. مجموع الطرق العقلية المتبعة من أجل الوصول إلى غاية.
ج. القواعد التي يتأسّس عليها تعليم أو تطبيق فنّ أو تقنية.
د. وسيلة لوصف الطريق التي يجب اتّباعها[4].
وما دام هذا العصر هو عصر تتوافق فيه إدراكات الاجتهاد البشري بالممكن وسؤال الحاضر من خلال ما هو منهج، فإنَّ لغة الصورة هي من أكثر الرسائل المنهجية في تشكيل وصناعة الرأي العام؛ إِذْ مما لا شك فيه أنّ هذا العصر الذي نعيشه هو عصر الإعلام والاتصال وأنّ منهج الصورة أكثر تبليغًا وتأثيرًا في توجيه القناعات، وما دام القرآن الكريم كدستور للمسلمين «صالح لكلّ زمان ومكان»، فإنَّ تفكيك هذه القاعدة في راهننا عبر الصورة تكمن بالدرجة الأولى في لون سينمائي هو من رهانات هذا العصر هو الفيلم الوثائقي أو ما يصطلح عليه بالفيلم التسجيلي، وهو يعتمد أساسًا على الوثيقة، عكس الفيلم التخييلي الذي مبناه الخيال.
إنَّ تطوّر التمييز بينَ «الفيلم الوثائقي» و«الفيلم الخيالي» في عصر الملتميديا أوحى إلى المهتمين بتدقيق المعنى وتوصيفه، إلا أنَّ ما ينبغي التنبيه إليه أنَّ «التسجيلي» في حمولته الاصطلاحية ليس هو «الوثائقي» بل هو مرادف لمفهوم «التوثيقي»؛ لأنَّ مصطلح التسجيل في اللغة العربية هو من دلالات كلمة «تدوين» «تدوين الشيء وكتابته» ويقترن بمصطلح «السجلات»، في حين أنَّ «الوثائقي» هو من مصطلح «الوثيقة»، و«الوثيقة» لا يمكن إقرار كونها وثيقة إلا بعد معرفة ما «دوّن فيها وسجّل» هل هو في مصاف الوثائق أم أدبيات خيالية عامّة قد تكون للاستئناس، بمعنى أنَّ بعد التسجيل يأتي التوثيق؛ لذا يمكن الذهاب إلى تبنِّي «الوثائقي» في عالم السينما على أنه «النقل الخلّاق للصورة» أو «تشخيص الوثيقة بالصورة الخلّاقة». وعمومًا وفي إطار مفهوم «المجال التداولي» في عالم السينما والفنّ، يمكن أن يصطلح عليه تداوليًّا بالتسجيلي والوثائقي، شرط أن يخضع لضوابطه العلمية والعملية التي تحكمه.
إنَّ الوثيقة هي العدوّ المباشر للنسيان والإهمال وخاصّة أنها خاضعة لمنطق «الحفظ» و«الأرشفة»؛ كما أنها تسمح بالعودة إليها لإعادة قراءتها عباريًّا «صوريًّا»، ودلاليًّا «رمزيًّا»، ومِن ثم تأويلها بحسب طبيعة الإسقاطات المعرفية التي تحكم متداولوها، وتوثيق الصورة المصاحبة بالصوت هو توثيق للذاكرة التأصيلية المشهدية التي يكون الرجوع إليها بمثابة معايشة الحدث في حينه كما هو «وإن كان الغرض من التوثيق عمومًا هو بقاء ما يوثق على أصله دون خضوعه إلى مركبات خيالية تخرجه عمّا هو عليه» دون الاجتهاد المبدع المفضي إلى خروج الحقيقة إلى المتخيل.
لقد مكّن عِلْم الاتصال من الوقوف على أشكال كثيرة في توثيق الصورة، وعلى رأس طبيعة هذه الأشكال جاء ما يعتبر المرجع الوحيد للتوثيق في بنائه الفني ألا وهو الفيلم الوثائقي «التسجيلي».
لماذا الفيلم الوثائقي والقرآن الكريم؟
الفيلم الوثائقي في ثقافة الإبداع هو «عرض الشيء كما هو» مما يعني التخلّق بأخلاق «النقل المصدق» حتى يبقى للخصوصية الوثائقية مجالها دون ضرب في مناهجها ومبادئها، وهذا ينعكس على الصورة وثقافتها انعكاسًا إيجابيًّا يميزها عن غيرها من الصور الخيالية، ويقع في بعض الأوقات أَنَّ الوثائقي ينجرف على يد بعض الثقافات للتحايل على مركباته لإخراج صورة «ما يجب أن يكون»؛ كما نرى الكثير من الأفلام تكون مرهونة بالحدث في حينه كأفلام «الحرب العالمية» التي تعرف نوعين من المعالجة في العصر الحالي:
الأول: البحث عن الصورة التي لم تعالج بعد.
الثاني: تصحيح الصورة التي عُولجت مِن قبلُ[5].
وما دام الفيلم الوثائقي يعتمد على الوثيقة كدليل مرجعي يحتّم ضرورة الاعتماد عليها بغية ترتيب المعلومة وتهذيبها؛ فإنّ القرآن الكريم ليس هو وثيقة يمكن الاستئناس بها وحتى لا نقع فيما تمّت الإشارة إليه من تجرّؤ على كلام الله، فإنَّ القرآن الكريم بالنسبة للفيلم الوثائقي هو عنوان «كبرى اليقينيات الكونية» التي يعود المبدع في صناعة الصورة إليها كموجّه أساسي لا محيد عنه، فالأخبار الكونية والحقائق العلمية والظواهر الإنسانية وغيرها من مرتكزات الوجود، قد تختلف الروايات في نقلها، إلا أنها تكون ثابثة في آيات كتاب الله تعالى، ومن أمثلة ذلك:
على مستوى (الوثائقي العلمي):
-خَلْق الإنسان؛ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 12- 16].
-البحار؛ قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 14].
- الأرض؛ قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].
- السماء؛ في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104].
- القصص القرآني: وما فيه من حقائق اجتماعية وأوصاف بيئية وعمرانية يمكن أن تكون المرشد الأساس لِما كانت عليه الحضارات الإنسانية حينها.
إنَّ القرآن الكريم وعلاقته بالفيلم الوثائقي لا بد لها من قواعد وضوابط ينبغي التقيُّد بها حتى لا يقع التفسير الصوري الخاطئ للآيات القرآنية في مجال الصناعة السينمائية الوثائقية، ومن هذه القواعد:
- الاستعانة بعلماء علوم القرآن في معرفة ما يتعلّق بالآية المراد البحث عنها وتحويلها إلى صورة وثائقية، وهو ربط منهجي في الصناعة الوثائقية ما دامت الوثيقة مرهونة بالتدقيق، فكيف بآيات الله تعالى المرهونة بالقداسة.
- التركيز على الرسالة الجمالية فى صناعة الصورة، لبناء رؤية إقناعية متميزة.
- سَبْك عبارات بلاغية بلسان عربي مبنيّ على منطق الاستدلال أكثر من الاستشهاد، لبيان المراد من آيات الله تعالى في مخاطبة العالمين.
- أن تعتمد الصناعة السينمائية الوثائقية لغة الصورة مع المؤثرات السمعية والبصرية المتوافقة مع حقائق الآية القرآنية.
إنَّ الفيلم الوثائقي هو رهان العصر في تبليغ الحقائق الكونية والهدف من الوجود، في ظلّ التعرجات الفكرية والتقلُّبات الأيديولوجية التي أصبح الإنسان فيها يحتاج إلى ما يوحِّد هدفه ومراده من الحياة؛ هذا إِنْ كان هذا الفيلم قائمًا في صناعته على آيات كتاب الله تعالى.
[1] نُشرت هذه المقالة ضمن كتاب «القرآن الكريم وعلومه في الفيلم الوثائقي»، الصادر عن مركز تفسير للدراسات القرآنية عام 1436هـ. (موقع تفسير).
[2] القرآن الكريم، السفسطائيون الجدد، عبد الله أبو عوض، جريدة المساء المغربية، عدد 1259، الجمعة 8/ 10/ 2010م.
[3] النصوص القرآنية والقراءات المعاصرة... رؤية نقدية، عبد الله أبو عوض، مجلة صدى أنجرة، العدد الأول، 2012م، ص101.
[4] النصوص القرآنية والقراءات المعاصرة... رؤية نقدية، عبد الله أبو عوض، مجلة صدى أنجرة، العدد الأول، 2012م، ص101.
[5] الثورة والفيلم الوثائقي، عبد الله أبو عوض، الكتاب الرابع «ربيع الوثائقي» مجموعة من الباحثين، سنة 2013م، ص227.