شخصية المنافق في القرآن الكريم
محاولة في التفسير الموضوعي

الكاتب : مسعود فلوسي
اعتنى القرآنُ الكريم بالكلام عن ظاهرة النفاق، وذِكر أوصاف المنافقين، والتحذير منها، وهذا المقال يتناول شخصية المنافق كما صوّرها القرآن الكريم، من خلال العرض والتحليل للآيات التي تبيِّن مفهوم النفاق وصِفته، وسلوكيات أهله، وجزاءهم في الدنيا والآخرة.

شخصية المنافق في القرآن الكريم

محاولة في التفسير الموضوعي[1]

  القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، أنزله اللهُ -عز وجل- مخاطبًا به عباده جميعًا؛ مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، صادقهم وكاذبهم، تقيّهم وفاسقهم، غنيّهم وفقيرهم، عالمهم وجاهلهم... خاطَبَ فيهم عقولهم ومشاعرهم، وأثار في نفوسهم نوازع التفكير والتأمّل والتدبّر في خَلقه سبحانه، وطلب منهم أن يتخذوا من هذا التدبّر مسلكًا ينفذون من خلاله إلى الإيمان به والإنابة إليه والخضوع لمقتضى أوامره ونواهيه -عز وجل-.

مواقف الناس من القرآن وهديه:

  لكن مواقف الناس من هذا الكتاب، ومن هذا الذي خاطبهم به لم تكن واحدة... لقد تباينَت تلك المواقف كلّ التباين وتخالفتْ كلّ التخالف. ومع كلّ هذا التباين والتخالف فإنّ هذه المواقف تتشعّب في اتجاهات ثلاثة واضحة لا تتعدّاها:

- فهناك اتجاه المؤمنين؛ الذين تناغمَت عقولهم مع مشاعرهم وهَداهم التدبرُ في خَلْق الله إلى الإيمان به -عز وجل-، فخضعوا لأوامره تعالى منيبين مطيعين خاشعين عابدين، أولئك: ﴿الَّذِينَ ‌يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 3- 5].

- وهناك اتجاه الكافرين؛ الذين قرّروا أن يعالنوا عقولهم بالعداء وينساقوا وراء أهوائهم وشهواتهم، لمقتضياتها طائعين، ولندائها مستجيبين، أولئك قال الله -عز وجل- فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: 6- 7].

- وهناك أناس وقفوا موقف التردّد والحيرة؛ فلا إلى صفّ المؤمنين انحازوا، ولا بالكافرين التحقوا، فقلوبهم مع الكافرين وأجسادهم مع المؤمنين. والخطر كلّ الخطر إنما يأتي من هؤلاء، فلا هُم عالنوا المؤمنين بالعداء حتى يواجهوهم بما هم له أهل، ولا هُم التحقوا بصفوفهم وتبرؤوا من الكفار حتى يأمن المؤمنون جانبهم فلا يخافوا خيانتهم وشرّهم. فالمجتمع المسلم -إذن- من المنافقين في هَمّ مقيم، ومن شرّهم على حذر شديد؛ فهم لا يتورّعون عن إيقاع الشّر بالمؤمنين، وموالاة الكافرين وممالأتهم عليهم متى ما سنحَت الفرصة لهم لذلك.

اهتمام القرآن بفئة المنافقين:

«النفاق انحراف خُلُقي خطير في حياة الفرد وفي حياة الأمم، وتبدو خطورته الكبيرة حينما نلاحظ أنه يَدخُل في الدِّين أعظم القِيَم في الحياة، وحينما نلاحظ أيضًا آثاره على الحركات الإصلاحية الخيّرة؛ إِذْ يقوم بعمليات الهدم الشنيع من الداخل وصاحبه آمن مستأمن لا تراقبه الأعين، ولا تحسب حسابًا لمكره ومكايده»[2]؛ لأجل ذلك وجدنا القرآن الكريم يُولي هذه الفئة من الناس أهمية خاصّة، فيعمل على فضح سرائرهم وكشف نواياهم وإبراز مساوئهم وصفاتهم حتى تتضح صورتهم وتتبدّى فعالهم وصفاتهم، فلا يغترّ المؤمنون بهم وبما يُظهرون به من مسالك وأعمال. والقرآن الكريم لا يكتفي بوصف الجانب الظاهري من سلوك المنافقين في المجتمع المسلم، بل يتوغّل إلى أعماق نفوسهم ليصفها وصفًا دقيقًا ويجليها كأنها صورة مجسّدة يعرضها أمام كلّ ذي عينين.

إنّ الذي يبدو مِن تتبعِ نصوص القرآن الكريم، أنّ هناك نوعين من النفاق؛ أحدهما هو النفاق الأصلي، والثاني هو النفاق الطارئ، «فقد تدفع المصلحة الدنيوية بعض الناس إلى أن يتظاهر بالانتساب إلى الإسلام، وهو غير مؤمن به من قلبه، فيكون منافقًا منذ الفترة الأولى لإعلانه الإسلام، ثم يستمر على نفاقه، فهذا هو النفاق الأصلي الذي لم يُسبق بإسلام صحيح. وقد يعلن بعض الناس إسلامهم وهم صادقون غير كاذبين، ثم يطرأ الشك على قلوبهم بعد تعرّضهم لامتحانات مختلفة يمتحن اللهُ بها صدق إيمانهم، فيرتدّون عن الإسلام ارتدادًا داخليًّا ويخشون إعلان رِدَّتهم، ويستمرون على التظاهر بالإسلام؛ مخافةَ إجراء أحكام الردّة عليهم، أو مخافةَ فوات منافع أو مصالح تأتيهم بوصفهم مسلمين، ومن ذلك خسارتهم مكانتهم في مجتمعهم وتعرّضهم للذم والنقد والتلويم، إلى غير ذلك من صور الضغط الاجتماعي، فهذا هو النفاق الطارئ الذي طرأ بعد إسلام صحيح»[3]، ولكن الذي يلاحَظ أيضًا أنّ القرآن الكريم، حين تحدّث عن المنافقين وعرّى مساوئهم وفضح نيّاتهم وأفعالهم وكشف كذبهم وخداعهم؛ لم يهتمّ بإبراز الفرق بين الفئتين لأنّ النتيجة في النهاية واحدة، ولا فرق بينهما من حيث ما تؤديه كلّ واحدة منهما من دور في هدم وتخريب الكيان الاجتماعي للأمة؛ لذلك فنحن سنتناول حديث القرآن عن شخصية المنافق دون ملاحظة هذا الفرق بين هاتين الفئتين.

شخصية مريضة منهكة:

لأول وهلة، تبدو شخصية المنافق -في القرآن الكريم- شخصية مريضة، تنهك كيانها الأوبئة والأمراض، حتى لتكاد تشرف على الانهيار. وأمراض النفوس أشد خطرًا وأكثر استعصاء من أمراض الأبدان، فمرض البدن ممكن التشخيص وميسور العلاج، مهما كانت خطورته ومهما عظمت مفسدته، بعكس حال مرض النفس أو القلب، فإنه لا يبين، بل يستعصي أمر الاطلاع عليه وإدراكه حتى على من يُصاب به، فالإنسان من عادته أن ينسى مراجعة نفسه ليعرف ما ألمّ بها من أدران، فتظلّ هذه الأدران تعلق بها وتغطِّي عليها حتى تسدّ أمامه منافذ الرؤية ووسائل الإدراك، فلا تعود تدرك شيئًا مما يلمّ بها أو يطرأ عليها من أمراض نفسية خطيرة وفتّاكة. والنفاق مرض من هذا القبيل، بل هو أخطر الأمراض التي من هذا القبيل، إنه مرض يمتد ليتغلغل في أعمق أعماق النفس البشرية، فيسوقها إلى المهالك والحتوف. وقد وصف الله -عز وجل- المنافقين، فقال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: 10]، قال البغوي: «﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾: شكّ ونفاق. وأصل المرض الضعف؛ سمّى الشكّ في الدنيا مرضًا لأنه يضعف الدِّين كالمرض يضعف البدن»[4]. نعم، وأيّ مرض أعظم من أن تنفصم شخصية الإنسان إلى شخصيتين اثنتين تعمل إحداهما على النقيض تمامًا مما تعمله الأخرى، فيغدو الإنسان وكأنه مكوّن من كيانين اثنين أحدهما يعاكس الآخر ويناقضه، ترى كيف يمكنه أن يعيش حياته في ظلّ هذا التناقض الذي يحسّه من ذاته ويدركه من نفسه؟ ومرض المنافق يتمثّل في ذلك العذاب الذي يجده في نفسه؛ فهو يتعذب لأنه خائف جبان، وهو يتعذب لأنه يخشى انكشاف المستور من أمره وافتضاح خبيئة نفسه، وهو يتعذّب لأنه طمّاع يخشى الحرمان، وهو يتعذّب لأنه دائب في مخالفة فطرته بتلفيق الأكاذيب والاستمرار في جحود الحقّ، وكلّ هذه الأنواع من العذاب تفجِّر في نفس المنافق أشنع أنواع المعاناة في الضمير وأقسى ضروب الآلام في النفس والوجدان.

والحقيقة في شأن النفاق، أنه ليس مرضًا واحدًا، بل إنه جملة أمراض، كلّ منها يمارس تأثيره في نفس الإنسان، بما يسوقها إلى حافة الضياع والانهيار، وكلّ واحد من هذه الأمراض يكفي وحده أن يردِي الإنسان في الحتوف والمهالك في الدنيا والآخرة، فكيف بها إذا اجتمعت كلّها في كيان واحد في آن واحد، لتمارس تأثيرها وتخريبها كلّها في ذات الكيان، وفي ذات الآن. إنّ العقل المؤمن ليقف حائرًا مشدوهًا، بل إنّ حيرته هذه لتزداد إذا عرف بعد ذلك أن المنافق -مع كلّ هذه الأمراض التي تنخر كيانه- مِن نفسه في عجب، يراها سليمة معافاة، بل إنه -بدل أن يتهمها ويعمل على إصلاحها- لَيذهب في الانسياق وراء أهوائها وشهواتها إلى أبعد الحدود، بالغًا معها أقصى ما يمكن أن تبلغه من آماد، مدّعيًا أنه على حقّ وصواب، وعلى رشد من أمره. إنّ المنافق ليظنّ في نفسه الذكاء والدهاء والقدرة على خداع البسطاء من المؤمنين، وهو في الحقيقة إنما يخدع نفسه، كما قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ‌وَمَا ‌يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9]؛ «فالمنافقون مِن الغفلة بحيث لا يَخدعون إلا أنفسهم في غير شعور، إن الله بخداعهم عليمٌ، والمؤمنون في كنف الله، فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم»[5]، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 13]؛ «فلو كشفوا عن حقيقة الأمر لعلموا أنهم هم السفهاء، ناقصو العقل، قليلو التفكير؛ لأنهم بما يسلكون يدفعون بأنفسهم إلى مواقع الآلام المعجلة والشقاء الأبدي، ومَن أكثر سفاهةً ممن يفعل بنفسه ذلك؟ وهذه الظاهرة ملاحظة في كلّ الذين لا يكترثون بالدِّين، ولا يقيمون له في نفوسهم وزنًا، إنهم يتصوّرون أن المتدينين ضعفاء العقول ناقصو التفكير تؤثّر عليهم الأوهام وتستولي عليهم الخرافات، ولدى التمحيص نلاحظ أن الذين لا يؤمنون يظلّ الشك والتخوف يملأ قلوبهم قلقًا واضطرابًا، فهم السفهاء ناقصو العقل، وإن كانوا في أعمال الخبث والمكر والكيد أذكياء؛ فذكاء المجرم لا قيمة له في ميزان العقل الصحيح، ومن أجل ذلك وصفهم اللهُ بأنهم هم السفهاء لا المؤمنون، وأعاد عليهم الوصف الذي وصفوا به المؤمنين»[6].

أعراض شائعة لمرض خطير:

  إنّ التشخيص الذي تقدّمه نصوص القرآن الكريم لشخصية المنافق يُظْهِر هذه الشخصية وكأنها صورة فسيفسائية تختلط فيها الكثير من الأشكال والألوان، دون أن يقدر الناظر فيها على فهم المعنى الذي تتضمّنه أو يراد توصيله من خلالها؛ لسبب واحد فقط، هو أنه لا معنى لها. كذلك، فإنّ شخصية المنافق تنطوي على جملة من المواصفات الخبيثة والأخلاقيات الخسيسة ركم بعضها فوق بعض، واجتمعت كلّها لتتضافر في شخصية المنافق ولتفرز بعد ذلك جملة من السلوكات الخبيثة التي يتحرّك بها المنافق في واقع المجتمع وعلى مسرح الحياة. من هذه المواصفات والرذائل؛ صفة التردّد والتذبذب، فالمنافقون لا يمتلكون شخصيات هادئة رزينة مستقرة، ولا يتوفّرون على الشجاعة الكافية التي تتيح لهم اتخاذ المواقف الحاسمة دون النظر إلى رضا غيرهم أو سخطه، وإنما ينطلقون في كلّ سلوك مِن مراعاةٍ لمواقف غيرهم منهم؛ ولذلك فهم أحيانًا مع المؤمنين، وفي أحيان أخرى مع الكافرين، يميلون حيث مالت بهم نفوسهم وأهواؤهم: ﴿الَّذِينَ ‌يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 141]، ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النساء: 143]؛ إنهم «ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمؤمنين، وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار»[7].

وقد صوّر النبي -عليه الصلاة السلام- هذه الحال الشاذة التي يلتبس بها المنافقون، فقال: (مَثل المنافق كمَثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)[8]، وهذا التذبذب هو الذي جعلهم يهربون من القيام بواجب الجهاد في سبيل الله مع المؤمنين، وارتضوا أن يقعدوا مع الخوالف: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ ‌يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 45]، والتذبذب في شخصية المنافق وهروبه من الجهاد يفضي به إلى الالتباس بالذلّ والمسكنة والخوف من الموت: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ‌مُحْكَمَةٌ ‌وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد: 20]، فهم رغم صلابة أجسادهم وضخامة جثثهم خائفون مترقبون، يكاد يقتلهم الرعب: ﴿وَإِذَا ‌رَأَيْتَهُمْ ‌تُعْجِبُكَ ‌أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: 4]. ولأنّ المنافقين مذبذبون وخائفون فهم أسرع ما يكونون إلى بثّ الفتنة وإثارة البلبلة في صفوف المؤمنين المخلصين: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا ‌خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 47- 48]. إنهم يبغضون المؤمنين ويمقتونهم، ولا يتردّدون في خيانتهم كلّما سنحت الفرصة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ‌بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ [آل عمران: 118- 119]. ولا تتوقف خيانتهم عند بث الفتنة في الصف، ولكنها تمتد إلى الشماتة بالمؤمنين والتشفِّي فيهم إذا ما مسّهم سوء: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120]، ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ ‌فَوْزًا ‌عَظِيمًا﴾ [النساء: 72- 73]، والفوز هنا هو الفوز الدنيوي المرتبط بتحصيل الغنائم والافتخار بالبطولة، وليس هو الفوز الأخروي المتمثّل في الحصول على أجر المجاهد في سبيل الله، فالمنافقون لا يؤمنون بهذا ولا ينظرون إليه بأدنى اعتبار.

ثم هم في تعايشهم مع المؤمنين وتعاملهم مع الناس سيِّئُو الأخلاق، غلاظ جفاة، لا يراعون حُرمة، ولا يحفظون مودّة، يسارعون إلى الخصام واللجج في الخصومة، ولا يتردّدون في إهانة غيرهم والحطّ مِن قدره على رؤوس الأشهاد: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ‌يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 204- 205]. يقيمون مكانتهم في المجتمع على أساس من الكذب والخداع والرياء: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ ‌خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 142]؛ فهم لا يريدون الله بصلاتهم، وإنما يقصدون بها التلبيس على الناس، فإن رآهم أحد صلوا الجماعة بين الناس، وإلا انصرفوا فلا يصلّون. ولشدّة ما يغتاظون من التظاهر أمام المؤمنين بالإيمان، إنهم يكرهون ذلك في أعماق نفوسهم، ولكنهم لتذبذبهم وخوفهم، ولعدم امتلاكهم الشجاعة للظهور بقناعاتهم، لا يجدون إلى غير التظاهر الكاذب بالإيمان من سبيل: ﴿وَإِذَا ‌لَقُوكُمْ ‌قَالُوا ‌آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119]، ﴿وَإِذَا ‌لَقُوا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 76].

والمنافقون إلى ذلك كلّه أشحّة بخلاء، لا تكاد أيديهم تسخو بشيء في سبيل الله: ﴿الْمُنَافِقُونَ ‌وَالْمُنَافِقَاتُ ‌بَعْضُهُمْ ‌مِنْ ‌بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67]، ﴿‌أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ‌أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ [الأحزاب: 19]؛ «فالمنافقون أشحّة على المؤمنين بأنفسهم وأموالهم؛ لأنهم لا يؤمنون بقضية المؤمنين، وهم في مواقف الموت جبناء خوّارون، ينظرون إلى قيادة المؤمنين التي تأمرهم بالقتال نظر الخائف الرعديد، فتدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، وحينما يذهب موقف الخوف ويأمنون ويأتي توزيع الغنائم يطلقون ألسنتهم الحادة الساخنة المؤذية الجارحة للمؤمنين؛ بغية نيل أكبر نصيب من الغنائم، كأنهم هم الذين كانوا أبطال معركة الجهاد والمحرزين للنصر، إنهم أشحة على المال يحبونه ويحرصون عليه، مع أنهم قد كانوا يقومون بأعمال التثبيط والتخذيل، ولكن الله يحبط أعمالهم فلا يجعل لها تأثيرًا على المؤمنين»[9]. ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ ‌عِنْدَ ‌رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: 7]. إنّ هؤلاء المنافقين كافرون في دخائلهم، يتظاهرون بالإيمان، وهم في الحقيقة ليسوا إلا كافرين: ﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا ‌وَقَدْ ‌دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ [المائدة: 61]، فهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، لا أن يتحاكموا إلى الله: ﴿أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الَّذِينَ ‌يَزْعُمُونَ ‌أَنَّهُمْ ‌آمَنُوا ‌بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60]. يُعلِنون الإيمان بألسنتهم ويُبطِنون الكفر في قلوبهم، ولا يتورّعون عن إظهار هذا الكفر إذا ما أَمِنوا عاقبته: ﴿يَا أَيُّهَا ‌الرَّسُولُ ‌لَا ‌يَحْزُنْكَ ‌الَّذِينَ ‌يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: 41]، ﴿وَيَقُولُونَ ‌آمَنَّا ‌بِاللَّهِ ‌وَبِالرَّسُولِ ‌وَأَطَعْنَا ‌ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور: 47- 48]؛ لذلك أعلنَ الحقُّ -عزّ وجل- كَذِبَهُم في دعوى الإيمان، وشهد عليهم بذلك شهادةً تصمهم بالعار وسيّئ الأذكار إلى يوم الدين: ﴿إِذَا ‌جَاءَكَ ‌الْمُنَافِقُونَ ‌قَالُوا ‌نَشْهَدُ ‌إِنَّكَ ‌لَرَسُولُ ‌اللَّهِ ‌وَاللَّهُ ‌يَعْلَمُ ‌إِنَّكَ ‌لَرَسُولُهُ ‌وَاللَّهُ ‌يَشْهَدُ ‌إِنَّ ‌الْمُنَافِقِينَ ‌لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1].

وقد صوّر اللهُ -سبحانه تعالى- شخصية المنافق تصويرًا دقيقًا، يكشف عن حقيقة دخيلتها والخصال الرديئة المقيتة التي تلتبس بها، وذلك حين ضرب لها مثلين، فقال -عز وجل-: ﴿مَثَلُهُمْ ‌كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 17- 20]، فقد «ضرب الله لهذا الصنف في مجموعه مثلين يُنبِئان بانقسامه إلى فريقين:

الأول: مَن آتاهم الله دِينًا وهدايةً عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرًا وباطنًا، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم، بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمرًا خُصُّوا به، أو خيرًا سِيق إليهم؛ لظاهر قولٍ أو عملٍ امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تَدَعْ في نفوسهم مجالًا لغيرها؛ ولذلك لم يتفكّروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم؛ لأن حفظ الموجود أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى به مَن قبلهم بما فيه من شموس العرفان ونجوم الفرقان؛ لزعمهم أنّ فهمه لا يرتقي إليه إلا أفرادٌ من رؤوس الدِّين، يؤخذ بأقوالهم ما وُجِدوا وبكتبهم إذا فُقِدوا. فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقدِهِ لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة، وانطماس الآثار دونها عنده، مثل مَن ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾. والوجه في التمثيل: أنّ مَن يدّعي الإيمان بكتابٍ نزل من عند ربه، قد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نارٌ يهتدي بها في الشبهات، ويستضيء بها في ظلمات الرّيب والمشكلات، ويبصر على ضوئها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشهوات. فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد، هجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث، وعصب عينيه شيطان الغرور فذهب عنه ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة، بل انطفأ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه، فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.

أمّا الفريق الثاني: فقد ضرب الله له المثل في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ...﴾ [البقرة: 19]، وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانًا، ولمعاني التنزيل، يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق في نظره الحين بعد الحين، عندما تحركه الفطرة، أو تدفعه الحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك، ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من المهالك، وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي ويبرق في عينيه نور الهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بِشُبَهِ الضلالات الغرّارة قام وتحيّر لا يدري أين يذهب. ثم إنه ليُعرِض عن سماعِ نُذُرِ الكتاب ودعاة الحقّ، كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد ولا نصح الناصح، يخاف مِن تلك القوارع تقتله، ومِن صواعق النُّذُر أن تهلكه»[10].

مرض مكتسب:

شخصية المنافق -إذن- شخصية مريضة منحلّة ضيّقة الأفق، مسدودة في وجهها مسالك الوعي والإدراك البصير، بل إنّ مرضها ليَكاد يستحيل على العلاج. وسبب ذلك، ليس ظلمًا من الله -عز وجل- أو من الناس، إنه ظلم ذاتي ألحقه المنافق بنفسه، وهو وحده يتحمل مسؤوليته، ويلقَى جزاءه علقمًا في الدنيا وجحيمًا في الآخرة. فكما أنّ مَن يتناول مِن الأطعمة والأشربة الضارَّ منها، ثم يلقَى نتيجةَ ذلك عنتًا ومرضًا وعِلّة مستديمة في كيانه كله أو في أيّ عضو من أعضاء جسده، كذلك الحال بالنسبة للمنافق، فهو قد وطَّن نفسه على أن يسلك في حياته مع خالقه، ومع ذاته، ومع من يحيط به من الناس =سلوكاتٍ تتناقض مع قناعاته، ويظهر بمظاهر ليست متوافقة مع حقيقة ما يبطن في داخله، ومعاكسته لنفسه -بهذا الشكل- هي التي قتلت فيها -شيئًا فشيئًا- المشاعر الإنسانية وأورثتها الذلّ والمرض والهوان. فالمنافقون «لمّا سلكوا مسلك النفاق، وجعلوه خطة دائمة لهم، فتذبذبوا بين ظاهر الإيمان وباطن الكفر، وأتقنوا صناعة التلوّن بعدّة ألوان، واتخاذ عدة وجوه، ومهروا في ستر أنفسهم بالمظاهر الكاذبة من أقوال وأعمال؛ أكسبهم ذلك جرأة على الجريمة، وجرأة على تغطية الجريمة بحلف الأيمان الكاذبة الفاجرة حتى يظن مَن يشاهدونهم لأول مرة أنهم صادقون؛ لأنهم في أقوالهم الكاذبة وأيمانهم الفاجرة لا يتلجلجون، فالكذب صار خُلُقًا لهم، وبمثابة الأخلاق الفطرية، فتسبب لهم كلُّ ذلك بإغلاقِ منافذ قلوبهم المدركة وبإقفالِها، ثم الطبعِ عليها بالخاتم إشعارًا بعدم الإذن بجواز فتحها، فانطمست بصائرهم، فهم لا يفقهون الأمور، ولا يتدبرونها، ولا يتبصرون بالنتائج ولا بالعواقب الوخيمة للأعمال الفاسدة المفسدة»[11]. «فالمرض يُنشِئ المرض، والانحراف يبدأ يسيرًا ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد، سُنّة لا تتخلّف، سُنّة الله في الأشياء والأوضاع، وفي المشاعر والسلوك»[12]. ﴿ذَلِكَ ‌بِأَنَّهُمْ ‌آمَنُوا ‌ثُمَّ ‌كَفَرُوا ‌فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾[المنافقون: 3]. أليس المنافقون قد درجوا على الإفساد والتخريب، ثم إذا ما أنكرَ عليهم منكِرٌ من المؤمنين ادّعوا أنهم مصلحون: ﴿وَإِذَا ‌قِيلَ ‌لَهُمْ ‌لَا ‌تُفْسِدُوا ‌فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11- 12]، فهم مِن كثرة إصرارهم على معاكسة المؤمنين، اختلط عندهم الصلاح بالفساد، ولم يعودوا يشعرون أنهم يفسدون ولا يصلحون؛ ﴿وَالَّذِينَ ‌اتَّخَذُوا ‌مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: 107]، وقد اقترن الإفساد في سلوك المنافقين -عادة- بالكذب في القول والتزوير في الدعاوى والأيمان، وإخلاف الوعود: ﴿لَوْ ‌كَانَ ‌عَرَضًا ‌قَرِيبًا ‌وَسَفَرًا ‌قَاصِدًا ‌لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: 42]، ﴿فَأَعْقَبَهُمْ ‌نِفَاقًا ‌فِي ‌قُلُوبِهِمْ ‌إِلَى ‌يَوْمِ ‌يَلْقَوْنَهُ ‌بِمَا ‌أَخْلَفُوا ‌اللَّهَ ‌مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 77]. وهم لم يكونوا يكذبون على المؤمنين فحسب، بل كانوا يكذبون حتى على أوليائهم من الكافرين: ﴿أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الَّذِينَ ‌نَافَقُوا ‌يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ [الحشر: 11- 12]. وكيف ينصرونهم وهـم متذبذبون، متلبِّسون بالرعب والخوف من الموت؟ إنّ جُبنهم يحملهم على التفريط بأنفسهم ومصالحهم وأهلهم، فكيف يتصوّر أن ينصروا أولياءهم؟!

وإلى جانب الإفساد والكذب والخداع والتزوير، فالمنافقون يتكاسلون عن الصلاة: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ‌وَهُوَ ‌خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142]، ﴿وَلَا ‌يَأْتُونَ ‌الصَّلَاةَ ‌إِلَّا ‌وَهُمْ ‌كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: 54]. ويتخلّون عن الجهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين ملتمسين في ذلك أقبح المعاذير: ﴿إِنَّمَا ‌يَسْتَأْذِنُكَ ‌الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ [التوبة: 45- 47]، ﴿فَرِحَ ‌الْمُخَلَّفُونَ ‌بِمَقْعَدِهِمْ ‌خِلَافَ ‌رَسُولِ ‌اللَّهِ ‌وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 81]. يتبعون أهواءهم ولا يتبعون أمر الله: ﴿أُولَئِكَ ‌الَّذِينَ ‌طَبَعَ ‌اللَّهُ ‌عَلَى ‌قُلُوبِهِمْ ‌وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: 16]. ويخلفون الوعد فلا يرعون عهدًا ولا يلقون بالًا للكلمة التي يلتزمون بها أمام غيرهم، لقد أخلفوا عهدهم مع الله فكيف لا يخلفونه مع الناس: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ ‌عَاهَدَ ‌اللَّهَ ‌لَئِنْ ‌آتَانَا ‌مِنْ ‌فَضْلِهِ ‌لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 75- 77]. وكانوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؛ مبالغةً في النكاية بالرسول -عليه الصلاة والسلام- وبالمؤمنين، وإمعانًا في الصدّ عن سبيل الله والدعوة إلى سبيل الشيطان والكافرين: ﴿الْمُنَافِقُونَ ‌وَالْمُنَافِقَاتُ ‌بَعْضُهُمْ ‌مِنْ ‌بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67]. ويمارسون المكر والاستغلال واستغفال المؤمنين: ﴿وَمِنْهُمْ ‌مَنْ ‌يَلْمِزُكَ ‌فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: 58]. وهم يعتبرون المؤمنين سفهاءَ مخبولين، فيستهزئون بهم باعتبارهم مغفلين: ﴿وَإِذَا ‌قِيلَ ‌لَهُمْ ‌آمِنُوا ‌كَمَا ‌آمَنَ ‌النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: 13- 15]، ﴿يَحْذَرُ ‌الْمُنَافِقُونَ ‌أَنْ ‌تُنَزَّلَ ‌عَلَيْهِمْ ‌سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة: 64- 65]، ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا ‌يَجِدُونَ ‌إِلَّا ‌جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 79]. ثم هم بعد ذلك يتكبّرون على الرسول وعلى المؤمنين ويترفّعون عليهم: ﴿وَإِذَا ‌قِيلَ ‌لَهُمْ ‌تَعَالَوْا ‌يَسْتَغْفِرْ ‌لَكُمْ ‌رَسُولُ ‌اللَّهِ ‌لَوَّوْا ‌رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون: 5].

جزاء من جنس العمل:

لذلك كلّه، طبعَ اللهُ على قلوبهم، وحكمَ عليهم بأنهم:

- ظالمون:

﴿أَفِي ‌قُلُوبِهِمْ ‌مَرَضٌ ‌أَمِ ‌ارْتَابُوا ‌أَمْ ‌يَخَافُونَ ‌أَنْ ‌يَحِيفَ ‌اللَّهُ ‌عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور: 50]، والظُّلْم ظُلُمات يتخبط فيها المنافق يوم القيامة، فلا يلقَى إلى النجاة من عذاب الله سبيلًا.

- وضالون:

﴿أَلَمْ ‌تَرَ ‌إِلَى ‌الَّذِينَ ‌يَزْعُمُونَ ‌أَنَّهُمْ ‌آمَنُوا ‌بِمَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكَ ‌وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].

﴿فَمَا ‌لَكُمْ ‌فِي ‌الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 88].

- وطاغون:

﴿اللَّهُ ‌يَسْتَهْزِئُ ‌بِهِمْ ‌وَيَمُدُّهُمْ ‌فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: 15]، والطغيان؛ مجاوزة الحد في العصيان. والعَمَه؛ عمى القلب وظلمة البصيرة، وأثره الحيرة والاضطراب.

- وفاسقون:

﴿قُلْ ‌أَنْفِقُوا ‌طَوْعًا ‌أَوْ ‌كَرْهًا ‌لَنْ ‌يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 53]، ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ ‌هُمُ ‌الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67]، و﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ ‌لِتَرْضَوْا ‌عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 96]، ورتّب عليهم -لأجل ذلك كلّه- الهوان والخسران في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة: ﴿بَشِّرِ ‌الْمُنَافِقِينَ ‌بِأَنَّ ‌لَهُمْ ‌عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 138]، ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140]، ﴿إِنَّ ‌الْمُنَافِقِينَ ‌فِي ‌الدَّرْكِ ‌الْأَسْفَلِ ‌مِنَ ‌النَّارِ﴾ [النساء: 145]، ﴿وَعَدَ ‌اللَّهُ ‌الْمُنَافِقِينَ ‌وَالْمُنَافِقَاتِ ‌وَالْكُفَّارَ ‌نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [التوبة: 68]، ﴿وَلَا ‌تُصَلِّ ‌عَلَى ‌أَحَدٍ ‌مِنْهُمْ ‌مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 84- 85]، ﴿يَوْمَ ‌يَقُولُ ‌الْمُنَافِقُونَ ‌وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13].

بصيرة لأولي الألباب:

وبعد، فنحن لم نعمل على تجميع آيات الكتاب الكريم لنكتب بحثًا حول وصف القرآن لفئة المنافقين، دون أن يكون لذلك هدفٌ آخر غير الكتابة، ما أردنا ذلك أبدًا؛ فإنّ الأمر يتعلق بسلوك كنّا -وما زلنا- نعاني من ويلاته في حياتنا الخاصة والعامة على سواء، سلوك هو النفاق عينه، وهو الذي كان -وما يزال- يقف عائقًا في سبيل أن يعودَ المسلمون إلى رشدهم فيتبعوا كتاب ربهم ويهتدوا بسُنّة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-؛ فالكثير من المسلمين -إن لم نقُل السواد الأعظم منهم- يسلكون في حياتهم مسالك المنافقين ويدعون دعاواهم بما يأتونه من سلوكات فردية وجماعية تتنافى تمامًا مع مقتضى تعاليم كتاب الله -عز وجل- وسُنّة نبيّه الكريم -عليه الصلاة والسلام-، فإذا ما أنكرَ عليهم ذلك منكِرٌ قالوا: ﴿إِنَّمَا ‌نَحْنُ ‌مُصْلِحُونَ﴾[البقرة: 11].

فحديث القرآن عن المنافقين هو أيضًا «حُجّة على كثير من اللابسين لباس الإسلام، الذين يعتقدون كمالَ سلَفِهم ولا يقتدون بهم، وإنما يطمعون في سعادة الدنيا والآخرة بانتسابهم إلى أولئك السّلَف العظام، ولكونهم من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي خير الأمم بشهادة الله في القِدَم، ولكنهم لا يعلمون أنها فضلَت سواها بكونها أمةً وسطًا، تقوم على جادة الاعتدال في العقائد والأخلاق والأعمال، وتسعى في إصلاح البشر بالأمر بالمعروف والنهـي المنكر»[13].

إنّ هناك انفصامًا خطيرًا في كيان المسلم المعاصر؛ انفصامٌ يتبدّى في التناقض البيـِّن بين المرجعية العقدية التي يؤمن بها ويعتقد أحقيتها، وبين سلوكه التطبيقي في الواقع، والذي لا علاقة له إطلاقًا بمقتضيات هذه المرجعية الكامنة في أعماق القلب وشغافه الغائرة. وكأنّ الإسلام ليس سوى قناعات عقلية فلسفية يتعلّمها الإنسان ويتجه نحوها بالتقديس والإجلال، وينافح عنها في مجالس الفكر والمناظرة، ثم لا شيء آخر بعد ذلك، بحيث ينطلق في الحياة بلا رادع يردعه أو دين يصدّه عن الفسوق والعصيان، حتى لقد أصبح التديّن والاستمساك بحبل الله -في نظر الكثير من المسلمين المعاصرين- نوعًا من الرجعية والتزمّت وضيق الأفق وانسداد البصيرة، أمّا الانحلال والفسوق واتّباع مقتضيات الهوى ووساوس شياطين الإنس والجنّ -وما أكثرهم- فهو التحضُّر والتقدّم، بل هو التمدّن والتفتّح الذي تقتضيه طبيعة العصر وشعاراته الخادعة. إنه من دون إدراك هذه الحقيقة المؤسفة فإنّ أمراضنا النفسية والاجتماعية التي هي -في عمومها- صور وأشكال من النفاق، ستظلّ تنهش في كياننا، وتمارس حفرها العميق في أغوار نفوسنا، وتعمل عملها في هدم علاقاتنا الاجتماعية وأنسجتنا الفكرية وأبنيتنا الثقافية والمرجعية؛ والله يعلم نتيجة ذلك كلّه.

 

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة (الإحياء) بالجزائر، العدد الأول، السنة الأولى، 1998م. (موقع تفسير).

[2] الأخلاق الإسلامية وأُسسها، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم- دمشق، ط2، 1987م، (1/ 564).

[3] الأخلاق الإسلامية وأسسها، (1/ 563- 564).

[4] تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل، للإمام البغوي (ت 516هـ)، تحقيق: خالد عبد الرحمن، ومروان سوار، ط4، دار المعرفة- بيروت، 1415هـ= 1995م، (1/ 50).

[5] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق- بيروت والقاهرة، ط17، (1/ 43).

[6] الأخلاق الإسلامية وأسسها، (1/ 568- 569).

[7] تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل، (1/ 492).

[8] رواه البغوي بسنده في تفسيره، (1/ 492).

[9] الأخلاق الإسلامية وأسسها، (1/ 583).

[10] تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، محمد رشيد رضا، طبعة مصورة عن طبعة المنار، دار المعرفة- بيروت، (1/ 168- 169).

[11] الأخلاق الإسلامية وأسسها، (1/ 573).

[12] في ظلال القرآن، (1/ 43).

[13] تفسير المنار، (1/ 160- 161).

الكاتب

الدكتور مسعود فلوسي

أستاذ في قسم الشريعة في كلية العلوم الإسلامية بجامعة باتنة 1 الحاج لخضر بالجزائر، وله عدد من المؤلفات والبحوث المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))