من أسرار القرآن الكريم
من أسرار القرآن الكريم[1]
القرآنُ الكريم، والذكرُ الحكيم، والكتابُ المبين، والنورُ الهادي إلى صراط العزيز الحميد؛ هو هدية السماء إلى الأرض، ومائدةٌ تنزّلَت من الملأ الأعلى لتغذية العقول والقلوب والأرواح، وشِرعة العليم الحكيم للعباد في كلِّ زمان ومكان، ودستور أُحْكِمَتْ آياته فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلفه، وسبيل لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألْسِنَة، ولا يشبع منه العلماء، ونبراس يهدي إلى الرشد، ويفضي إلى الحقّ والخير والبِر، مَن قال به صدَق، ومَن عمل به أُجِر، ومَن حَكَم به عدل، ومَن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.
وكتاب إلهيّ ربّاني هذه بعضُ صفاته، وتلك طائفة من سِماته، لا بد أن يكون له من الأسرار ما لا يتناهَى، ومن العجائب واللّطائف ما لا يُحصى، ومن الحِكَم والرموز ما لا يُستقصَى. وأيّ عبدٍ عاجزٍ يستطيع أن يحصِي أسرار خالقٍ بعضُ صفاتِه أنه الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكلّ شيء عليم؟! ويُقال في شأن كلماته: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾[الكهف: 109]، ويقال فيها: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[لقمان: 27]، ولكنّا إذا عجزنا عن الإحصاء والاستقصاء فلا أقَلّ من أن نُسعِد قلوبنا، ونتسامَى بنفوسنا، ونعلو بأرواحنا، ونجلب الخير كل الخير لديننا ودنيانا، بأنْ نحاوِل الوصول إلى ما يدخل في نطاق الطاقة البشرية من أسرار هذا الكتاب اللَّدُنِّي القدسي الذي تحيا به الأجسام والأفهام، وتستضيء بنوره الخواطر والنواظر، ويخرّ من هيبته وخشيته العباد والجماد: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21]، ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ [الرعد: 31]، قال بعض المفسِّرين: إنّ الجواب هو: لَكانَ هذا القرآن.
أوّل أسرار هذا الكتاب المجيد وأعظمها، وأشدّها في النفوس تأثيرًا، وعلى القلوب سيطرةً، أنه كتاب مُبِين، لا تعاويذ فيه ولا تمائم، ولم يتكوّن من ألغاز ورموز خفيّة، بل تكوّن من نفس الحروف التي بها يتكلّمون، ومن نفس الألفاظ التي يردّدون، والذين أُنزل عليهم هذا الكتاب هُم فرسان البلاغة، وأساطين الكلام، ودهاقين القول، وأُمراء البيان، يقرؤونه أو يسمعونه فتنجذب إليه نفوسهم، وتخفق له أفئدتهم، وترتجف مِن وَقْعِه أبدانهم والكثير منهم لم يؤمن به بعد، وينظرون إلى أجزائه فإذا هي سهلة ميسورة، وإلى معانيه فإذا هي ساطعة سطوع شمسهم الضاحية، ويخيّل إليهم من شدّة ضيائها وانتشار أنوارها واحتشاد أشعّتهـا، أنها على مدى اليد منهم، يستطيعونها إِذْ يحاولونها، ولكنهم يفرغون جهدهم، ويستقصون وسائلهم، ويجمعون جموعهم، يرومون إليها وصولًا فلا يستطيعون، ويطلبون منها دُنوًّا فلا يَـقدِرون:
هي الشمسُ مسكَنُها في السّماءِ ** فعَزِّ الفؤادَ عزاءً جميلا
فلن تستطيعَ إليها الصّعُودَ ** ولن تستطيعَ إليكَ النُّزولا!
وهكذا صدقَت كلمة الله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]. بل لا يستطيعون ما دون ذلك: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: 13].
ومِن أسرار القرآن الكريم أنه يَستعمِل الكلمة الجامعة الحاوية لكثير من المعاني، الصالحة لعديد من التفسيرات، مما لا يناقض بعضُه بعضًا، بل مما ترتضيه العقول وتطمئنّ به القلوب، وتصلح به أحوال الذين أُنزل إليهم في مختلف العصور والدهور والبيئات والمجتمعات، وأنت حين تتابع هذا الطريق، وتستحضر في نفسك طائفة من هذه الكلمات الجامعة الشاملة المحيطة التي تفتح أمام قارئها أو سامعها آفاقًا عريضة وسيعة؛ ستعجب عجبًا لا ينتهي، وتستطيع أن تأخذ على سبيل المثال كلمات: (العصر، والصلاة الوسطى، والكوثر، والنازعات، ومِن شر غاسقٍ إذا وَقَب)؛ لتعرف حين تدرس معانيها كيف ينفسح أمامك المجال، وتتدفّق بين يديك مناهل العلم وينابيع المعرفة، مما يسهّل الشديد، وييسّر العسير ويكثر السبل!
ومِن أسرار القرآن الكريم الإيجاز، وحذف ما ليس برئيسٍ ضروريّ في الموضوع، والاكتفاء برؤوس الحوادث وأمّهات العبارات، ولستُ أدري ماذا كان يكون حجم المصحف الشريف لو أنّ الحقّ تبارك وتعالى اتّبع فيه سبيل الإتيان بالمألوف والمعروف؛ إذن لكان المصحف المجيد في عشرات من كبار المجلدات والأسفار، وإذن لشَقّ على الأُمة حِفْظُه والإحاطةُ به وجَمْعُ أطرافه في صدورهم؛ ولكنّ الله -وهو الذي لا يكلِّف نفسًا إلا وُسعَها- منَحَ الأمّة هذا الدستور في هذا القَدْر الوجيز، ومع ذلك لم يَدَع كبيرة ولا صغيرة إلا أَحصاها، وصدق الحق إذ يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، ولك أن تأخذ هنا على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ [يوسف: 45- 46]، فبين كلمتي: (فأرسلون، ويوسف)، كلام طويل مقدَّر تفهمه العقول اللبيبة والقلوب الواعية؛ ولذلك سُتِر ولم يُذكَر. وأن تأخذ أيضًا قوله تعالى: ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ [النازعات: 18- 20]، فبَيّن كلمتي: (فتخشى)، و(فأَرَاه) كلام كثير لا يلزم ذِكره. وإن كانت النفس تلمحه؛ إذ الأصل: (فقُلْ هل لك إلى أنْ تزكّى، وأهديك إلى ربك فتخشى، فذهب موسى، ومعه أخوه هارون، وقالا لفرعون قولًا ليِّـنًا، ودَعَواه إلى عبادة الله، فاستنكر فرعون واستكبر، وطالَب بالدليل والبرهان، أو لَـجّ في العناد والجدال، فأراد موسى أن يُقنِعَه عن طريق المعجزة، فأراه الآية الكبرى، وهي انقلاب العصا إلى حيةٍ تسعى)!
ومِن أسرار القرآن الكريم أنّ الله -عز وجل- لم يجعله أبوابًا مستقلّة، ولم يفصل بين أجزائه بفواصل مملّة، بل جعله مثاني تقشعرّ منه جلود الذين آمنوا، وصاغه كالحلقة المفرغة لا يُدْرَى أين طرفاها. ولعلّ بعض الغافلين يَعْجَبُ حين يرى الأسلوب القرآني في السورة الواحدة وهو يتنقل من العبادات إلى المعاملات إلى الأخلاق إلى العقائد إلى القصص، وهكذا، ويخيّل له أنّ ذلك لا يلائم كمال التقسيم -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- ولكن الواقع أنّ الله -سبحانه وتعالى- بذلك الأسلوب قد أراد أن يلفِت المسلمين إلى أنّ القرآن كلٌّ لا يتجزّأ، وأحكامه مجموعة لا يتبعّض، وأوله كآخره، وأدناه كأقصاه، ومَن أراد أن يأخذ منه شيئًا فليأخذه كلّه، فكلّه دواء وشفاء، وكلّه نور وضياء! وهذا بطبيعة الحال سيجعل المسلمين يُعْنَون بسائر أجزاء القرآن حينما يطلبون منه جزءًا خاصًّا؛ لأنهم لا بدّ لهم من المرور بسائر الأجزاء لكي يصِلُوا إلى ما يريدون.
ومِن أسرار القرآن الكريم؛ أنه يعرض قصص الأنبياء والمرسلين في صورٍ مختلفة، وبأساليب متعدّدة، فتارة يعرضها مختصرة موجزة، وتارة يعرضها في مساواة وتوسّط، وتارة يسهب في مواقفها ووقائعها ويفيض. وقد أراد القرآنُ من ذلك الوصول إلى الغاية في التذكير والتبصير، والتبشير والتحذير، والوعد والوعيد؛ وأراد أيضًا أن تجد كلّ طائفة ما يناسبها، وأن يجد الداعية لكلّ ظرف ما يُلائِمُه. ولو وقف المرشد مثلًا بين قوم أُمِّيين خالين، أو ظَلَمَة جبّارين، أو عامِّيين جاهلين، وأراد أن يقصّ عليهم قصة موسى -عليه السلام- مثلًا، لكان واجبًا عليه أن يأتي من القصة الطويلة العريضة بما وردَ في الأعراف، وطه، والقصص، وأشباهها؛ ولكنه حين يتكلم مع قومٍ مثقفين متعلِّمين، ستكفيه القصة موجزة مختصرة مركّزة في قول الحقّ عزّ من قائل: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 15- 26]، ومن هنا تعرف السّر في تكرير القرآن الكريم لعرض القصص النبوية في صورٍ مختلفة.
وأخيرًا؛ إنّ أسرار القرآن -كما قلتُ- فيضٌ لا يغيض، ومدد لا ينتهي، وسبيل لا تُدرك غايتها، وقد ذكرتُ لك منها ما يصلح أساسًا للسَّير، أو مفتاحًا للباب. ولله نفحاتٌ يتعرّض لها المخلِصون فيصِلُون منها إلى ما يشاؤه الحقّ لهم كِفَاءَ إخلاصهم، فألْقِ دلوك في الدِّلاء، ولا تنسني مِن صالحِ الدعاء!
[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «الأزهر»، الجزء الثاني من المجلد العشرين، سنة 1368هـ، ص163. (موقع تفسير).