البرامج الوثائقية والتوظيف الأمثل لخدمة القرآن

تُعَدُّ البرامج الوثائقية إحدى الوسائل المعاصرة التي تخدم القرآن الكريم، ويحاول هذا المقال التعريف بالبرامج الوثائقية، وبيان كيفية توظيفها لخدمة القرآن الكريم وعلومه، مع ذكر ضوابط في توظيف الأفلام الوثائقية لخدمة القرآن الكريم.

البرامج الوثائقية والتوظيف الأمثل لخدمة القرآن[1]

  في هذه الورقة سأناقش كيفية توظيف البرامج الوثائقية لخدمة القرآن الكريم وعلومه، سأتحدّث عن الآليات الفنية الضرورية للأعمال الوثائقية كي تؤدي هذه البرامج دورها، كما سأتحدّث عن الميادين المناسبة التي يمكن توظيف الأفلام الوثائقية من خلالها، أيضًا سأشير إلى تجارب عالمية في توظيف الأفلام الوثائقية في خدمة قضايا مهمة سواء محلية أو عالمية، وسأختم بأنّ البرنامج الوثائقي بأشكاله المختلفة وأساليبه المتعددة يمثّل إحدى الوسائل الممتازة للتعريف بالإسلام وإيصاله لعموم الناس وإقناعهم به بشكلٍ ممتع وغير مباشر.

البرامج الوثائقية:

تُعرف البرامج الوثائقية بأنها مادة برامجية تلفزيونية توثِّـق شيئًا أو حدثًا أو مكانًا أو شخصيةً أو شعبًا أو طائفةً أو تكتّلًا أو قضيةً أو حتى قيمة مجتمعية في القديم أو الحديث.

تُعتبر البرامج الوثائقية من النوع المعرفي التثقيفي، وتتميّز بأنها تجمع بين المتعة البصرية والمادة المعرفية المعلوماتية. مثَّلَت البرامج الوثائقية فتحًا في العصر الحاضر حيث استطاعت أن تنقل المعرفة والعلوم إلى طبقات وشرائح واسعة من الناس في الوقت الذي كانت العلوم والمعرفة والثقافة قاصرة على فئة المتعلّمين أو المتخصّصين.

مثّلَت البرامج الوثائقية ثورة في الإنتاج التلفزيوني عند بدء ظهورها حيث كانت البرامج التلفزيونية قاصرة على الدراما كالأفلام والتمثيليات أو المسلسلات أو برامج المنوعات أو البرامج الإخبارية.

تتنازع المواد التلفزيونية من الأخبار والتسلية والرياضة؛ أمّا المعرفة والثقافة فقد كانت قاصرة على بعض البرامج الحوارية الجافة التي يُستضاف فيها المتخصّصون من العلماء أو المثقفين، وكانت مملّة من جانب، ولا تمثّل أهمية لشريحة واسعة من الناس.

كانت الفكرة التي تدور في أذهان القائمين على الإنتاج التلفزيوني؛ كيف ننقل العلم والمعرفة إلى كافة شرائح الناس مستفيدين من الانتشار الواسع لجهاز التلفاز في كلّ المنازل.

في البداية، عند الرغبة بالتعريف بشخصية أو موضوع ينبغي مقابلة العديد من الأشخاص ذوي العلاقة في أماكن متعدّدة وفي ظروف تصوير متباينة لكسر الملل وإعطاء بُعد جديد للمُشاهِد كي يتقبل المادة الجافة نسبيًّا.

تطورت العملية خصوصًا مع توافر مادة أرشيفية مصورة عن أحداث مهمّة مثل الحرب العالمية الثانية، فكان الجهد الوثائقي هو في الربط بين الصور من خلال سيناريو متكامل يحكي قصة الحدث بالتوظيف الشامل للمادة المتاحة، طبعًا تضمّن الأمر مقابلات مع شخصيات عاشت الحدث أو شاهدة عليه بما يعطِي مستوًى عاليًا من الموضوعية والمصداقية.

النقلة النوعية الأحدث في البرامج الوثائقية هي إعادة بناء الصور المفقودة، بمعنى عندما يتمّ الحديث عن سور الصين ومعجزة بنائه يتمّ تمثيل العملية لتقريب الصورة للمُشاهِد وإعطائه تصوّرًا حقيقيًّا عن المعلومة، حتى بالنسبة للأحداث كالمعارك والحروب يتمّ تصوير مشاهد كاملة لها مثلًا بنفس الأدوات والأزياء التي يلبسونها في ذلك الوقت؛ كي يعطِي الـمُشاهِد صورة قريبة جدًّا من الحدث أو الواقعة بعيدًا عن الوصف اللفظي الخيالي.

تطوّرت البرامج الوثائقية من حيث الأهداف؛ حيث كانت في البداية نشرًا معرفيًّا بسيطًا بطريقة جديدة مُمِلَّة، وبالتالي كانت في ترتيب العرض في المؤخِّرة، وكانت تُعرض في الأوقات الميّتة آخر الليل أو أول الصباح حيث تقلّ المشاهَدة؛ لسبب بسيط أنّ القائمين على القنوات كانوا يعتقدون أنّ حفنة يسيرة من المشاهدين مَن يهتمّ بهذا النوع من البرامج!

بعد ذلك تحسّن مستوى إنتاج البرامج الوثائقية، وبدأت القنوات وشركات الإنتاج التلفزيوني تغدق على الإنتاج، ووظّفَت أحدث تقنيات الإنتاج، وصارت مادة ممتعة ومشوقة بصريًّا ومعرفيًّا، فجَلبَت جمهورًا جديدًا يبحث عن الإمتاع ومعه فائدة.

انتبهت الشركات الكبرى للتحوّل في أذواق المشاهدين وقبولهم للبرامج الوثائقية، فأنشأت قنوات وثائقية بالكامل؛ ومن أشهرها: ديسكفري وناشيونال جيوغرافي الأمريكيتان.

مع ازدياد القبول لهذه القنوات زادت مساحة البرامج الوثائقية، فأصبح هناك تخصّص فرعي؛ فهناك قناة الحيوانات، وقناة الطبيعة، وقناة الاكتشافات، وقناة المغامرات، وقناة العلوم، وهلمّ جرًّا.

هذا النجاح المتواصل جعل البرامج الوثائقية ضمن البرامج الرئيسة في بعض القنوات، كما توسّعَت في القنوات الوثائقية، علمًا بأنّ أغلب القنوات الوثائقية بالاشتراك وليست مجانية البث، وأصبحنا أمام ظاهرة جديدة: الدفع مقابل المعرفة! لكن أيّ معرفة؟ إنها معرفة الإمتاع التي سحرت الأعين وأقنعت المشاهِد، فَلِمَ لا يدفع مقابل ذلك؟!

تحوّلت البرامج الوثائقية من الأهداف المعرفية البحتة إلى الأهداف التجارية حينما تلقّفتها الشركات الإعلامية الكبرى، وتحوّلت إلى صناعة إعلامية من الوزن الثقيل، مثلها مثل الأفلام والرياضة لكن الفائدة والمعلومة حاضرة.

بالطبع لا ننسى الأهداف الإستراتيجية التي تم من خلالها توظيف الأفلام الوثائقية لخدمة أغراض سياسية للدول؛ كعرض الحرب العالمية الثانية من وجهة نظر غربية، أو غزو العراق، أو القضية الفلسطينية، أو الأمم والشعوب، كاليهود وما تعرّضوا له مِن ظُلْمٍ، وحتى في السياحة مثلًا؛ تم توظيف هذه الأفلام للترويج لدول عنصرية مغتصبة كإسرائيل، أو مناطق مغمورة لا تمثل أهمية عالمية.

ولا ننسى أنّ بعض الأفلام الوثائقية التي قدّمَت رؤية مغايرة للرواية الرسمية السائدة كـ(11)‏ سبتمبر لـ(مايكل مور) حيث تعرّض الفيلم للهجوم الشديد وكذا مُخرِجه تعرّض للتهديد. أخرج نفس الـمُخرِج فيلمًا آخر بعنوان: «الرأسمالية» قصة حب عرض فيها للجانب الأسود من الاقتصاد الأمريكي وارتباطه بالرأسمالية؛ هذا المخرج صُنّف ضِمن أهم ‎(100) شخصية الأكثر تأثيرًا‏ حول العالم؛ مثله مثل بعض الرؤساء وكبار رجال الأعمال؛ لِما لأفلامه الوثائقية من تأثيـر هائل.

من النقلات الجديدة في الأفلام الوثائقية أنها -بناءً على النجاح الذي حقّقته على شاشات التلفاز- نُقِلَت إلى صالات العرض السينمائية منافِسةً للأفلام.

مع اتساع القبول بدأت البرامج الوثائقية وقنواتها المتخصصة تنتج نُسَخًا باللغات المختلفة لإرضاء أكبر شريحة من المشاهدين حول العالم، ليس من خلال الترجمة، بل الدبلجة؛ حيث سهولة ومناسبة التواصل مع الصورة المعرفية.

القرآن والبرامج الوثائقية:

القرآن كلام الله ودستور المسلمين، حريٌّ أن يحصل على اهتمام مناسب من خلال التقنية الحديثة في الإعلام، ومنها البرامج الوثائقية.

إنّ خدمة القرآن من خلال البرامج الوثائقية يشبه إلى حدٍّ كبير خدمته في الطباعة والترجمة والتوزيع.

كما خُدم القرآن بالتفسير وما يرتبط به من علوم متعدّدة فإنّ البرامج الوثائقية يمكن أن تسهم إلى حدّ كبير في خدمة القرآن: من خلال التعريف بالرجالات الذين خدموا القرآن، بالقرّاء الذين طبّـقت شهرتهم الآفاق، بالعلماء الذين انكـبّوا على درسه وتوضيح كلماته ومعانيه، بالقرّاء الأعاجم الذين لا يعرفون العربية لكنهم يتقنون قراءة القرآن، بالأطفال الذين يحفظونه وهم لم يتقنوا القراءة والكتابة، بالشباب الذين أصبح ديدنهم القرآن تعلُّمًا وتعليمًا من خلال حلقات التحفيظ، بالرجال الذين أفنوا عمرهم وجهدهم لإنشاء وإدارة حلقات القرآن والصرف عليها.

يمكن من خلال البرامج الوثائقية التعريف بالأقوام والأمم السابقة التي ذُكرت في القرآن، يمكن أيضًا عرض قصص أَتى على ذِكرها القرآن؛ كأصحاب الكهف وذي القرنين ويأجوج ومأجوج.

قصص الأنبياء أيضًا يمكن أن تُعرض دون الاضطرار لتمثيل الأنبياء، بل البرامج الوثائقية هي الأنسب للتعريف بالرُّسُل في صيغة آمنة شرعيّة خلاف الأفلام السينمائية حيث الحاجة الماسّة لعرض الشخصيات.

البرامج الوثائقية يمكن أن تعرِض الأماكن التي تحدّث عنها القرآن كالجبال (أُحُد) أو قبور ثمود مثلًا.

من خلال البرامج الوثائقية يمكن أن نحكي قصة جَـمْعِ القرآن والقراءات المختلفة وسبب تباينها ونزوله على سبعة أحرف.

الكثير من أحداث السيرة سطّرها القرآن يمكن أن نجتزئ بعضًا منها ونقدّمه على شكل حلقات: مكة قبل الإسلام / بداية الدعوة / الهجرة إلى الحبشة، وغيرها الكثير.

من خلال البرامج الوثائقية يمكن أن نتكلّم عن المصحف والخطوط المستخدمة وأقدم النُّسَخ وحتى الورق والحبر المستخدَم، وهل بقيَت نُسَخ من مصحف عثمان رضي الله عنه، وما مدى صدقـيّتها؟

أيضًا بعض أحكام الأسرة في الإسلام التي سطرها القرآن مفصَّلة يمكن أن تُعرَض وثائقيًّا.

ضوابط توظيف الأفلام الوثائقية لخدمة القرآن:

البرامج الوثائقية عالم رحب ومتنوّع ومناسب لخدمة القرآن، لكنما هي الضوابط والأساليب التي ينبغي استحضارها عند التعامل وثائقيًّا مع القرآن وما يخدمه؟

- من المهم استحضار عظمة القرآن وقدسيته، وبالتالي الدقة والأمانة والموضوعية عند عرض أيّ قضية ذات علاقة به.

- البُعد عن تمثيل الأنبياء والخلفاء الراشدين؛ لـِما وقر في النفوس من تعظيم في حقّهم.

- أنْ لا يقدِّس أو يمجِّد البرنامج مكانًا لم يقدّسه الإسلام.

- أن يكون البرنامج يقدّم مادة معرفية جديدة، أو يقدّم مادة معرفية بصيغة جديدة مشوّقة.

- أن يستحضر ضوابط المواد الدينية بعامة من حيث البُعد عن المبالغة والكذب.

- في الجانب الفني ينبغي أن تُقَدَّم هذه البرامج بناءً على الأصول المعتبرة من حيث جودة التصوير والكاميرات المناسبة والإخراج الراقي والمؤثرات البصرية والجرافيك، وإن احتاج مَشاهد تمثيلية أن تكون على مستوى عالٍ من حيث جودة الممثلين ومناسبة النصّ وتوافقه مع السياق العام، أيضًا أن تكون الشخصيات المستضافة ذات علاقة بالموضوع وذات قدرة معقولة في التواصل البصري.

- أن يقوم على الإنتاج فنيّون محترفون ومتخصّصون حتى يُعطوا الموضوع حقّه، وأن تكون خدمة القرآن نصب أعينهم بعيدًا عن المصالح المالية.

- أن تتوفر ميزانيات معقولة وليست متقشّفة فتفسد أكثر مما تصلح وتضرّ أكثر مما تنفع.

- أن يُعِدّ المادة مختصٌّ في مجاله ولا تترك للدخلاء وغير المتخصّصين، وأن يقوم بكتابة السيناريو مَن له إلمام بهذه النوعية من البرامج وعلى دراية جيدة لأنه يحوّل النصّ إلى صورة.

- بعض الموضوعات قد تكون تقليدية، وهذه يمكن معالجتها من خلال الزاوية الجديدة والأسلوب المبتكر لشدّ الـمُشاهِد وإقناعه.

- قد يكون هناك صعوبة في تصوير بعض الأماكن أو إحياء بعض الأحداث، فيمكن الاستعانة بأرشيفات القنوات التلفزيونية المحلية أو العالمية.

- بعض الموضوعات تتطلّب حذرًا شديدًا في أسلوب التناول؛ إمّا لارتباطها بشخصيات لا يمكن عرضها كالأنبياء أو أماكن اندثرت مثل الخندق، وهنا يُستعان -ما أمكن- بالرسومات التوضيحية والجرافيك المتحرك للتعويض عن الصورة الأصلية أو المطلوبة.

- بعض الموضوعات تتطلّب جهدًا بحثيًّا ضخمًا مع التنقيب في الملفات والكتب والأرشيفات الوطنية والوثائق، وهذا يتطلّب فريقًا متخصّصًا من أهل التاريخ يعكف على الجمع والمقارنة والتحليل، فضلًا عن مقابلة أهل الاختصاص مما يتطلّب اهتمامًا خاصًّا وجهدًا غير تقليدي.

- أن يعتمد البرنامج على الصورة وليس الكلمات، وأن «يمتّع» بصر المُشاهِد حتى يقنعه «عقليًّا»، ويفيده «معرفيًّا».

- أن يجمع البرنامج مجموعة من أساليب العرض المصورة لإمتاع المُشاهِد وإبعاد الملل عنه: مقابلات مع العديد من الشخصيات المتباينة في أماكن وظروف مختلفة، مَشاهد تمثيلية مناسبة ما أمكن، تصوير حيّ متنوّع للأماكن ذات العلاقة بالموضوع، صور ثابتة للأشخاص والوثائق والكتب والأدوات وغيرها.

إنَّ إنتاج البرامج الوثائقية أصبح صناعة متقدمة يشارك فيها فريق من أهل الاختصاص؛ علماء ومُعِدُّون وأهل خبرة، وليس فقط مقابلات عَجلى مع بعضٍ من ذوي العلاقة.

ختامًا: إنّ إنتاج برامج وثائقية لخدمة القرآن لهو من الجهاد الثقافي، وأثره باقٍ ومستمر، ونتائجه غالبًا ممتازة إذا أُحْسِن الإنتاج وزِيد في الإنفاق وكُلِّف بالعمل أهلُ الخبرة والدراية.

 

[1] نُشرت هذه المقالة ضمن كتاب «القرآن الكريم وعلومه في الفيلم الوثائقي»، الصادر عن مركز تفسير للدراسات القرآنية عام 1436هـ. (موقع تفسير).

الكاتب

الدكتور مالك إبراهيم الأحمد

الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود، وعضو نقابة الصحفيين العالمية بباريس.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))