مخالفة الترتيب في القصة القرآنية
مفهومه واعتبارات النظر فيه
مع تعليق على قصة أصحاب الكهف

مما يسترعي النظر في القصة القرآنية ما يَرِد في بعض القصص من مخالفة ظاهر الترتيب في عرضها، وهذه المقالة تُسلّط الضوء على هذا الموضوع، فتبيّن مفهوم مخالفة الترتيب في القصة القرآنية، وتذكر بعض الاعتبارات والضوابط للنظر فيه، ثم تتناول الترتيب في قصة أصحاب الكهف بالبيان والتحليل.

مقدمة:

  في قومٍ كانوا يحاولون الشرف والرّفعة، ويصاولون الفضائل والمناقب، يصيبونها تارة وتفلت منهم أخرى =أرسلَ اللهُ النبيَّ الأمين -صلى الله عليه وسلم- بالكتاب المبين، فكان هدايتهم بعد الحيرة، وعصمتهم من الشقاق. وإنّ ما في القرآن الكريم من الهدى والموعظة قد جاء على أفانين من البلاغة، وبمعجز التصوير والصياغة، يخاطبهم بهداه ومواعظه إن أرادوا، ويحاججهم بأسلوبه ونَظْمِه وفصاحته إن استرابوا. فلا يقضي منهومُ البيان أَرَبَه من بديع ما جاء في الكتاب المبين في كلّ مرّة يقلِّب فيها نظره، ويُعْمِل فيها فِكره.

وكانت قصص القرآن من هدى الله ونوره الذي شرح به قلبَ النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فقصّ عليهم أخبار مَنْ سبقَ مِن الرسل، وبَيّن لهم كيف كان صبرهم، وبَيّن له شنشنة أهل الباطل مع رُسلهم، مع تفنّنٍ في تقرير نُصرة الحقّ، وغلبة الباطل، وضرب بهذه القصص الأمثال للمشركين بأنّ عاقبتهم كعاقبة غيرهم ممن هلكوا، فجاءت فنًّا بديعًا من فنون الوعظ والإرشاد. قال تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]، وقال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]، كل هذا في نظمٍ بديع، وفصاحة معجزة، فكان أسلوب القصة القرآنية آية أخرى.

ومن أوجه النظر في بلاغة القصة القرآنية النظر في طريقة عرضها وترتيبها، فإنّا نجد في بعض القصص أوّلها إجمالٌ لها أولًا، ثم يتبعه التفصيل؛ كقصة أصحاب الكهف، ونجد في قصصٍ أخرى تقديم أحد جزأيها على الآخر؛ كقصة بقرة بني إسرائيل، ونجد في قصة سيدنا لوط ترتيبًا لها في بعض السور يخالف ترتيبها في سور أخرى، فترتيب قصة لوط في سورة (الحجر) غير ترتيب قصة لوط في سورة (هود). فمثل هذا يسترعي النظر في هذه الفروقات، وتدبر ما يحويه النَّظْم القرآني من دقائق تدلّ على معانٍ في طيّ هذا الترتيب. فإن كان الأصل في الترتيب أن يكون حسَب حصوله في الوجود -كما سيأتي تفصيله- وهذا هو الظاهر -كما يسمّيه البلاغيون- فإن العدول عن مقتضى الظاهر في ترتيب القصة القرآنية ينبغي تأمّل سببه، واستنباط نكته؛ إيفاءً بحقّ البلاغة.

فمرادي في هذه المقالة أن أُعْرِبَ -قدر الوسع والطاقة- عن ترتيب القصة القرآنية، ومخالفة هذا الترتيب -أحيانًا- للظاهر، فمعرفة ذلك مسفرٌ لنا عن وجهٍ من البلاغة بديع رائق، العناية به قليلة، وآثاره على النفس المرهفة جليلة. ثم نطبّق بعض ما نذكره من كليّاتٍ للفهم على قصة أصحاب الكهف حتى تتضح الرؤية بلا غشاوة.

أولًا: مخالفة الترتيب في القصة القرآنية: مفهومه واعتبارات النظر فيه:

  • مفهوم مخالفة الترتيب في القصة القرآنية:

الأصل في ذِكْر القصة أن يكون ترتيب أخبارها يوافق ترتيب حصولها ووجودها، فإذا جاء ترتيب الأحداث حسَب ما كانت عليه في الحقيقة؛ فهذا الترتيب على ظاهره ولا يبحث عن العلّة فيه.

وإن جاءت الأحداث على غير ذلك فهي مخالفة للترتيب ومخالفة كذلك لمقتضى الظاهر كما يسمّيه البلاغيون، وكذلك مما يلحق بهذا الأمر هو قطع الترتيب؛ إِذْ إن الأصل في القصة إن كان ثمّة تعقيب يتعلّق بموضوعها أن يكون بعد الانتهاء من ذِكْر أحداثها، فإذا اعترضت جملة أو عدّة جُمَل مما محلّه في الظاهر أن يكون بعد الانتهاء من القصة ثم عاد الأمر إلى سياقه من إتمام أحداث القصة فإن في هذا مخالفة للترتيب لا تكون إلا لغرض ونكتة ما دامت في نصّ بليغ. فكان لزامًا علينا أن نُعمل فكرنا لاستخراج علّة هذه المخالفة، ولأيّ شيء كانت.

  • الفرق بين دراسة الترتيب ومخالفته في القرآن عن دراسته في الشِّعْر:

مخالفة الترتيب في القصة القرآنية هو أيضًا ظاهر في القصة التي تكون في الشِّعْر، وهذا تابعٌ لمفهوم القصة في البيان؛ لأن غرض النصّ المبين لا يُعنى بمجرّد سرد الأحداث، فالقصة في النصّ المبين تكون لإثباتِ شيءٍ بعينه أو الاستدلال عليه أو ضرب المثل به، وهذا يجعلنا ننظر للقصة بصورة أخرى وبصورة أشمل كذلك، فإنّ القصة ليست مجرّد الأحداث، بل الأحداث وما يتخلّلها ويتبعها من تعليقٍ، كلّ ذلك يشير إلى موضع العبرة فيها، والترتيب كذلك لا يكون لمجرّد الأحداث، بل الترتيب فيها للعبرة حسَب تأثير ذلك الترتيب في النفس المتلقية لها.

 وإذا كانت مخالفة الترتيب في القصة القرآنية أمرٌ مطروق في شِعْر العرب كما قدّمنا، فلا بد أن نبين أنّ دراسة الترتيب في القصة القرآنية أكثر ضبطًا من دراستها في الشِّعْر؛ وذلك لأن القرآن محكمٌ في ترتيبه، فأنت تعلم علم اليقين أن هذا هو الترتيب الربّاني وأنّ كلّ كلمة منه في موضعها الدقيق، وتعلم أيضًا أن لهذا حكمة اقتضاها المقام، فالبحث فيه أنفع.

 ولم أقصد بذلك أن دراسة ذلك في الشِّعْر غير مجدية بل الأمر عكس ذلك تمامًا، ولكن الناظر في الشِّعْر يدرك ما فيه إشكاليات في الترتيب، وقد كشف القناع عن ذلك أبو فهر محمود شاكر في كتابه (نمط صعب ونمط مخيف)[1]، فضياع للوقت والجهد أن ينشغل المرء بالنظر في ترتيب القصيدة وقد تكون بنسبة كبيرة ليست على ترتيبها الذي أراده الشاعر.

وأمر آخر في الفرق بين النظر لترتيب القرآن وترتيب الشِّعْر، وهو أنّ الناس اعتادت أن تفرغ وسعها في تحميل الشاعر مرادات لا تخطر له ببال، بل قد يكون الأمر عاديًّا عنده فينسجون هم من خيالهم ما هو منه ببعيد، وهذا من ضيق العطن، وقلّة الفهم عن لغة الشعراء، والتمرّس بالبيان، ولكن هذا في القرآن له مذاق آخر؛ فإن مُراد العليم الحكيم -جل جلاله- جدير أن يُستفرغ فيه الوسع في توجيه ما هو عليه من ترتيبٍ وغيره، وذلك بعلمٍ صحيحٍ قائم على أصوله، وهذا ما لا يَحْسُن فعله في الشِّعْر على اطراد. بل إنّ هذا التعدّد من بلاغة القرآن، يقول ابن عاشور: «ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعانٍ كثيرة يفرضها السامع»[2].

هذا، ولا يسري إليك الوهم أنّ ما ذُكِر من فروقٍ في هذا الأمر بين القرآن والشِّعْر هو من إعجاز القرآن؛ فإنّ الخلل الذي وقع في بعض الشِّعْرِ إنما نشأ عارضًا عن رواية هذا التراث وليس خللًا كائنًا في نفس الأمر، فهذا موطن دقيق فتدبّره!

  • اعتبارات في النظر لترتيب القصة القرآنية:

هذه اعتبارات تُعِين على فهم المغزى من القصة القرآنية ومطابقتها للحال، ومعرفة الأمور العامة التي من أجْلِها يخالف الظاهر:

أ. الأصل في ترتيب الأخبار أن يوافق ترتيب حصولها:

وهذا الأمر وإن كان قد تقدّم؛ فإن استحضاره وترسيخه مهمّ عند النظر في سياق القصة، وذلك من جهة تطلّب المناسبة، ومعلومٌ تكلّف الناس في النظر لأمر المناسبة بغير علمٍ ولا كتاب منير؛ فإنّ ترتيب القصة لا ينظر فيه لما جاء موافقًا للأصل، لأنه ببساطة هو الأصل، وإنما محلّ النظر يكون إذا خالف الأصل، ومخالفة الأصل في النصّ البليغ لا بد أن يكون لها علّة، فمثلًا في قصة بقرة بني إسرائيل، قدّم فيها الحديث عن ذبح البقرة وصفاتها، ثم عقّبت القصة بذكر سبب اختيار ذبح البقرة، وتلك المخالفة لأنها موضع العناية. إذ العناية مصروفة إلى بيان أهمية الامتثال لأمر الله، وعدم معارضته بالأهواء، فقدّم الجزء الذي يفيد إفادة عظمى لتلك النكتة[3].

ب. أثر كون قصص القرآن للاعتبار والاتعاظ في فهم أغراض مخالفة الترتيب فيها:

قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحَدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ [طه: 113]، وفهم هذا الأصل يعين على توجيه كثير مما يخرج عن ظاهر الترتيب، سواءٌ بمخالفة الترتيب أو بقطع الترتيب باعتراض أو استطراد، فغرض (البيان) عمومًا ليس (الإبانة المغسولة عن المعاني)، وإلا تحوّل هذا البيان إلى كتاب تاريخ فخرج عن مهيعه؛ فإن الترتيب في النصّ المبين هو ترتيب يُراعَى فيه مخاطبة النفس حسَب الغرض المطلوب -وهو في القرآن الاعتبار والاتعاظ في المقام الأول- فتكون كلّ جملة ردًّا على هاجسٍ ينشأ عن التي قبلها، أو بيانًا اقتضاه المقام لما سبق من إبهام، فترى تتابع الجُمَل هو تتابع لحركة المعاني في النفس، وهنا يتفاوت بيانٌ عن بيانٍ، ولا شك أن ذروة سنام ذلك في القرآن، يقول ابن عاشور: «فإنّ لانتقالات جُمَلِ الكلام =‌معانيَ ‌لا ‌يُفيدُهَا الكلامُ لما تَدُلُّ عليه من ترتيب الخواطر في الفِكْر»[4]. وهذا أصلٌ كليّ يراعَى معه الأصل الجزئي في السورة نفسها والسياق وغيره كأسباب النزول. فمما يعين هذا الأصل عليه:

❖ فهم طريقة توزيع القصة وذكر بعضها وطيّ بعضها؛ فإنّ القصة تُذكر للعبرة، فتوزيع القصة وتركيبها يكون لذلك، فقد تجد القصة مجملة ثم تعقب التفصيل؛ كقصة أصحاب الكهف، وقد تبدأ القصة بعاقبتها ثم يأتي التفصيل؛ مثل قصة سيدنا موسى في سورة القصص، وكلّ هذا يكون للغرض الكلي للقرآن وهو الهداية والموعظة، وتوزّع القصة حسَب هذا الأمر، يقول الطاهر ابن عاشور: «‌عادة ‌القرآن ‌في توزيع القصة، [الاقتصار] على موقع العبرة ليخالف أسلوب قصصه الذي قصد منه الموعظة =أساليب القصاصين الذين يقصدون الخبر بكلّ ما حدث»[5].

❖ فهم مغزى الاعتراضات والاستطرادات والتذييلات التي تكون قاطعة للترتيب ومتخلّلة لأحداث القصة، فلما كان القرآن كتاب هداية وانتفاع كان من بلاغته أن يقتنص الفرصة إنْ تهيّأَتْ للوعظ على أيّ طريقةٍ كانت، حتى ولو بتخلّل ترتيب القصة فيكون ما قُصَّ منها قد هيأ لمقام الوعظ، ويكون ما بعده مُستحضرًا فيه هذا الاعتراض المهم، وفي ذلك يقول الطاهر ابن عاشور: «شأن القرآن أن ‌لا ‌يفلت ‌فرصةً ‌تَعِنُّ من فرص الموعظة والهدى إلا انتهزها، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل، وتبصّرها في الحقّ، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد»[6]، ومثال ذلك قوله تعالى في قصة سيدنا نوح في سورة هود: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ [هود: 35]، فإن الخطاب فيها موجّه للنبي -صلى الله وعليه وسلم- والسياق سياق حكاية محاجّة سيدنا نوح لقومه. وعلّته ونكتته مبسوطة في كتب التفسير[7]، وإنما أردنا فقط المثال.

ج. النظر في السياق وفي أسباب النزول:

إذا كانت القصة القرآنية مسوقة للعبرة، فلا بد أن هذا الأمر يختلف باختلاف المواقف والمقامات، فمن المرجّحات في فهم طريقة الترتيب -وفهم كثير من الاختلافات في القصة- فهم سياق السورة، وما تدور حوله، وما أُنزِلَت فيه إن كان ثَمّ سبب نزول، فقد تكون القصة واحدة وتورد مختلفة الترتيب لأمرٍ ما، مثل قوله تعالى حكاية عن بني إسرائيل في سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 58]، وهي مختلفة الترتيب عن التي في الأعراف: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ القَرْيَةَ وكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّدًا نَغْفِر لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 161]، فأنت ترى القصةَ واحدة والحدث واحدًا، ولكن ورَد على ترتيبٍ معيّن في سورة، وبترتيب آخر في سورة أخرى، والذي يفصل في ذلك السياق ومعرفة ما تدور السورة حوله.

وإِذْ قد انتهينا من تبيينٍ لمفهوم مخالفة الترتيب في القصة القرآنية، وألمحنا إلى بعض الاعتبارات المعينة على النظر لأغراض المخالفة وصوره =نعرض مثالًا تطبيقيًّا لقصة قرآنية اجتمع فيها تقديم لبعض أحداثها وقطع لترتيبها باعتراضات، وهي قصة أصحاب الكهف، محاولين أن نطبّق عليها ما ذكرناه، حتى تتضح الصورة جلية.

ثانيًا: تعليقٌ على مخالفة الترتيب في قصة أصحاب الكهف:

كان الأصل في مقالتنا أن نؤسّس لفكرة مخالفة الترتيب في القصة القرآنية، ولاعتبارات النظر في أسباب تلك المخالفة، فحاولنا أن نبرز أمورًا كلية تعين على فهم هذه المسألة أينما وُجدت، ثم نحن في هذه السطور نحاول أن نعلّق على قصة من قصص القرآن، وهي قصة أصحاب الكهف بما يتيسّر من محتواها لما قد سبق التأسيس له، ولا شك أن بعض ما ذكرنا في التأسيس لا يتوفّر في هذه القصة ويتوفّر في غيرها، فالغرض من هذا التعليق «التنبيه على مكان الخَبيء ليُطْلَب، وموضعِ الدفين ليُبْحَث عنه فيُخْرَج»[8].

  • النظر في ملابسات القصة وسياقها:

  قبل أن نلج إلى القصة ننظر نظرة إجمالية في سبب نزول السورة، فإنّ توفّر هذا معِين بشكل أكبر على فهم الجزئيات المطوية في القصة؛ وذلك لما قدّمنا من أهمية النظر في السياق وفي أسباب النزول فيما سبق من تأصيل، فتلمّس هذه الأمور يجلي كثيرًا من أوجه البيان.

سورة الكهف سورة مكية نزلت في الفترة التي حاول فيها المشركون أن يحاوروا النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا بدأ الإسلام ينتشر في قبائل قريش، وذلك ليصدوه عن دعوته، ويذعن لهم، فكان من تلك المحاولات أن بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط «إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصِفَا لهم صِفَته، وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، فسألَا أحبار يهود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصَفَا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت أحبار يهود: سلوه عن ثلاثٍ نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيٌّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فَرَوْا فيه رأيَكم؛ سَلُوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأولِ ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديثٌ عجب، وسَلُوه عن رجل طوّافٍ قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها؛ ما كان نبؤه؟ وسَلُوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبيّ، وإن لم يفعل، فهو رجل متقوِّل»[9]، ثم إنهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فوعدهم الإخبار غدًا ولم يستثنِ حتى أبطأ الوحي فأرجفت قريش بين الناس، وحتى أحزن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مكثُ الوحي عنه، ثم نزلتْ بعد ذلك سورة الكهف فيها خبر الفتيةِ وذي القرنين، ونزل بيان الروح في سورة الإسراء.

والذي يعنينا من هذا الأمر، هو معرفة حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت نزول السورة؛ فإنه كان حزينًا إِذْ تأخر الوحي، ولما أرجفت به قريش، ولما كان يرجو من صلاحهم في ذلك.

وحال الكافرين كانت حالة استطالة وغرور لمّا ظنّوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجيبهم، ولما تعنتوا فيه من طلب الآيات. ومعرفة هذا سيرشدنا في فهم طريقة الترتيب.

  • النظر في ترتيب القصة ومخالفة الظاهر فيها:

1- تبدأ القصة بقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أنَّ أصْحَابَ الكَهْفِ والرَقِيمِ كانُوا مِن آياتِنا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الفِتْيَةُ إِلى الكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وهَيِّئْ لَنا مِن أمْرِنا رَشَدًا * فَضَرَبْنا عَلى آذانِهِمْ في الكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْناهم لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى لِمَا لَبِثُوا أمَدًا﴾ [الكهف: 9- 12].

فنجد أنّ أول القصة جاء على خلاف الترتيب، وقد قدّمنا في التأصيل أن الأصل في ترتيب الأخبار أن يكون حسَب الترتيب في الوجود والحصول، فإذا نظرنا إلى مطلع القصة وجدنا أنّ هذه البداية ليست هي التي كانت، فالأصل أن يكون بدء القصة: التعريف بالفتية، أو مكانهم، أو حالهم مع قومهم، وفي أيّ زمنٍ كانوا، ولكن القرآن طوى ذِكْر كلّ ذلك، وبدأ القصة بداية عجيبة بليغة، أجملَ فيها أمرهم مقدِّمًا فيها محلّ العبرة، وإنْ نظَرْنا لنكتة تقديم محلّ العبرة وإجماله فيمكن أن نقول: أنّ نَفْسَ النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين كانت متشوِّفة لهذه القصة مشرئِبّة لها، فقد حزن النبيّ لإبطاء جبريل عليه بالوحي، فكان هذا التقديم والإجمال مبادرةً له بالقصة، ولعلّ من نكات تقديمها أيضًا أن قريشًا استطالت بهذا الأمر، وحسبته فوزًا لها، وأرجفوا بما أرجفوا في مكة، فكأنّ هذه القصة في إجمالها قطعٌ لجهيزتهم، وقارعة لهم من أول الأمر، فإنْ سألتم -يا معشر الكفار- عن هذه القصة واستطلتم بها فإنها ليست بأعجب الآيات، وإنها في فتية آمنوا واستضعفهم قومهم، ففروّا منهم، فإنك تجد مبدأ ذِكْر قصتهم مشابهًا لحال المؤمنين مع الكافرين، فآذن ذلك بأنّ ما في تضاعيف القصة قوارع للمشركين. وبذلك نجد أن هذا المطلع خُولف فيه الترتيب لانتهاز تلك الفرصة؛ تتبعًا لمواقع العبرة، كما قدمناه تأصيلًا.

2- ثم تستمر أحداث القصة: يذكر القرآن خطابهم بتمسّكهم بدينهم، ودخولهم الكهف، ووصف حالهم فيه وعناية الله بهم، فيقطع ترتيب القصة اعتراضٌ، وذلك هو قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهْوَ المُهْتَدِ ومَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ ولِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: 17]، فإنه لما كانت النفوس التي تسمع هذا البيان الرباني في وصف عنايته بالفتية المؤمنين الذين أُخرجوا من ديارهم فرارًا بدينهم، وكانت هذه العناية تعمل في القلوب، وتتمناها النفوس المؤمنة =أُلْقِيَ هذا الكلام معترضًا ليبين للمؤمنين أن تلك آيات الله مع أوليائه؛ ليومئ إليهم بأن مثل هذه العناية ستدركهم، ويلفت به أنظار المشركين الذين تعنتوا في طلب الآيات أن هذا الأمر من آيات الله التي غفلوا عنها وعميتها أبصارهم. فأنت ترى الجملة الاعتراضية في موقعها البلاغي الأعلى، ووقعها على القلب أوقع من أيّ موقع آخر؛ لأنها انتهزت فرصة أن القلوب قد تعلّقت بهذه العناية وتأثّرت بها، فكان هذا القطع للترتيب للإرشاد والوعظ الذي قدّمنا الحديث عنه في التأصيل.

3- ثم يعقب ذلك خبر بعثهم والعثور عليهم، وقبل أن تُختم القصة بذِكْر مدّة لبثهم يقطع ذلك اعتراض بمعاتبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلماذا قطع الترتيب بهذه الاعتراض هنا؟

فنقول: أحسَبُ أنّ مجيء الاعتراض بمعاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموضع، أنه كان قبل هذا الاعتراض أوامرُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم المماراة وترك الاستفتاء، فانتُهِزَت فرصةُ إلقاء الأوامر إليه بتعقيبها بمعاتبته على نفس صور النهي السابقة، كأنها من جملتها ومتعلّقة بها، ثم أتبع ذلك ببقية القصة وهو مدّة لبث أصحاب الكهف. فتكون هذه المعاتبة لسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لطيفة على قلبه، شأنَ المحب إذا عاتب حبيبه، فهذا القطع لترتيب الآيات جاء بليغًا كريمًا.

وفي ذلك الاعتراض يقول ابن عاشور: «وقد جمعتْ هذه الآية كرامةً للنبيء ﷺ من ثلاث جهاتٍ:

الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.

الثانية: أنه علّمه علمًا عظيمًا من أدب النبوّة.

الثالثة: أنه ما علّمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسًا لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرم»[10].

خاتمة:

حاولتُ في هذه المقالة أن أستعرض صورة من أفانين البلاغة، وهي مسألة الترتيب في القصة القرآنية ومخالفتها للظاهر وقطع ترتيبها الظاهر، وتلمّستُ أسباب ذلك، محاولًا الجمع بين أمورٍ كليّة تفتح أعين القارئ على وجه بديع في قصص القرآن، وبين تعليقٍ موجز على قصة من قصص القرآن وهي قصة أصحاب الكهف، وأرجو أن أكون قد وُفقت في الإبانة عمّا حاولتُه، فإن وافق ذلك قولًا صحيحًا ومثالًا مستقيمًا فالفضل من الله الفتاح العليم، وإن كان من زللٍ وسوء نظرٍ فحَسْبي أني تعرضتُ لنفحات كتابه، وحاولتُ الاغتراف من فضله العميم.

 

 

[1] انظر على سبيل المثال، ص136.

[2] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، (2/ 112).

[3] انظر: الكشاف، الزمخشري، طبعة دار المعرفة، ص83.

[4] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، الطبعة التونسية، (5/ 243).

[5] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، (9/ 116).

[6] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، (5/ 78).

[7] انظر: التحرير والتنوير، (12/ 63).

[8] دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ت: محمود شاكر، ص34.

[9] السيرة النبوية لابن هشام، طبعة دار الكتاب العربي، (1/ 322).

[10] التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، (17/ 296).

الكاتب

محمد مصطفى قناوي

حاصل على ليسانس كلية الآداب قسم اللغة العربية - جامعة الإسكندرية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))