ظاهرة «القصر» في كشاف الزمخشري

الكاتب : تامر سلوم
أسلوب القصر من الأساليب العربية الواردة في القرآن الكريم، وقد كان للزمخشري في الكشاف عناية به، وهذه المقالة تعرض لظاهرة القصر في تفسير الزمخشري، مع تسجيل بعض الملاحظات على مذهبه في القصر.

ظاهرة «القصر» في كشاف الزمخشري[1]

أسلوب القصر بالأداة (إنّما):

  يذكر الزمخشري أن الأداة (إنما) تجيء لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم. يقول في الآية: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، «إنما لقصر الحُكْم على شيء أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية؛ لأنّ ﴿إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ مع فاعلهِ بمنزلة: إنما يقوم زيد، و﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ بمنزلة: إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أنّ الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقصور على استئثار الله بالوحدانية»[2].

وليس في تطبيقات الزمخشري ما يشير إلى الفروق أو أوجه الاختلاف بين القصر بإنما والقصر بالنفي والاستثناء، فالتعبير من قوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾، يفيد أنه: «ما عليك إلّا أن تبلِّغ»[3]. والمعنى في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، يعني: «ليس المؤمنون إلّا إخوة»[4]. وفي قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، «دليلٌ أنّ الله لا يقبل طاعةً إلا من مؤمنٍ متّقٍ»[5].

أمّا الفروق الدقيقة بين هذه المظاهر اللغوية والأحكام النحوية وما تحمله من التشكيل الفني أو الجمالي فأمرٌ لم يكن يُلتفت إليه قط، وهذا ما جعل تناوله لهذه الظاهرة -كما يبدو لنا- تناولًا عقليًّا قريبًا أغفل معه الأسرار البلاغية والجمالية لهذه التعابير والفروق الدقيقة بينها، حتى لكأنّنا أمام عمل معجمي بسيط لا يحتوي إلا على مفردات قليلة متشابهة. فالآية: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾ تعني: «ما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذِر»[6]، وقوله: ﴿إِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ يعني: «فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه»[7]. ومعنى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾، «أي أُنزِل ملتبسًا بما لا يعلمه إلا الله، من نَظْمٍ معجِز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه»[8]. وفي الآية ﴿إِنَّمَا ‌نَحْنُ ‌مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾: «وإنما لقصر الحكم على شيء كقولك: إنما ينطلق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب، ومعنى ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أنّ صفة المصلحين خلصت لهم وتمحّضَت من غير شائبةِ قادحٍ فيها من وجوه] الفساد»[9]. ثم يقول: «ردّ الله ما ادّعَوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ ردّ وأدلّه على سخط عظيم، والمبالغة فيه من جهة الاستئناف، وما في كلتا الكلمتين (أَلَا وإِنّ) من التأكيدَين وتعريف الخبر وتوسيط الفصل»[10].

ومن الملاحظ في صنع الزمخشري أنّ (إنما) تفيد إيجاب الفعل لشيء ونفيه من غيره، فالآية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾، تعني: «قصرٌ لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصّة بها لا تتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم. ونحوه قولك: إنما الخلافة لقريش، تريد: لا تتعدّاهم ولا تكون لغيرهم»[11]. ومعنى: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ «أني لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعيًا له وملتجئًا إليه فخلّوني وشكايتي»[12]. وقوله: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، يعني: «فما إثم الإيصاء المغيّر أو التبديل إلا على مبدّليه دون غيرهم من الموصِي والموصَى له؛ لأنهما بريّان من الحيف»[13].

تتبدّى في بُعدٍ آخر ينبع من البُعد السابق أو يتصل به أوثق اتصال، هو تحديده للمقصور عليه أو لما يسميه بالاختصاص[14]، والاختصاص مع (إنما) يكون مؤخرًا دائمًا. ومن هنا يختلف المعنى في تقديم المفعول به أو تأخيره من الآية: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾؛ «فإنك إذا قدّمت اسم الله وأخّرت العلماء كان المعنى: إنّ الذين يخشون اللهَ من بين عباده هم العلماءُ دون غيرهم، وإذا عملتَ على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ﴾، وهما مَعنيان مختلفان»[15].

وهذا الذي نقوله في الفاعل أو المفعول ينطبق على المبتدأ والخبر أو بقية أجزاء الكلام التي يصحّ فيها القصر. ففي الآية: ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾، ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾؛ يقع الاختصاص في الخبر بدلالة قوله في الآية الأولى: «أي هو المختصُّ بعلم الغيب المستأثرُ به، لا علمَ لي ولا لأحدٍ به»[16]. وفي الثانية: «أي ليس عليك إلّا أن تنذرهم بما أُوحي إليك وتبلغهم ما أُمِرتَ بتبليغه، ولا عليك رَدُّوا أو تهاونوا أو اقترحوا»[17].

وفي الآية: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ﴾، يقع الاختصاص في المبتدأ الذي هو البلاغ دون الخبر الذي هو عليك، بدليل قوله: «فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحَسْب»[18].

أسلوب القصر بالأداة (إنما):

هذا ومما يلفت الانتباه في عمل الزمخشري أنه أجرى (أنما) مجرى (إنما) فحملت الإشارة والأصباغ التي تضمّنَتْها، وعاشت داخل الدائرة المنطقية التي ملأ جوانبها وزواياها بخطوط وألوان متشابهة، وقد رأينا ذلك في موقفه من الآية: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، والآية ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾؛ فيحسن العودة إليها[19].

أسلوب القصر والتعبير بالأداة (إلا):

وصنيع الزمخشري في أسلوب القصر (بالنفي وإلّا) لا يختلف عن صنيعه في أسلوب القصر (بإنما) فالذي يشغله أو يملأ عليه اهتماماته هو تحديد أقواس دائرة القصر التي ترتبط بهذا المحور الجديد من التعبير.

إننا نفيد من كلامه أنّ هذا الأسلوب يأتي لقصر صفة على موصوف، من نحوِ تعليقه على الآية: ﴿إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾، أي: «لا قادرَ على كشفه إلا هو»[20].

وقوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، «أي: لا يهتدي إلى تأويلهِ الحقِّ الذي يجب أن يُحمَل عليه إلا اللهُ وعبادُه الذين رسخوا في العلم»[21].

وقُل مثل ذلك في قوله: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾، «أي: ما يُهلَك هلاكَ تعذيبٍ وسخطٍ إلا الظالمون»[22]. كما يأتي لقصر موصوف على صفة، من نحوِ قوله: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، فالمعنى: «إنْ أنا إلا عبدٌ أُرسلتُ نذيرًا وبشيرًا، وما من شأني أني أعلم الغيب»[23].

ونهتدي في قراءتنا لتطبيقات الزمخشري أنّ هذا الأسلوب يفيد معه إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره، كما هو الأمر في (إنما)، فالآية: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا﴾، «أصله: نظنّ ظنًّا؛ ومعناه إثبات الظنّ فحَسْب، فأُدخِلَ حرفَا النفي والاستثناء ليُفاد إثباتُ الظنّ مع نفي ما سواه»[24]. وقوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾، «تقرير للوحدانية؛ بنفي غيره وإثباته»[25]. والمعنى في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا﴾، يعني: «لا ملائكة؛ لأنهم كانوا يقولون: ﴿لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: يريد ليست فيهم امرأة. وقيل في سجاح المتنبئة: ولم تزَلْ أنبياءُ اللهِ ذُكْرَانا»[26].

ويتبدّى لنا حرصُ الزمخشري الشديد في فهم العلاقة بين أجزاء العبارة أو ركني الإسناد فهمًا دقيقًا في منحًى آخرَ يتّصل بالأبعاد الأخرى، ويضفي على نسيج العلاقة متانةً وقوّة يحفظها من التفكّك والفتور، ذلك المنحى هو تحديد «الاختصاص» في صيغة «إلّا». والذي يقرأ تحليلات الزمخشري يُدرك أنّ الاختصاص يقع واحدًا؛ من الفاعل أو المفعول، في المبتدأ أو الخبر، وأنه يقع في الذي يكون بعد إلّا. فالآية: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾: «سِيقت لاختصاص الله بعلم الغيب، وأنّ العباد لا عِلْمَ لهم بشيء منه»[27]. وفي الآية: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾، أراد أنه هو المتوصِّل إلى المغيَّبات وحده لا يَتوصَّلُ إليها غيرُه[28]. فالغرض بيانُ عالِم الغيب مَن هو، والإخبار بأنه اللهُ وحده خاصةً دون غيره، أي أنّ الاختصاص هنا واقع في الفاعل دون المفعول. والآية: ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾، سيقت لتبيان أنّ الضرر لا يتعدّاهم إلى غيرهم[29]. وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، يعني: «أي: لا يكلِّفُها إلا ما يتّسع فيه طوقه، ويتيسّر له مدى الطاقة والمجهود»[30].

وواضحٌ من هذين المثالين أنّ الاختصاص يقع في المفعول دون الفاعل. وقُل مثل ذلك في المبتدأ والخبر؛ فالاختصاص في الآية: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، يقع في الخبر ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾، دون المبتدأ ﴿النَّصْرُ﴾؛ بدليل قوله، «لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة»[31]. ويُفهم من هذا أنّ الاختصاص يكون في الذي إذا جئت بـ(لا) العاطفة كان العطف عليه.

القصر بالتقديم:

ومن صورِ القصر التي وقف عندها الزمخشري صورةُ القصر بالتقديم؛ كموقفه من الآية: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ حيث يقول: «﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ تنظر إلى ربها خاصّةً لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ألَا ترى إلى قوله: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾، ﴿إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾، ﴿إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاْمُورُ﴾، ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ =كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص»[32].

وما يمكن أنْ نضيفه هنا هو أنّ المنبه الاعتزالي كان يكمن وراء صور القصر هذه، ومن ثم جاءت هذه التراكيبُ بإيحاءاتها ودلالاتها صورةً لما ينبض في أعماقه من حسٍّ ديني عميق. كما يمكن أن نقول إنّ هذه الصور تعود في معظم أشكالها إلى قصر الصفة على موصوف. وإنّ الاختصاص أو المقصور عليه يقع في المقدَّم دائمًا.

وإذا ما مضينا في تصوير أشكال التعبير لديه فإنّنا نُفَاجَأ بأمثلة ينزلها منزلة القصر إرضاءً لإيمانه الاعتزاليّ الذي طغى على عمله الفني. فهو يرى أن تقديم المبتدأ يفيد الاختصاص، يقول في الآية: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾: «ولا يَقْدِرُ على تقديرِ الليلِ والنهار ومعرفةِ مقاديرِ ساعاتهما إلا اللهُ وحده. وتقديم اسمه -عزّ وجلّ- مبتدَأ مبنّيًا عليه ﴿يُقَدِّرُ﴾؛ هو الدالُّ على معنى الاختصاص بالتقدير. والمعنى: إنكم لا تَقْدِرُون عليه»[33]. ويقول في تفسير الآية: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾: «وإيقاعُ اسم الله مبتدأً، وبناءُ ﴿نَزَّلَ﴾ عليه؛ فيه تفخيمٌ لأحسن الحديث، ورفعٌ منه، واستشهادٌ على حسنه، وتأكيدٌ لاستناده إلى الله وأنّه مِن عنده، وأنّ مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيهٌ على أنه وحيٌ معجِز مباين لسائر الأحاديث»[34]. والمعنى في قوله: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾، ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾، ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾: «لم يُنشِئْكُم منها إلا هو»[35]، «وهو القادر على الإحياء والإماتة لا يقدر عليهما غيرُه»[36]، و«الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره»[37].

كلّ ما يعني الزمخشري هو النظر في أمر (الفاعل) الذي يرتبط بذهن المعتزلة بمكانة خاصّة، أو لِنَقُلْ: إنّ المنبه لهذا الإحساس بتقديم المبتدأ ليس إحساسًا فنيًّا، بل إنما هو إحساس ديني طغَى على جمال العبارة فسَلَبَها جمالها وبلاغتها.

وهذا النموذج من القصر يلتقي مع مواقف أخرى فسَّر فيها الزمخشري التراكيب الخالية من أدوات القصر على اعتبارها قصرًا أو تخصيصًا. منها: تعريف الخبر المسند، من نحوِ تعليقه على الآية: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، حيث المعنى: «لا أنتم، والمختصون بالفوز دونكم»[38]. وقوله في الآية: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، «أي: هو الفوز العظيم وحده دون ما يعدُّه الناس فوزًا»[39]، وقوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ أي: «لا أنت»[40].

ومما يتّصل بذلك ضمير الفصل حيث فيه يرى ما يفيد القصر أو الاختصاص مع التوكيد، يقول في الآية: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: «و﴿هُم﴾ فصلٌ، وفائدتهُ الدلالةُ على أنّ الوارد بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وإيجاب أنّ فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره»[41].

والفصل ﴿هُوَ﴾ من الآية: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾؛ «للتخصيص والتوكيد»[42].

غاية هذا كلِّه أنّ القصر عند الزمخشري يفيدُ قَصْرَ حُكْمٍ على شيء أو قصر شيء على حُكْم، وأنه بعدة طرق؛ هي: القصر بأنّما - وإنّما - والنفي وإلّا - والتقديم - وتعريف الخبر المسند - وضمير الفصل.

وقد لاحظنا أن لا خلاف عنده بين القصر بـ(إنّما)، والقصر بـ(إلّا)؛ فكلاهما يفيد إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره وأنّ ما يصلح في أحدهما يصلح للآخر. وأنّ الاختصاص، أو المقصور عليه يكون معهما في المتأخر دائمًا. وحكم (أنما) حكم (إنما)؛ إِذْ تفيد فائدتها وتحمل أصباغها وألوانها. أمّا القصر بالتقديم فألوانه متباينة بحكم موقع المتقدم وصبغته النحوية، والاختصاص معه يكون في المتقدّم دائمًا.

وربما كان أهمّ ما أضافه من جديدٍ على هذا الأسلوب من التعبير هو القصر بتقديم الجار والمجرور الذي بَدَا نقطة مضيئة في تاريخ هذه الظاهرة.

كما أننا لاحظنا أنه فسَّر كثيرًا من الجزئيات الخالية من أدوات القصر وربطها بمعنى القصر أو التخصيص كما بَدَا ذلك في تقديم المبتدأ وتعريف الخبر، وضمير الفصل.

وقد كان من القريب الذي لا يجادل في قربه هو عدم اهتمامه بالفروق الدقيقة التي تفصل بين طرق القصر وأسرارها البلاغية، وإغفاله لفاعلية السياق والمواقف الوجدانية التي ترتبط بها هذه الصور.

 

 

[1] نُشرت هذه المقالة في مجلة «التراث العربي»، العدد (64)، 1 يوليو 1996م. (موقع تفسير).

[2] الكشاف (2/ 586).

[3] الكشاف (1/ 420).

[4] الكشاف (3/ 565).

[5] الكشاف (1/ 606).

[6] الكشاف (2/ 350).

[7] الكشاف (3/ 543).

[8]الكشاف (2/ 262).

[9]الكشاف (1/ 180- 181).

[10] الكشاف (1/ 180- 181).

[11] الكشاف (2/ 197).

[12] الكشاف (2/ 339).

[13] الكشاف (1/ 334).

[14] انظر: الكشاف (1/ 623).

[15] الكشاف (3/ 307).

[16] الكشاف (2/ 230).

[17] الكشاف (2/ 261).

[18] الكشاف (2/ 363).

[19] قال أبو حيان: «هذا الشيء انفرد به وقد وافقَ البيضاويُّ الزمخشريَّ، وكذلك التنوخيُّ في الأقصى القريب، ولم يتعرّض لها سواهم»، انظر: مرتضى الشيرازي: الزمخشري- اللغوي، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، تحت رقم: 310، ص143. وانظر: همع الهوامع، للسيوطي.

[20] الكشاف (2/ 9).

[21]الكشاف (1/ 413).

[22] الكشاف (2/ 19).

[23]الكشاف (2/ 136).

[24]الكشاف (3/ 514).

[25]الكشاف (1/ 325)، وانظر: الكشاف (2/ 20).

[26]الكشاف (2/ 346).

[27]الكشاف (3/ 157).

[28]الكشاف (2/ 24).

[29] الكشاف (2/ 12).

[30]الكشاف (1/ 408).

[31] الكشاف (1/ 462).

[32] الكشاف (4/ 192).

[33]الكشاف (5/ 178).

[34]الكشاف (3/ 394).

[35]الكشاف (2/ 278). وانظر: الكشاف (1/ 327)، والكشاف (3/ 397).

[36]الكشاف (2/ 241).

[37] الكشاف (2/ 359).

[38]الكشاف (2/ 180).

[39]الكشاف (2/ 202).

[40] الكشاف (4/ 291).

[41] الكشاف (1/ 146).

[42] الكشاف (2/ 212)، وانظر: الكشاف (2/ 191)، والكشاف (3/ 135).

الكاتب

الدكتور تامر سلوم

أستاذ اللغة العربية بجامعة تشرين بسوريا، ثم بجامعة الملك خالد بالسعودية، توفي عام 2010م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))