الصوارف المعتبرة عن الظاهر
الصوارف المعتبرة عن الظاهر[1]
الأصل حملُ الكلام على المعنى الظاهر، وإجراء الكلام على ظاهره لا يحتاج إلى دليل، كما قال الشاطبي (ت: 790هـ): «كونُ الظاهر هو المفهوم العربي مجرّدًا لا إشكال فيه؛ لأنّ الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربي مبين... وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}[فصلت: 44]، وقد عُلِم أنهم لم يقولوا شيئًا من ذلك، فدَلَّ على أنه عندهم عربيٌّ، وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربي فقط، وإن لم يتّفقوا على فهم المراد منه؛ فلا يُشترط في ظاهره زيادةٌ على الجريان على اللسان العربي»[2].
وأمَّا الذي يحتاج إلى دليل فهو صَرْف اللفظ عن ظاهره، ولا بُدَّ من توفّر شروط حتى يصحّ صرف اللّفظ عن ظاهره، وقد أشار الزركشي (ت: 794هـ) إلى هذه المسألة، وسنذكر هذه الشروط بإيجاز كما يأتي:
الشرط الأول: أن يكون اللفظ محتملًا للمعنى الذي تأوّله المتأوّل في لغة العرب.
الشرط الثاني: إذا كان اللفظ محتملًا للمعنى الذي تأوّله المتأوّل فيجب عليه إقامة الدليل على تعيّن ذلك المعنى؛ لأنّ اللفظ قد تكون له معانٍ، فتعيّن المعنى يحتاج إلى دليل.
الشرط الثالث: إثبات صحة الدليل الصارف للّفظ عن حقيقته وظاهره، فإنّ دليل مدعي الحقيقة والظاهر قائم، لا يجوز العدول عنه إلا بدليل صارف يكون أقوى منه.
الشرط الرابع: أن يسلَم الدليل الصارف للّفظ عن حقيقته وظاهره عن معارض[3].
فالتأويل ضرورة واستثناء من الأصل يلجأ إليه المفسِّر عند عدم إمكان إجراء اللّفظ على ظاهره مع قيام الدليل الصارف له والمسوّغ للتأويل؛ لأنّ منطق اللغة هو الأصل، وهو الذي يجب تحكيمه أولًا في تفسير القرآن الكريم الذي نزل بلسان العرب وعلى أساليب العربية.
فلا يترك الظاهر إلى غيره ما دام استعماله فيه ممكنًا، والمعتمد في ذلك والأصل فيه: «التمسك بإجماع علماء السَّلَف والصحابة ومَن بعدهم، فإنّا نعلم على قَطْعٍ أنهم كانوا يتعلّقون في تفاصيل الشرائع بظواهر الكتاب والسُّنّة، ...ومستند الإجماع التواتر»[4].
قال الطبري (ت: 310هـ): «وإنما الكلامُ موجّهٌ معناه إلى ما دَلَّ عليه ظاهرُه المفهوم، حتى تأتي دلالة بَيّنة تقوم بها الحُجّة على أنّ المراد به غير ما دَلّ عليه ظاهره، فيكون حينئذ مُسَلَّمًا للحُجّة الثابتة بذلك»[5].
لكن هناك آيات قرآنية وأحاديث نبوية لو حُمِلَتْ على ظاهرها لأدّت إلى مُحالات، ومن ثم يجب صرفها عن ظاهرها إلى معنى آخر وراء الظاهر وإن كان مرجوحًا، ومن هنا سنتحدّث -بعون الله تعالى- عن الصوارف المعتبرة عن الظاهر.
الأول: القرآن:
لقد تكفّل اللهُ ببيان القرآن وتفصيله وإيضاحه، دلّ على ذلك آيات كثيرة، منها:
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة: 187].
وقوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[البقرة: 221].
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: 19].
ومن بيان القرآن: ما جاء في القرآن نفسه؛ إِذْ إنّ تفسير القرآن بالقرآن من أصحّ طرق التفسير كما قال ابن القيم (ت: 751هـ): «وتفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير»[6].
ولا عجب في ذلك؛ لأن قائل الكلام هو أدرَى بمعانيه وأهدافه ومقاصده من غيره.
وقد فسّر النبيّ-صلى الله عليه وسلم-بعض الآيات بآياتٍ أخرى إشارةً إلى أهمية هذا العلم، ومن أمثلة ذلك[7]:
تفسيره (الظُّلْم) في آية الأنعام[8]: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام: 82]؛ بالشِّرْك الوارد في سورة لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13].
قال ابن تيمية (ت: 728هـ): «ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسَّر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويُصرف الكلام عن ظاهره؛ إِذْ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السُّنّة، وإنْ سُمّي تأويلًا وصرفًا عن الظاهر فذلك لدلالة القرآن عليه، ولموافقة السُّنّة والسّلَف عليه؛ لأنه تفسير للقرآن بالقرآن ليس تفسيرًا له بالرأي، والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين»[9].
والآيات التي صَحّ نَسْخُهَا فإنّ ظاهرها قبل النَّسْخ كان هو المراد فلما نُسِخَتْ تحوّل إلى النصّ الناسخ لها، وأصبح بعد النّسْخ ظاهرها غير داخل في التكليف، وكذا تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيِّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيّد، وكذلك العام مع الخاص، والمبين مع المبهم....[10]
- ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي:
1- ما جاء في قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}[البقرة: 229]، فإنّ ظاهره المتبادر منه أن الطلاق كلّه محصور في المرتين، ولكنه تعالى بَيَّن أن المراد بالمحصور في المرّتين خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرجعة، بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة: 230][11].
2- وأيضًا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}[آل عمران: 90]، ظاهر الآية إطلاق عدم قبول التوبة، ولكن هذا الإطلاق الظاهر صُرف بطريق التقييد، فالتوبة مقيّدة بالموت على الكفر، كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء: 18].[12]
3- وكذلك ما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}[الأنعام: 152]، فإن المتبادر من مفهوم الغاية أنه إذا بلغ أشدّه فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن، ولكنه بَيَّن أنّ المراد بالغاية أنه إنْ بلغها يدفع إليه إنْ أُونس منه الرشد، وذلك في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النساء: 6][13].
الثاني: السُّنّة:
السنّة النبوية المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، وهي «راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل لمجمله وبيان لمشكله وبسط لمختصره»[14].
قال الشافعي (ت: 204هـ): «جميع ما تقوله الأمة شرح للسنّة، وجميع السُّنّة شرح للقرآن»[15].
وقال ابن تيمية (ت: 728هـ): «وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة الدين أنّ السُّنّة تفسِّر القرآن وتبيّنه وتدلّ عليه وتعبِّر عن مجمله وأنها تفسِّر مجمل القرآن من الأمر والخبر»[16].
والسنّة وحيٌ من الله تعالى إلى نبيّه-صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم: 3- 4]، ولا يمكن اكتمال الدِّين أو أن يُفهم القرآن بغير السنّة، بل إنّ الاقتصار على القرآن دون السنّة خروج من الدِّين.
قال الشاطبي (ت: 790): «إنّ الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خَلاق لهم، خارِجِين عن السُّنّة، إِذْ عَوَّلُوا على ما بنيتُ عليه من أن الكتاب فيه بيان كلّ شيء، فاطَّرحوا أحكام السنّة، فأدَّاهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله»[17].
وقد أمر اللهُ نبيَّه-صلى الله عليه وسلم-أن يبيّن للناس القرآن، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 44]. فكان -عليه الصلاة والسلام- أول شارح للقرآن الكريم، ومبيّن لمعانيه[18].
لذا كانت السنّة مصدرًا ثانيًا للتفسير بعد القرآن، ومن ذلك أنها قد تكون صارفة للقرآن عن ظاهره، ومن الأمثلة على ذلك:
1- ما جاء في قوله تعالى بعد ذِكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}[النساء: 24]، أخبر تعالى أنه أحلّ ما سوى مَن ذَكر في الآيتين السابقتين وظاهره العموم، ويدخل تحت هذا العموم الذي أفاده ظاهر الآية جواز نكاح المرأة على عمّتها وعلى خالتها والجمع بينهما؛ ولكن النبي-صلى الله عليه وسلم-بَيَّن أن الظاهر المتبادر من هذه الآية غير مراد في نكاح امرأة على عمّتها وعلى خالتها، بقوله: (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها)[19].
قال ابن عطية (ت: 546هـ) في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23]، «الآية حكمٌ حرّم اللهُ به سبعًا من النَّسَب وستًّا من بين رضاع وصهر، وألحقت السنّة المأثورة سابعة وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ومضى عليه الإجماع» اهـ[20].
2- وما جاء أيضًا في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة: 3]، ظاهر في تحريم جلدها دُبغ أو لم يُدبغ؛ لأن اللفظ عام يتناول جميع أجزائها، غير أنّ في الآية احتمال أن يكون الجلد غير مراد بالعموم، من جهة أنّ إضافة التحريم إلى الميتة يقتضي عرفًا تحريم الأكل، والجلد غير مأكول فلا يتناوله عموم التحريم، وقد قوي هذا الاحتمال بما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: «أيُّما إهاب دُبغ فقد طَهُر»[21]، والحديث ظاهر عام، يتناول بعمومه إهاب الميتة[22].
3- وما جاء كذلك في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة: 222]، ظاهر الاعتزال والقربان أنهما لا يتماسّان، ولكن بينَت السُّنَّة أنه اعتزال وقربان خاصّ[23]، وذلك بفعله-صلى الله عليه وسلم-حيث كان يأمر بعض أزواجه أن تشدَّ إزارها ثم يباشرها وهي حائض[24].
الثالث: الإجماع:
الإجماع حقّ مقطوع به في دين الله وأصل عظيمٌ من أصول الدِّين، ومصدر من مصادر الشريعة، مستمدٌّ من كتاب الله الكريم، وسنّة رسوله-صلى الله عليه وسلم-، وتالٍ لهما في المنزلة.
قال القاضي أبو يعلى (ت: 458هـ): «الإجماع حُجّة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ»[25].
وقال ابن حزم (ت: 456هـ): «الإجماع قاعدة من قواعد الملّة الحنيفية، يُرْجع إليه، ويُفْزَعُ نحوه، ويَكْفُر مَن خالفه، إذا قامت عليه الحُجّة أنه إجماع»[26].
ولذلك كان حتمًا على الطالب الحقّ، المتبع لسبيل المؤمنين، المبتعِد عن مشاقّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم= أن يعرف ما أجمع المسلمون عليه من مسائل الشريعة العلمية والعملية، ليستنّ بسلفه الصالح، ويسلك سبيلهم، ولئلا يقع في عِداد من اتّبع غير سبيل المؤمنين، فيحقّ عليه الوعيد المحكم في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء: 115][27].
قال ابن حزم (ت: 456هـ): «ومَن خالفه -أي الإجماع- بعد علمه به، أو قيام الحُجّة عليه بذلك، فقد استحقّ الوعيد المذكور في الآية»[28].
أهم فوائد الإجماع[29]:
- الإجماع على المعلوم من الدِّين بالضرورة، يُظْهِرُ حجم الأمور التي اتفقت فيها الأمة، بحيث لا يستطيع أهل الزَّيْغ والضلال إفساد دين المسلمين، ومَن طالع حال الأمم السابقة، مِن أهل الكتاب وغيرهم، في اختلافهم في أصول دينهم العلمية والعملية، عَلِمَ النعمة العظيمة التي اختُصَّت بها هذه الأمة؛ حيث أجمع أئمة الدِّين على مئات من الأصول بَلْهَ الفروع، بحيث لا يُخالف فيها أحد من المسلمين، ومَن خالف بعد العلم: حُكِم عليه بما يقتضيه حاله من كُفْرٍ أو ضلال أو فِسْق.
- العلمُ بالقضايا المُجمع عليها من الأمة يعطي الثقة التامة بهذا الدِّين، ويُؤلِّف قلوب المسلمين، ويسدُّ الباب على المتقوِّلين، الذين يزعمون أنّ الأمة قد اختلفَت في كلّ شيء، فكيف يجمعها جامعٌ، أو يربطها رابط؟!
- أنه قد يخفَى النصُّ الدالُّ على حكم مسألة بعينها على بعض الناس، ويُعلم الإجماع الذي تقرّر أنه لا بد أن يستند إلى نصّ، فيكتفى به في النقل والاستدلال.
- أن السّنَد الذي يقوم عليه الإجماع قد يكون ظنيًّا، فيكون الإجماع عليه سببًا لرفع رتبة النصّ الظنية والحكم المستنبط منه إلى رتبة القطع؛ لأنه قد دلّ الإجماع على أنه لا خبر عن النبيّ-صلى الله عليه وسلم-يخالف ما أجمعوا عليه.
- تحتمل النصوص في جملتها التأويل والتخصيص والتقييد والنَّسْخ وغير ذلك، فإذا كانت هي المرجع وحدها كَثُر الخلاف بين الأئمة المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام منها؛ لاختلاف المدارك والأفهام، فإذا وُجِدَ الإجماع على المراد من النصّ ارتفعت الاحتمالات السابقة، واتقى المجتهدون بذلك متاعب الخلاف والنظر والاستنباط.
- التشنيع على المخالفين بالجرأة على مخالفة الإجماع، فيكون ذلك سببًا قويًّا لزجر المخالف؛ لئلّا يتمادى في باطله بعد أن يعلم أنّ الأمة مجمِعة على خلاف مقالته.
قال ابن حزم (ت: 456هـ): «مال أهل العلم إلى معرفة الإجماع؛ ليعظموا خلاف مَن خالفه، وليزجروه عن خلافه، وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس؛ لتكذيب من لا يبالي بادّعاء الإجماع جرأة على الكذب، حيث الاختلاف موجود، فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه»[30].
- الإجماع دليلٌ يؤكّد حكم المسألة، ويكثِّر أدلتها، فقد تدلّ جملة من الأدلة على حكم مسألة من المسائل فيكون الإجماع مكثّرًا لها، موثّقًا لما جاء فيها.
- وقد يكون الإجماع صارفًا للقرآن عن ظاهره، ومن الأمثلة على ذلك ما يأتي:
ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 54].
قال الرازي (ت: 604هـ): «ما المراد بقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أهو ما يقتضيه ظاهره من أن يقتل كلّ واحد نفسه أو المراد غير ذلك؟
الجواب: اختلف الناس فيه، فقال قوم من المفسِّرين: لا يجوز أن يكون المرادُ أمْرَ كلّ واحد من التائبين بقتل نفسه، واحتجّوا عليه بوجهين:
الأول: وهو الذي عَوّل عليه أهل التفسير، أن المفسِّرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولو كانوا مأمورين بذلك لصاروا عصاة بترك ذلك.
الثاني: (...)، ثم قال الرازي (ت: 604هـ): الوجه الأول الذي عوّل عليه المفسِّرون أقوى، وعلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها، ثم فيه وجهان:
الأول: أن يقال: أمر كلّ واحد من أولئك التائبين بأن يقتل بعضُهم بعضًا، فقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، معناه: ليقتل بعضُكم بعضًا... ثم قال المفسِّرون: أولئك التائبون برزوا صفَّين فضرب بعضهم بعضًا إلى الليل.
الوجه الثاني: أنّ الله تعالى أمر غير أولئك التائبين بقتل أولئك التائبين، فيكون المراد من قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، أي: استسلِموا للقتل.
وهذا الوجه الثاني أقرب؛ لأن في الوجه الأول تزداد المشقّة؛ لأنّ الجماعة إذا اشتركتْ في الذنب كان بعضهم أشدّ عطفًا على البعض من غيرهم عليهم، فإذا كُلِّفوا بأن يقتل بعضُهم بعضًا عظمت المشقة في ذلك»[31].
فالرازي في المثال السابق يرى أنّ الظاهر من الآية محال وممتنع، ويرجّح عدم قتل كلّ واحد نفسه، ويصرف بهذا الترجيح الآية عن ظاهرها من قتل كلّ واحد نفسه، وهذا الصارف عنده بدليل أنّ المفسِّرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولو كانوا مأمورين بذلك لصاروا عصاة بترك ذلك.
وما جاء أيضًا في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النساء: 51].
قال ابن عطية (ت: 546هـ): «ظاهر هذه الآية يعمّ اليهود والنصارى، لكن أجمع المتأوّلون على أنّ المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبيّن ذلك»[32].
فابن عطية في الآية السابقة صرف الآية عن ظاهرها بدلالة الإجماع.
وما جاء كذلك في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[المائدة: 38].
قال أبو حيان (ت: 745هـ): «والظاهر من قوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، أنه يُقطع من السارق الثنتان، لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر، وإنما يُقطع من السارق يُمناه، ومن السارقة يمناها...»[33].
فأبو حيان في الآية السابقة صرف الآية عن ظاهرها بدلالة الإجماع.
الرابع: تفسير السَّلَف:
لقد أدرك سَلَفُ هذه الأمة منزلة تفسير كتاب الله، فنزل منهم أشرف منزل وأعلاه، وتفرّغ له طائفةٌ منهم، فأفنوا فيه أعمارهم تحصيلًا وتأصيلًا، وسلكوا لنشره وتبيينه للناس كُلَّ سبيل، فكان بيانهم أحسن بيان، وجاء استنباطهم أدقّ استنباطٍ وألطفه، ولا غَرْو فهم خير هذه الأمة وأفضلها بشهادة خير البريّة-صلى الله عليه وسلم-، وقد حازوا كمال كلّ فضيلةٍ من علمٍ، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة.
ولقد بيّنَت النصوص الشرعية بيان فضل السَّلَف، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 100][34].
وقال-صلى الله عليه وسلم-: (خير الناس قَرْنِي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه)[35].
قال ابن رجب (ت: 795هـ): «فأفضل العلوم في تفسير القرآن، ومعاني الحديث، والكلام في الحلال والحرام، ما كان مأثورًا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم...، فضبط ما رُوي عنهم في ذلك أفضل العلم مع تفهُّمِه وتعقُّلِه والتفقُّه فيه، وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة، فلا يوجد في كلام مَن بعدهم مِن حقّ إلا وهو في كلامهم موجود لمن فهمه وتأمّله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة، ما لا يهتدي إليه مَن بعدهم ولا يُلِمُّ به»[36].
ومن الأمثلة التي تبيِّن أنّ تفسير السَّلَف صارف عن الظاهر:
قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}[التحريم: 5]، فإنّ ظاهره المتبادر من قوله تعالى: {سَائِحَاتٍ} أنها السياحة في الأرض، ولكن السَّلَف -رضي الله عنهم- بيَّنوا أن الظاهر المتبادر من هذه الآية غير مراد، وإنما المراد بقوله تعالى: {سَائِحَاتٍ}: الصيام[37].
الخامس: السياق:
إنّ مفردات اللغة العربية واسعة الدلالة، فلا يتحدّد المراد من المفردة العربية إلا إذا نُظِر إليها في ضوء سياقها، فحينئذٍ تتضح معالمها، وينتفي تعدّد المعاني واشتراكه وتعميمه، ويُقطع بإرادة أحد معانيها المحتملة.
فلدلالة السياق القرآني أهمية كبرى في تفسير كلام الله تعالى، فهي أصل أصيل من أصول هذا العلم، وبإهمالها يضع المفسِّر قدَمه على عتبات الزَّلَل، ويركب مراكب الخَلَل، وتُوسم آراؤه بالعِلَل، فيعظم الخطب ويُصبح جَللًا.
ودلالة السياق معتبرة في الشريعة الإسلامية، فهي ليست وليدة هذه الأزمان المتأخّرة، وإنما هي مرتبطة باللغة العربية ارتباطًا وثيقًا منذ القِدَم، فلا يُفهم الكلام عند العرب إلا ضمن سياقه، والقرآن الكريم نزل بلغة العرب[38].
قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء: 192- 195].
وقد يكون السياق صارفًا للقرآن عن ظاهره، ومن ذلك:
1- «قال رجل لعليِّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النساء: 141]، وهم يقاتلوننا فيَظهرون ويَقتلون؟ قال له عليٌّ: ادنه، ادنه، ثم قال: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النساء: 141]، يوم القيامة»[39].
فالسائل في المثال السابق فهم الآية على ظاهرها بمعزلٍ عن سياقها، فبيَّن عليٌّ -رضي الله عنه- أن محلّ إشكاله هو ظهور بعض الكافرين على المسلمين في الدنيا؛ بينما هذا الوعد محدّد باليوم الآخر بدلالة سياق الآية، وهي قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وبعدها مباشرة: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}.
2- قال الخارجي نافع بن الأزرق لابن عباس: «يا أعمى البصر، أعمى القلب، تزعم أنّ قومًا يخرجون من النار، وقد قال الله -عز وجل-: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}[المائدة: 37]، فقال له ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنه-: ويحك! اقرأ ما فوقها؛ هذه للكفار». فنجد أنّ ابن عباس -رضي الله عنه- ردّ على هذا الخارجي انحرافه العقدي بدلالة سياق الآيات، فأرشده لسباقها، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة: 36]، ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[المائدة: 37].
فهذا الخارجي فهم الآية على ظاهرها بمعزلٍ عن سياقها فبيّن له ابن عباس -رضي الله عنه- أن المقصود بها الكفار؛ لأنها في سياق الحديث عنهم، ومن خلال هذا يَتبَيَّن خطورة إهدار دلالة السياق القرآني، وأنّ ذلك سبب للخطأ والانحراف العقدي.
3- وما جاء أيضًا في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص: 8].
قال محمد بن إسحاق وغيره: «اللام» هنا لام العاقبة لا لام التعليل؛ لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك. ولا شَكّ أنّ ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى اللام للتعليل؛ لأنّ معناه أن الله تعالى قيّضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوًّا وحزنًا فيكون أبلغ في إبطال حَذَرِهم منه؛ ولهذا قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}[القصص: 8][40].
السادس: العقل:
لقد خلق اللهُ الإنسانَ، وفضّله على كثير من المخلوقات الأخرى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: 70].
وإنّ مِن أهم ما يميز الإنسان عن غيره من البهائم هو ذلك العقل المفكِّر، تلك الطاقة البشرية الكبرى، والنعمة الإلهية العظمى، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[الملك: 23].
والفؤاد يجيء في القرآن بمعنى العقل، أو القوة الواعية في الإنسان، أو القوة المدرِكة على وجه العموم[41].
ويؤيّد صحة هذا القول ما جاء في بعض الآيات من نسبة العقل إلى القلوب، كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}[الحج: 46][42].
ولقد دلَّ الإسلام على مكانة العقل من وجوه كثيرة، ولعلّ أبرزها ما يأتي:
الثناء على أرباب العقول، وأُولي الألباب والتفكُّر والاتعاظ؛ فقد خصّهم الله تعالى بالخطاب، فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179]، وقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197][43].
الحثّ على النظر والتفكُّر والاعتبار، وذلك من خلال النظر في ملكوت السماوات والأرض، وتقلّب الليل والنهار، والنظر في النّفْس، وقد حثّ الله تعالى على ذلك في آيات كثيرة من كتابه، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران: 190- 191].
ما جاء في النصوص الشرعية الكثيرة مِن ذمّ التقليد، واتّباع الآباء والكبراء والمتبوعين دون دليل؛ ذلك لأنّ في التقليد تعطيلًا لهذه النعمة العظيمة، وقد تواترت الأدلة على ذمّه، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف: 23- 24].
تعليق التكليف بالعقل، وحفظه عمّا يخلّ به، فالإسلام جعل مدار التكليف ولزوم الأحكام على وجود العقل؛ إِذْ إنّ المجنون غير مكلَّف بالأحكام الشرعية، ولهذا ورد في الحديث: (رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل)[44].
وجاء الإسلام بالمحافظة على هذا العقل، وإبعاده عمّا يخلّ به؛ لأجل أن يبقى الإنسان سويًّا في تفكيره، فيقوم بواجبه، والأصل من وجوده، وهو عبادة الله على الوجه الأكمل.
إنّ من مظاهر اعتبار الإسلام للعقل وعدم إلغائه له أنْ أطلق له العِنان في التفكير فيما يدركه ويشاهده، ومنعه من التفكير والتخبّط فيما لا يدركه ولا يقع تحت حِسّه من المغيَّبات التي لا يمكن أن يصل في تفكيره فيها إلى نتيجة.
فالإسلام حين يفسح المجال للعقل في التفكير وأخْذِ العِبَر، والتوصّل إلى النتائج يجعل ذلك قاصرًا على ما يستطيعه من مظاهر هذا الوجود، مما يحيط به ويقع تحت حواسه، أمَّا ما غاب عنه مما لا يمكنه الوقوف على حقيقته، فإنه لا يشغله في البحث عنه، أو التيه في بحر الأوهام والخيالات، بل إنه ينهاه عن ذلك، ويبعده من التكلُّف، ومن ضياع الوقت ومسببات الحيرة دون الوصول إلى نتيجة.
قال السفاريني (ت: 1188هـ)[45]:«إنّ الله تعالى خَلَق العقول، وأعطاها قوّة الفكر، وجعل لها حدًّا تقف عنده من حيث ما هي مفكِّرة، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدِّها، ووفَّت النظر حقه؛ أصابتْ بإذن الله تعالى، وإذا سلّطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدِّها الذي حدَّه الله لها، ركبَت متن عمياء، وخبطتْ خبط عشواء...»[46].
مكانة الدلائل العقلية:
ينبغي أنْ يُعْلَم أولًا أنّ الدلائل العقلية منها الصحيح، ومنها غير الصحيح، فليستْ كلّها على وتيرة واحدة، فما اتفق عليه العقلاء فإنه يؤخذ به ويعتدّ به، وما خالف الكتاب والسنّة مما يُدّعَى أن العقل دلّ عليه فليس بصحيح، وليس هو حُجّة عقلية، بل هو من قَبِيل الأوهام والخيالات والظّنون.
وعليه فلا يصحّ الطعن في جنس الأدلة العقلية، كما لا يجوز قبولها بإطلاق، بل الصحيح منها يُقبل، والباطل منها يُرَدّ، ومثلُ هذا الأدلةُ المنسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فليس كلّ ما نُسب إليه يؤخذ به، بل لا بد من ثبوت صحة سنده، وإلّا ففي الأحاديث ما هو ضعيف، وفيها ما هو موضوعٌ مكذوب[47].
قال ابن تيمية (ت: 728هـ): «واعلمْ أنّ أهل الحقّ لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحّته، وإنما يطعنون فيما يَدّعِي المعارِض أنه يخالف الكتاب والسنّة، وليس في ذلك -ولله الحمد- دليل صحيح في نفس الأمر، ولا دليل مقبول عند عامة العقلاء، ولا دليل لم يقدح فيه العقل»[48].
وسأذكر بعض الآيات التي صُرِفَتْ عن معناها الظاهر المتبادر إلى معانٍ أخرى، بدلالة العقل:
1- ما جاء في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران: 97]، فإنّ العقل يدلّ نظرًا على أنّ فاقد العقل بالكلية لا يدخل في هذا الخطاب[49].
2- وما جاء أيضًا في قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام: 102]، فإنّ لفظ (شَيْء) في غير هذه الآية، يدخل فيه الخالقُ والمخلوق؛ بدليل قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}[الأنعام: 19]، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص: 88]، إلّا أنّ العقل يدلّ ضرورةً على أنّ لفظ (شَيْء) في هذه الآية لا يتناول الخالق[50].
3- وما جاء كذلك في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء: 24].
فإنه يستحيل حملُه على الظاهر؛ لاستحالة أن يكون آدميّ له أجنحةٌ، فيُحمل على الخضوع وحُسْن الخلُق[51].
السابع: اللغة:
اختار الله -سبحانه- نبيّه الخاتم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- عربيًّا، وكان من السّنن أنّ كون كتابِه بلسان قومه، جَرْيًا على سنّة الله في إرسال الرّسل-عليهم الصلاة والسلام-؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم: 4].
وقد جاء النصّ على عربية القرآن في غير ما آيةٍ، منها:
1- قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف: 2].
2- وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}[طه: 113].
3- وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الزمر: 28].
وغير هذه الآيات التي نصَّتْ على عربيةِ القرآن.
ولمّا كان الأمرُ كذلك، فإنه لا يمكن العدول عن هذه اللغة التي نزل بها القرآنُ إلى غيرها إذا أُريد تفسير الكتاب الذي نزلَ بها؛ لأن معرفة معاني ألفاظه لا تؤخذُ إلا منها.
قال ابن فارس (ت: 395هـ): «إنّ العلم بلغة العرب واجب على كلّ متعلقٍ من العلم بالقرآن والسنّة والفُتيا بسبب، حتى لا غَنَاءَ بأحد منهم عنه، وذلك أنّ القرآن نازلٌ بلغة العرب، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- عربي.
فمَن أراد معرفة ما في كتاب الله -جلّ وعزّ- وما في سُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مِن كلّ كلمة غريبة أو نَظْمٍ عجيب، لم يجد من العلم باللغة بُدًّا»[52].
وقال الشاطبي (ت: 790هـ): «لا بدّ في فهم الشريعة من اتّباع معهود الأُميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإنْ كان للعرب في لسانهم عُرْفٌ مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثَم عرفٌ، فلا يصح أن يُجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب»[53].
ويُفهم من ذلك أنّ معرفة اللغة العربية شرطٌ في فهم القرآن؛ لأنّ مَن أراد تفسيره، وهو لا يعرف اللغة التي نزل بها القرآن، فإنه لا شَكّ سيقع في الزّلل، بل سيحرِّف الكَلِم عن مواضعه، كما حصل من بعض المبتدعة الذين حملوا القرآن على مصطلحاتٍ أو مدلولات غير عربية[54].
وينبغي التنبّه إلى أنه قد تكون اللغة صارفة للقرآن عن ظاهره، ومن أمثلة ذلك:
قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}[البقرة: 203]، لا يمكن حملُه على ظاهره؛ لأنّ الظرف المبنيّ إذا عمل فيه الفعل فلا بدّ من وقوعه في كلّ واحد من اليومين، لو قلت: ضربت زيدًا يومين، فلا بدّ من وقوع الضرب به في كلّ واحد من اليومين، وهنا لا يمكن ذلك؛ لأنّ التعجيل بالنَّفْر لم يقع في كلّ واحد من اليومين، فلا بدّ من ارتكاب مجاز: إمّا بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقوع فيهما، ويصير نظير: {نَسِيَا حُوتَهُمَا}[الكهف: 61]، و{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: 22]، وإنما الناسي أحدهما، وكذلك إنما يخرجان من أحدهما. أو بأن يجعل ذلك على حذف مضاف، التقدير: فمن تعجّل في ثاني يومين بعد يوم النحر، فيكون اليوم الذي بعد يوم القَرّ المتعجّل فيه، ويحتمل أن يكون المحذوف في تمام يومين أو إكمال يومين، فلا يلزم أن يقع التعجّل في شيء من اليومين، بل بعدهما. وعلى هذا يصحّ أن يعدّ يوم النحر من الأيام المعدودات، ولا يلزم أن يكون النَّفْر يوم القَرّ[55].
[1] نُشرت هذه المقالة في ملتقى أهل التفسير بتاريخ 3 ربيع الآخر 1442هـ، الموافق 18/ 11/ 2020م. (موقع تفسير).
[2] الموافقات (4/ 224).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (6/ 360)، الصواعق المرسلة (1/ 153- 156)، بدائع الفوائد (4/ 1660)، البرهان في علوم القرآن (2/ 166).
[4] انظر: البرهان في أصول الفقه (1/ 514)، علم التفسير أصوله وقواعده، ص244، 245.
[5] جامع البيان (2/ 482).
[6] التبيان في أقسام القرآن (1/ 304).
[7] جهود الشيخ ابن عثيمين وآراؤه في التفسير وعلوم القرآن، ص176.
[8] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: لا تشرك بالله... (رقم: 4776)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: صدق الإيمان وإخلاصه (رقم: 124).
[9] مجموع الفتاوى (6/ 21).
[10] نظر: الموافقات (3/ 344)، قواعد الترجيح (1/ 171).
[11] انظر: أضواء البيان (1/ 75).
[12] انظر: أضواء البيان (1/ 281).
[13] انظر: أضواء البيان (1/ 75).
[14] الموافقات (1/ 4).
[15] انظر: الإتقان في علوم القرآن (5/ 1906).
[16] مجموع الفتاوى (17/ 432).
[17] الموافقات (4/ 325).
[18] انظر: الترجيح بالسنة عند المفسرين (1/ 32- 35).
[19] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، (رقم: 5109)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (رقم: 1408).
[20] المحرر الوجيز (4/ 69).
[21] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ (رقم: 366)، وأحمد في مسنده (3/ 382)، (4/ 254)، (5/ 273)، وابن ماجه في سننه، كتاب اللباس، باب: لبس جلود الميتة إذا دُبغت حديث (رقم: 3609)، والترمذي في سننه، كتاب اللباس، باب: ما جاء في جلود الميتة إذا دُبغت (رقم: 1728).
[22] تفسير النصوص (1/ 390، 391).
[23] البحر المحيط (2/ 178).
[24] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الحيض، باب: مباشرة الحائض (رقم: 300)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب: مباشرة الحائض فوق الإزار (رقم: 293).
[25] العدة (4/ 1058).
[26] مراتب الإجماع، ص7.
[27] الإجماع في التفسير، ص31.
[28] النبذ في أصول الفقه، ص18.
[29] انظر: مجموع الفتاوى (19/ 195)، نظرة في الإجماع الأصولي (ص:73) وما بعدها، علم أصول الفقه، ص85، الإجماع في التفسير، ص36، 37.
[30] الإحكام (4/ 144).
[31] التفسير الكبير (3/ 86، 87).
[32] انظر: المحرر الوجيز (2/ 579).
[33] البحر المحيط (3/ 494).
[34] انظر: استدراكات السلف في التفسير، ص5، 24.
[35] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جَور إذا أُشهد (رقم: 2650)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (رقم: 2533).
[36] بيان فضل علم السلف على علم الخلف، ص67.
[37] رُوي ذلك عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وغيرهم -رضي الله عنهم-. انظر: جامع البيان (12/ 112)، (23/ 101).
[38] انظر: السياق القرآني وأثره في التفسير، ص75- 78.
[39] جامع البيان (7/ 610).
[40] تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 222).
[41] انظر: منهج التربية الإسلامية، ص75.
[42] موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنّة (1/ 261).
[43] انظر: العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام، ص55، 56.
[44] أخرجه أحمد في مسنده (2/ 373)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا (رقم: 4403)، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم (رقم: 2041)، والترمذي في سننه، كتاب الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد (رقم: 1423). وصححه الألباني. انظر: إرواء الغليل (2/ 4).
[45] هو: أبو العون، شمس الدين، محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني الحنبلي، محدِّث فقيه، أصولي مؤرِّخ، له تصانيف كثيرة، مات سنة ثمان وثمانين ومائة وألف. انظر: هدية العارفين (2/ 340)، الأعلام (6/ 240).
[46] لوامع الأنوار البهية (1/ 105).
[47] انظر: مجموع الفتاوى (16/ 469، 470)، موقف المتكلِّمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنّة (1/ 280).
[48] درء التعارض (1/ 194).
[49] انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 280)، مذكرة أصول الفقه، ص345.
[50] انظر: شرح الكوكب الساطع (1/ 512)، شرح الكوكب المنير (3/ 279)، مذكرة أصول الفقه، ص345.
[51] البرهان في علوم القرآن (2/ 206).
[52] الصاحبي في فقه اللغة، ص50.
[53] الموافقات (2/ 131).
[54] التفسير اللغوي، ص40، 41.
[55] البحر المحيط (2/ 118، 119).