كتاب
حجية تفسير السلف عند ابن تيمية: دراسة تحليلية نقدية
تأليف: خليل محمود اليماني
عرض وتقويم

الكاتب : عمرو بسيوني
الاستبعادَ منَّا
تناوَل كتابُ (حجية تفسير السلف عند ابن تيمية) تأليف: خليل محمود اليماني مسألة حجية تفسير السلف عند ابن تيمية بصورة تحليلية نقدية، وهذه المقالة تعرِض للكتاب وتناقشه وتورد عليه عددًا من الملاحظات بعد تعريف موجز بالكتاب وذِكر أهم نقاط قوّته.

تقديم:

  اطّلعتُ على كتاب بعنوان: (حجية تفسير السَّلَف عند ابن تيمية، دراسة تحليلية نقدية)، للأستاذ خليل محمود اليماني، والذي يدور حول نظرية شيخ الإسلام ابن تيمية في البيان النبوي لمعاني القرآن، وقد ظهر لي جدية البحث وجِدّته، مع ملاحظات عليه جعلتني أخالفه في النتائج وكثير من الاستدلالات التي قرَّرها البحث. فرأيتُ أن أكتب ورقةً في بيان هذا الخلاف، وما في هذا البحث مِنْ غلط على شيخ الإسلام في فهم قوله في هذه القضية، ومن خطأ في الاستدلال، استلزم فساد النتيجة، حفظًا لحقّ العلم ومسؤوليته، وحفاظًا على أقوال أهل العلم من أن تُفهم على غير وجهها، فالتصوّر مقدَّم على التصديق، وتصحيح نسبة القول للعالم وفهمه كما أراد خطوة أساسية للنقاش والبحث معه في صواب قوله أو خطئه بعد ذلك، ولا حرج في التصويب والتخطئة بالعلم والعدل من كلّ أحد لكلّ أحدٍ كائنًا من كان. وذلك كلُّه من غير أن أبخس الباحثَ جُهدَه وعِلْمَه. فالعِلْم رَحِم بين أهله، وما زال أهلُ العلم يختلفون في تقرير مسائل العلم جُلّها ودقّها، والقصد نِشدة الحقّ، لا الخلاف مع الأشخاص، والله يتولّانا جميعًا بمنّه وكرمه. وسيأتي حديثنا عن الكتاب مقسومًا لقسمين؛ أحدهما لعرضه بإيجاز، والآخر لتقويمه وإبداء مزاياه والملحوظات عليه.

القسم الأول: كتاب: حجيّة تفسير السلف عند ابن تيمية؛ عرض وبيان[1]:

كتاب (حجيّة تفسير السلف عند ابن تيمية؛ دراسة تحليلية نقدية) هو للمؤلِّف/ خليل محمود اليماني، وهذا الكتاب صدر عن مركز تفسير عام (1442هـ= 2021م)، ويقع في (275) صفحة شاملة المقدّمات والفهرس.

ويعالج هذا الكتاب قضية حجيّة تفسير السلف عند ابن تيمية وتقويم الدلائل التي انطلق منها شيخ الإسلام في تقرير هذه الحجية وبيان الموقف منها.

وأمّا أهداف الكتاب فجاءت -كما نصّ عليها المؤلِّف- كالآتي:

- بيان موقف ابن تيمية إزاء حجية تفسير السلف، وتحرير مرتكزاته ودلائله.

- تقويم الموقف التيمي إزاء حجية تفسير السلف ومناقشته.

- إثراء البحث في الدراسات الشرعية بمناقشة إحدى المسائل المنهجية والمتعالقة مع عدد من فنونها الرئيسة.

- إذكاء ساحة الدرس بمناقشة موقف أحد العلماء الكبار المحرِّرين، والتي تعدّ ضرورة لا غِنى عنها في تمحيص العلم وإنضاج المسائل.

وقد جاء الكتاب في أربعة فصول وملحق؛ أمّا الفصل الأول فجاء بعنوان: (الموقف التيمي من حجية تفسير السّلف؛ ضبط وتحرير)، وقد عمل هذا الفصل على تحرير موقف شيخ الإسلام إزاء حجيّة تفسير السلف وبيان طبيعة الدلائل والمستندات التي اعتمد عليها في تقرير هذه الحجية، وكذلك ناقش الفصل ما يخالفه من دراسات فيما انتهى إليه من تحرير لهذه الدلائل.

وأمّا الفصل الثاني فجاء بعنوان: (الموقف التيمي من حجيّة تفسير السلف؛ مناقشة وتقويم)، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: دعوى وجود بيان نبوي لمعاني القرآن؛ مناقشة وتقويم.

المبحث الثاني: دلائل ابن تيمية في إثبات وجود بيان نبوي لمعاني القرآن؛ مناقشة وتقويم.

وبالنسبة للفصل الثالث فجاء بعنوان: (منطلقات بناء حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ النشأة والدوافع)، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: منطلقات بناء حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ النشأة والتشكُّل.

المبحث الثاني: منطلقات بناء حُجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ الدوافع والمسببات.

وبخصوص الفصل الرابع فقد جاء بعنوان: (منطلقات بناء حجيّة تفسير السلف عند ابن تيمية؛ الآثار والانعكاسات).

وبالنسبة لملحق الكتاب فقد خُصّص لمعالجة تناول بعض الدراسات والبحوث لحجية تفسير السلف عند ابن تيمية، وإيراد بعض الملحوظات عليها، وهذه الدراسات كالآتي:

(بحث: توقّف التفسير على معرفة أقوال السّلف؛ دراسة في استدلالات ابن تيمية من خلال كتابه "جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية"، أحمد فتحي البشير)، (منهج ابن تيمية المعرفي، عبد الله الدعجاني)، (العقائدية في التفسير، ياسر المطرفي)، (بحث: بيان غلط نسبة القول بتوقّف التفسير على معرفة أقوال السّلف لابن تيمية، عمرو الشرقاوي).

القسم الثاني: كتاب: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ مناقشة وتقويم:

أولًا: نقاط قوّة البحث:

وهي نقاط كثيرة لا يعني تعدادُ بعضِها أنّ ذلك يعمّها، ولكن جرت العادة أن تكون ملاحظات النقد أكثر تفصيلًا؛ لأنّ المتفق عليه تكفيه أقلّ عبارة.

أولًا: البحث يتّسم بلغة جيدة، وإن كانت تشتطّ أحيانًا، لكن هذا أمر مفهوم ومقدَّر تبعًا لحرارة البحث في متابعة أهدافه.

ثانيًا: ثمة مجهود بحثي معتبر لا يمكن الاستهانة به في البحث، وهذا أمر يُذكر فيُشكر.

ثالثًا: طول نَفَس الباحث للوصول إلى تقرير المعاني التي هي فروض البحث التي يسعى إلى إثباتها وتوكيدها. وإن كان ذلك أوقع البحثَ في بعض التكرار الذي كان في غنًى عنه، وبخاصة في تقليب وجوه مشتركة ما بين (الضبط والتحرير) و(المناقشة والتقويم) للموقف التيمي من حُجِّية تفسير السلف، ثم (المنطلقات) التي تكرّرت أكثر من مرّة في سياق النشأة والدوافع، فكان من الممكن اختصار البحث، دفعًا للإلحاح الوارد في مضامينه.

رابعًا: انفتاح البحث في بعض الأحيان على آفاق جديدة في التفسير، تمثّل مستقبلًا له، ومحاولة التعاطي مع العلوم اللسانية والتأويلية الحديثة لإثراء التفسير، وهذا اتجاه مرغوب فيه وينبغي تشجيعه، ومزيد صقله ودعمه نظريًّا وتطبيقيًّا.

خامسًا: ممارسة النقد والتقويم لآراء العلماء الكبار هو في حدّ ذاته مُكتَسَبٌ بحثي ومنهجي، أرجو أن يتواصل ويتواتر، فإنّ تمحيص العلم وإنضاجه لا يكون إلا بهذه السجالات.

ثانيًا: الملاحظات على البحث:

لا شك أنّ البحث العلمي مجهودٌ بشري، لا يخلو من ملاحظات في الغالب، كما أنه عُرضة لاختلاف وجهات النظر، فإنّ القطع واليقين في مثل تلك البحوث العلمية ليس بغالب ولا كثير، ومن هنا ينبغي أن يتحلّى الباحث في تلك المسائل دائمًا بنوعٍ من التواضع العلمي، وأن تكون عبارة النسفي الذهبية: «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب» رائدَه في بحثه.

وينبغي أن يكون واضحًا أنني لا أبتغي كتابةَ رد على جميع المقرّرات التي انتهى إليها الباحث، ولكن أدوِّن بعض الملاحظات فحَسْب على الأدلة والنتائج التي قدّمها الباحث، وأنّ الذي يعنيني أصالةً وهو مبتغاي: مناقشة الفكرة الأساس التي ينبني عليها البحث، ومن ثَمَّ المناقشات والنقود التي قامت بناءً على تلك الفكرة الأساس، ومن هذا المنطلق فإنني لن أتعقّب جميعَ ما يرد في البحث من تقريرات أو عبارات، ولا يعني تركي شيئًا إقراري بصوابه، ولكن المقصود ألا ينتشر الكلام ويتشعّث.

أولًا: تفكيك الفكرة المركزية للبحث:

الفكرة الأساس التي بنى عليها الباحثُ بحثَه، ومن ثَمَّ ما ترتّب عليه من بحوث وتحليلات ونقود هي أنّ نظرية ابن تيمية تتمثّل في كون البيان النبوي للقرآن كان حاصلًا لجميع القرآن بألفاظه ومعانيه، وأن تفسير الصحابة (نقل) لهذا التفسير النبوي[2].

ومن ثَمَّ ترتب على ذلك قوله في المقدمة: «وبعد التأمّل المطوّل لهذه النصوص ومراجعة كلام ابن تيمية والتدقيق فيه؛ تحرّر لدينا أنّ ابن تيمية قائل بضرورة التقيّد الكامل بتفسير السَّلَف في الفهم، والمنع من الخروج عليه والإحداث بعده لأيّ فهم جديد حتى لو كان غير معارض له»[3].

= انطلق الباحث من مقدّمةٍ هي صحيحة بالنسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وستأتي معنا مرارًا بصور مختلفة: أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن القرآنَ كلَّه للصحابة لفظَه ومعانِيَه، واستدلّ عليها بأنواع من الأدلة[4]، قرَّر بعضَها الباحثُ فأحسنَ التقريرَ، ولكنّه حمَّل هذه المقدّمة وفَهِم منها ما لا تَحتمِل، وجعل تبعةَ ذلك كلِّه على نظرية الشيخ هذه، ثم جعل ينقدُها ويصارعُها، وجعل يدفعُ ما يَرِد عليه من احتمالات مخالفة لهذا الفهم لنظرية الشيخ؛ إمّا: بأنها من التناقض الطبيعي الذي يقع للعلماء، أو أنها احتمالات غير صحيحة مخالفة لنظرية ابن تيمية، كما سيأتي الآن من تحليل.

= رجع الباحث إلى بعض النصوص المركزية التي توضح نظرية الشيخ في البيان النبوي، مثل قولِه: «أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لأصحابه القرآنَ لفظَه ومعناه جميعًا»[5]، وقولِه: «وأمّا التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين فذلك إنما قَبِلوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلَّغوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لفظَ القرآن ومعانيَه جميعًا كما ثبت ذلك عنهم،...ومَن زعم أنه لم يبيّن لهم معانيَ القرآن أو أنه بيّنها وكتموها عن التابعين فهو بمنزلة مَن زعم أنه بيَّن لهم النصّ على عليٍّ وشيئًا آخر من الشرائع والواجبات وأنهم كتموا ذلك، أو أنه لم يبيّن لهم معنى الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك مما يزعم القرامطة أن له باطنًا يخالف الظاهر»[6].

وقولِه: «إنّ الصحابة نقلوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يتعلّمون منه التفسير مع التلاوة...»[7].

وقولِه: «من المحال في العقل والدِّين أن يكون السراج المنير الذي أخرج [الله] به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمَر الناس أن يردُّوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة... وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته؛ محال -مع هذا وغيره- أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسًا مشتبهًا، فلم يميز [بين] ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.

فإنّ معرفة هذا أصل الدِّين، وأساس الهداية... فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيّين لم يحكموا هذا الكتاب اعتقادًا وقولًا؟! ومن المحال أيضًا أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد علَّم أُمَّتَه كلّ شيء حتى الخراءة، وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ...محال مع تعليمهم كلّ شيء لهم فيه منفعة في الدِّين -وإن دقّت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم [ويعتقدونه] بقلوبهم في ربهم ومعبودهم ربّ العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبويّة وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهّم من في قلبه أدنى مُسكة من إيمان وحكمة، أن لا يكون [بيان] هذا الباب قد وقع من الرسول -صلى الله عليه وسلم- على غاية التمام، إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن [يكون] خير أمته وأفضل قرونها قصّروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه.

ثم من المحال أيضًا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالمين و[غير] قائلين في هذا الباب بالحقّ المبين؛ لأنّ ضدّ ذلك إمّا عدم العلم والقول، وإمّا اعتقاد نقيض الحقّ وقول خلاف الصدق. وكلاهما ممتنع»[8].

= وأنا سأرجع إلى نصٍّ أكثرَ عمومًا وأقوى إيضاحًا، وأوسعَ دعوى لابن تيمية، كي يتبيّنَ لنا أنّ كلامه حول التفسير هو من جهةٍ في إطارِ نظرةٍ عامة منه للإسلام ليست قاصرة على التفسير كعِلْم، ومن جهةٍ أخرى: كي يتضحَ لنا من خلالها حقيقة المراد من هذه النظرية، وكيف أنها لا تتنافى مع ما أورده الباحث من اجتهاد الصحابة واختلافهم، ومن فتح مجالات البحث الديني في التفسير وغيره وأنّ هذه النظرية لا تئد هذه الإمكانيات.

للشيخ رسالةٌ تُعرف بعنوان: (معارج الوصول في أنّ أصول الدين وفروعه قد بيَّنها الرسول)، وهو عنوان مستمدّ من قول الشيخ: «فصلٌ: في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَيَّن جميعَ الدين أصولَه وفروعَه؛ باطنَه وظاهرَه، عِلمَه وعمَلَه، فإنّ هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان، وكلّ مَن كان أعظمَ اعتصامًا بهذا الأصل كان أَوْلَى بالحقّ علمًا وعملًا»[9].

لا يقول ابن تيمية هنا إن الرسول بيَّن معانيَ القرآن فحَسْب، لكن أقول: قرّر ابن تيمية أن النبي [بيَّن] [جميع] أصول الدين و[فروعه].

وهنا نحلّل هذه المقدّمة (وهي نفسُها المقدّمة التي ينصّ عليها الشيخ فيما يتعلّق بالقرآن، بل هو داخلٌ فيه أصالةً) ونمارس حيالها نوعًا من التفكيك الكاشف عن: المعنى/ ثم التأديّات.

 هل تستلزم هذه العبارة:

أولًا: أنّ النبي بيَّن جميع أصول الدين وفروعه على مستوًى واحدٍ من البيان، بحيث تستوي جميعُها في الجلاء، ولا يعرض لها في نفسها أو لنسب وإضافات أخرى: خفاءٌ، (وخفاء البيان من أسباب الاختلاف الطبيعية).

ثانيًا: هل يستلزم البيان صورةً محددةً؟ وبخاصة الصورة الفنية المدرسية على غرار الشيخ المدرِّس والتلاميذ، أم أن البيان أعمّ من ذلك، ويدخل فيه كلام الرسول وأفعاله وتقريراته، بل وإرشاداته الدالة على مناهج الفهم والاستدلال [كإشاراته للإسرائيليات كما سيأتي].

ثالثًا: هل يلزم من هذا التقرير أنّ (جميع) أقوال الصحابة في أصول الدِّين وفروعه هي (نقل) لهذا البيان النبوي، ولا يعرض لهم الاجتهاد، بل والسهو والخطأ، بل والهوى (من حيث التنظير العمومي -ونحن نعلم أنّ الشيخ ينصّ أن الصحابة وقع لهم هوًى في بعض المسائل، بل يقرّر أن الاجتهاد المحض غير المشوب بالهوى قليل أو نادر- والشيخ أطلق على مسائل مِن تفقُّهِ الصحابة أنها [بدعة]).

أم أن مقصود الشيخ في هذه التنظيرات: أنّ الوحي الذي أُنْزِل على الرسول، قد امتثل النبيّ أمرَ الله ببيانه وتبليغه البلاغَ [المبين]، فما يكون في الأُمَّة بعده من العلم، وبخاصّة طبقة الصحابة لأنها أوّل الأمة: هو نوعٌ من النقل عنه، وهو على مراتب مختلفة، فمنها المنقول نقلًا واضحًا جليًّا، وذلك في الجمل والكليات، أو ما تحقّق فيه إجماعهم إجماعًا صحيحًا، ومنه ما دون ذلك من نقل لمسائل أقلّ وأدقّ، ومنه ما هو اجتهاد منهم في الكتاب والسنّة، وهو راجع للبيان النبوي في نقله أو فهمه، وذلك النقل والفهم يعرض له الصواب والخطأ والعلم والجهل وحتى الهوى.

وبعبارة أخرى فإنّ قول القائل: (تفسير الصحابة -مثلًا أو فقههم- هو صادرٌ عن البيان النبوي): هو في الحقيقة مقابلة المجموع بالمجموع، يعني أنّ مجموع الوارد عن الصحابة هو صادر عن بيان النبي، والحكم الثابت للمجموع لا يستلزم الثبوت للأفراد كما هو معروف، فلا يستلزم هذا أنّ كلّ تفسير أو حكم عن الصحابة هو هو البيان النبوي بالمطابقة!

وسأبيّن تلك الأسئلة الثلاثة المفكِّكة لهذه النظرية:

أولًا: هل يلزم أن يكون البيان النبوي لجميع الأمور -ومنها جميعُ معاني القرآن- على مستوًى واحد من البيان؟ بحيث لا يكون منه أشياء أخفى من أشياء؟

لا شكّ أنّ البيان النبوي -كالقرآني- قد يعرض له الخفاء، سواء في نفسه أو باعتبارات أخرى كثيرة، وابن تيمية ينصّ على ذلك صراحة، ويقول: «ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخصّ اللهُ بفهمهن بعضَ الناس كما قال عليٌّ: إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه»[10]. ومن ثَمَّ فلا تعارض بين القول بالبيان النبوي للقرآن، وبين خفاء بعض معانيه، واختلاف الناس -مِن الصحابة فمَن بعدهم- تبعًا لذلك في فهمه وتعدّد أقوالهم في بعض معانيه.

ثانيًا: هل يلزم من القول بالبيان النبوي أن يكون على طريقة معيّنة، تشبه الطريقة المعلِّمية المدرسية، بحيث يلزم نقله بصورة مقولات فنية محدّدة في جميع المسائل؟

في الحقيقة، وعلى مستوى القرآن خصوصًا -الذي هو محلّ البحث- فإن ابن تيمية نفسه لا يرى هناك حاجة حقيقية لكتابة تفسيرٍ على القرآن سورة سورة، وقد نقل ابن عبد الهادي عنه شخصيًّا أنه طلب منه أن يكتب تفسيرًا كاملًا، فكان الشيخ يرى أن من القرآن ما هو (بيِّن بنفسه)، ومن ثَمَّ كتب تفسيرًا على بعض الآيات (التي أشكلت) وبعض السور، وهذا النقل: «كتبتُ له أن يكتبَ على جميع القرآن تفسيرًا مرتَّبًا على السور، فكتب يقول: إنّ القرآن فيه ما هو بيِّن بنفسه، وفيه ما قد بيّنه المفسِّرون في غير كتاب، ولكن بعض الآيات أشكلَ تفسيرُها على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدّة كتب ولا يتبيّن له تفسيرها، وربما كتب المصنّف الواحد في آية تفسيرًا ويفسّر غيرها بنظيره؛ فقصدتُ تفسير تلك الآيات بالدليل لأنه أهمّ من غيره، وإذا تبيّن معنى آيةٍ تبيّن معاني نظائرِها»[11].

وهذا يوضِّح لنا أنه من المستحيل نظريًّا أن يكون كلام ابن تيمية عن البيان النبوي لمعاني القرآن و(نقل الصحابة) له، هو بمثابة الدرس التفسيري التفصيلي، لكلّ آية آية ولفظة لفظة، أو كما يعبر الباحث أنه بيان لمعاني جميع مفردات القرآن وتراكيبه وأساليبه! فإنه -أي ابن تيمية- يرى أنّ أهل عصره ليسوا بحاجة لمثل هذا التفسير، وهو نفسه في غنًى أن يضع مثل هذا التفسير، فكيف يكون الصحابة أحوج إلى ذلك؟! وقد رُوي عن ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير تَعْلَمُه العلماء، وتفسير لا يَعلمه إلا الله تعالى[12].

ومن ثَمَّ يظهر أنّ المراد بالبيان النبوي لمعاني القرآن: البيان العام الجملي لمعانيه الكلية، وطائفة من مُشكِله، سواءٌ ما كانوا يستشكلونه أو ما كان يبتدرهم هو بتفسيره، وشواهد هذا معروفة - وذلك فضلًا عن عموم هديه في القول والفعل والتقرير والدلالة، مما هو جميعًا بيانُه للدين أصولِه وفروعِه، ومن أجلّه: معاني القرآن كلُّها، على وِزان قول عائشة -رضي الله عنها-: «كان خُلُقُه القرآن». كما قال الشيخ نفسُه في بيان المعنى العام للنَّقل والبيان: «وجماع هذا: أن يعلم أن المنقول عن الرسول -صلي الله عليه وسلم- شيئان: ألفاظُه وأفعالُه، ومعاني ألفاظِه ومقاصدُه بأفعالِه، وكلاهما منه ما هو متواتر عند العامة والخاصة، ومنه ما هو متواتر عند الخاصة، ومنه ما يختصّ بعلمه بعضُ الناس، وإن كان عند غيره مجهولًا أو مظنونًا مكذوبًا، وأهل العلم بأقواله كأهل العلم بالحديث والتفسير المنقول والمغازي والفقه يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم ممن لم يشركهم في علمهم، وكذلك أهل العلم بمعاني القرآن والحديث والفقه في ذلك يتواتر عندهم من ذلك ما لا يتواتر عند غيرهم من معاني الأقوال والأفعال المأخوذة عن الرسول»[13].

وهذا الكلام يشبه كلام إمام المفسِّرين ابن جرير الطبري عن البيان النبوي لجميع معاني القرآن بأنواع الدلالة المختلفة، إِذْ يقول: «[إنّ] مما أنزل الله من القرآن على نبيّه -صلى الله عليه وسلم- ما لا يُوصل إلى علم تأويله، إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تأويل جميع ما فيه، من وجوه أمره، وواجبه، وندبه، وإرشاده وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه، وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعضَ خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيِهِ، التي لم يُدرَك علمُها إلا ببيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمّته. وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه، إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتأويله، بنصٍّ منه عليه، أو بدلالةٍ قد نصبها دالّةً أمتَه على تأويله»[14].

والحقّ إن تصوُّر أنّ ابن تيمية يقول بما نسبه إليه الباحث، مما تقدّم نقله، أمرٌ غريب، لا يفوت عوامَّ أهل العلم فضلًا عن أن يفوت مثل الشيخ، وربما شعر الباحثُ نفسُه بذلك، فأشار إلى بساطة ذلك التركيب العلمي للنظرية التي فهمها، وأنه لذلك تهيب بعض الباحثين التعاطي معها فعزفوا عنها[15]!

وصحيحٌ إن هذه البساطة، والإشكالات البدهية الواردة عليها (المقصود نظريةُ نقليّةِ تفسير الصحابة برمّته عن النبي وأنه مطابق للبيان النبوي)؛ توهِن مِن نسبتها للعالم المحقّق، وليس ذلك من غلق باب النقد ولا العزوف ولا التهيّب، ولكن هذا من طبائع الأشياء، فإنه إذا نُسب للعالم المحقِّق ما يظهر فسادُه بأدنى تأمُّل فإنه ينبغي على الباحث المدقّق أن يتفحص أولًا هذا القول، وما قد يكون فيه من إجمال يطلب تفسيره، خاصّة إذا كان هذا القول مخالفًا للمعروف من العلم، فلا أحد من أهل العلم -حتى الطبري الذي يقول كابن تيمية أنّ الرسول بيَّن معاني جميع القرآن والباحث يقرُّ بذلك- يقول إنّ كلّ التفسير الوارد عن الصحابة هو عين ذلك المنقول عن النبيّ وأنّ جميعَه بمثابة (النقل والرواية)، وكما يقول الشيخ: «من ادّعي في كلام سيبويه وجالينوس ونحوهما ما يخالف ما عليه أهل العلم بالطب والنحو والحساب من كلامهم كان قولُه معلومَ البطلان»[16]، فهذا من حقائق علم اجتماع المعرفة وليس من المصادرة في شيء. فكيف وهناك من الشواهد والدلائل في تنظير الشيخ وفي تطبيقاته ما يدلّ أنه ليس المقصود بقوله بالبيان النبوي لجميع معاني القرآن: مجرّد درس التفسير البسيط لجميع مفردات القرآن وتراكيبه، فضلًا عن أن يكون تفسير الصحابة مجرّد (نقل) أو (رواية) لهذا (البيان) النبوي؟!

وسيأتي مزيدٌ حول ذلك في الكلام عن تكاملية مباني شيخ الإسلام، وأهمية تطبيقاته لمعرفة معنى نظريته.

ثالثًا: هل القول بالبيان النبوي لمعاني القرآن يستلزم عدم اجتهاد الصحابة في التفسير؟

لا يلزم ذلك طبعًا، كما لا يلزم من القول أنّ النبي بيَّن جميعَ أصول الدين وفروعَه الظاهرةَ والباطنة والعلمية والعملية؛ أنّ الصحابة ومَن بعدهم لم يكونوا يجتهدون.

فببساطة الجهة منفكّة بين وجود البيان النبوي واجتهاد الصحابة؛ وذلك لأسباب عدّة مشهورة، منها؛ أولًا: عدم بلوغ ذلك البيان إلى جميع الأفراد. ثانيًا: أنه مع فرض بلوغه لا يمنع الاجتهاد في البيان النبوي نفسِه، أي أنْ يكون نفس البيان النبوي موضوعًا للاجتهاد؛ لأنه ليس بمثابة واحدة (كما هي منفكة بين بيان القرآن للصلاة واجتهاد العلماء فيها)، وهو أمرٌ واضحٌ جدًّا ذهل عنه الباحث، ورمَى ابنَ تيمية بسببه بالتناقض أيضًا في آخر البحث[17]؛ لأنه وقف بما لا يدع مجالًا للشك أن ابن تيمية ينصّ أن الصحابة يجتهدون في معاني القرآن، والحقّ أنّ كلتا الدعويَين غير صحيحة، فلا الاجتهاد يستلزم عدم البيان، ولا البيان يستلزم منع الاجتهاد، ولا القول بوجود البيان والاجتهاد معًا يستلزم التناقض، فافهم هذا ودقِّق.

وهنا يبيّن ابن تيمية بيانًا بديعًا يقول فيه عن اختلاف التناقض بين الصحابة في التفسير وأنه قليل: «اختلفوا فيه (اختلاف تناقض) فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه، كما أنّ تنازعَهم في بعض مسائل السُّنَّة -كبعض مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والفرائض والطلاق ونحو ذلك- لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجُملها منقولة عنه بالتواتر»[18].

إذن وجود البيان النبوي لا يمنع من الاختلاف، فإنه أمرٌ من سنن الخَلْق وطبائع الأشياء، وكلامه صريحٌ في المقايسة، فلِقائلٍ أن يقول: إذن (اختلافهم في التفسير لا يمنع أن يكونَ أصل هذا التفسير مأخوذًا عن النبي وجُمله منقولة عنه بالتواتر)، فالنقلي في التفسير إذن: أصله، وجمله، والباقي منه ما هو منقول مفرد، ومنه ما هو اجتهاد في المنقول أو مقيس عليه، ومنه ما هو اجتهاد في البيان العام -وسيأتي مزيد إيضاح لذلك في الكلام عن الرأي المحدَث في القرآن- صوابًا كان أم خطأً.

= بل إنّ بعض النصوص التي استدلّ بها الباحث، لا تدلّ على ما يقوله، بل ظاهرُها ضدُّ مقصوده، مثل النقل عن الشيخ: «وأيُّما أحسنُ: الاستدلالُ على معاني الكتاب بما رواه الثقات الأثباتُ ورثةُ الأنبياءِ وخلفاءُ الرسلِ عن رسولِ الله المبلِّغِ عن الله المبيِّن لما أَنزلَ الله عليه [أي: المرويات في السنّة]، وبما قاله الصحابة والتابعون وأئمةُ الهدى، وتأويلُ القرآن الذي هو تفسيره بهذه الطّرُق؟»[19]. حيث نرى هاهنا أن الشيخ يميِّز جيدًا بين التفسير الذي هو (مروي) عن النبي، وبين التفسير الذي (قاله) الصحابة والتابعون وأئمة الهدى.

وكيف لا يقول ابن تيمية باجتهاد الصحابة وهو من أعظم الداعين للاجتهاد عمومًا ولو للمتأخِّرين. كيف وهو يثبت اجتهاد الصحابة نصًّا: «ما اتفق عليه السابقون الأوّلون والذين اتبعوهم بإحسان، فعلينا أن نتبعهم فيه؛ سواءٌ قيل إنه كان منصوصًا في السنّة ولم يبلغنا ذلك، أو قيل إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنّة»[20].

ويقول في نصٍّ آخر: «وللصحابة فهمٌ في القرآن يخفَى على أكثر المتأخِّرين، كما أنّ لهم معرفةً بأمور من السنّة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخِّرين؛ فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل، وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخِّرين»[21]. وهذا نصٌّ كاشفٌ في أنّ من أقوال الصحابة وعلومِهم ما هو استدلالٌ واجتهادٌ (فَهْمٌ)، وليس نقلًا بالمعنى الخاصّ، وأنّ البيان النبوي لمعاني القرآن ولعموم الدِّين لا يعني النقل الفني الخاص دائمًا، وأنّ هذا البيان عامّ يشملُ معاينةَ الصحابة للرسول وأقوالَه وأفعالَه وأحوالَه، وأنّ استدلال الصحابة بذلك داخلٌ في معنى بيان النبي للدِّين أصولِه وفروعِه وعِلْمِيِّه وعَمَليِّه.

 ناهيك عن نقل ابن تيمية أمثلةً واضحة على اختلاف الصحابة في التفسير، ورجوعِهم فيها إلى الاستدلال بنصوص عامة وخاصّة[22]، وهذا واضحٌ أنه اجتهادٌ، لكنه راجع للبيان النبوي بالمعنى الجملي العام الذي تقدَّم ذكره. وبصفةٍ عامة: لا دين إلا وهو راجع إلى بيان الرسول، وأحظّ الناس بذلك لا شكّ أنهم الصحابة؛ لقربهم لهذا البيان وعِلمهم به أكثرَ مِن غيرهم.

ثانيًا: التناقض أم التركيب؟

كما تقدَّمَت الإشارة، فإنّ هناك فرقًا بين وقوع التناقض في كلام العلماء، والتناقض أمرٌ طُبع عليه البشر وهو جزءٌ مِن نقصِ جبلّتِهم، وبين التسرُّع في تقرير أقوال العلماء، وبخاصة ما يَظهر فيها لدى الباحثِ الضعفُ في بادئ الرأي، وبخاصّة في الأمور التي قد تُقارِب البدهيات، فإنّه ينبغي التأنِّي ساعتَها في هذه النسبة، وقد نقَلْنا كلامَ ابنِ تيمية نفسِه في ذلك عن نسبة الأقوال الضعيفة للعلماء الكبار في جميع الفنون، وأنّ هذا من الخطأ عليهم. إنّ استدراك الأمور الواضحة على العالم الكبير المحقِّق لا بد أن يرجع على صاحبه بالشّك، أو على الأقل بمزيدٍ من التأمّل. نعم قد يكون هذا الظاهرُ الضعيف أمرًا مُغرِيًا بالنقد، ولكن تمحيص النية وإرادة القيام بالقسط لا بد أن تقوِّم هذا الدافع.

وبعبارة أخرى: ينبغي مراعاة البدهيات في توجيه قول العالم الكبير. فابن تيمية لا يخفى عليه ولا على مَنْ هو أدنى منه علمًا وحفظًا قدرُ المرويات النبوية التفسيرية وأنها قليلة، ولا مَنْ هو في مثل منزلته وحفظه للآثار بما يعلمه من تعدّد الأقوال التفسيرية تنوّعًا وتضادًّا يقول إنّ مروياتِ الصحابة التفسيرية كلُّها نقلٌ عن النبي، ولا يُقال ساعتَها إنّ ذلك الاستبعادَ منَّا ليس إلا نتيجة أنّ القول بسيط والباحث يستبعد نسبته إلى العالِم كما ذكر الباحث[23]، ولكن هذا من تحقيق الحقّ والتحرِّي في فهمِه.

ومن ناحية أخرى، فإنه ينبغي لمن يتصدّى لتقرير رأي عالمٍ أو نظرية له: أن يجمع جميعَ كلامه، وأن ينظر في تفاصيله، كي يتصوَّر مرادَه ويفهمَ مراميَه وعاداتِه في التعبير والبيان، وكيف يطبّقُ هذا الذي يقوله، فكما يقول ابن تيمية: «ليس لأحد أن يحمل كلامَ أحد من الناس إلا على ما عُرف أنه أراده، لا على ما يحتمله ذلك اللفظ في كلام كلِّ أحد»[24].

إنّ ابن تيمية يقرّر وجوبَ جَمْعِ جميع كلام العالم وأن يُحمل المحملَ اللائق به، وألا يُتسرّعَ بحمل كلامه على التناقض المنطقي! فيقول في نصٍّ آخرَ مهمٍّ: «يجب أن يفسَّر كلامُ المتكلِّم بعضُه ببعض، ويؤخذَ كلامُه هاهنا وهاهنا، وتُعرفَ ما عادتُه يعنِيه ويريدُه بذلك اللّفظ إذا تكلّم به، وتُعرفَ المعاني التي عُرِف أنه أرادها في موضعٍ آخر، فإذا عُرِف عُرْفُه وعادتُه في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يُستعان به على معرفة مراده.

وأمّا إذا استُعمل لفظُه في معنى لم تجرِ عادتُه باستعماله فيه، وتُرك استعمالُه في المعنى الذي جرَت عادته باستعماله فيه، وحُمِل كلامُه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ بجَعْلِ كلامه متناقضًا، وتَرْكِ حَمْلِه على ما يُناسب سائرَ كلامه، كان ذلك تحريفًا لكلامه عن موضعه، وتبديلًا لمقاصده وكذبًا عليه»[25].

ويقول ابن تيمية أيضًا: «أخْذُ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسَّروا به كلامَهم، وما تقتضيه أصولُهم؛ يجرُّ إلى مذاهبَ قبيحةٍ»[26]. والكلام عن الفقهاء مناسب للسياق المنقول منه، وإلا فهذا أمر معقولٌ عامّ في الفقهِ والكلامِ والتفسيرِ وغيرِها من الفنون.

فالطريق الصحيح في تحرير آراء العلماء الكبار المؤسِّسين والمحقّقين والمشهودِ لهم بالدقّة والذّكاء والتحرير: التفطّن للعبارات، ثم مقاصدها، ثم سياقاتها، ثم منهج العالم في التعامل مع القضايا وَفق المنهج الذي قرَّره واستدلّ له ونافح عنه. فهذه الطريقة المركّبة هي التي يمكن معها الاطمئنان لنسبة تقرير علمي للعالم. نعم قد يكون طريقًا طويلًا أو شاقًّا، لكن الشأن في التحرير العلمي السديد.

وإذا توصَّل الباحثُ بعد ذلك لشيءٍ من التناقض، فقد يعود البحثُ مع العالِم في دقّة عبارةٍ ذكرَها أو تقريرٍ قالَه، أو لازمٍ غَفَل عن لزومه فضلًا عن التزامه، فهذا ساعتها أهون من الإصرارِ على تركيبه تقريرًا معينًا ووصمِ التقريرِ المتوهَّمِ حينَها بالتناقض.

ونحن نعلم علمًا ضروريًّا بالاستقراء والنظر الطويل أن العلماء قد يقع في تقريراتهم أحيانًا، ولسياقات مختلفة؛ نوعُ توسُّع في العبارة، أو مسامحة، أو مبالغة، أو رغبة في التوكيد، وبخاصة في السياقات السجالية (ألم يلاحظ الباحث أن عامّةَ نُقُولِه في المسألة كانت واردةً في سياقات سجالية كلِّها؟! -كما سيأتي).

وعلى النقيض من هذا المنهج، نلاحظ أن الباحث يصادِر على أيّ مخالفٍ محتَمَلٍ له، ويُشهر في وجهه سيفَ التناقض، فيقول مسبقًا بعد التقرير الذي فهمه حول البيان النبوي لمعاني القرآن، بالمعنى الشامل التفسيري الفني، وبمعنى كون تفسير الصحابة نقليًّا توقيفيًّا، وتركيب ذلك جميعه على تنظير ابن تيمية للبيان النبوي لمعاني القرآن: «ويظلّ ما يخالفه من نصوص جزئية قد تظهر في كلام شيخ الإسلام لا يمثّل تشغيبًا على ما قرّرنا، ولكن يمكن اعتباره -حال وجوده- من التعارض المنطقي في نصوص العلماء»[27]. فهل يقبل الباحث برميه بالتناقض من دون البحث في جميع كلامه وأوجهه وأنحائه المختلفة؟

ومن حقِّنا أن نُسائله: هل الأصح علميًّا أن يقول الباحث: الإيرادات عليَّ صحيحة ولكن مرجعها للتناقض لدى العالم- أم يقول: إنّ نظرية العالم لها تفاصيل توضحها ما يسمّى الإيرادات؟ خاصّة إذا كان فهمه لتقرير العالم ليس مسلَّمًا وقد تبيّن أنه يندرج في تأصيلٍ أكبرَ للعالِمِ لا يحتمل -ضرورةً- صحة فهمه [وهو: بيان النبيّ لجميع فروع الدين وأصوله]؟ ناهيك عن تطبيقات العالم التي سيأتي الإشارة إلى رؤوس أقلامٍ حولها.

ثالثًا: عدم الاعتناء بالتطبيق والشُّغل التيمي التفسيري ككاشفٍ عن منهجه:

كما قلنا في النقطة السابقة، فإنّ التطبيقات التفصيلية من أهم ما يُعين على معرفة منهج العالِم. فكم من باحثٍ بحثَ في الإجماع عند أحمد (المنفيّ أو المثبَت) ولم ينشغل ببحث الإجماعات التي يحتجّ بها أحمد في الأحكام، والتي يخالفها، ومثل ذلك قُل بالنسبة لمفهوم السنّة أو الإجماع أو المعلوم الضروري أو الخلاف غير السائغ عند الشافعي، وكلّها مفاهيم ونظريات جامعة حاسمة لدى هؤلاء الأئمة، فهل يكون المنهج الصحيح: الاكتفاء بعبارات هؤلاء الأئمة النظرية دون النظر في تطبيقاتهم العلمية، ويقال: هناك تناقض بين التنظير والتطبيق؟! أم أنّ الصواب أنّ تلك النظريات والمناهج لا يُمكن فهمها حقّ الفهم إلا بالنظر في شُغلهم العلمي الذي هو لسان الحال والتطبيق لتلك النظريات؟

رعَى انتباهي في البحث أنه لم يرجع إلا للعبارات التيمية حول البيان النبوي للقرآن، ولكنه لم يلتفت للشُّغل التيمي التفسيري أصلًا، فلم أَرَ رجوعًا لتفسير آياتٍ أَشكلَت، ولا تفسير السور التي فسّرها الشيخ، أو الآيات التي أفردها بالتفسير! بل يبتدر الباحثُ مَن سيبحث بعده ليقول له: ما ستجده مما يخالف هذا الذي فهمتُه من التنظير ليس إلا تعارضًا منطقيًّا لدى العلماء[28]. وهَبْنا نسلِّم ذلك، إلا أن هذا التعارض المدَّعى لا يكون إلا في التطبيق القليل الذي قد يشُذّ صاحبُه ويغفُل عن أصله وبنائه، وأمّا التطبيق الكثير المنتشر المتعدّد، فلا يكون إلا إيضاحًا وكشفًا للمنهج، لا مُناقضًا له؛ إِذْ لا يغفُل عن منهجه ويشُذّ عنه في الكثير المتعدّد إلا المغفّلُ أو ضعيفُ العلم والتحقيق من عوامّ المنتسبين للعلم. فلو قُدِّر أنّ ابن تيمية يقول قولًا ضعيفًا متهافتًا لكان حريًّا بمن هو في ذكائه أن يراعيَه كثيرًا ويلتزمه، لا أن يمارس ما يُتوَهَّم أنه مضادٌّ له كثيرًا.

فالشيخ يقرّر أنّ الصحابة يجتهدون في التفسير، كما سبق، والشيخ يمارس التفسير باستعمال آلات الكتاب والسنّة، وباستعمال اللغة، وباستخراج اللطائف والفوائد الدقيقة، التي هي إحداثٌ وتكثيرٌ وتَثويرٌ للتفسير (ولا يخالف تفسيرَ السَّلَف، وسيأتي مزيد تحرير لذلك في الكلام عن عدم تجويز الشيخ الإحداثَ في التفسير، ومعناه)، فكيف يكون الشيخ قائلًا بتنظير يستلزم منْعَ جميع ذلك، ثم يقعُ في التناقض في تصحيح جميع ذلك بل وممارسته كثيرًا! ولا يكون في غاية الغفلة وضعف التحقيق؟

كتبَ ابن تيمية في التفسير كُتبًا مفردة؛ كتفسير آياتٍ أشكلَت، وكتبَ تفاسير على آيات مفردة كآية الحسنات والسيئات، وكتبَ على بعض السور كالإخلاص والمعوذتين، وعلى آياتٍ وقطعٍ كثيرة من القرآن جمعَها بعضُ المتقدِّمين والمعاصرين في صورة تفسير. وهذا التفسير مشحون بألوان التحقيق والبحث والاجتهاد والترجيح، وليس الوقوف عند آحاد أفراد المنقول عن السَّلَف، وإن كان عامته في الانتصار لجملته وترجيحه على تفسير المتأخِّرين المخالف له. وقد أورد الناقلون لترجمة الشيخ ما كان يجري في مجلسه الحافل في التفسير، وما يُمليه فيه من الفوائد واللطائف، وما تُملأ به الكراريس من ذلك، فهل هذا مجرّد النقل لتفسير الصحابة وعدم جواز إحداث غيره ولو كان غير معارِض له؟ وماذا عن الواقع الحسِّي المادي الذي نجده في تفسير ابن تيمية مما ليس منقولًا قطعًا بحروفه وألفاظه بل وتراكيبه عن السَّلَف؟ من تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنّة، وباللغة، وبالمعقول؟

كيف بما ورد من حكاية ابن عبد الهادي عنه أنه يقول: «ربما طالعتُ على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسألُ الله الفهمَ وأقول: يا معلِّمَ آدمَ وإبراهيمَ علِّمْني، وكنتُ أذهبُ إلى المساجد المهجورة ونحوِها وأمرِّغُ وجهي في التراب، وأسألُ اللهَ تعالى وأقول: يا معلِّمَ إبراهيمَ فهِّمْني»[29].

وكيف بما نقل ابن القيم عن ابن تيمية: «قلتُ يومًا لشيخنا أبي العباس بن تيمية -قدّس الله روحه-: قال ابن جني: مكثتُ برهةً إذا ورد عليَّ لفظ؛ آخذُ معناه من نفسِ حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه، ثم أكشفه؛ فإذا هو كما ظننته أو قريبًا منه.

فقال لي -رحمه الله-: وهذا كثيرًا ما يقع لي. وتأمل حرف (لا) كيف تجدها لامًا بعدها ألفًا، يمتد بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس، فآذنَ امتدادُ لفظها بامتداد معناها، ولن يعكس ذلك، فتأمله فإنه معنًى بديع.

وانظر كيف جاء في أفصح الكلام؛ كلام الله: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا﴾، بحرف (لا) في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط (بالفعل)، فصار من صيغ العموم، فانسحب على جميع الأزمنة.

وهو قوله -عز وجل-: ﴿إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾، كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات، أو زمن من الأزمان، وقيل لهم: تمنوا الموت = فلا يتمنونه أبدًا. وحرف الشرط دلّ على هذا المعنى، وحرف (لا) في الجواب بإزاء صيغة العموم لاتساع معنى النفي فيها. وقال في سورة البقرة: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾، فقصَّر من سعة النفي وقرَّب؛ لأن قبله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ﴾؛ لأنّ (إن) و(كان) هنا ليست من صيغ العموم؛ لأنّ (كان) ليست بداخلة على (حَدَثٍ) -يعني فعل-، وإنما هي داخلة على (المبتدأ والخبر)، عبارة عن مضيّ الزمان الذي كان فيه ذلك الحدَث، فكأنه يقول -عز وجل-: إن كان قد وجبَت لكم الدار الآخرة، وثبتَت لكم في علم الله = فتمنوا الموت الآن. ثم قال في الجواب: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ﴾. فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعًا»[30]. فانظر هذا التفسير اللطيف العميق، هل يقال إنّ مِثْلَه مجردُ تعارضٍ منطقيّ في كلام العلماء، أم أنه نظرٌ علمي منهجي اجتهادي مُثْرٍ للتفسير وداعمٌ له، وأنه من التفسير بالرأي المحمود، كما سيأتي. ولولا أن يخرج الكلام عن سياقه وينتشر لضربتُ أمثلةً أخرى، فلطائف ابن تيمية في التفسير كثيرةٌ جدًّا وكلّها لا يعارض وقوع البيان النبوي إذا فهمناه على ما يقتضيه كلامه كما تقدَّم.

 فجميعُ ما ذكرناه، وغيرُه؛ يدلّ أنّ تنظير الشيخ لا يمنع من التفسير ولا يغلق إمكاناته. وسيأتي مزيدُ تتميمٍ وإيضاح لذلك حين الكلام عن إحداث القول بعد السَّلَف، وسأشير إلى ما نقلتُه هنا ولن أعيدَ نقْلَه هربًا من التطويل، فليكن القارئ على ذُكْر من هذا.

رابعًا: تناقضات أم موضِّحات:

بالنظر إلى ما سبق في (ثانيًا) عن إشكالية المسارعة إلى القول بالتعارض، وفي (ثالثًا) من عدم الاعتناء بالشغل التيمي في التفسير، فإنّ عامّة ما قال عنه الباحث إنه: تناقض التأصيل التيمي[31] من نقاط: ألم يكن الأصح وَفق ما ذكرناه أن يعتبره من مُعينات تحديد النظرية التيمية وتركيبها، وأن يفهمها في ضوء جميع التقريرات بشكلٍ أعمّ وأشمل، ثم يحكم بعد ذلك بوجود تناقضات داخلية فيها من عدمه؟ أم يسارع بتقرير فهمٍ ظاهري -لا تساعد عليه النصوص النظرية التيمية الأخرى فضلًا عن طبائع الأشياء-، ثم يرمي جميعَ التصرّفات التيمية التفسيرية الأخرى عن قوس واحدة بالتناقض؟! وسأتعرض لبعض هذه النقاط ودلالتها، دون جميعها، هربًا من الإطالة.

= فعلى سبيل المثال اعتقدَ الباحث أنّ ابن تيمية قد أحدث قولًا ثالثًا في تفسير آية: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾، وأنّ الوارد عن السلف: إمّا أن الله كتبها عليهم ابتغاءَ مرضاته، أو أنهم ابتدعوها ابتغاءَ مرضاة الله، فجاء الشيخ وقال إنّ الاستثناء في الآية منقطع، وإنّ الله ما كتبها عليهم، ولا يُرضِيه إلا ما أمَر به أو نهَى عنه، فجعل الله ما كتبها عليهم وليس فيها مرضاة الله[32]، فقال الباحث: «ونلاحظ هاهنا أن ابن تيمية بتّ بالمراد بدون محاولة إيجاد صِلَة لما أتى به من قالةٍ في كلام السلف، وبغضِّ النظر عن مخالفته لعدم الخروج على قالة السلف، وأن قالته هادمة كذلك لقالتهم، إلا أنّ ما يعنينا هاهنا هو دلالة فعله على إشكال الفكرة التي انطلق منها ذاتها»[33].

والحقّ أن الباحث حرَصَ على رمي ابن تيمية بالتناقض دون التفقّه في الكلام وصرف التحقيق إليه، فأولًا: على فرض التسليم بأنّ كلام ابن تيمية مخالفٌ للقولَين الواردَيْن عن السَّلَف في تفسير الآية الكريمة، فإن هذا ليس محقَّقًا أنه إجماع السلف بحيث يقطع القائل أنه لا يجوز إحداثُ قول آخر، وهذا وَفق التأصيل التيمي في الإجماع، الذي لم يتعرّض له الباحث البتة وكان يمكن أن يساعده كثيرًا في فهم تنظير الشيخ -وسيأتي الكلام عن ذلك في النقطة المنهجية الآتية عن الاعتناء بالتقريرات الأصولية للشيخ-، فهذه مجرّد أقوال قليلة واردة في التفسير بعضها عن الصحابة وعامتها عن التابعين، بمنزلة القول والقولين في خلاف الصحابة، ليس بمقطوع أنه إجماع، بل قصاره (عدم علم بالمخالف)، وهذا يجوز مقابلته بقول يزنه في القوّة لدى المجتهد، ومن ثَمّ فيقدر ابن تيمية -والمجتهد عمومًا- أن يستدلَّ بالقرآن والسنّة وأصولِ الشريعة ويُخرِجَ قولًا يقاومُ هذا الظنّ الإجماعي، يكون له ندًّا. وثانيًا: أنه ليس إحداثَ قول يبطلُ قولَهما أصلًا، فإنّ كون الله كتبها لابتغاء مرضاته، وأنهم ابتدعوها لإرضائه، هما قولان متنافيان، فإذا ركّب قائلٌ قولًا أنهم ابتدعوها وما كتبها عليهم، ولكن الله كتب ما فيه رضاه -بكون الاستثناء منقطعًا-؛ لم يُبطِل القولين، بل ركّب قولًا لا يعارضهما جميعًا، يوافق قولَ من قال: كتبَ الله عليهم القتال وهو ما كان يُرضيه ولكنهم ابتدعوا الرهبانية، ويوافق قول من يقول: إنهم ابتدعوها لإرضائه ولكن ما كان يُرضيه في نفس الأمر خلافُ ذلك، فهذا كان حُسبانهم فحَسْب، فإنّ من قال: ابتدعوها ابتغاءَ مرضاته فمقصوده أن هذا غرضهم لا أنها ترضيه في نفس الأمر، ومن قال: كتبها فقد كتب الله ما يُرضيه، فهذا موافق لتأصيله أنه لا يُرضيه إلا ما أمَر به، فهذا علّة ذلك القول، ومَن تأمل كلام ابن تيمية يفهم أن قوله: ابتدعوها، ...ابتغاء رضوان الله، هذا حكاية حالهم، وقول ابن تيمية إنه لم يرضه في نفس الأمر هو بحث في حقيقة الحال، فالجهة منفكّة، فهذا كقوله: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، لو قال قائل: (لم يريدوا الفتنة)، وقال الآخر: (وكانت فتنة)، فهل عارض الثاني الأول؟!

فحاصل الأمر إنّ قول ابن تيمية ليس إلا صَقْلًا للقول الأول أنّ الله ما كتبها عليهم، فكلّ من يقول إنّ الله لم يكتبها عليهم فإنّه يقول إنها لا ترضيه في نفس الأمر، فالاستثناء منقطع في نفس الأمر، وهذا لا ينافيه أنه حقيقي بالنسبة لظنّ الفاعل.

وهذا يجلّي ما نقوله من أنّ تنظير ابن تيمية للبيان النبوي للقرآن، وأن تفسير الصحابة معبّر عنه في الجملة، ولو في اجتهادهم وخلافهم؛ لا يعارض الإحداث الذي لا يبطل تفسيرَهم، ولا يمنع إثراء التفسير وتحقيقه، وكونه مَشغلًا علميًّا ستصبح له آلاته وأدواته.

= كذلك أثار الباحثُ ضمن ما اعتبره تناقضات التنظير التيمي حول البيان النبوي للتفسير: قضية عدم كفاية اللغة في التفسير، ووجوب معرفة لغة النبي (القرشية) وأصحابه، وأنّ ذلك «يجعل هذا البيان بمثابة إطار لغوي له نسقه ودلالاته الخاصّة التي تحتاج لاستكشاف ومعرفة من أجل إقامة الفهم الصائب»[34].

والحقّ أن هذا ليس مناقضًا لمسألة البيان النبوي، بل هو توكيد على أهمية البيان النبوي، من جهتَيْ أن التفسير لا يمكن أن يكتفي بمجرّد المعرفة العربية؛ لأنّ كثيرًا من التفسير سياقي لا يكفي فيه مجرّد معرفة اللغة، ومن جهة أنّ اللغة من حيث هي هي تتغير دلالتها في كثير من الموارد، وأنّ اللسان الذي كلّم به النبيُّ أصحابَه وكان أكثرُ أصحابه يفهمونه؛ هو اللسان القرشي، وقد أشار ابن تيمية إلى دلالة الكلمات القرآنية الغريبة مثل: (ضِيزَى، ودِهَاقًا)، واستفسار الصحابة عنها إلى أنه يُفهم من ذلك أن عامة القرآن القرشي كان مفهومًا بهذا اللسان. ومسألة معرفة لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ترجع إلى مسألة أهمية معرفة اللغة الأم وعاداتها ومواضعاتها، وهذا من حيث العموم من المسلّمات المستقرّة في فقه اللغة واللسانيات، في فرع الدلالة، حيث إنّ اللغات يعتريها التغيّر الدلالي على مستويات كثيرة صاعدة وهابطة وبينية؛ ولذلك عرَفَت العربيةُ المحدَثَ والدخيل والمولَّد والمعرَّب فضلًا عن الاصطلاحي. وتفطُّن ابن تيمية لهذه المسألة، وما يترتّب عليها من محورية البيان النبوي وتفسير الصحابة في بناء علم التفسير: هي من معاظم إشاراته العلمية وتحريراته، وأنّ مجرّدَ التحرير اللغوي للقرآن بناءً على المعجمات ولسان المولَّدين قد يوقعُ الباحثَ والمفسِّرَ في أخطاء كثيرة.

ومن جهةٍ أخرى: لم يُظهر الباحثُ وجهَ التعارض بين كون القالات تفسيرية سياقية وكونها دالة لغوية! كيف هذا مع التقرير أنّ الدلالات اللغوية للسان النبوي تُعرف من خلال الصحابة؛ إِذْ هم الناقلون الفاهمون إياها؟ فبعض التفسير لغوي وبعضه سياقي، فأين التعارض مع انفكاك الجهة، فليس البحث في قولٍ تفسيريٍّ معيَّن واحد أنه لغوي وسياقي في آن، ولكن في جملة الأقوال، أن بعضَها لساني، وبعضَها سياقي.

= وكذلك مسألة الإسرائيليات ورجوع كثيرٍ من السَّلَف إليها في التفسير، وتقرير ابن تيمية لذلك، فقد حملها الباحث على التناقض التيمي في التنظير أيضًا؛ لأنّ ذلك يناقض القول بالتوقيف على البيان النبوي الذي ينقله الصحابة[35].

وهذا مبنيّ على اعتقاده أنّ قول ابن تيمية يعني أن الصحابي المفسِّر لا يقول في التفسير إلا منقولًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تقدَّم أنّ ذلك ليس بدقيق، وأن البيان النبوي للقرآن لا يقتصر على المعنى المدرسي الفني للتفسير، وأنّ ذلك البيان على أنحاء شتى، قصدية خاصّة وبيانية عامّة، وأنّ ذلك البيان أيضًا قد يخفى، وقد لا يبلغ بعضَهم، وقد يبلغهم ويتعدّد فهمهم له للأسباب الكثيرة مِن تفاوت المستوى العلمي، ومِن شوب الميل العلمي... إلخ.

ومن جهةٍ أخرى: أليس رجوع الصحابة إلى الإسرائيليات نوعًا من الامتثال للتوجيه النبوي: (حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرَج)، وكذلك لتحديث النبي نفسه بقصص الأنبياء -وغير الأنبياء- السابقين وبخاصّة بني إسرائيل، وإلّا فإنّ ذلك الحديث المذكور إلى مَنْ وُجِّه، وما سببه، ألَا يكون ذلك في نفسه نوعًا من الأدوات التفسيرية التي أَذِنَ فيها النبيُّ لأصحابه؟ وإذا نظرنا لهذا وجدناه أقوى في تأييد النظرية التيمية لا العكس، فيكون استعمال الإسرائيليات فيما لا يخالف الوارد في شرعنا نوعًا من البيان النبوي للقرآن وإرشاد الصحابة إليه، ولولا إِذْنُ النبيّ في ذلك ما استعملوه، ويدلّ أيضًا أن البيان النبوي للقرآن أعمّ من مجرّد الإيقاف الفردي على معاني ألفاظ القرآن جمعاء، ومن ثَمَّ فلا يتحرّج ابن تيمية من ردّ بعض الإسرائيليات التي نقلها السَّلَف في التفسير [كحلِّ السراويل]؛ لأنها لا تخالف نظريته في البيان النبوي أصلًا، ولأنها وإن كان مأذونًا فيها عمومًا فإنّ آحاد استعمالها ومدى موافقتها للوحي المحمدي من عدمه قد يتطرّق إليه اجتهادُ الصحابة، وقد تقدّم معنا أن الشيخ لا يمنع من اجتهاد الصحابة في التأويل، ولا يجده معارضًا لوجود بيان نبوي لمعاني القرآن.

خامسًا: عدم الاعتناء بالتقريرات الأصولية للشيخ:

يلاحَظ على تقريرات الباحث عدم الاعتناء بالتقريرات الأصولية لابن تيمية، والاستعانة بها على فهم مراميه، رغم أنها وثيقة الصِّلَة بفهم كلامه عمومًا وحول التفسير خصوصًا.

والأكثر من ذلك، فإنّ الباحث لم يكتفِ بعدم الاعتناء بالتقريرات الأصولية لابن تيمية فحَسْب، بل عَدَّ ذلك أمرًا سلبيًّا في منهج ابن تيمية، وأنّ من آثار نظريته في البيان النبوي لمعاني القرآن: «التأصيل لقضايا التفسير من خلال المنظور الأصولي»[36]، ونظّر لذلك قائلًا: «كي نحسن النظر في بعض القضايا والمسائل التي يتوارد على بحثها ونقاشها عدّة مجالات معرفية ونتمكّن في فهمها في أحد تلك المجالات على نحو خاصّ، فإنه لا بد من استحضار خصوصية هذا المجال المعرفي وأثره في بحث المسألة وطريقة النظر إليها، وألّا نخلط بين طرائق النَّظَر لمجال آخر ونحكِّمه فيها عند البحث فيختلّ بذلك النظر للمسائل ويفسد في المجال الذي نناقشها فيه؛ لأنّنا متى تجاهلنا حيثية المجال وأنساقه الخاصّة في النظر لقضاياه فإنّنا بذلك لن نتمكّن من التصوّر الصحيح لطبيعة المسألة في هذا المجال، وبالتالي بناء التأصيل المناسب لها، بل سنخرج بأحكام ومقرّرات غاية في الخطأ؛ كوننا ننظر المسألة من خلال منظار يتعلّق بمجال آخر»[37]، ما يراه الباحث ضرورة مراعاة خصوصية المجالات المعرفية.

والحقّ أنّ على كلام الباحث ملاحظاتٍ أساسية، من جهة نفس الأمر، ومن جهة المباني المنهجية لابن تيمية. فمن حيث المنهج في نفسه فإنّ مراعاة خصوصيات العلوم لا تنفي أنّ العلم في نفسه بحرٌ مستطرق، فتقريرات مثل الإجماع وإحداث قول وأنواع الاجتهاد قد يقول القائل إنها من حيث الأصل مباحث أصولية! فكيف إذا ذكرها العالم في بحث التفسير لا يسترعي انتباهَ الباحث أن ينظر فيها لدى العالم أصوليًّا كي يفهم مراميه؟! ثم إن التحقيق أنّ هذه مباحث علمية عامة، فإنّ علم أصول الفقه إذا نظرنا إليه نظرة منهجية تجاوزنا مجرّد كونه العلمَ بدلائل الفقه إجمالًا، كما يغلب على النظر الفنّي المجالي، بل هو علم التفكير الإسلامي والهرمنيوطيقا الإسلامية في التعامل مع النصّ، وهذا النصّ هو في نهاية الأمر قرآن وسنّة، سواءٌ أكان المستفاد منها أحكامًا شرعية عملية كما في الفقه، أو تفسيرًا عامًّا كما في التفسير، فمباحث مثل دلالات الألفاظ والإجماع ونحوها هي مباحث مشتركة بين الأصول والتفسير؛ ولذا يذكرها من يتكلّم عن العلوم التي يحتاجها المفسّر، ولذا يبحث الأصوليون مباحث الكتاب والسنّة والاستفادة منهما في مباحث أدلة الأحكام في أصول الفقه.

أمّا من ناحية المباني المنهجية لابن تيمية؛ فإنّه ينبغي أن يُعلم أن ابن تيمية عالم كُلِّي، يقدّم أيديولوجية كاملة ومنظومة تفسيرية شاملة للإسلام، فإذا تكلّم ابن تيمية في الفقه أو التفسير أو الأصول أو الكلام فليس هو الفقيه أو المفسِّر أو الأصولي أو المتكلِّم الضيق، الذي يمارس تلك العلوم بصورة فنية محدودة مجالية، كما يقع لكثير من العلماء في هذه المجالات، ولكن بصورة تجمع بين العمق والشمول؛ ولهذا تكلّم كثير من المترجِمين لابن تيمية عن سعة موارده في العلوم واستعماله ما شاء منها جميعها في أبحاثه العلمية. أمّا الباحث فلم ينتبه لذلك بل عدّه من عيوب بحث الشيخ، وحقيقة الأمر على العكس من ذلك؛ فلا يمتاز المحقِّقون من العلماء على غيرهم من عوام أهل العلم إلا بهذه الملاحظة المنهجية الشاملة وتعدّد الموارد العلمية وتنوّعها، وإدراكهم العلاقات بين المجالات العلمية، وعدم التعامل معها كجُزُرٍ منفصلة، فيقرّر في الأصول أنّ الإجماع حجة، ثم يقرّر في التفسير خلاف ذلك، فهذا هو التناقض في حقيقة الأمر، والذي قد يشغل العالمَ عنه اختلافُ العلوم. ولذلك فكثيرًا ما ينتقد المحقّقون من العلماء اختلافَ تقرير بعض العلماء في الأصول عنه في الكلام، أو في الفقه عنه في السلوك، وساعتها ينبغي أن يدفع ذلك العالمُ عن نفسه التعارض، إمّا بإبداء الفارق، أو بإثبات عدم التناقض، لا أن يقول: هذا أصول فقه، وهذا تفسير، أو هذا فقه، وهذا كلام، ولكلّ مجال خصوصيته، فهذا دفعٌ مشكل في نفسه كما بينَّا، ثم هو دفعٌ عامّ بالنسبة للإشكال التفصيلي، والجواب العام في موارد النزاع التفصيلية مخاتلة. كيف والشيخ يقول في نصّ نفيس: «ولهذا جوَّز من جوَّز منهم أن تُتَأوَّل الآية بخلاف تأويل السلف، وقالوا: إذا اختلف الناس في تأويل الآية على قولين جاز لمن بعدهم إحداثُ قول ثالث؛ بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين، وهذا خطأٌ؛ فإنهم إذا أجمعوا على أن المراد بالآية إمّا هذا وإمّا هذا؛ كان القول بأن المراد غير هذين القولين خلافًا لإجماعهم، ولكن هذه طريق من يقصد الدفع لا يقصد معرفة المراد، وإلا فكيف يجوز أن تضلّ الأمة عن فهم القرآن ويفهمون منه كلُّهم غيرَ المراد، ويأتي متأخرون يفهمون المراد، فهذا؛ هذا»[38]، وقد نقله الباحث. فقوله: (فهذا هذا): يعني الحاصل في علم الأصول، هو الحاصل في علم التفسير؛ لأن المدرَك واحد، فيما يتعلق بمسألة مخالفة الإجماع المركّب، أو إحداث قول ثالث.

وبناءً على ذلك فإنّ فهم نظرية ابن تيمية حول البيان النبوي لجميع معاني القرآن، وما زعم الباحث أنه آثار سلبية ترتّبت عليه، لا يتمُّ إلا بفهم مباني الشيخ الأصولية في المسائل التي بنى عليها هذا المنهج، وهي بشكلٍ أساس مسألتا: (الإجماع)، و(إحداث قولٍ ثالثٍ في مسألة فيها عن السلف قولان).

= إنّ مسألة (إحداث قولٍ ثالث) في مسألة فيها قولان، مبنية على الإجماع، لأن هذه الصورة هي في حقيقتها إجماع عكسي؛ ولذلك يسميها بعض الأصوليين (الإجماع المركّب)، فكما أن الإجماع لازم في الوفاق، فإنه يكون لازمًا في الخلاف، فإذا اختلف السَّلَف على قولين لم يَجُز إحداث قول ثالث عند عامة العلماء إلا خلافًا شاذًّا، وهذا هو المروي عن الأئمة الأربعة وغيرهم.

ويقرّر الباحثُ صراحة أنّ ابن تيمية يمنع من الإحداث مطلقًا[39]، وهذا ليس بدقيق. فقد نقل الباحث عن: المسودة في أصول الفقه: «مسألة: إذا تأوّل أهل الإجماع الآية بتأويل ونصّوا على فساد ما عَداه لم يَجُز إحداثُ تأويلٍ سواه، وإن لم ينصّوا على ذلك، فقال بعضهم: يجوز إحداث تأويل ثانٍ إذا لم يكن فيه إبطال الأول، وقال بعضهم: لا يجوز ذلك كما لا يجوز إحداث مذهب ثالث، وهذا هو الذي عليه الجمهور، ولا يحتمل مذهبنا غيره»[40].

وأقول: إنّ المسوّدة ترجع إلى آل تيمية -كما أشار الباحث في الحاشية- والاستدلال بما جاء فيها لا يمكن نسبته لابن تيمية ما لم يقترن بـ(قال شيخنا) وهو ما قد حدث بالفعل منافيًا لما زعمه الباحث تعضيدًا لما نسبه إلى الشيخ؛ فقد جاء بعده بقليل: «[قال شيخنا]: وهذا التفصيل قول عبد الوهاب المالكي وقد ذكر القاضي في خلافه في ضمن مسألة قراءة الجنب بعض آية أنّ الصحابة لما اختلفت في هذه المسألة على قولَين المنع مطلقًا والجواز مطلقًا؛ منعنا في آية موافقةً لمن منع منهم وجوَّزنا في بعض آية موافقة لمن جوّز، ولم نخرج عن أقاويلهم»[41].

فالشيخ ينصّ على الميل إلى إمكان تركيب قولٍ ثالث لا يستلزم إبطال القولَيْن. وقد نصّ الشيخ على ذلك صريحًا في قوله: «الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولَين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول يناقض القولين ويتضمّن إجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب»[42]، سواءٌ جُعل هذا وصفًا كاشفًا أو مؤسِّسًا، فالحاصل أن القول الثالث الممنوع لدى الشيخ هو الذي يقضي ببطلان القولين. وهذا قد أشرنا إليه إشارةً أيضًا في الكلام عن تفسير الشيخ لآية الرهبانية، وأنه لا يستلزم إحداث قول ثالث، ولو استلزمه فإنه ليس قولًا يستلزم إبطال القولين، بل هو في معنى شرحهما!

وذلك يبيّن لك أنّ التزامَ الشيخ عدمَ إحداث أقوال تفسيرية مخالفة للسلف، ليس قولًا ساذجًا بسيطًا، يَئِدُ التفسير ويمنع مجاله العلمي من التطور والنمو، والاجتهاد والتفقه، ومزيد التثوير والإثراء، بل إنّ مناطه إحداثُ الأقوال التي تبطل الأقوال الواردة عن السَّلَف، أمّا مزيد الإثراء لها، أو ما لا يتعرّض لها بالإبطال وكانت الأدلةُ دالةً عليها فهذا من التفسير بالرأي المحمود، الواقع من الصحابة فمَن بعدهم كما سيأتي.

وهذا جميعه على فرض أنّ مجموع الأقوال الواردة عن السَّلَف تمثِّل إجماعًا، فساعتها يأتي البحث في أنّ القول الثالث سيكون (إحداثًا)، وهذا لا يتم تصوّره إلا ببحث معنى الإجماع عند الشيخ، فإنه بفهمه ستتضح بعض السيولة النسبية في مسألة إحداث قول ثالث.

= إنّ النصّ التيمي الأساس لصياغة نظريته في الإجماع هو قوله: «الإجماع نوعان: قطعيٌّ، فهذا لا سبيل إلى أن يُعلَمَ إجماعٌ قطعيٌّ على خلافِ النصّ. وأمّا الظنّي فهو الإجماعُ الإقراري والاستقرائي: بأن يَستقرِئَ أقوالَ العلماء فلا يجد في ذلك خلافًا أو يشتهر القول في القرآن ولا يَعلمُ أحدًا أنكره فهذا الإجماع وإن جاز الاحتجاج به فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به لأنّ هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها؛ فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي. وأمّا إذا كان يظنّ عدمه [أي عدم المخالف] ولا يقطع به فهو حُجّة ظنية والظني لا يدفع به النصّ المعلوم، لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظنّ ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظَنُّه لدلالة النصّ أقوى من ظنّه بثبوت الإجماع = قَدَّم دلالة النصّ، ومتى كان ظنّه للإجماع أقوى قدَّم هذا [يعني الإجماع المظنون]»[43].

يفهم من هذا النصّ أن الإجماع لدى ابن تيمية نوعان: (قطعي) كالإجماع على الضروريات (وهذا هو الإجماع لدى الشافعي)، والنوع الثاني (وهو عامة الإجماع إذن) هو ظني (ولهذا أهميته البالغة كما سيأتي). وهذا الإجماع الظني كلّه (سكوتي)، فابن تيمية لا يقول بصورة الإجماع الأصولي (التصريحي)، وعامة الإجماع عنده هو ما يسمى عند الأصوليين (السكوتي)، وهو ما يسميه (إقراري)، ثم النوع الثاني من الظنّي هو (الاستقرائي)، الذي هو (عدم العلم بالمخالف). وهذا النوع من الإجماع (على غير الضروري) كلّه ظنّي، وهو يسوغ الاحتجاج به، لكنه ليس قاطعًا لإمكانية النزاع.

 فيمكن للمجتهد إذن -فقهًا وتفسيرًا- إذا قام لديه الظنّ أن عدم العلم بالمخالف لا يرقى إلى مرتبة القطع، أن يقول بما يخالف ذلك الإجماع الظنّي المتوهَّم (الذي هو عدم علم بالمخالف)، ويستدلّ عليه بالأدلّة القوية التي تعادله عنده. وقد أشرتُ إلى ذلك في الكلام عن الوجه الأول في تفسير ابن تيمية لآية الرهبانية، وأنه ليس ثَمّ إجماع محقّق أصلًا، حتى يقال بصورة تلقائية رياضية: رُوي قولان عن السّلَف، وابن تيمية أحدث قولًا ثالثًا ومن ثَمَّ فقد خالف تأصيله. فإنّ تأصيل ابن تيمية حول المنع من إحداث قول ثالث: متَّجه على ما إذا كان الإجماع قطعيًّا (كما في حالة تحقيق ابن تيمية أنّ الصحابة مجمعون قطعًا على عدم تأويل الصفات كما سيأتي)، أمّا إذا كان الوارد روايتين وثلاثة فلا يُقال هذا إجماع لا يجوز مخالفته أصلًا، فقصاراه عدم علم بالمخالف وهو مظنون. وابن تيمية قد فعَّل هذه المباني في مسائل أعظم من مجرّد تفسير كلمة أو كلمات يسيرة من القرآن، في مسائل الطلاق والزيارة وفناء النار.

ومن هنا: فإنّ القول التيمي بالبيان النبوي لمعاني القرآن، كما أنه لا يمنع من الاجتهاد في التفسير سواءٌ من الصحابة كما تقدَّم، أو غيرهم؛ فإنه لا يمنع من الاجتهاد بالرأي المحمود الذي يرجع لأدلة الكتاب والسنّة (كما أوردنا أمثلةً منه من الشغل التيمي التفسيري، والذي هو في حقيقته إحداث قولٍ كما سيأتي)، ومن ثَمَّ فليس هو عائقًا من الشغل التفسيري، وإثراء مجال التفسير بكلّ علمٍ نافع قديم أو جديدٍ. فإنّ عامة التفسير المأثور عن السَّلَف هو روايات فردية قليلة، لا يمكن القطع في كثيرٍ منها أو أكثرها أنها إجماع مقطوع به، نعم قد يكون بعضها إجماعًا ظنيًّا قويًّا لا تنهض دلالة ظنية أخرى لمقاومته، ولكن الشأن هنا في بيان عدم المنع الجذري من إحداث قول ثالث في مثل هذه التفاسير، وبخاصّة إذا كان هذا القولُ لا يعارضها.

= ومن المسائل التي يناسب إيرادها هنا مسألة (التفسير بالرأي)، حيث يرى الباحث أن من تأديات نظرية ابن تيمية في البيان النبوي لمعاني القرآن: المنعُ من التفسير بالرأي (وسيأتي الكلام على بعض هذه الآثار لدى الباحث)، واستدلّ بكلام للإمام الشاطبي أن إطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي في التفسير لا يصح[44]، وهو كلامٌ حسن.

ولكن هل كلام ابن تيمية يمنع من التفسير بالرأي؟ وهل نظرية ابن تيمية في البيان النبوي تستلزم منعَ التفسير بالرأي الصحيح؟

أقول: إنّ تأسيس ابن تيمية للبيان النبوي لا يمنع التفسير بالرأي؛ لأنه قد أثبت أن الصحابة يفسِّرون بالاجتهاد والاستدلال، وهذا هو التفسير بالرأي المحمود، وقد نقلنا عباراته في ذلك. وقد نقل ابن تيمية نفسُه بعضَ خلافات الصحابة في تفسير القرآن، وبيَّن حالاتها، من عدم بلوغ العلم، أو عدم تبيّن الدلالة لهم، أو مطلق الخطأ، فيقول مثلًا: «كما يكون في المسألة نصٌّ خاصّ وقد استدل فيها بعضهم بعمومٍ؛ كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، وقال ابن مسعود: سورة النساء القُصرَى نزلت بعد الطُّولَى، أي: بعد البقرة، وقوله: ﴿أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ يقتضي انحصار الأجل في ذلك، فلو أوجب عليها أن تعتدّ بأبعد الأجلَين لم يكن أجلُها أن تضع حملها، وعليّ وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين، وجاء النصّ الخاصّ في قصة سُبَيْعَة الأسْلَمِيَّة بما يوافق قول ابن مسعود... ودلالات النصوص قد تكون خفية، فخصّ اللهُ بفهمهن بعض الناس، كما قال عليٌّ: إلّا فَهْمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه. وقد يكون النص بَيِّنًا ويذهل المجتهد عنه، كتَيمُّم الجنُب فإنه بَيِّنٌ في القرآن في آيتين، ولمّا احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال: الحاضر: ما دَرى عبد الله ما يقول إلا أنه قال: لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدُهم إذا وَجَد المرءُ البردَ أن يتيمَّم. وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر: إنّ المطلقة في القرآن هي الرجعية، بدليل قوله: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، وأيّ أمر يحدثه بعد الثلاثة؟ وقد احتجّ طائفة على وجوب العمرة بقوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، واحتج بهذه الآية مَن منع الفسخ، وآخرون يقولون: إنما أُمِرَ بالإتمام... وتنازعوا في الذي بيده عقدةُ النكاح، وفي قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه»[45].

وبيِّن من هذا النصّ أنّ الصحابة كانوا يجتهدون في فهم القرآن، وأنّ ابن تيمية واعٍ لذلك ويُنَظِّرُ له، وأنّ ذلك لا يناقض قولَه بالبيان النبوي للقرآن؛ لأنه من جنس البيان النبوي لأصول الدِّين وفروعه وكونه لا يناقض الاجتهاد ولا يستلزم عدم الخلاف، كما تقدَّم ذكره.

فهذا من التفسير بالرأي المحمود، الذي مارسه ابنُ تيمية نفسُه كما تقدّم في أكثر من مثال، ولكن التفسير بالرأي المذموم -والقول بالرأي عمومًا- الذي يمنعه ابن تيمية، وغيره من العلماء، هو إمّا التفسير المستلزم لخطأ التفسير الوارد عن السَّلَف جميعِه، وَفق ما ذكرناه سابقًا من ضوابط القول بالقول الثالث ومخالفة الإجماع، والذي منه وآكده مخالفة المنهج الكلي للسَّلَف في التفسير (كما في النموذجين الفلسفي الباطني والكلامي)، أو التفسير بمجرّد الرأي البحت، الذي لا يستند إلى دليل شرعي معتبَر (فيدخل في ذلك القرآن والسنّة واللغة والعقل الصحيح)؛ ولذلك يقول ابن تيمية تعقيبًا على هذا الخلاف بين الصحابة في التأويل واجتهادهم الرأي، في نصّ نفيس:

«وأمّا مسألةٌ مجرّدةٌ اتفقوا على أنه لا يستدلّ فيها بنصّ جليّ ولا خفيّ؛ فهذا ما لا أعرفه. والجَدُّ لمّا قال أكثرهم: إنه أَبٌ استدلّوا على ذلك بالقرآن بقوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وقال ابن عباس: لو كانت الجِنّ تظنّ أنّ الإنس تسمِّي أبَا الأبِ جَدًّا لَمَا قالت: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا يقول: إنما هو أبٌ، لكنْ أبٌ أبعد من أبٍ. وقد رُوي عن عليٍّ وزيدٍ أنهما احتجّا بقياس، فمَن ادّعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقًا؛ فقد غلط، ومن ادّعى أن من المسائل ما لم يتكلّم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس؛ فقد غلط»[46].

فهذا يرجع إلى منع السلف والعلماء من القول بالتشهِّي والهوى من غير الاستدلال الشرعي (وهو المعنى المذموم للاستحسان عند السَّلَف كما هو معروفٌ لدى الأصوليين)، أمّا الرأي المحمود فله محامل، أجملَها ابنُ القيم في أنواع، نذكر منها ثلاثة:

النوع الأول: رأيُ أفْقَهِ الأمّة، وأبرِّ الأمةِ قلوبًا، وأعمقِهم علمًا، وأقلِّهم تكلُّفًا، وأصحِّهم قصودًا، وأكملِهم فطرةً، وأتمِّهم إدراكًا، وأصفاهم أذهانًا، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول؛ فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كنسبتهم إلى صحبته؛ والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل؛ فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم.

النوع الثاني من الرأي المحمود: الرأي الذي يفسِّر النصوص، ويبيِّن وجه الدلالة منها، ويقرّرها ويوضح محاسنها، ويسهّل طريق الاستنباط منه.

النوع الثالث من الرأي المحمود: الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقّاه خلَفُهم عن سلَفِهم؛ فإنّ ما تواطَؤُوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابًا[47].

ومما يتعلّق بمسألة الرأي المحمود، المسألة الأصولية المعروفة (إحداث دليلٍ لم يستدل به أهل الإجماع)، وأنه ليس نقضًا للإجماع، كما نقل الشيخ عن الرازي وأقرّه: «إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقًا للإجماع، فيقال له هذا إذا كان قد استدلَّ بدليل آخر منضمًّا إلى دليل أهل الإجماع؛ فإنّ ذلك لا يستلزم تخطئة أهل الإجماع»[48]، فيدخل في ذلك جميعُ البحوث الإثرائية التفسيرية، التي توافق تفسير السَّلَف، أو لا تستلزم إبطاله فيما لا قطع فيه بإجماعهم.

= فإذا تبيَّن ذلك، فإنّ التفسير بالرأي المحمود؛ كبحوث كبار المفسِّرين كابن عطية والقرطبي -وحتى الطبري كما هو معلوم-، وبحوث ابن تيمية، لا تخرج عن كونها من الرأي المحمود؛ لأنه إمّا أن يكون مؤيِّدًا لتفسير السَّلَف بمزيد بيان وشرح وتدليل، أو يكون مولِّدًا ولكنه لا يعارض الوارد عن السَّلَف، وهذا مركَّب إمّا على عدم صحة الإجماع حتى يمتنع الإحداث، أو على صحة إحداث قول لا يبطل الوارد، فهذه كلّها احتمالات مفتوحة، وهذا يدلّ أنّ النظرية التيمية، كما ذكرتُ أولًا، لا تمنعُ التأويلَ المحدَثَ المزيدَ ولا الخلافَ في التفسير، ولكنها تنظِّم النزاع التأويلي.

= ومما يبين علاقة التصوّر الصحيح لمسألة إحداث قول ثالث، بقضية البيان النبوي الذي ينقله الصحابة: أنّ الشيخ يقرّر أن عامة اختلاف الصحابة في التفسير اختلاف تنوّع، كالأمثلة المختلفة والأفراد المختلفة...إلخ مما يعلمه الباحثون جميعًا: فهل يُعقل أن يقول الشيخ مثلًا إنه لا يجوز إحداث قول في معنى ما قالوه من الأمثلة، وأنه يجب الاقتصار على (أمثلتهم)؟ أم أنّ كلامه عن عدم جواز الإحداث هو في الاختلاف المعنوي الحقيقي كالاختلاف بالإثبات والنفي؟ لا شك أن هذا الثاني هو المراد، مع مراعاة ما سبق تقريره في كُنه إحداث القول الثالث. فلا يرِد هذا الكلام على التفسير بالرأي الصحيح أصلًا لأنه يكون في معنى زيادة التمثيل أو المعنى الصحيح، أو عدم معارضته أصلًا.

سادسًا: عدم مراعاة الباحث سياقات ابن تيمية:

لاحظتُ أنه رغم أن الباحث أكّد في بعض الأحيان أنه يراعي سياقات كلام ابن تيمية، وربما ذكر مرة أو مرتين ما يتعلّق بسجاليات ابن تيمية العقدية وعلاقتها بتأصيلاته: إلا أن هذه المراعاة لم تظهر لي ثمرتُها في استدلالات الباحث ونتائجه، فلم يقدّر الباحث النصوصَ التي يستدل بها ويزنها بميزان دقيق؛ إِذْ ليس كلُّها بمنزلةٍ واحدة، ففرقٌ بين التأصيل الذي يقرّره العالم ابتداءً، وبين التأصيل الذي يقرّره في سياق الدفع والجدل. وأودّ أن أوضح أنني حين أتكلّم عن سياقات بعض تحريرات ابن تيمية فإنني لا أقول قطّ إنه لا يقصد ما يقول، ولا أنني أملِّص نصوصَه من دلالتها، ولكن لا شك أن سياقات كلام العالم مما يُعين على فهم مراده منه. ومرةً ثانية أقول: ليس معنى ذلك أن دلالات هذه النصوص لا تكون صحيحة، فليس هذا الغرض، ولكن الغرض أنه قد يزيد التقريرَ توكيدًا على جملته وأصله كي يدفع الاعتراضات الجملية والأصلية عليه، ولا يعني هذا أنه ليس لذلك التقريرِ تفصيلٌ أو معالمُ أخرى تزيده وضوحًا وتبين كيفية إجرائه، كما تقدَّم وكشفنا عن بعض هذه التفاصيل.

فأقول: إنّ أكثر النصوص التي أطال فيها ابن تيمية النفس في تقرير وجود البيان النبوي لمعاني القرآن، وتبليغه بمعانيه كما بلَّغه بألفاظه كانت في سياق واضح: سياق مراد بعض المخالفين الخروجَ عن معاني ألفاظ القرآن الظاهرة (جملة). لقد رجعتُ إلى جميع النصوص التي تناول فيها ابن تيمية المسألة حتى كدتُ أقرأ فصولًا ورسائل كاملة، وأقول: لم تكن مشكلةُ ابن تيمية قط تفسيرَ كلمةٍ أو كلمتين أو تركيبٍ أو حتى قصةٍ قرآنية مع مخالفيه، فقرّر هذا التقرير، بل قرّر هذا التقرير (الجملي) ليواجه الباطنية والفلاسفة بالدرجة الأولى، والذين يقولون بمعنى باطن مخالف للمعنى الظاهر بالكلية، وبعض المتكلمين بالدرجة الثانية ليواجه قضية التأويل المنهجية.

وسأظهر هذا بمثالين ثم أجيب على سؤال: وماذا يعني ذلك؟

= فإنّ نصوصًا مثل: «ومَن زعم أنه لم يبيّن لهم معاني القرآن أو أنه بيّنها وكتموها عن التابعين؛ فهو بمنزلة من زعم أنه بيَّن لهم النصّ على عليٍّ وشيئًا آخر من الشرائع والواجبات وأنهم كتموا ذلك، أو أنه لم يبيِّن لهم معنى الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك مما يزعم القرامطة أن له باطنًا يخالف الظاهر»[49]، ألم يَطّلِع الباحثُ أنّ سياق هذا النصّ من كتاب (بغية المرتاد) كان في سياق الردّ على تفسير الفلاسفة والباطنية القرامطة لألفاظ القرآن بمطابقتها لمرامي الفلاسفة؛ كتفسير العرش واللوح والملائكة ونحو ذلك بأنها العقول والنفوس المدبّرة...إلخ.

ومن ثَمَّ فهناك خلاف جملي بين منظومتين كاملتين لقراءة القرآن، وليس خلافًا فنيًّا محدودًا في تفسير كلمة أو كلمات أو إشارات من لطائف القرآن أو حتى حكم من أحكامه. فهنا يدفع ابن تيمية بأنّ هذا المنظور الباطني والفلسفي مخالف لجملة الوارد عن النبي والصحابة من التفسير، ويستحيل أن تكون تلك المعاني صحيحة أو مرادة ولم يبيِّنْها النبي لأصحابه؛ فإنّ هذا مُنافٍ للبلاغ (المبين)، وأنّ النبي يجب أن يكون بيَّنَ للصحابة معاني جميع القرآن، وليس فيها شيءٌ من ذلك.

= النصّ الثاني، وله علاقة وثيقة بموضوع البحث وبقضية إحداث قول ثالث، وقد استدلّ به الباحثُ على تقرير فهمه لنظرية ابن تيمية حول البيان النبوي لمعاني القرآن، قوله: «وأنّ الأمّة إذا اختُلِفَ في مسألةٍ على قولين؛ لم يكن لمن بعدهم إحداثُ قولٍ ثالث، فإذا لم يكن في صدر الأمة إلا قولُ السلف وقولُ المعتزلة؛ تعيَّن أن يكون الحقّ في أحد القولين»[50].

إنّ الكلام هاهنا عن (قول) السلف، و(قول) المعتزلة، ليس قولًا مفردًا أو تفسيرًا فنيًّا ضيقًا، إنما القول هنا مصدرٌ جُملي، فالمراد هنا البحث بشأن منظورين متكاملين في تفسير القرآن، بشأن تأويل آيات الصفات، وأنّ جملة الوارد عن السَّلَف ليس فيه اعتماد منهج التأويل، وإنما ذلك المنهج منهج المعتزلة، كما قال الشيخ بشأن هذه القضية: «الذي أقولُه الآن وأكتبُه وإن كنتُ لم أكتبه فيما تقدَّم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثيرٍ من المجالس: إنّ جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلافٌ في تأويلها، وقد طالعتُ التفاسير المنقولة عن الصحابة وما روَوْه من الحديث ووقفتُ من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار، أكثر من مائة تفسير؛ فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه أوَّل شيئًا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله»[51]، فالشأن كما يقول في نصّ آخر: «وأيُّما أحسنُ: الاستدلالُ على معاني الكتاب بما رواه الثقاتُ الأثباتُ ورثةُ الأنبياءِ وخلفاءُ الرسلِ عن رسولِ الله المبلِّغِ عن الله المبيِّن لما أَنزل الله عليه [مرويات السنّة]، وبما قاله الصحابة والتابعون وأئمة الهدى، وتأويلُ القرآن الذي هو تفسيره بهذه الطرق؟ أم يُؤخذ تفسيرُ القرآن وتأويلُه وبيانُ معانيه من أئمةِ الضلال وشيوخِ التجهُّم والاعتزال كالعلَّاف والنظَّام والمريسي ونحوهم؟!»[52].

= فهذان هما المستويان الأساسيان لتقرير البيان النبوي لمعاني القرآن، في مواجهة هذه الاتجاهات الكلية التي يرى الشيخ أنها تُغَيِّر من مواضعات التأويل القرآني، وتقدِّم نموذجًا تأويليًّا مختلفًا لم يرِد عن النبي ولا الصحابة. فسَحْبُ هذا التقرير الإجمالي بصورة تفصيلية على علم التفسير كفنِّ تفصيلي، ليس الشغلَ الأساس لهذه النصوص بلا شك. ثم إذا أضفنا إليها تتميمَ التنظير التيمي الكاشف عن معنى (البيان النبوي) وعن معنى (نقل الصحابة) له وعن وجود (اجتهاد واستدلال) للصحابة في التفسير، ثم تقريراته عن الإجماع وإحداث قول ثالث، وعن الدليل الإضافي لأهل الإجماع، ثم بعد ذلك كلّه الشغل التيمي في التفسير: لم يبقَ شكٌّ في أن إصرار الباحث على نِسبة: أنّ تفسيرَ الصحابة كلَّه نقليٌّ، وكلَّه نقلٌ للبيان النبوي، وأنّ البيان النبوي تفصيلي لجميع القرآن بصورة فنية مدرسية = ليس بدقيق، وأن ما يعارضه من كلام الشيخ أكثر مما يؤيّده، فلِمَ الحاجة لكلّ هذا الترقيع والإجابة والرمي بالتناقض، مع أن الصورة الكلية أوضح من ذلك؟

سابعًا: ابن تيمية ونظريته بين السَّلَف وعدم السَّلَف:

من الأمور التي لفتت انتباهي في البحث، والتي أكَّدت لي إصرار الباحث على تخطئة الشيخ بأيّ وسيلة، تعامُلُه مع مسألة: مصدر ابن تيمية في هذا القول، أو سلفه فيه. فإنه يشير في البحث مرارًا إلى غرابة تقرير ابن تيمية لعموم البيان النبوي لمعاني القرآن، وأنه يخالف تقريرات العلماء، ثم يرجع ويبيِّن أنّ الطبري يقول بهذا القول تمامًا! وأنّ رؤية الشافعي لعلاقة السنّة البيانية بالقرآن هي مصدر يُستَمدُّ منه هذا القول! ويكتفي هنا بتضعيفٍ إجمالي لقول الطبري[53].

فابن تيمية ملومٌ على الحالين، إذا لم يكن سبقه أحدٌ فهذا دليل على ضعفِ قوله، وإذا كان سبقه أحدٌ -وأيّ أحدٍ، فإنه شيخ مفسّرِي المأثور وفقهِ التفسير: الطبري، والشافعي واضع أيديولوجية فقه السنّة، وحتى السيوطي أحد أكبر مفسِّري المأثور من المتأخِّرين قد مال إلى هذا القول- فإنّ النقد ينطلق على هذا السَّلَف أيضًا! فإذا كان تنظير ابن تيمية نابعًا من تصوّرات الشافعي حول السُّنة وعلاقتها بالنصّ القرآني أصلًا = فكيف يقول الباحث أحيانًا أن هذا القول مخالفٌ لتقريرات العلماء! وهل ثمة علماء أجلُّ من هذين العَلَمَيْن في تلك الحقبة المبكّرة التي لا يُعرف فيها كثيرٌ من العلماء كانوا يُعنَوْن بالتنظير المجرّد أصلًا، وهل يقارَن كلام هؤلاء الأئمة المتقدِّمين بكلام متأخِّري المفسِّرين والعلماء -على غرار البيضاوي وأبي السعود والألوسي الذين ينقل عنهم[54]، مع وافر التقدير والإجلال لهم-؟ ألَا يعطي هذا السلفُ لابن تيمية: مزيدًا من التقوية في ميزان مخالفة (العلماء) من جهة، ومزيدًا من التأمّل في (الضعف الظاهر المدَّعى) لهذا التقرير، وأن فيه مزيدًا من التفصيل يكشف عن حقيقة مضامينه ومطاويه، وما يترتب عليه. فهذا تفسير الطبري على سبيل المثال مشحونٌ بالبحوث التفسيرية الرائقة: اللغوية والكلامية والبلاغية والنحوية، فأين إضمار التفسير وإضعافه كما يقول الباحث في آثار نظرية الشيخ؟ فـ(إذا مَحَاسِنيَ اللّاتي أُدِلُّ بِهَا ** كانَتْ ذُنُوبي فقُلْ لي كَيفَ أعتَذِرُ؟!)

ثامنًا: تأدِّيات تنظير ابن تيمية حول عموم البيان النبوي لمعاني القرآن:

أثار الباحثُ عددًا من الإشكالات التي يرى أنها آثارٌ لنظرية ابن تيمية حول عموم البيان النبوي لمعاني القرآن، وقد ذكرتُ بعضًا منها ضمنًا فيما سبق، وأُعيد التأكيد عليها هاهنا لبيان أن الآثار السلبية المظنونة لهذه النظرية ليست على الوجه الذي خشيه الباحث.

= فقد خرجَتْ به محاولةُ تكثير الآثار السلبية لنظرية الشيخ إلى مناقشة أمورٍ هي خارج إطار التنظير التيمي المبحوث، كمناقشة أهمية تفسير الصحابة ومحوريته[55]، ودور السنّة في التفسير[56]، وقضية التفسير اللغوي[57]، وقضية لسان النبي صلى الله عليه وسلم[58]، والتباين بين منهجي علم الأصول والتفسير[59]: وهذه أمور أولًا خارجة عن محلّ البحث، كما أنّ آراءه حولها -ثانيًا- كانت سريعة عَجْلَى، وكانت تحتاج في نفسها لكثير من التأسيس النظري حتى يوافِقَ القارئُ الباحثَ في كونها سلبيةً فضلًا عن كونها آثارًا للتنظير التيمي، فالآثار التي يَعتبرُها سلبيةً هي في الحقيقة نوعٌ من المصادَرَة، وهي خارجة عن موضوع البحث ما لم يتمَّ التأسيس لها نظريًّا بحيث تُعتبَر حقًّا آثارًا سلبية. وبعضها جاء مخالفًا لأبجديات مناهج العلوم، فلا يمكن أن يقرّر مقرّرٌ حجية قول الصحابي في الأصول ثم لا يقرّرها في التفسير إلا بنوع من التناقض؛ ولذا فعبارةُ ابن تيمية التي سبق نقلها: (فهذا هذا) عبارةٌ غاية في الدقّة من الناحية المنهجية.

= فمثلًا كلام الباحث أنّ تقرير ابن تيمية للبيان النبوي لمعاني القرآن يُسقِط الدلائل التي يجري تداولُها في كثير من الدَّرس لحجية تفسير السلف من خلال مقولاته، من نحو علم السلف بالأحوال السياقية والمقامية للقرآن، مما سيكون معارضًا للتأسيس التيمي في كون تفسيرِ السلف هو تفسيرٌ نقليٌّ لا اجتهادي[60]؛ ليس صحيحًا، إذا استحضرنا ما ذكرناه من عدم منع التقرير التيمي لعموم البيان النبوي لمعاني القرآن: من الاجتهاد والرأي المحمود، بما يشمله إحداث قول لا يستلزم إبطال القولين، وعلى فرض عدم تحقق الإجماع أصلًا، مما نقلناه سابقًا من تنظير ابن تيمية نفسِه وتطبيقه، وقد تقدّم نقلُ أنّ ابن تيمية نفسَه يقول إنّ الصحابة يجتهدون في تأويل القرآن، وأنهم يختلفون فيه ويرجعون إلى عمومات وخصوصات من القرآن والسنّة، فهذا منطلق على المنهج التأويلي التدرُّجي الذي ذكره الشيخ في مقدمة أصول التفسير، وابن تيمية نفسُه مارَسَ هذا في الاستدلال بالقرآن بآيات الطلاق بعضِها على بعض، على مذهبه في عدم وقوع طلاق الثلاث، كما هو معروف في فتواه، وفي نصّ ردّه على السبكي الكبير، وهذا يدلّ على قصور فهم تقرير الشيخ للبيان النبوي لمعاني القرآن على أنه شامل بصورة فنية، وأنه يستلزم أنّ تفسيرَ الصحابة كلَّه نقلٌ محض، لا اجتهاد ولا استدلال فيه.

= وذلك نفسه ينسحب على القول بالتفسير اللغوي، والتفسير استنادًا إلى الإسرائيليات[61]، فهذا كلّه يرجع من حيث العموم -صوابه وخطؤه- إلى الاجتهاد في البيان النبوي لمعاني القرآن على أنحاء شتّى.

= أمّا كلام الباحث عن الشدّة في الطرح التيمي[62]؛ ففيه مبالغة، وبخاصّة من ناحية عزوه هذا لتلك النظرية! والحقّ الذي لا يُنكَر أنّ الشيخ يشتدّ في كلامه أحيانًا، ولكن هذا راجعٌ لطبيعته الشخصية كما وَصَفها معاصروه، ومحاولةُ ربطِ تلك الشدة بهذه النظرية وأنها تستلزم ضيق الصدر بالخلاف واتهام المخالف بقصد التحريف لتأويل القرآن؛ ربطٌ متكلَّف. ففضلًا عن أنّ تقريرات ابن تيمية الكثيرة للتفريق بين التخطئة وحتى التبديع، وبين القول بالتكفير أو التفسيق والتأثيم كثيرة؛ فابن تيمية يقرّر أنّ من اجتهد فأخطأ -كائنًا ما كان خطؤه في الأصول أو الفروع- أنه مغفورٌ له خطؤه ومثابٌ أجرًا واحدًا لا يستحقّ الذمّ لأجل ذلك، وقد قال في سياق كلامه عن التفسير خصوصًا ذلك التقرير، فقال: «وفي الجملة: مَن عَدَلَ عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرِهم إلى ما يخالف ذلك؛ كان مخطئًا في ذلك بل مبتدعًا، وإن كان مجتهدًا مغفورًا له خطؤه، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلّته وطرق الصواب»[63]، ولابن تيمية نصوصٌ كثيرة فيها الدعاء والترحُّم على مخالفيه، يمكن أن يوازَى بها نصُّ ابنِ عطيةَ الذي نقله الباحث[64]. وبصفة عامة فإن الانتقاد هاهنا على خصوص هذا الربط، وليس على عموم الملاحظة بصورة أساسية.

ثالثًا: الخلاصة:

= أرَى أنه، مع الاحترام الشديد والحقيقي للجهد البحثي الكبير؛ فقد أقام الباحث دعوى كبيرة من غير تدبّرٍ كافٍ في أُسُسِها النظرية، ثم بذل جهدًا كبيرًا في بيانِ دلائلها، ثم نقدِها.

وقد كانت أدلة الشيخ على وجود بيان نبوي لعموم القرآن في الواقع قوية، إذا فهمنا البيان بكونه البيان العمومي وَفق ما شرحناه، وما اتضح من نصوص وتطبيقات للشيخ، وأقوى الأدلة في رأيي على ذلك (السيرة العقلائية) كما يسميها أصوليو الإمامية، وليس مجرّد آثار الصحابة التي نقَل بعضَها الباحثُ[65] في التدليل على كلام الشيخ -كأثرِ تعلُّمِ العشر آيات من القرآن وما فيها من العِلم والعَمل، وأثرِ عمرَ في الربا والكلالة، وغيرِها مما يستدلُ به مَن يقول بشمول التفسير النبوي- ثم رأي أنها أساس قليلٌ[66] (والحقّ أنّ الدلالة تكفي ولو من نصٍّ واحد إنْ كان بيِّنَ الدلالة في محلّ النزاع. نعم، للكثرة والقِلّة عُروض في كيْفِ التنظير بضوابط محددة، لكن من حيث الأصل فالدلالة أثر ذاتي للدالّ)، فاستدلال الشيخ الأساس كان بالتصوّر الواضح لعصر النبوّة حيث القرآن هو موضوع الرسالة ومصححُها، وهو بصورة أو بأخرى حياةُ المسلمين، فلم يكن مِن المتصوَّرِ ألّا تكونَ معانيه شغلَهم الشاغل، ومهمةَ الرسول الأساسية، وإلا ما كان قد بلَّغ (البلاغ المبين)، وهذا لا ينفي أنّ كثيرًا من معاني القرآن كانت واضحة جلية في اللسان العربي، وكان يشترك في فهمها الصحابة مع النبي، مع وجود بعضٍ آخر يحتاج توضيحًا، استشكالًا أو ابتدارًا، وسواءٌ وقع البيان بالقول القصدي، أو غيره من أوجه السنّة والمشاهدات. وقد قال الصحابة إنّ النبي لم يترك طائرًا إلا ونبّأهم بعلمٍ منه، فيستحيل أن يكون النبي والحال هكذا لم يكن يبين معاني القرآن، وكذا أثر عمرَ في الربا والكلالة الذي أشار السيوطي إلى أنّ معناه يستلزم عموم تفسير النبي للقرآن.

= ومِن ثَمَّ أنفق الباحثُ جهدًا في التدليل على اجتهاد الصحابة في التفسير، وأن تفسيرهم ليس جميعُه نقلًا محضًا، وذكر أمثلةً جيدة[67] كحادثة اختلاف عليّ وابن عباس في تفسير العاديات (وقد كان تفسيراهما راجعَيْن للعمومات، فلم يستدلّ أحدهما على الآخر بنقلٍ خاصّ، مما يدل على اجتهاد الصحابة)، وهذا راجعٌ إلى الرأي المحمود الذي تقدّم ذكره، والذي دلل عليه ابن تيمية بأدلةٍ أكثرَ من اختلاف الصحابة، فإن استدلالَيهما كانا عمومَيْن، بخلاف هذه الاستدلالات التي ذكرها الشيخ والتي كان مرجعها للنصوص الخاصة ولخفاء الدلالة، ولتفاوت عِلم الصحابة، بما يعني أنّ مرجعَ الخلاف عدمُ استوائهم في معرفة البيان النبوي الذي قرره الشيخ.

= وظهر مما تقدّم أنّ وجودَ بيانٍ نبوي لمعاني القرآن لا يستلزم أنه بيانٌ مستوٍ في الجلاء والخفاء، ولا يستلزم أنّ جميع الصادر عن الصحابة هو نقل محضٌ لذلك البيان؛ فليس كلُّهم حضره، ولا كلُّهم فهمه، أو فهمه على الوجه نفسِه. نعم، يمكن أن يُقال إن جملة الوارد عنهم تعبيرٌ عن ذلك البيان، أو يقال: جملة التفسير المأثور منقول عن النبي بمعنًى كلّي، لا كأفراد المرويات، ولا كألفاظ، بل لقد قدَّم الباحث عباراتٍ جيدةً أعجبتني في ذلك، مثل كون تفسير الصحابة: صدى التبيان النبوي[68]، و(وعاء البيان النبوي)، ولكنه تجاوز ذلك إلى إلزام النظرية ما لا يلزمها.

= ومن ثَمَّ جاءت أدلة الباحث على تلك القضية عمومًا: في غير محلّ النزاع: فابن تيمية لم يقل إنّ كل ما يقوله الصحابي في التفسير هو منقول عن النبي نقلًا محضًا بالمعنى الخاص، ولم يمنع أن يجتهد الصحابة في التفسير اجتهادًا محمودًا (الرأي المحمود).

وإذا ظهر ذلك فإن ما ذكره الباحث لإثبات اجتهاد الصحابة في التفسير لا يكون محلَّ نزاع أصلًا، وما قدّمه فيها من جهد مشكور لا يتعارض مع تقرير ابن تيمية، وبعض اختلاف الصحابة كما في مسألة الكلالة ومسألة الربا = كلامهم فيها أقرب إلى الدلالة على نظرية ابن تيمية، كما أنّ مراجعةَ عمرَ النبيَّ حول تلك الآية -وهو أثر استدلّ به الباحث ضد تنظير الشيخ[69]- دالةٌ على الاشتغال الفعلي بين الصحابة في العصر النبوي في التفقّه في القرآن، وأنّ هذا كان من مشاغلهم الأساسية، وهو ما يصحّح الصورة المفترضة التي يذكرها ابن تيمية عن طبيعة البلاغ النبوي.

= تغاضَى الباحث عن التقريرات الأصولية لشيخ الإسلام، مع التصاقها بموضوع البحث، كمسألة إحداث قول ثالث غير معارض للقولين، ومفهوم الإجماع لدى الشيخ وحكم مخالفته، وحكم التفسير بالرأي.

= تغاضَى الباحث عن الشغل التفسيري التيمي، بما فيه من تفسير بالرأي المحمود، ووجوه البحث اللغوي والبياني والعقلي، والتي توضح معنى تنظيره ومصداقه.

= حمَّل الباحث نظريةَ ابن تيمية حمولاتٍ سلبيةً لا تتحمّلُها. فنظريةُ ابنِ تيمية لا تستلزم المنعَ من التفسير بالرأي ما دام راجعًا للأدلة الشرعية (وقد ذكر الشيخ ذلك ومارَسه فعليًّا)، ولا المنعَ من مخالفة إجماعٍ ظنّي، ولا إحداثَ قولٍ ثالث لا يستلزم إبطال القولين، ولا إمكانَ التدليل بدليلٍ لم يستعمله أهل الإجماع على قولهم، فضلًا عن استعمال القرآن في اقتباسِ اللطائف ولا حتى التفسير الإشاري ما دام لا يقطع بنسبة ذلك لقائله تعالى أوَّلِيًّا، ولا ينفي المعنى الظاهر (وللشيخ تفصيل معروف في التفسير الإشاري، وكان يجب أن يمنعَه مطلقًا وَفق فهم الباحث للتنظير حول البيان النبوي).

 ففي الجملة: التنظير التيمي لا يُعِيق علمَ التفسير كمجالٍ علمي استدلالي وتداولي قابلٍ للتطور والنمو والاستفادة من جميع العلوم، بل والأكثر: أنّ نظرية الشيخ في وجود البيان النبوي لا تمنعُ من الاختلاف في التفسير، فإنه أمرٌ من سنن الخلق وطبائع الأشياء، فوجود هذا البيان لا يمنع الخلاف ولا يرفعه بالضرورة، ولكنه ينظِّم النزاع التأويلي، ويمكِّن من رفعه في أحيانٍ كثيرةٍ، هذا إذا كان الخلاف حقيقيًّا في نفس الأمر أصلًا.

= بل إن تطبيق هذا التنظير التيمي سيكون في حالات قليلة أصلًا: فأكثر التفاسير الواردة عن السلف لا يقطع فيها أنّ هذا اختلافُ الصحابة الموجود في نفس الأمر فحَسْب، ومن ثمَّ فلا يجوز إحداث غيره، فقد يرِدُ في عامّة المأثور قولان أو ثلاثة عن الصحابة، وأكثر عن التابعين، ووَفق تأصيل ابن تيمية في الإجماع الظني وعدمِ العلم بالمخالف والفرقِ بينه وبين الإجماع القطعي؛ فلن يتحقق هذا إلا قليلًا.

وبالأحرى لن يتحقّق المنع من إحداث قول تفسيري إلا في الجُمَل كثيفة الثبوت عن الصحابة والتي تمثِّل المنزعَ العام لهم في التفسير، كما في النقل المختلف بين السَّلَف والمعتزلة حول التأويل، وكذا بينهم وبين الباطنية، وكذا يندرج في ذلك غلاةُ العلمانيين والتنويريين المعاصرين، وبعض أقوال أهل الإعجاز العددي والعلمي، فليس للشيخ إشكالٌ في تفسير كلمةٍ أو مفردةٍ أو وجهِ قصةٍ هنا أو هناك فيها ثلاثة أقوال مفردة لصحابيّ وتابعيَّيْن! كما نجد في عموم التفاسير الأثرية، لدى الطبري أو السيوطي، ولكن هاجس الشيخ الرئيس هو فيما ذكرناه عن سياقات تقريرات الشيخ (في مثال الفلاسفة والمعتزلة)، وهو المنهج العام في التفسير، وقضاياه وجمله الكلية.

= وأخيرًا أقول: إنّ إصرار الباحث على فكرته أمرٌ مطلوب، فالإيمان بالفكرة نوعٌ من الصدق مع النفس، وهي فضيلة أخلاقية وعلمية، ولكنْ هناك خيطٌ رفيع بين الإصرار المحمود الذي يدفع الباحث إلى مزيد شرح فكرته وإيضاحِها وتقديمِ الحُجَج عليها، وبين الإصرار المذموم الذي يمنعُ الباحثَ حريةَ إعادة التفكير وتقليبِ الرأي، وفرصةَ تَكرار النظر والتأمل، والانفتاحَ على احتمالات أخرى واردة، حتى لا يقطعَ بما محلُّه الظنّ، ويعتقدَ أنّ رأيَه صوابٌ لا يحتمل الخطأ، ويكونَ همُّه الأساسُ الدفاعَ عن فكرته بكلّ ما يمكن، ودفعَ الاحتمالات المخالفة بكلّ ما يمكن، فيصبحَ أشبهَ ما يكون بالعناد.

واللهُ وليّ التوفيق

 

[1] سنقدّم هاهنا عرضًا موجزًا للكتاب يبرز إشكاليته وأهدافه وفصوله، وللتوسّع في التعرّف على الكتاب ومحتوياته، يراجع العرض الموسّع الذي قدّمه مرصد تفسير للكتاب، وهو منشور تحت هذا الرابط: tafsiroqs.com/article?article_id=3913

[2] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص21.

[3] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية؛ دراسة نقدية، خليل محمود اليماني، مركز تفسير للدراسات القرآنية، ص11.

[4] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص29 وما بعدها.

[5] جواب الاعتراضات المصرية، ص11.

[6] بغية المرتاد في الردّ على المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ت: موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة، ط: الثالثة، 1415هـ/ 1995م، ص330- 332.

[7] مجموع الفتاوى (13/ 308).

[8] الفتوى الحموية الكبرى، ص177- 183. ويلاحظ أن هذا النصّ تحديدًا إنما أراد به الشيخ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أمور الاعتقاد وما يحتاجه المسلمون في الإيمان بربهم، مما لا يحتاج معه إلى ابتداع أقوال في ذلك، أو زعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبين ذلك لهم، أو أنهم كانوا يجهلون ذلك، لا أن الشيخ أراد به أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن معاني القرآن تفصيلًا، وآية آية.

[9] مجموع الفتاوى (19/ 155- 156).

[10] مجموع الفتاوى (19/ 198).

[11] العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ص43- 44.

[12] تفسير الطبري، ط هجر، (1/ 70).

[13] درء تعارض العقل والنقل (1/ 196).

[14] تفسير الطبري، ط هجر، (1/ 68).

[15] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص62.

[16] درء تعارض العقل والنقل (1/ 196).

[17] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص:191.

[18] مجموع الفتاوى (5/ 162).

[19] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص30.

[20] مجموع الفتاوى (5/ 163).

[21] مجموع الفتاوى (19/ 200).

[22] انظر: المجموع (19/ 196- 199)، وسيأتي نقلها حين الكلام عن التفسير بالرأي.

[23] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص105.

[24] مجموع الفتاوى (7/ 36).

[25] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 44).

[26] الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص280.

[27] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص27. ودعوى الباحث عدم المصادرة كما في حاشية الصفحة نفسها، غير مفيد؛ إِذْ ليست المعارضات لتقريره وفهمه من باب النصوص الجزئية كما ادعى! بل عامتها نصوص تأصيلية، ورسائل بعنوانها، كما تقدّم، وليس في كلام الشيخ أصلًا ما يفيد ما فهمه المؤلِّف كما بينَّا وسنبيِّن، حتى تصبحَ أطروحتُه التي قرّرها عن الشيخ هي مرادَ ابن تيمية، وما يَرِدُ عليها نحمله نظريًّا على التعارض المنطقي -على حد تعبيره-، وإلا فشروط التعارض -سواءٌ التناقض أو التضاد- المنطقي غير متحقّقة في هذا البحث كما لا يخفى بأدنى انتباه. فنفس عبارة الباحث فيها مسامحة فنية كما ترى، فتأمّل.

[28] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص27.

[29] العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ص42.

[30] بدائع الفوائد (1/ 96).

[31] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص191 وما بعدها.

[32] انظر: الجواب الصحيح، (2/ 189- 193).

[33] أدبيًّا: يجدر التنبيه أن هذا النصّ للباحث، والتمثيل بتفسير الشيخ للآية برُمّته، ليس موجودًا في الكتاب المطبوع حاليًا، ولكنه كان موجودًا في مسوّدة الكتاب التي اطلعتُ عليها قبل نشره.
والحق أنني أثبتُّ هذا البحثَ هنا، لا لأؤاخذ الباحث عليه بخصوصه، لأنه ترَكَه، وإن كان قائلًا بمؤداه كما سيأتي في قضية منع ابن تيمية من إحداث قول في التفسير، وما فهمه الباحث من ذلك وما استلزمه وألزمَ به ابن تيمية من التناقض = ولكن آثرتُ أن أبيِّن للقارئ بهذا المثال التطبيقي حقيقةَ فهم ابن تيمية لمعنى إحداث القول، والدقة الشديدة في تطبيقه لهذا التأصيل، وكيف أن تأصيله لمنع الإحداث في التفسير لا يمنع من الاجتهاد في التفسير وتوسيع البحث فيه، كما ضربنا بعض الأمثلة سابقًا في أبحاثه ولطائفه التفسيرية، وكما سترى فوق في هذا النموذج الكاشف.

[34] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص192.

[35] انظر: حجية تفسير السلف، ص200.

[36] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص236.

[37] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص236.

[38] مجموع الفتاوى (15/ 95).

[39] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص239.

[40] حجية تفسير السلف، ص85.

[41] المسودة في أصول الفقه، ص328.

[42] مجموع الفتاوى (34/ 125).

[43] مجموع الفتاوى (19/ 267- 268).

[44] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص109.

[45] مجموع الفتاوى (19/ 196- 199) باختصار.

[46] مجموع الفتاوى (19/ 199).

[47] إعلام الموقعين (1/ 63- 66). مختصرًا كثيرًا.

[48] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 498).

[49] بغية المرتاد في الردّ على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (1/ 331).

[50] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 524).

[51] مجموع الفتاوى (6/ 394).

[52] جواب الاعتراضات المصرية، ص7.

[53] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص153 وما بعدها.

[54] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص128.

[55] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص192.

[56] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص233.

[57] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص192.

[58] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص221.

[59] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص236.

[60] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص192، 193، وانظر أيضًا: ص112.

[61] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص200 وما بعدها.

[62] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص231.

[63] مجموع الفتاوى (13/ 361).

[64] حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص233.

[65] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص38.

[66] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص54.

[67] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص115.

[68] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص125.

[69] انظر: حجية تفسير السلف عند ابن تيمية، ص135.

الكاتب

عمرو بسيوني

باحث ومترجم، له عدد من الأعمال العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))