الإجماع في التفسير
تعريفه - أنواعه - مكانته - مدى وقوعه

هذه المادة تتناول تعريف الإجماع، حيث تسلّط الضوء على جُملة من تعريفاته مع الموازنة بينها، كما تَعرِض لأنواع الإجماع، وتبيّن مكانته وأهميته في التفسير، وكذلك تتناول مدى وقوع الإجماع في التفسير، وهي جزء مستل من كتاب (الإجماع في التفسير عند الطبري؛ دراسة نظرية تطبيقية).

الإجماع في التفسير؛ تعريفه - أنواعه - مكانته - مدى وقوعه[1]

تحت هذا العنوان سأتحدّث عن المسائل الآتية:

أولًا: تعريف الإجماع لغة:

الإجماع مصدر للفعل (أجمَعَ)؛ ومادّة الكلمة (الجيم والميم والعين) أصلٌ واحدٌ يدلّ على تضامِّ الشيء[2].

ويُطْلَق الإجماع في اللغة على الاتفاق، فيُقال: أجمعَ القوم على كذا؛ أي اتفقوا عليه، كما يُطلق الإجماع في اللغة على العزم والتصميم، فيُقال: أجمع الأمر؛ أي عزم عليه[3].

ثانيًا: تعريف الإجماع اصطلاحًا:

تعدّدَت تعريفات الأُصوليين للإجماع واختَلفَت، واختلافها سببه راجع إلى اختلافهم في بعض مسائل الإجماع وقضاياه، وقد جاءت تعريفاتهم من حيث صفة المجمَع عليه على نوعين:

النوع الأول: تعريفات خصّت الإجماع في الأحكام الشرعية بالتعريف، فلم تدخل غيره معه؛ كتعريف بعضهم الإجماع بأنّه: «اتفاق علماء العصر على حُكْم النازلة»[4].وهذا النوع من التعريفات خصّ الإجماع في الأحكام الشرعية بالتعريف، وبناء على هذا فلا يدخل تعريف الإجماع في التفسير في مثل هذه التعريفات.

النوع الثاني: تعريفات جاءت عامّة؛ فلم تخصّ الأمر المجمع عليه وتقيّده بعلمٍ من العلوم، كتعريف بعضهم بأنّه: «اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر على أيّ أمر كان»‏[5].وهذا النوع من التعريفات لم يخصّ الأمر المجمَع عليه بعِلْمٍ من العلوم، وبناء على هذا فمثل هذه التعريفات يدخل تعريف الإجماع في التفسير تحتها، إلا أنها ليست خاصّة به كما هو ظاهر.

والأصوليون اهتمامهم منصبّ على الأحكام الفقهية؛ ولذا جاء كثير من تعريفاتهم للإجماع وحديثهم عن مسائله منصبًّا على الإجماع في الأحكام الفقهية، ولم يُعْنَوا بالإجماع في التفسير. وأمّا تعريف الإجماع في التفسير خاصّة فلم أجده إلا من المعاصرين، وسأتناول الحديث عنه في المسألة القادمة.

ثالثًا: تعريف الإجماع في التفسير:

وقفتُ على جملة من التعريفات لمعاصرين خَصُّوا الإجماع في التفسير بالتعريف، وسأذكر هذه التعريفات ثم أعقبها ببيان بعض المسائل:

1- «إجماع المفسِّرين -ممن يُعتبر في التفسير قولهم- على معنى من المعاني في تفسير آية من كتاب الله»[6].

2- «اتفاق أهل التفسير من أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر من العصور على معنى آية أو آيات من كتاب الله عزّ وجلّ»[7].

3- «اتفاق أهل التفسير على معنى للآية لا يخالفهم فيه أحدٌ من أئمة التفسير المعتبرين»[8].

4- «هو اتفاق المفسِّرين من أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر من العصور كلّهم على تفسير معيّن لشيء من القرآن الكريم»[9].

5- «اتفاق مجتهدي أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم- من المفسِّرين بعد وفاته في عصر من العصور على معنى لآيات القرآن الكريم»[10].

6- «ما اتفق المفسِّرون بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تفسيره في أيّ عصر كان»[11].

7- «اتفاق المفسِّرين بعد زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- في أيّ عصر من العصور على تفسير آية»[12].

8- «اتفاق أقوال المفسِّرين على فهم معيّن للفظة أو آية أو سورة من كتاب الله، سواء نشأ الإجماع عن رواية أو دراية دون خلاف معتبر من أهل التفسير»[13].

9- «اتفاق جميع المفسِّرين من أهل السنّة على بيان معنى آية أو كلمة من القرآن، سواء ممن صنّفوا كتبًا أو لم يصنّفوا، مجتهدين أو حاكين أقوال غيرهم، وقع الاتفاق على اللفظ أو على المعنى»[14].

هذه هي التعريفات التي وقفتُ عليها، وظاهر وجود الاختلاف فيما بينها في بعض المسائل، وهذا الاختلاف راجع إلى الاختلاف في تعريفات الأصوليين للإجماع، حيث إنّ هذه التعريفات مستقاة من تعريفات الأصوليين المختلفة؛ ولأجل هذا اختلفَت هذه التعريفات فيما بينها، وسأبيّن في نقاط ما اشتملت عليه هذه التعريفات.

أجمعَتْ هذه التعريفات على تعريف الإجماع بأنّه: (اتفاق)، باستثناء التعريف الأول، حيث عرّفه بأنه: (إجماع)، والتعريف بالاتفاق أَوْلَى لئلا يُعرّف الشيء بنفسه.

أجمعَت التعريفات على صفة المجمِعين (المفسِّرون - أهل التفسير)، وهذا قيد يُخرِج مَن عداهم، كما زاد بعضهم قيدًا آخر في صفة المجمِعين، فاشترط كون المفسِّر من مجتهدي المفسِّرين، أو ممن يُعتبر قوله في التفسير، وهذا قيد أخصّ من القيد السابق؛ ويُخرِج مَن لم يتّصف بهذه الصفة.

أجمعَت التعريفات على أنّ الإجماع هو إجماع الكلّ لا الأكثر، فـ(ال) في قولهم (المفسِّرين) دالّة على الاستغراق، كما أنّ بعض التعريفات صُرّح فيها بأنّ الإجماع هو إجماع الكلّ.

المجمع عليه في هذه التعريفات عُبّر عنه بـ(معنى- تفسير- فهم)، وهي متقاربة كما عُبّر عن الجزء المجمع عليه من التفسير بـ(شيء- لفظة- آية- آيات- سورة)، وأحسنها التعبير بـ(شيء) ليشمل الجميع.

بعض التعريفات اشترطَت أن يكون الإجماع من أمّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الشرط يُخرِج غير المسلم؛ كالمستشرقين وأضرابهم، فلا عِبرة بأقوالهم في الإجماع حتى لو حصّلوا العلوم التي تمكِّنهم من تفسير القرآن.

اشترطَت بعض التعريفات أن يكون الإجماع بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الشرط فيه بيان عدم صحة الإجماع في حياته -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ العِبرة مع وجوده -صلى الله عليه وسلم- هي بقوله[15].

بعض التعريفات قـيّدت الإجماع في عصر من العصور، وهذا القيد لدفع توهّم أنّ الإجماع لا ينعقد إلا بإجماع المفسِّرين في جميع العصور إلى قيام الساعة؛ مما يؤدّي إلى عدم تحقّق الإجماع[16].

مما ينبغي التنبيه إليه أنّ بعض الشروط والقيود التي لم تُذكر في بعض التعاريف لا يلزم من عدم ذكرها عدم اشتراطها، ومحتمل أن يكون تركها لوضوحها أو لغفلة عنها عند المعرِّف.

افتقرت بعض التعريفات إلى بيان ضابط المفسِّرين وأهل التفسير، ولم يُبيَّن فيها المقصود بهم، وهي تحتاج إلى بيان مَن يدخل في هذا الضابط؛ إِذْ إنّ إطلاقه مترتّب عليه دخول المفسِّر العدل والفاسق، ودخول المفسِّر المبتدع وغير المبتدع.

وبعد، فهذا بيان لِما تضمّنته هذه التعريفات من المسائل، ومن أوجه الاتفاق والافتراق، والملاحظ أنّ فيها من الشروط ما هو مؤثّر في ضابط الإجماع في التفسير؛ كشرط كون المفسِّر ممن يُعتبر قوله في التفسير، فهذا الشرط مُخْرِج مَن لم يتّصف بهذه الصفة، وخلافه للإجماع في التفسير لا يعتدّ به بناء على هذا الشرط.

وقد بيّنتُ آنفًا اختلاف تعريفات الأصوليين للإجماع، وإذا اختلفت تعريفات الأصوليين للإجماع فمِن باب أولى اختلاف تعريفات الإجماع في التفسير؛ إِذْ إنّ الثانية مرتكزة على الأولى، وإيجاد تعريف للإجماع في التفسير جامع مانع لا مدخل عليه مما يصعب؛ وذلك أن بعض قضايا الإجماع مختلف فيها، ولن تجتمع فيها الآراء على قول واحد، فتبقى محلّ اجتهاد ونظر لكلّ معرِّف للإجماع في التفسير.

رابعًا: أنواع الإجماع في التفسير:

يُقسِّم الأصوليون الإجماع إلى أقسام متعدّدة وباعتبارات مختلفة؛ وسأذكر أشهر هذه التقسيمات، ثم أُبيِّن أنواع الإجماعات في التفسير بناء على تقسيمات الأصوليين.

قسّم الأصوليون الإجماع باعتبار كيفية وقوعه وصورة انعقاده إلى قسمين:

القسم الأول: الإجماع الصريح أو النطقي، وهو الإجماع المنعقد من جميع المجتهدين بالقول الصريح من جميعهم[17].

وهذا القسم إذا جُعل في التفسير فسيكون: إجماع جميع المفسِّرين بأن ينصّ كلّ واحد منهم على المعنى، وهذا النوع من الإجماع -إن كان واقعًا- فهو نادر الوقوع، فما المعنى الذي نصّ عليه كلّ المفسِّرين بلا استثناء؟! ولذا فقد أنكر بعض علماء الأصول وقوع مثل هذا الإجماع[18].

القسم الثاني: الإجماع السكوتي، وهو أن ينتشر القول أو الفعل من بعض المجتهدين ويشتهر، ويسكت الباقون فلا يظهر منهم موافقة أو معارضة لهذا القول أو الفعل[19].

وهذا القسم إذا جُعل في التفسير فسيكون: أن ينصّ على المعنى بعض المفسِّرين، ويسكت الباقون فلا يظهر منهم إقرار أو إنكار.

وقد اشترط بعض الأصوليين لهذا الإجماع شروطًا، منها: أن يكون القول في مسائل التكليف، فإن لم يكن كذلك، فلا يكون إجماعًا، فلو قال قائل: عمّار أفضل من حذيفة، فلا يدلّ السكوت في هذه الحالة على شيء؛ إِذْ ليس فيه تكليف على الناس[20]، وباعتبار هذا الشرط يَخرج كثير من الإجماعات التفسيرية من الإجماع السكوتي، فلا تكون منه؛ لأنها ليست من مسائل التكليف، ويُستثنى من ذلك الإجماعات التفسيرية التي تضمّنت أحكامًا تكليفية؛ كما في بعض آيات الأحكام.

ومن الشروط التي اشترطها بعض الأصوليين للإجماع السكوتي: أن يشتهر القول وينتشر[21]، وهذا الشرط متحقّق في الأحكام التكليفية غالبًا، وأمّا في التفسير فتحقّقه قليل؛ لأن انتشار التفسير ليس كانتشار الأحكام التكليفية التي يحتاجها كلّ مسلم، إلا أن يكون التفسير تضمّن حكمًا تكليفيًّا؛ ففي هذه الحالة قد يتحقّق فيه شرط الانتشار.

ما سبق بيان لتقسيم الأصوليين للإجماع من حيث صورة انعقاده، وتنزيل للإجماعات التفسيرية على هذه التقسيمات، وأيًّا ما كان الأمر فالعِبرة بصورة الإجماعات التفسيرية الموجودة في كتب التفسير، والتي يحكيها المفسِّرون ويعتدّون بها؛ وصورتها أنها: إجماعات على معانٍ تأتي بعد استقراء أقوال مَن نصّ على المعنى من المفسِّرين دون وجود مخالف لهم، وهي بهذه الصورة تكون من الإجماعات السكوتية[22]، إلا أنه قد لا يتحقّق في كثير منها بعض شروط الإجماع السكوتي التي اشترطها بعض الأصوليين.

هذا، وقد قسّم بعض الأصوليين الإجماع من حيث قوّته إلى إجماع قطعي، وإلى إجماع ظنّي، وجعلوا الإجماع الصريح من الإجماع القطعي، كما جعلوا الإجماع السكوتي من الإجماع الظنّي.

وهذا التقسيم هو أحد مذاهب الأصوليين في مسألة قطعية الإجماع وظنيّـته؛ وقد قال بعضهم: إنّ الإجماع قطعي كلّه، وقال آخرون منهم: إنّ الإجماع ظنّي كلّه[23].

وبناءً على اختلاف الأصوليين في قطعية الإجماع وظنيّـته، فإنّ الإجماع في التفسير ستكون فيه المذاهب الثلاثة؛ أعني كونه قطعيًّا كلّه؛ أو ظنيًّا كلّه؛ أو منه القطعي والظنّي.

وإجماعات المفسِّرين يلحظ أنها ليست على مرتبة واحدة في القوّة؛ وذلك راجع إمّا لِما استند إليه الإجماع من الأدلة، وإمّا للقطع بنفي المخالف[24] بسبب وضوح المجمع عليه، وعدم تصوّر وجود مخالف له، وإمّا بالنظر إلى عصر المجمعين الذي وقع فيه الإجماع، فإجماع السلف أعلى مرتبة من إجماع غيرهم، وإمّا بالنظر إلى عدد المجمعين.

وبعد، فقد أردتُ بما ذكرتُه هنا بيان أشهر تقسيمات الأصوليين للإجماع، وأردتُ تنزيل الإجماعات التفسيرية على تقسيماتهم، وفي نظري أنّ الإجماعات التفسيرية بحاجة إلى مزيد بحث ودراسة من حيث تقسيمات الأصوليين للإجماع بالاعتبارات التي ذكروها، وهذا مما أُوصِي بدراسته وبحثه.

خامسًا: مكانة الإجماع في التفسير:

الإجماع أصل من أصول الشريعة، وهو أحد الأدلة الشرعية، وقد نال منزلة بين الأدلة الشرعية في علوم الشريعة المختلفة، كما نال اهتمام العلماء وعنايتهم تنظيرًا وتطبيقًا.

وفي التفسير خاصّة تبوّأ الإجماع منزلة عند المفسِّرين، فعَنوا به بيانًا للمعاني، واستدلالًا لها واعتراضًا وردًّا لما ضعف وشذّ منها، وعلى رأس المفسِّرين الذين عُنوا بالإجماع في التفسير إمامُهم الطبري، فقد عُني به في تفسيره عناية ظاهرة بيِّنة، يلحظ هذا كلُّ مطالع لتفسيره.

وفيما يأتي بيان لأهمية الإجماع في التفسير ومكانته:

1- مكانة الإجماع في التفسير تتبيّن بمكانة الإجماع بين الأدلة الشرعية، ولا يخفى ما للإجماع من مكانة بين الأدلة الشرعية، كما أنّ مكانة الإجماع في التفسير تتبيّن أيضًا بمكانة التفسير بين العلوم الشرعية، ولا يخفى ما للتفسير من مكانة بين العلوم الشرعية كذلك، ولـمّا كان الإجماع بهذه المنزلة بين الأدلة الشرعية، وكان التفسير بهذه المنزلة بين العلوم الشرعية ظهرت أهمية ومكانة الإجماع في التفسير لتعلّقه بالأمرين.

2- بالإجماع يُحمل كلام الله على أصح التفاسير، ويحصل الاطمئنان للمعنى الذي أُجمع عليه.

3- لا ينبغي للمفسِّر أن يجهل ما أجمع عليه المفسِّرون من المعاني؛ لئلا يقع في مخالفة ما أجمعوا عليه، وهذا الأمر دالّ على مكانة الإجماع في التفسير، إِذْ هو من الشروط التي لا ينبغي أن يجهلها المفسِّر، والجاهل بالإجماعات التفسيرية مُوقِعٌ به جهلُهُ بها في الخطأ والشذوذ.

4- ما اهتمام المفسِّرين بالإجماع إلا دليل لِما للإجماع من مكانة في التفسير، وقدوتهم في هذا الاهتمام إمامُهم الطبري؛ فقد أكثرَ من إيرادها وأعمَلَها في البيان والاستدلال والاعتراض والمناقشة.

5- بالإجماع يُحمى جناب التفسير من الأقوال الشاذة والمنكرة، ويُنزَّه كلام الله من حمله عليها، فتُردّ به هذه الأقوال وتُبطل.

6- يُعَدّ الإجماع سدًّا منيعًا لمن أراد أن يلوي أعناق النصوص ويحملها على غير ما أراده الله؛ إِذْ بالإجماع لا يقوم لقوله مكانة ولا يُعتبر له اعتبار[25].

7- القرآن الكريم حَوى علومًا شرعية متنوعة، والإجماعات التفسيرية تتنوّع موضوعاتها بتنوّع ما في القرآن من العلوم؛ فإجماعات في العقائد، وإجماعات في الأحكام التكليفية، وإجماعات في المعاني، وهذا التنوّع أحد دلالات مكانة الإجماع في التفسير.

8- للإجماعات التفسيرية آثار متعدّدة -يأتي تفصيلها في المباحث القادمة- وهذه الآثار دالّة على مكانة الإجماع في التفسير وأهميته.

هذا توضيح لمكانة الإجماعات التفسيرية، ولا يعني هذا أنّ كلّ إجماع في التفسير نال جميع ما ذكرتُ من المكانة، بل إنها في المكانة مختلفة، وذلك راجع إمّا لموضوع الإجماع؛ فهناك إجماعات تفسيرية متعلّقة بالعقائد، وإجماعات تفسيرية متعلّقة بالأحكام التكليفية، وإجماعات تفسيرية لها أثر في المعنى، وإجماعات تفسيرية ليس لها أثر في المعنى؛ كبعض الإجماعات في تعيين المبهمات، فهذا التنوّع سبب في تفاوت مكانة الإجماعات التفسيرية.

وقد يرجع سبب تفاوت مكانة الإجماعات التفسيرية إلى المجمِعين، فما أجمع عليه السَّلَف أقوى مما أجمع عليه مَن بعدهم، وأقوى منهما ما أجمع عليه السَّلَف ومَن بعدهم جميعًا.

كما أنّ من أسباب تفاوت مكانة الإجماعات التفسيرية وضوح ما أُجمع عليه وعدم تصوّر وقوع خلاف فيه، فما وَضُح معناه وكان غير مُتصوّر فيه الاختلاف لم يكن بمكانة ما تُصوّر فيه الاختلاف؛ إِذْ إن أهمية الثاني والحاجة إليه مقدّمة على الأول، وما لم يتصوّر فيه الاختلاف مثاله ما يُحكى من بعض الإجماعات في تحرير محلّ النزاع، وبعض الإجماعات التي تساق للاستدلال والمحاجة.

سادسًا: مدى وجود الإجماع في التفسير:

يظهر أنّ أكثر الإجماعات المحكية في العلوم الشرعية هي الإجماعات الفقهيّة[26]، ولم تكن الإجماعات المحكية في التفسير مثلها كثرة، ولا يعني هذا قلّة المتفق على معناه من معاني آيات القرآن الكريم، والدليل على هذا:

أولًا: أنّ المفسّرين يحكون الإجماع عندما تدعو الحاجة لذلك، ولم يحكوا الإجماع عند كلّ موضع اتُّفق على معناه، فليس كلّ موضع اتُّفق على معناه، حُكي فيه الإجماع[27]، ولهذا أمثلة كثيرة[28].

ثانيًا: تعرّض المفسِّرون لتفسير ما احتاج إلى البيان والتفسير، ولم يتعرّضوا لواضح المعنى، وواضح المعنى يشكّل قدرًا كبيرًا من آيات القرآن، وفي ذلك يقول الزركشي: «ينقسم القرآن العظيم إلى: ما هو بَيِّنٌ بنفسه بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ولا من غيره، وهو كثير»[29]، وواضح المعنى الأصلُ فيه أنه محلّ إجماع، وإذا كان ذلك كذلك، تبيّن قدر الـمُجْمَع على معناه من آيات القرآن الكريم.

بناء على ما سبق يتلخص الآتي:

حكاية الإجماع في التفسير أقلّ من حكاية الإجماع في الفقه.

 القدر الـمُجْمَع عليه من معاني آيات القرآن الكريم أكثر من القَدْر المختلف فيه، وإن لم يُحْكَ فيه الإجماع.

في حال مقارنة مواضع حكاية المفسّرين للإجماع في التفسير ومواضع حكايتهم للاختلاف في التفسير، فالأكثر هو حكايتهم الاختلاف لا الإجماع[30]، ولا يعني هذا أنّ المواضع المختلَف فيها من معاني آيات القرآن الكريم أكثر من المواضع الـمُجْمَع عليها كما بيّـنتُ آنفًا.

 

[1] هذه المقالة من كتاب: (الإجماع في التفسير عند الطبري؛ دراسة نظرية تطبيقية)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1443هـ، تحت عنوان: «الإجماع في التفسير ومكانته»، ص35 وما بعدها. (موقع تفسير).

[2] ينظر: مقاييس اللغة (1/ 479).

[3] ينظر: مختار الصحاح، ص61، لسان العرب (8/ 57)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 108)، القاموس المحيط، ص710، 711.

[4] وهو تعريف القاضي أبو يعلى. العدة في أصول الفقه (1/ 170).

[5] وهو تعريف ابن السبكي. حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 210).

[6] وهو تعريف الدكتور مساعد الطيار، كما في كتابه: فصول في أصول التفسير، ص98.

[7] وهو تعريف الدكتور أحمد الخطيب، كما في كتابه: مفاتيح التفسير (1/ 43).

[8] وهو تعريف الدكتور فهد الرومي، كما في كتابه: أصول التفسير ومناهجه، ص50.

[9] وهو تعريف الباحث محمد محمد ياسين، كما في كتابه: ضوابط القطعي من تفسير القرآن الكريم (2/ 86).

[10] وهو تعريف الدكتور نايف الزهراني، كما في كتابه: الاستدلال في التفسير، ص292.

[11] وهو تعريف الدكتور محمد الخضيري، كما في كتابه: الركيزة في أصول التفسير، ص39.

[12] وهو تعريف الدكتور ناصر المنيع، كما في كتابه: معالم في أصول التفسير، ص221.

[13] وهو تعريف الدكتور إقبال بن عبد الرحمن بداح، كما في بحثه: إجماعات الواحدي التي لم تثبت (بدون رقم صفحة)، والبحث منشور في مجلة كلية الشرعية- جامعة قطر، العدد الأول 1438هـ = 2017م.

[14] وهو تعريف الباحث يونس يوسف أبو ناجي، كما في بحثه: جهود المفسِّرين في بيان مواضع الإجماع التفسيري: دراسة تطبيقية، والبحث منشور في مجلة التربوي- جامعة المرقب- كلية التربية بالخمس، ليبيا، العدد: 17، عام: 2020م.

[15] هذا الشرط اشترطه بعض الأصوليين في الإجماع. ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 213).

[16] هذا الشرط اشترطه بعض الأصوليين في الإجماع. ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (6/ 380).

[17] ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 126)، البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 456)، وأدخل بعضهم إجماع جميع المجتهدين على فعل في هذا النوع. ينظر: الفقيه والمتفقه (1/ 429).

[18] قال السرخسي: «إنه لو شرط لانعقاد الإجماع التنصيص من كلّ واحد منهم على قوله، وإظهار الموافقة مع الآخرين قولًا؛ أدّى إلى ألّا ينعقد الإجماع أبدًا؛ لأنه لا يتصوّر اجتماع أهل العصر كلّهم على قول يسمع ذلك منهم إلّا نادرًا». أصول السرخسي (1/ 305)، وينظر: دعاوى الإجماع عند المتكلّمين في أصول الدين، ص119- 124.

[19] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 456).

[20] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 470).

[21] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 470).

[22] يطلق بعضهم على الإجماع السكوتي اسم: الإجماع الاستقرائي. ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 267). والإجماع الاستقرائي في حقيقته إجماع سكوتي.

[23] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 188، 389).

[24] قال ابن تيمية: «وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي». مجموع الفتاوى (19/ 268).

[25] ينظر: فصول في أصول التفسير، ص98.

[26] ينظر: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (2/ 848)، (3/ 911)، (5/ 611)، (6/ 454)، (8/ 878)، (9/ 809)، (10/ 893)، (11/ 551).

[27] ينظر: الإجماع في التفسير، للخضيري، ص95.

[28] ينظر: بعض أمثلة هذا عند الطبري: (1/ 351)، (1/ 624)، (1/ 636)، (1/ 652)، (2/ 67)، (2/ 84)، (2/ 517)، (3/ 87)،(3/ 91)، (3/ 114)، (3/ 134)، (3/ 139)، (3/ 149)، (3/ 229)، (3/ 516)، (3/ 549)، (3/ 601)، (3/ 618)، (4/ 179)، (4/ 236)، (4/ 270)، (4/ 284)، (4/ 531)، (4/ 542)، (4/ 665،666)، (5/ 31)، (5/ 241)، (5/ 305)، (5/ 705)، (6/ 120)، (6/ 133)، (6/ 376)، (6/ 617)، (6/ 729)، (7/ 42)، (7/ 104)، (7/ 218)، (7/ 252)، (8/ 135)، (8/ 215)، (8/ 453)، (9/ 229)، (9/ 288)، (9/ 299)، (9/ 402)، (9/ 417)، (9/ 451)، (9/ 580)، (9/ 590)، (9/ 658)، (10/ 479)، (11/ 617)، (14/ 181)، (17/ 642).

[29] البرهان في علوم القرآن (2/ 183)، وينظر: المحصول، للرازي (1/ 216، 217).

[30] على سبيل المثال: عدد المواضع التي قال فيها الطبري: «اختلف أهل التأويل» تربو على الأَلْف موضع، في حين يبلغ عدد الإجماعات التفسيرية عنده (106) إجماعات.

الكاتب

الدكتور عبد الله بن سليمان اللاحم

حاصل على الدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة القصيم.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))