إشكالات علم أصول التفسير
قراءة في بعض الإشكالات وطرح رؤية لضبط استمداد العلم
تقديم:
لا نبالغ إذا قلنا إنه لم يشهد حقل علمي في العلوم الإسلامية جدالًا في تأسيسه وعِلْميته مثل أصول التفسير، فشأن الحقول العلمية الأخرى ومسارها يختلف بشكل جذري عنه؛ فهي على الأقل لم تنشأ لأنّ هناك من دعا إلى إنشائها، بل تبرعمتْ ونضجتْ واستوتْ على سُوقها في سياقات علمية وتاريخية واضحة ومحدّدة وفي وقت ليس بالطويل. لكن أصول التفسير وعلى الرغم من كون التفسير من أقدم العلوم فقد تجاذبته المقاربات المتعدّدة؛ بين تلك التي ترى مسيس الحاجة إليه وتلك التي تذهب إلى غير ذلك، وإذا يمّمنا وجوهنا تلقاء تلك التي رامت تأسيسه نجد الكثير من الإشكالات التي وسمت الإنتاجات المعاصرة الكثيرة.
فقد شهد حقل أصول التفسير مؤلَّفات تترى ومقالات وندوات ومؤتمرات تتوالى، ذات طابع استشرافي وتحقيق علمي يتغيّا الباحثون المختصّون في الميدان من خلال ذلك تقعيد القواعد ووضع الأُسس وبناء نسق كُلّي لهذا العلم، يحكمه ويميزه عن غيره، ويحفظ له استقلاله وتنماز فيه القضايا الصلبية من العرايا والـمُلَح.
فكنّا أمام حصيلة من الأنظار والمقترحات والمخرجات، لكنها إلى الآن لا تزال بحاجة إلى كثير من التدقيق والتحقيق، وذلك من قبيل مفهوم أصول التفسير ذاته والمفاهيم الناظمة والمؤطّرة له، وموضوعه، واستمداده، ومصادره، ووظائفه.
وسأقتصر على استمداده ووظائفه نظرًا لتعلّقهما المباشر ببنية العلم.
أمّا عن الوظائف فقد تباينت المؤلَّفات المعاصرة في تحديدها مما انعكس على مفهوم التفسير، وغير خافٍ الأهمية العلمية لتحديد المفهوم، وانعكاسات ذلك على تصوّر ذلك العلم وقضاياه.
وإذا لم نقتدر على تحقيق الحدّ الأدنى من التقارب في وظائف هذا العلم الناشئ؛ فإن رقعة الخلاف ستتسع أكثر في قضايا أخرى. وهذا من مسوغات هذا البحث إِذْ يروم الانخراط ضمن الجهود الرامية إلى نقد وتقويم الإنتاج المعاصر في هذا الميدان، بما يفضي إلى تنسيق الجهود والوقوف عند مكامن الخَلَل الحقيقية؛ لأنّ من أسباب التباين في بعض القضايا الاشتغال الفردي وتعدّد زوايا النظر دون منطلقات ونماذج موجّهة.
وأمّا ما يتعلّق بمصادر التفسير واستمداده، فقد ذهب كثير من الروّاد في هذا الميدان إلى ضرورة الرجوع إلى مظانّ التفسير من أجلِ استخراج مناهج المفسِّرين والطرق الموصلة عندهم إلى استدرار المعاني ومختلف الدلالات، وسجّلت في ذلك العديد من الأطروحات الجامعية في كلّ تفسير على حِدَة، إلا أن ذلك تعترضه مجموعة من الإشكالات التي تحتاج إلى بحث ونظر، منها التباين بين اتجاهات التفسير (الفقهي، والبياني، والإشاري، والتربوي، والهدائي، والاجتماعي، والإصلاحي، والتخصّصي، والموسوعي، والمذهبي، والفلسفي...)، ومن ثم لا بد من التساؤل عن كيفية استثمار الأصول المستخرجة من هذه المظان المتباينة.
فضلًا عن التباين الحاصل في استخراج الأصول المعتبرة على اختلاف همم الباحثين ومستوياتهم، وتكفي المقارنة بين أطروحتين حول نفس التفسير لنقف على جلية الأمر.
ولذلك اكتفت المؤلَّفات المعاصرة في أصول التفسير بتكرار الدعوة إلى النهل من مظانّ التفسير دون امتلاك تصوّر جلي وخطة منهجية لهذا النّهل.
ومنه سيسعى هذا المقال إلى تبيان وجه استشكال هذين العنصرين والاستدلال على أهميتهما في بناء أصول التفسير وأحقّية وجدارة بحثهما، مع التطرّق إلى بعض المقترحات ومعالم الحل الأولية، وكذلك تبيان العلاقة بين استمداد أصول التفسير ووظائف أصول التفسير.
وسيعتمد الباحث على المنهج التحليلي باعتباره منهجًا يقوم على التفسير والنقد والاستنباط.
أولًا: إشكالية استمداد أصول التفسير من مظانّ التفسير[1]:
توزّعت المادة الخام لأصول التفسير بين مظانّ وحقول معرفية متعدّدة، فبعضها يوجد في كتب أصول الفقه وبعضها في كتب اللغة وعلوم القرآن والحديث والمقاصد وغيرها، مما يجعل الحاجة ماسّة إلى جمع متفرّقات ذلك وتمييز الصلبي من الـمُلَح ضمنه، وإحكام صياغة ذلك المجموع في شكلِ قواعد تتيح عملية استثمارها وتفعيلها، لكن ذلك الجمع تعترضه جملة من الإشكالات، منها معيار الإبقاء والاستبعاد، معيار الحكم بالكلية والقاعدية، ومعيار الترتيب والأولوية.
ولأنّ المقام لا يتّسع لبسط كلّ ذلك أكتفي بما يتعلّق بالاستمداد من مظانّ التفسير. فقد دعا فريد الأنصاري إلى استخراج المناهج العملية والنقدية من خلال كتب التفاسير، من أوّل ما صنف إلى اليوم... والشرط في ذلك ألا تكون البحوث سطحية، فلا تتناول طريقة المؤلّف في تفسيره للقرآن، بإحصاء الأدوات العلمية المستعملة لديه فحَسْب؛ كتوظيفه للغة مثلًا، والشِّعْر، والقراءات القرآنية، والحديث النبوي...إلخ فهذا مطلوب، نعم، ولكن لا بد من تعميق العمل، بأن تستنبط القواعد المعتمدة لديه في عملية الفهم والتأويل والتوجيه، وكذا الضوابط والمقاصد المتحكّمة في العملية التفسيرية عنده، فلا بد من بيان الأصل والفرع في ذلك، وكذا الكلي والجزئي، والثابت والمتغير، والشرط والركن...إلخ. ثم حالات التقديم والتأخير لهذه الأدوات، أو حالات الإعمال والإهمال لها عند التعارض، وضوابط هذه وتلك في كلّ حال، إلى غير ذلك مما يسهم في بناء النظرية التفسيرية من بعد حقًّا؛ إذ استخراج المناهج واستنباطها بهذه الصورة، يعتبر خطوة مهمّة في طريق بناء وتركيب (علم أصول التفسير) باعتبارها نظرية متكاملة الأطراف، وذلك بقيام دراسات وبحوث أخرى تجمع كلّ ذلك وتركّبه تركيبًا ينسق بين أجزائه من حيث وظائفها التفسيرية، للخروج بكليات محكمة تقنّن التفسير وتضبطه[2].
وهذا الذي ذكره فريد الأنصاري مشروعٌ طموح لم تصل إليه أغلب الدراسات التي تناولتْ مناهج المفسّرين، إلا فيما نذر، كما قرّر كثير من النظّار والنقّاد[3]، وهذا ما وقفتُ عليه من خلال البحوث التي تناولت منهج ابن عاشور مثلًا.
وهذا الشرط الذي ذكره فريد الأنصاري لو رُوعي في البحوث والدراسات التي تناولتْ مناهج المفسّرين لأفضى ذلك إلى سدّ فراغ مهمّ في صرح بناء أصول التفسير وأجاب عن إشكالات مهمّة. ومنه فإنّ الحاجة ماسّة لعمل نقدي على شكل مشروع جماعي لفحص الأطروحات التي تناولت مناهج المفسِّرين. والقيام بدراسات استقرائية على منوال دراسة التأليف المعاصر في قواعد التفسير[4]، بما ينبّه الباحثين إلى ضرورة تجاوز الاختلالات في البحوث السابقة، وأن تتبنّى المشروعَ المراكزُ العلمية ووحدات البحث في الجامعات.
لكن الإشكال المطروح أنّ هذه المظانّ تختلف في الاتجاه والصّبغة التي ينطبع بها التفسير سواءٌ ما يتعلّق بالنزعة المذهبية أو غلبة الطابع الفقهي أو المقاصدي أو البياني أو الهدائي والاجتماعي، ومن التفاسير ما يسلك منهجًا تحليليًّا ويتوسّع في المعاني والدلالات ويستخرج اللطائف والإشارات، ومنها ما يعرض المعاني الإجمالية، ومنها ما يفسّر بطريقة موضوعاتية بنائية، وهكذا دواليك، ومنه فإنّ الأصل المستخرج سيكون منطبعًا بطابع التفسير الذي أخذ منه، فكيف سنجعله أصلًا نرجع إليه ونحتكم إليه والحالة هذه؟ وإلا سنقع في جمع متفرّقات لا ينظمها ناظم، أضف إلى ذلك أنّ هذه الأصول التي سيتم استخراجها ستكون هي المنطلق لتقويم المصدر الذي أخذت منه، مما يوقع في الدور والتسلسل، ولنستحضر هنا أننا لا نبحث فقط عن طرق عامة لتفسير المعنى، وإنما نحن نروم وضع قواعد علمية صارمة، فهل تسعفنا مصادر التفسير في ذلك بالنظر إلى ما ذكر من إشكالات بصددها؟
وإذا استحضرنا الشرط المنهجي الذي اقترحه فريد الأنصاري أثناء استخراج مناهج المفسِّرين وتجنّب التناول السطحي كانت المهمّة أكثر صعوبة؛ لأنه وعلى فرض وجود تلك البحوث التي التزمت ذلك الشرط وصارت على ذلك الوزان، فإنّ جهدًا كبيرًا ما زال ينتظرها ويتعلّق بالتنسيق بين تلك المنجزات والعمل على الضم والجمع، وهو أمر فوق الاشتغال الفردي، بل عمل مؤسّساتي منظّم.
وإذا يممنا وجوهنا صوب المؤلّفات المعاصرة لأصول التفسير لعلّنا نجد الجواب عن هذا الإشكال، لا نظفر بشيء ينجبر به الجناح الكسير، وحتى لا أصادر على المطلوب أحتمي بما توصلتْ إليه دراسة أصول التفسير في المؤلّفات المعاصرة التي أنجزها مختصّون في الموضوع، بحيث قاموا بمسح لأغلب المؤلَّفات المتداولة في هذا الشأن، ليتوصّلوا إلى: أنه بتتبع حضور كتب التفسير في المؤلّفات وأنماطه تبيَّن في كثير من الأحوال أنها لا تعدو كونها كتب تخريج؛ لتوثيق بعض المرويات التي يسوقها المؤلِّف أو يستدل بها، شأنها في هذا شأن كتب الأحاديث. وهذا ظاهر في كتب التفسير التي حوت آثارًا للسلف[5].
ثم الاستفادة من مقدّمات بعض التفاسير في التنظير. فخلَصت الدراسة إلى أن حضور كتب التفسير لم يكن مؤثرًا في جوهر المؤلَّفات وموضوعاتها وطريقة تناولها[6].
فحضورها في كثير من المؤلَّفات لم يتجاوز المقدّمات، وإن تجاوزها فإلى توثيق بعض الآثار أو عرض بعض الأقوال التفسِّيرية، وأمّا تطبيقات هؤلاء المفسِّرين، وآليات عملهم في التفسير، وأصول النظر والاستدلال عند كلّ منهم، وغير هذا من الأمور التي تمثّل جوهر الاستفادة من كتبهم فعناصر غائبة ولا حضور لها، مما يطرح عددًا من التساؤلات المهمّة، ويلقِي بظلال من الشك حول كثير من نتائج هذه المؤلَّفات والمعلومات المبثوثة فيها[7].
وقد كان من أهم هذه الإشكالات والآثار التي ترتبت على ضعف حضور كتب التفسير ما يأتي: ضعف مصداقية التنظير والتأصيل للمسائل التي تطرّقت المؤلّفات إليها.
فرجوع المؤلّف إلى المصادر الأساسية والمعتمدة في الفنّ الذي يكتب فيه، واستقاء المعلومات والتطبيقات والأفكار منها= يعدّ مؤشرًا مهمًّا على صحة المعلومة التي يُوردها وعلى مصداقية التنظير الذي ينظّر له؛ ولذا كان من أبرز تداعيات ضعف حضور كتب التفسير في المؤلّفات هو ما يطرحه من ظلال شك في مدى مصداقية بعض التنظيرات والتقريرات التي أوردتها المؤلّفات وفي مدى استيعابها واستقرارها[8].
ثم غياب التجديد: لا شك أنه لو اعتمدت المؤلّفات الرجوع إلى كتب التفسير رجوعًا حقيقيًّا وقويًّا لكان في ذلك طرح تجديدي قويّ في أصول التفسير؛ إِذْ كان من الممكن عبر استقراء التفاسير وتتبّع تطبيقاتها الاستفادة منها في إثراء مادة المؤلّفات وتطبيقاتها، وإضفاء حالة من التجديد والحيوية في هذه المادة وموضوعاتها، وذلك عبر استخلاص أصول جديدة من كتب التفسير أو استخلاص تطبيقات أخرى غير المذكورة في كتب علوم القرآن، والتي يمكن من خلالها توسيع آفاق الدرس للمسائل والقضايا التي تناولتها المؤلّفات أو الإضافة عليها[9].
وعلى الرغم من وجاهة هذه الملحوظات وأهميتها في تقويم المؤلّفات المعاصرة في أصول التفسير، وأهمية الجهد في استقرائها وتتبع مسائلها وقضاياها، إلا أنه لا بد من تسجيل غياب مقترح بديل للاستمداد من كتب أصول التفسير في ظلّ الإشكال المشار إليه آنفًا المتعلّق بتعدّد اتجاهاتها وألوانها، وكيفية ترتيب الاستفادة منها حسَب الأهمية والأسبقية، والتأسيس والتبعية.
ولنأخذ على سبيل المثال أحد الكتب المعاصرة في أصول التفسير والتي رامتْ سدّ ثغرة في البناء النظري، ويتعلّق الأمر بكتاب: (علم أصول التفسير محاولة في البناء، لمولاي عمر بن حماد). فقد تناول في الكتاب أربعة مباحث أساسية رأى أنها تشكّل عمدة هذا العلم، وهي: مصادر التفسير، وقواعد التفسير، وشروط المفسِّر، ومقاصد المفسّر. وعلى الرغم مما يمكن تسجيله من ملحوظات على هذا التقسيم، فإنّ الذي يهمّنا هنا هو ما تناوله من قضايا في مصادر التفسير، فهو وإن انطلق من دعوة الشيخين الشاهد البوشيخي وفريد الأنصاري في أهمية الانطلاق من كتب التفسير لبناء علم أصول التفسير، إلا أنه لم يعرض لمنهج الإفادة خصوصًا أن الكتاب يروم اقتراح خريطة لبناء هذا العلم، ولا يصح إغفال أهم مصدر من مصادره ألا وهو مظانّ التفسير، وبالنظر إلى كمّ البحوث التي قدّمت بصددها دون أن يكون لذلك صدى حقيقي في بنية العلم ونسقه؛ لأنها ظلّت بحوثًا متناثرة لم تستثمر وتوظّف.
ثانيًا: إشكالية وظائف أصول التفسير:
يعدّ سؤال الوظيفة في العلوم أمرًا محوريًّا وحاجة ضرورية؛ لأنه يعطي مسوغات الكينونة ويسهم في حُسن التصوّر ويفضي إلى جمع شتات كثير من المسائل؛ لذلك نجد من الإشكالات العميقة التي وقفت عندها دراسة أصول التفسير في المؤلّفات المعاصرة تلك المتعلّقة بوظائف أصول التفسير:
فتارة تجد مؤلّفًا يذكر أن وظيفة أصول التفسير هي فهم القرآن، وآخر يذكر أن وظيفتها فهم التفسير، وتارة تجد مؤلفًا آخر يذكر أن وظيفة الأصول بيان ما يتعلّق بالمفسِّر من آداب، وتجد رابعًا يذكر أن وظيفة الأصول هي بيان المناهج التي أنتجها وسار عليها المفسِّرون في استنباط الأسرار القرآنية، وآخر يذكر أن وظيفة الأصول هي فهم مراد الله من كلّ آية وفهم مراد رسوله من كلّ حديث...إلخ[10].
واستنتج المؤلِّفون من ذلك أن هذا التفاوت الظاهر وعدم الاتفاق بين التعريفات على وظائف محدّدة وغايات موحدة، يدلّ بوضوح وجلاء تامَّيْن على اضطراب في مفهومه، وعلى غموض مكتنف له ومحيط به؛ إِذْ تصور الوظائف في التعريف ينبني على تصوّر العلم وجزئياته وما يترتب وما يتركّب منه، فإذا كان حال الوظائف متفاوتًا إلى هذا الحدّ كشف هذا عن درجة كبيرة من عدم وضوح المصطلح[11].
ولا شك أنّ هذا التباين السالف في رؤية الغرض من أصول التفسير وغير ذلك كاشفٌ بجلاء من ناحية عن اختلاف في الحيثيات الكبرى المؤطّرة لنسق البحث في هذا المجال، وكذلك مبين من ناحية أخرى لِما ذكرناه في شأن هذه الحيثيات من أنها أحيانًا تكتنز النصّ المفسّر وما يعين على كيفية فهمه، وتارة أخرى تكتنز التفسير المنتج وكيفية فهمه ومعرفة مناهجه وقواعده، وتارة أخرى تكتنز الممارسة التفسيرية وضبطها، فهذه الحيثيات ظاهرة، خاصّة في تعريفات المؤلّفات لأصول التفسير والغايات التي تذكرها لهذا الحقل في نصوص تعريفاتها لها[12].
وإذا لم يقتدر المختصون في هذا الميدان الاتفاق على الحدّ الأدنى من الوظائف لهذا العلم وحصرها وتدقيقها، فإنه من باب أَوْلَى أن يختلفوا في مسائل أخرى، وهو أمر يدعو إلى ضرورة بذل مزيد من الجهد من أجل تقويم حصيلة النظر في المؤلّفات المعاصرة في أفق استشراف المستقبل وعدم تكرار نفس الهنات والاختلالات، والتقدّم بالمسائل والقضايا إلى الأمام. وتوجيه الباحثين إلى أهم معاقد العلم التي تحتاج إلى البحث، خروجًا من النفق المسدود واجترار ما هو كائن وموجود.
وفيما يأتي نماذج لبعض وظائف أصول التفسير في المؤلَّفات:
- يقول مولاي عمر بن حماد: «أمّا علم أصول التفسير الذي يحاول هذا البحث بناءه فهو العلم الذي يعمل في التفسير ما عمله أصول الفقه في الفقه، وأصول الحديث في الحديث، أي: قانون يضبط العملية التفسيرية، ويصونها من أيّ شكل من أشكال الانحراف، حتى إذا حصل شيء من ذلك سهل بيانه وكشفه، ومن ثم ضبطه وردّه»[13].
ومعنى ذلك أن أصول التفسير تستخدم في حالتين؛ الأولى: في حال بيان المعاني ابتداء، فمعرفته لأصول التفسير تمنعه من أن يأتي بمعنى ضعيف أو فاسد.
الثانية: في حال الاختيار أو الترجيح بين الأقوال المختلفة؛ إذ الاختيار أو الترجيح لا يكون إلا عن علم بالقواعد العلمية وقرائن الترجيح، وإلا لم يكن مقبولًا، وكان من القول على الله بغير علم[14].
- أمّا فهد الرومي فيقول: «وغاية هذا العلم ضبط التفسير بوضع القواعد الصحيحة والطرق السليمة والمناهج السديدة للتفسير، والشروط المحكمة والآداب الفريدة للمفسّر. وكما أن غاية التجويد النطق الصحيح لألفاظ القرآن فإن غاية أصول التفسير الفهم الصحيح لمعانيه»[15].
- في حين يذهب خالد العكّ إلى: «أن علم أصول التفسير هو العلم الذي يبين المناهج التي انتهجها وسار عليها المفسِّرون الأوائل في استنباط الأسرار القرآنية، وتعرُّف الأحكام الشرعية من النصوص القرآنية التي تُبنى عليها، وتظهر المصالح التي قصد إليها القرآن الكريم، فعلم أصول التفسير على هذا هو مجموعة من القواعد والأصول التي تبين للمفسّر طرق مواطن العبرة من أنبائه، وتكشف مراتب الحجج والأدلة من آياته الكريمة، فعلى هذا تعين علوم التفسير على فهم معانيه وإدراك عِبره وأسراره، وترسم المناهج لتعرفها، وتضع القواعد والأصول ليسير المفسِّر على منهاجها القويم في سيره أثناء تفسيره»[16].
ويقول أيضًا: «وغاية هذا العلم معرفة معاني النَّظْم القرآني الكريم، وتوضيح آياته وكشف معانيها وتبيين أحكامها وحِكمها، للتوصل إلى حقيقة كتاب الله العزيز، ليفاز به إلى سعادتي الدنيا والآخرة. وفائدته حصول القدرة والملَكة في العقل البشري لاستخراج أحكام القرآن الكريم وحِكمه، ومعرفة مراتب الحجج والأدلة من آياته وكشفها وتوضيح معانيها وإدراك مواطن عبرها، إلى غير ذلك على وجه الصحة والدقة العلمية»[17].
- ويقول مجاهد محمد هريدي: «أهمية علم أصول التفسير من أهمية علم التفسير نفسه؛ لأن أصول التفسير بالنسبة للتفسير بمثابة الوسائل للغايات، فهو له كعلم النحو للّغة العربية وكأصول الفقه للفقه، وكأصول الحديث للحديث...
فأصول التفسير تضبط فهمنا لكتاب الله -عز وجل- من الزّلل أو الشطط، وبها نعرف عموم الآيات وخصوصها، ومحكمها ومتشابهها، وغير ذلك. وعلى هذا فأصول التفسير واحد من أجلّ علوم القرآن، بل هو عِلْم ينتظم علومًا في سلكه؛ فمن الأصول معرفة المطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وشروط المفسِّر وآدابه، وطرق التفسير...إلى غير ذلك[18].
هذه نماذج أحببتُ أن أسوقها لأعضد بها ما توصلتْ إليه دراسة أصول التفسير في المؤلّفات المعاصرة، لما وقفت عند اضطراب وتباين وظائف أصول التفسير.
ثالثًا: بعض معالم الحَلّ:
بعد إيراد الإشكالات السابقة سواءٌ المتعلّقة بإشكالية الاستمداد من مظانّ التفسير أو الاختلاف في وظائف أصول التفسير، فإنّ بعض معالم الحلّ تكمن في مقاصد النصّ المفسَّر باعتباره المرجعية الحاكمة، وباعتبار أن وزان القرب من الصواب مرتبط بتلمس مقاصده وتحقيق مراميه، بحيث نعمد إلى الأصل فنعايره بدرجة هذا القرب.
وقد أدرك المختصون في هذا الحقل العلمي أهمية العناية بمقاصد القرآن؛ لما لذلك من آثار في جودة الفهم ونظم الشوارد والمتفرّقات.
وفي هذا الصدد يقرّ مولاي عمر بن حماد -وهو من المتخصّصين في الموضوع- بوجود فراغ في العناية بمقاصد القرآن، يقول: «ومقاصد المفسَّر بالشكل الذي نتصوّره أقلّ هذه المباحث اهتمامًا بها؛ فمصادر التفسير وقواعده وشروط المفسِّر إن افتقدت كليًّا للبناء التقعيدي، فقد كُتب فيها بهذا المعنى أو ذاك ما يعدّ منطلقات أُولى لبنائها بالشكل الذي يقتضيه البناء، أمّا مقاصد المفسَّر فلم يُكتب فيها إلا النادر القليل، مما يفرض استخراج مادتها أولًا؛ حتى تستوي وأخواتها أو تكاد، ثم لتأخذ موقعها من البناء الكلي في إطار التصوّر الشمولي للموضوع»[19].
ثم يضيف: «وبقدر فهمنا لمقاصد المفسَّر بقدر ما تسلم اتجاهاتنا في التفسير ويسلم الحكم عليها؛ ففي القصص القرآني -مثلًا- بقدر فهمنا للمقصد من إيراد القصص، والذي دلّ عليه بشكلٍ مجملٍ قولُه تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120] -بقدر ما نبتعد عن كلّ التفاصيل التي لا تخدم هذا الغرض، والتي كانت مدخلًا من مداخل الإسرائيليات... والإعراض عن التفاصيل التي لا تخدم الغرض المذكور هو ما توحي إليه الآية الكريمة في شأن عدد أصحاب الكهف -مثلًا-: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 22]».
وهذا الذي ذكَر عمر بن حماد يشكّل أرضية لتقويمِ اتجاهات التفسير ونخلِ محصولها بقدر القرب من مقاصد النصّ المفسَّر، والذي يهمنا الآن هو التنبيه إلى أهمية مراعاته في صياغة واستخراج الأصول من مظانّ التفسير في ظلّ الاختلاف الكبير بينها.
ومن الذين عُنوا بموضوع مقاصد القرآن وكلياته طه جابر العلواني، الذي يرى في سياق حديثه عن المقاصد العليا للقرآن أنها تسهم في:
- ردّ الاعتبار إلى الكليات القرآنية والكليات الشرعية -بوجه عامّ- بعد أن كاد الانشغال بالدليل الجزئي ودقائقه يطمس الأهمية البالغة لتلك الكليات ويعطل تشغيلها.
- تجاوز الشكلية القانونية التي اتسم بها الفقه منذ أن قَبِل الفقهاء مبدأ الفصل بين (الفقه الأكبر)، و(الفقه الأصغر والاصطلاحي)، وانفصل الفقه عن (الرؤية الكلية الإسلامية).
- تيسير سُبل الممارسات الاجتهادية، وتسهيل عملية الاستنباط مستفيدين من الخاصية المعروفة للقرآن المجيد، وهي تيسير الله -تبارك وتعالى- سبل تدبّر هذا القرآن، والتفكّر فيه وتعقّله وتذكّره سائر العناصر الأساسية لتراث النبوات السابقة، الذي صدّق القرآن عليه وهيمن، ثم استوعبه وتجاوزه.
ومنه فإنّ من أهم وسائل ردّ الاعتبار وتجاوز الشكلية القانونية وتيسير سبل الممارسات الاجتهادية أن تُصاغ القواعد التي تفسّر القرآن انطلاقًا من الكليات القرآنية وفي ظلّ المقاصد القرآنية.
وذلك ما يرمي إليه طه جابر العلواني من خلال قوله: «والمقاصد العليا الحاكمة في منظومتنا القرآنية هذه لن تكون مجرّد دليل من الأدلة، أو أصلًا من أصول الفقه المختلف فيها أو المتفق عليها، بل ستكون المنطلق الأساس لإعادة بناء قواعد أصول الفقه وتجديدها، ولبناء الفقه الأكبر عليها بعد ذلك إن شاء الله. ولغربلة تراثنا الفقهي، وتصحيحه وتنقيحه مما لحق به من شوائب عبر العصور، وإخضاعه لتصديق القرآن عليه وهيمنته على جوانبه المختلفة، وتحريره من الأبعاد الإقليمية والقومية ليكون متاحًا على مستوى عالمي، وقادرًا على المشاركة في صياغة الثقافة العالمية المشتركة»[20].
والمستفاد من تحرير العلواني في المسألة أهمية وضرورة الرجوع إلى كليات القرآن ومقاصده باعتبارها النموذج المرجعي الموجّه الذي يرسم الوجهة القاصدة ويحدّد المنطلقات الصحيحة، لتسلم بعد ذلك الحصيلة والثمرة، فكلما كان المنطلق سليمًا كانت النتائج سليمة.
ويقول أيضًا: «إنّ تشغيل منظومة المقاصد العليا الحاكمة سوف يضفي حيوية وفاعلية كبيرة على خصائص الشريعة لتعمل مع منظومة المقاصد على تنقية تراثنا الفقهي الأصولي وتحريرهما من فقه الإصر والأغلال والمخارج والحيل، وفقه التقليد القائم على اعتبار فقه أئمة التقليد مثل نصوص الشارع يتم التخريج عليها، وينسخ متأخرها متقدّمها، وقد تُقدّم على النصوص عند البعض باعتبارها قائمة على نصوص مضمرة لم يصرّح أولئك الأئمة بها، أو لأن الفقه أكثر انضباطًا وتحريرًا من النصوص. كما تخرجنا هذه المقاصد القرآنية وفقهنا من دائرة الفصام بين ما يُفتى به فقهًا لاستكماله الشرائط الظاهرة ولا يُقبل دينًا، لعدم تحقيقه للمقاصد، وعكسه، ونحو ذلك من آثار جعلت بين الفقه والتربية حاجزًا كثيفًا دفع كثيرًا من علمائنا إلى تبنّي اتجاهات التصوّف والعرفان لمعالجة السلبيات، وغير ذلك من سلبيات يستطيع نظام المقاصد القرآنية هذا إنقاذنا منها»[21].
ويقول جاسر عودة: «وعلماؤنا المعاصرون الروّاد قدّموا إلى هذه الأمة إبداعًا غير مسبوق في علوم القرآن، ولو أنه امتداد طبيعي لما قدّمه سلف هذه الأمة تحت عنوان: (نظم السورة)، ألا وهو ما أطلقوا عليه: (مقاصد القرآن) أو (محاور القرآن) أو (موضوعات القرآن) أو (كليات القرآن)، وهي معانٍ ومبادئ نتجت عن نظرة إلى القرآن كلية شاملة جامعة، نظرة أرجعوا فيها البصر بين ما ينفتح في أذهانهم اليَقِظة من معانٍ عالية، ومبادئ رفيعة، وخيوط جامعة بين ما تدلّ عليه كلمات القرآن كلمة كلمة، ثم الآيات آية آية، ثم السور سورة سورة، حتى ينبري بفضل الله تعالى من هذا الخضم الفكري مقاصد عالية وكليات جامعة دلّ عليها القرآن بمجموعه، مقاصد قد لا تدل عليها الألفاظ صراحة. ولكنها تؤكّد دلالات المعاني اقتضاء، تؤكّدها تأكيدًا يبلغ -عندهم- حدّ التواتر، فتنطلق ألسنتهم وأقلامهم ببيان هذه المقاصد وكيف تنضوي وتنتظم تحتها الآيات والأحكام والقصص والأمثال والحوارات والمواقف القرآنية بمجموعها»[22].
مما سبق نخلص إلى أن من أهم وظائف الكليات: الوظيفة البيانية من خلال تفسير النصوص المتشابهة والخفية بها. فلا شك أن الكليات قبل أن تكون معاني استقرائية وقطعية فهي نصوص شرعية قرآنية، وقد سيقت في بادئ الأمر لمقصد بيان ما أُنزلت من أجله؛ فلذلك تُعتبر من أرقى أساليب البيان الشرعي لما تساق إليه من تصورات عقدية أو تشريعات عملية أو توجيهات تربوية وأخلاقية، كما يُعتبر الركون إليها من باب ردّ المتشابهات إلى المحكمات.
ومن ههنا وجدنا الإمام الشاطبي يقرر قاعدة نفيسة تؤصل لما نحن بصدده، يقول -رحمه الله-: «ولا يُمكنُ أن تعارض الفروعُ الجزئيةُ الأُصولَ الكلية؛ لأنّ الفُرُوع الجُزئيّة إن لم تقتض عملًا، فهي في محلّ التوقُّف، وإن اقتضت عملًا فالرُّجُوعُ إلى الأُصول هو الصراطُ المستقيم، وتُتأوّلُ الجزئيّات حتى ترجع إلى الكُلِّيّات، فمن عكس الأمر حاول شططًا، ودخل في حُكم الذّمّ؛ لأنّ مُتّبع المتشابهات مذمُوم، فكيف يُعتدُّ بالمُتشابهات دليلًا؟ أو يُبنى عليها حُكم من الأحكام؟ وإذا لم تكُن دليلًا في نفس الأمر، فجعلُها دليلًا بدعة محدثة»[23].
وقال أيضًا: «وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف ألبتة...وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن؛ فلم يحصل منهم تدبر[24].
إنّ للقرآن الكريم مقاصد شتى لا تحيط بها العبارة، أو يستوعبها الحصر، فهو دستور جامع، ورحمة مهداة للإنسانية جمعاء، نزل من فوق سبع سماوات تصحيحًا للعقائد، وتزكية للنفوس، وإقامة للعدل، وجَلْبًا للمصالح ودرءًا للمفاسد وبناء للمجتمع الفاضل، وصياغة للأمة الشهيدة على البشرية، وهلم جرًّا...
والمؤول إن ذهل عن هذه المقاصد، أو استخفّ برؤيتها الكلية الحاكمة على تفسير القرآن، والمهيمنة على منهج التدبر، والموجهة للسياق العام؛ فإنه لا يهتدي إلى لبّ المعنى، وجوهر الدلالة، وربما أحل مقاصده محلّ مقاصد المتكلم، ونسخ باجتهاده مرادات الوحي، عن جهل، أو تجاهل، أو مكابرة[25].
ومن ثم فإن الإحاطة بهذه المقاصد عن طريق الاستقراء، والتدبّر، وتصفح كلام الأئمة المجتهدين؛ مقدمة ضرورية تطرق سبل التأويل المنقاد، وتنتج علمًا صحيحًا وهو الوقوف على معاني التنزيل، ومرادات هداه.
وفي هذا السياق لا بد من التنبيه إلى الفرق بين مقاصد القرآن ومقاصد الشريعة «فعلى الرغم من وجود بعض التقاطعات والمساحات المشتركة بين مقاصد الشريعة ومقاصد القرآن، وكون القرآن الكريم هو كتاب الشريعة ومصدرها الأول، فإنّنا ملزمون من الناحية العلمية والمنهجية بالتفريق بين النوعين؛ فمقاصد القرآن من حيث المفهوم والمجال ليست منحصرة في المقاصد الشرعية بمعناها التشريعي الفقهي، وتختلف عنها، فإذا كانت مقاصد الشريعة عند العلماء (هي المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ كحفظ النظام، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة المساواة بين الناس، وجعل الشريعة مُهابة مطاعة نافذة، وجعل الأمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال... وأنها الغاية من الشريعة، والأسرار التي وضعها الشارع عند كلّ حكم من أحكامها). فإن مقاصد القرآن تعني المحاور الكبرى والقضايا العامة التي جاء القرآن الكريم لتقريرها، وبذلك تغدو مقاصد الشريعة جزءًا من مقاصد القرآن؛ إذ التشريع والأحكام جزء من القرآن الكريم وليست كلّ القرآن، ولا يمكن حصر الكلي في الجزئي. وهكذا فإنه ينبغي أن نفرق بين مفهومين للمقاصد: المقاصد بمعنى الحِكم والأسرار، وهو مجال المقاصد الشرعية، والمقاصد بمعنى المحاور والقضايا العامة، وهو مجال مقاصد القرآن»[26].
وعلى الرغم من أهمية هذا التوجيه، إلا أن هناك فرقًا بين محاور القرآن ومقاصده؛ إذ المحاور تشمل مجمل موضوعات القرآن وأهم القضايا التي تناولها ويصعب توظيف تلك المحاور في التفسير، لكن المقاصد هي الغايات والمرامي والأهداف التي جاء القرآن لتحقيقها.
ومنه فقد ركّز المعاصرون على مقاصد القرآن؛ إدراكًا منهم لأهميتها في ضبط مسار التفسير ومسار الاجتهاد ومعايرة المحصول بكليات القرآن، حتى لا تصبح الآيات عبارة عن عناوين لمقالات كما ذكر ابن عاشور.
لكن جهودهم هذه في بيان مقاصد القرآن تحتاج إلى مزيد تحقيق من أجل إحكام صياغتها من جهة، ومن جهة أخرى تفعيلها في مجال أصول التفسير من خلال المقترحات الأولية الآتية:
1- في مجال العقيدة:
عند الرجوع إلى كتب التفسير ومظانه المعتبرة، كما سبق وذكرنا، نجد اختلافًا وتباينًا حسَب لون التفسير، ولك أن تنظر في تفسيرين أو ثلاثة لتدرك حجم التباين في تفسير آيات العقيدة، مما يطرح تحديًا على منهج استخراج الأصل المُوصل إلى المعنى في هذا الميدان، ومن ثم وجب الرجوع إلى مقاصد القرآن في الاعتقاد، فكلّ أصل أو قاعدة تفضِي إلى تحقيق تلك المقاصد يكون له ولها حظ من الاعتبار، وما لا تسعف في ذلك فلا يُلتفت إليها.
ولذلك نجد فريد الأنصاري مثلًا، مستبطنًا الرؤية المقاصدية، ومنطلقًا من الرؤية الكلية القرآنية قد سعى إلى تجديد الدرس العقدي بالعودة بالعقيدة إلى منبعها الصافي وهو القرآن الكريم. ويكون أول شيء يبحث عنه هو مفهوم التوحيد. يقول: «وأمّا التوحيد فنقصد به تربيةَ الفرد على أساس استلهام المضمون العقدي للمصطلح، لكن ليس على المستوى التصوري الكلامي فحَسْب، ولكن باستشعاره أيضًا في كلّ مجالات التدين، حتى يكون الارتباط بالله وحده حاصلًا لدى المتربي عند ممارسته التديّنية».
ولكن يشير فريد الأنصاري إلى أن لفظ التوحيد لم يرِد في القرآن الكريم، وإنما الذي ورد هو الإخلاص في إشارة إلى ثمرة التوحيد ومقاصد العقيدة.
يرى الأنصاري -رحمه الله- أن التوحيد فُصل عن فَصّه ومُحّه ورُوحه وهو التزكية، وفصلت التزكية عن أصولها وهو التوحيد.
إنّ عقيدة الإسلام لم تكن في القرآن الكريم ولا في السنّة النبوية إلا لمسةً تربوية ذات أثر روحي عميق على الوجدان والسلوك. وقد كان المسلمون عندما يتلقونها بعباراتها القرآنية الجليلة، يتفاعلون معها تفاعلًا عجيبًا، إِذْ يتحولون بسرعة، وبعمق كبير من بشر عاديين، مرتبطين بعلائق التراب، إلى خلائق سماوية تنافس الملائكة في السماء.
يقول: «التربية عملية معقّدة، يجب أن يراعَى فيها كلّ ما يساعد على تمثل الإسلام في الحياة البشرية روحيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا ورياضيًّا... ومن الخطأ قصر التربية على جانب التزكية الروحية دون سواها أو العكس»[27].
ومنه فإن منظومة التوحيد اليوم يمكن من خلالها تقديم إجابات حقيقية عن الإشكالات المعاصرة الناتجة عن انفصال المعرفة عن القيم، واعتقاد قدرة الإنسان على الاستقلال عن أيّ مرجعية متعالية.
إنّ واجب الوقت اليوم إبراز الثمرات المنهجية والسلوكية والوجدانية للعقيدة باعتبارها ضامنًا لتحقيق الأمن الفكري، وكذا بيان تجليات عقيدة التوحيد في الأنظمة المعرفية وما تتيحه من نظرة متوازنة ومتكاملة بين الثنائيات المتقابلة (العلم والقيم، الروح والجسد، الغيب والشهادة، العقل والنقل، الفكر والوجدان، الواقع والمثال، والمحسوس والمجرد...).
ومن المواضيع المهمّة، التي يمكن أن تدرج في نطاق الفكر العقدي الحديث، موضوع الإنسان من منظور كلي عام وهو الموضوع الذي يتناول بالبحث مبدأ الإنسان، وقيمته الذاتية، ومنزلته في الكون، وغاية وجوده، ومصيره، فهذه المسائل لم تنل الاهتمام في الفكر الكلامي الموروث، إلا أن تكون جزئيات متفرّقة في ثنايا موضوعات أخرى، وهي اليوم تمثل مطلبًا أساسيًّا في التأصيل العقدي: وذلك بالنظر إلى ما يشكوه العالم الإسلامي من مظاهر عديدة لامتهان الإنسان، وإهانة لكرامته، وإهدار لقيمته، وبالنظر إلى ما تنقلب فيه حياة المسلمين على غير وعي بالمهمّة التي من أجلها خلق الإنسان، وعليه أن يسعى في تحقيقها[28].
لتحقيق ذلك لا مناص من الفكاك من الجدل الكلامي على المباحث العقدية، هذا الجدل الذي كان وليد سياق فكري معين وملابسات تاريخية خاصة، وانحرف بالدرس العقدي عن مقاصده الكبرى، وإذ يمكن الإشارة إلى بعض المحاولات التصحيحية لهذا المسار من خلال المدخل المقاصدي؛ فإننا نلحظ تركيزها على المقاصد التربوية والاهتمام بالتزكية الروحية والسلوكية، تهيبًا من تقصيد العقيدة لما يفتح ذلك من احتمالات الزلل في مجال الثوابت والكليات. لذلك نجد أن الدرس المقاصدي حقّق نقلات نوعية في مجال الأحكام الشرعية تقعيدًا وتنظيرًا وتفعيلًا وتنخيلًا، ولكن ظلّت المباحث العقدية بمنأى عن هذا العمل العلمي المهم.
ومنه جدوى البحث في الأبعاد العلمية والمنهجية للعقيدة، وهو اشتغال في البنى التصورية والأنساق الكلية نظرًا لأهميتها في تأطير السلوك وتسديد الوجهة، وقد عبّر مالك بن نبي عن ذلك عندما قال: «فالمشكلة ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي أن يشعر بوجوده وتملأ به نفسه باعتباره مصدرًا»[29].
ولنشعر به لا بد أن تكون عقيدة التوحيد هي التي تصوغ فكرنا وتحدّد وجهتنا وتكون قبلة لتصرفاتنا وأعمالنا، وتكون الإطار المرجعي الذي نزِن به كلّ ما يصدر عنّا.
2- في مجال التشريع والأحكام:
أخذ مجال التشريع في القرآن الكريم حيزًا كبيرًا من الجهد والاهتمام لارتباطه المباشر بقضايا الناس وبالمستجدات والمتغيرات، وعرف ذلك إفراطًا في التفاصيل والجزئيات، لكن ذلك قاد في بعض الأحيان إلى غياب الرؤية القرآنية الحاكمة، من ذلك تحويل الفقه إلى قوانين منزوعة الندى التربوي، بينما نجد القرآن الكريم يفرش للحُكم الشرعي أرضية أخلاقية قيمية قبل تحديد الحكم الصارم، ومن ثم وجب وصل الفقه بالقيم وإعادة اللحمة بينهما، وكذلك تضخم الجانب الفردي في الفقه على حساب الجوانب الحضارية والاجتماعية، ومن ثم وجب الحذر أثناء استخراج أصول التفسير من خلال تفسير آيات الأحكام، ووزن ذلك بالكليات التشريعية كما هي واردة في القرآن، وإعطاء الحاكمية لها.
«والذي ينبغي أن يكون الأمر عليه علمًا، وحقيقة، وواقعًا، أنّ آي القرآن الكريم برمّتها، هي آيات أحكام، فلا توجد آية لا تتضمن حكمًا أو أحكامًا يحتاج إليها المسلم في إيمانه وعمله وحياته، وهي وإن كانت تختلف درجاتها، ومواقعها، ومراتبها، إلا أن ذلك لا يلغي قيمتها الحكمية، وفائدتها العلمية والعملية؛ لأنها جميعًا تمثل منظومة متكاملة متناسقة، تعالج النيات والأحوال، والأقوال والأعمال، والقيم والأخلاق، في الفرد والمجتمع والسلوك.
على أن دائرة ما يحتاج إليه المكلّف، لا تنحصر في أحكام الحلال والحرام، وإن كانت من أهمّها. فهو أولًا يحتاج إلى إيمان، وإلى توجيه وتسديد في تفكيره وتقديره للأمور، قبل أن يعرف هذا حلال أو حرام، ويحتاج كذلك لمنهاج اجتماعي يسير عليه في تعامله مع غيره من الناس، وتعامله مع ما حوله من مخلوقات وأشياء وأحداث»[30].
وقد نبّه القرافي منذ زمان إلى مشكلة غياب الرؤية الكلية، يقول: «ومَن جعل يُخرّج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه مِن طلبِ مُناها، ومَن ضبَط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب».
ويقول الريسوني: «أعني بالكليات التشريعية، المبادئ والقواعد المتصلة اتصالًا مباشرًا بتفريغ الأحكام العملية، فهي بالدرجة الأولى وضعت قواعد للسلوك والتعامل البشري وما يحتاجه من تحليل وتحريم وإيجاب وإباحة وضبط وتنظيم...»[31].
ثم يضيف: «وبعد أن قمتُ بفرز الآيات المتضمنة لذا الصنف من الكليات، وبعد النظر وتقليب النظر فيها وفي مقتضياتها الكلية وعلاقات بعضها ببعض، أسفر هذا كله عن ثمانية أسس تشريعية كبرى، هي الأكثر كلية وسعة، ضمن مبادئ التشريع الإسلامي وقواعده، وهي:
1- الأصل الإباحة والتسخير.
2- لا دين إلا ما شرعه الله، ولا تحريم إلا ما حرمه الله.
3- تحليل الطيبات وتحريم الخبائث.
4- التكليف بحسَب الوسع.
5- الوفاء بالعهود والأمانات.
6- التصرّف في الأموال منوط بالحقّ والنفع.
7- وتعاونوا على البر والتقوى»[32].
فتصبح هذه الكليات موجهات لانتقاء ما يسهم في تأصيل ما يفضي إلى تحقيق مقاصدها.
هذه الكليات الجامعة، ما من كلية منها إلا ويحدوها من السنّة النبوية نصوص كثيرة تفصّل عمومها وتبيّن أفرادها، للدلالة على اطّرادها الكلي في جزئياتها، وانتظام الجزئيات واتساقها بكليها الذي يضبطها بأدقّ خواصها الذاتية، أو خواصها الاستعمالية التي تمتاز بها عمّا يشبهها ويدخل معها في أوصاف مشتركة قد تؤدي عند غير المتفطن لها إلى اللبس والإلباس، فمثلًا: إذا أخذنا قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وتقصّينا ما ورَد في السنّة النبوية بشأن الأخذ بالعفو والأمر بالعرف والإعراض عن الجاهل، لوجدنا ذلك مبثوثًا في أبواب التشريع كلها بلا استثناء، بدءًا بالمعتقدات والعبادات، وانتهاء بالأخلاق والمعاملات والجنايات.
وهذا يحقّق لنا الاطراد الكلي القطعي عمليًّا، بعدما حققه نظريًّا وعمليًّا، وفائدة النظر العملي الاستقرائي إزالة الاستثناء أو التخصيص من ذلك الكلي، فينتقل من دائرة الشمول القطعي بعد التخصيص إلى دائرة المحتمل[33].
والذي يعنينا من هذا التحرير بالدرجة الأولى الفائدة التنظيرية، وجعله صوى يُهتدى بها في استخراج الأصل أو القاعدة المحققة للغرض المقصود، ولسنا بصدد الحديث عن استخراج الأحكام التفصيلية.
«فمثلًا: العقائد يؤخذ فيها بالعفو، أي الظاهر الذي لا يحتاج إلى التعمّق المذموم، وإثارة الشبه والاحتمالات التي لا حقيقة لها ولا دليل عليها؛ إِذْ مبنى العقائد على صحيح النقل من كتاب أو سنّة أو إجماع. وصحيح النقل عفوي الإدراك، عفوي التنزيل. ويتجلى ذلك في الأمثلة التي تُساق في القرآن لإيضاح ذلك مما هو مشاهد مدرك لكلّ ذي عينين؛ كخلق السماوات والأرض، والجبال، والأشجار، وأنواع الثمار، والموت والحياة، والأمطار، والنبات، فهذه الأصناف في المخيّل الإنساني، تدرك بعفوية تامة؛ لأنها معلومة للجميع، للعالم والجاهل، والذَّكَر والأنثى، والصغير والكبير، والذكي والبليد»[34].
واستبطان هذه الرؤية يمكن من استبعاد كثير من التفسيرات البعيدة عن كلي العفو، ومن ثم استبعاد القواعد التي أدّت إلى ذلك الفهم.
«وإذا انتقلنا إلى العبادات، فالأخذ بالعفو فيها يتجلّى في الطهارة المائية والترابية، فما عفا وتيسّر منهما، فإنه يكفي. وهكذا ترى الاطراد في العفو يسير في اتجاه مستقيم لا التواء فيه، حتى يصل إلى الجنايات، وهي مظنة عدم العفو عند من لا يفقه مقاصدها... والمقصود بهذه الأمثلة، تحقيق أنّ كلي العفو يسري في جميع أبواب الشريعة، وجزئياتها الفقهية، ونوازلها الطارئة، لا يشذّ شيء منها. فإذا حيد عنه في حالة، فلأسباب أخرى عارضة تقتضي ذلك، لا أن معنى العفو منفي فيها»[35].
وبناء على ما سبق فإن للكليات القرآنية فوائد:
- إيضاح ما يشكل من جزئيات كثيرة، بحملها على كلياتها.
- دفع ما يناقض عمومها وشمولها مما يعارضه معارضة كلية.
- سهولة التناول في قطع الخصام والتشغيب الواقع من المخالف.
- توسيع مجال الاجتهاد ومداركه، ليقام في كلّ زمان ومكان.
- إجراء الأحكام على وتيرة مطردة معقولة من المصالح والمفاسد.
- تشكل الكليات القرآنية والحديثية، كذلك المصدر الأقوى لما لا نصّ فيه بخصوصه، فإدخاله تحت هذه الكليات أولى وأسبق من أيّ مسلك اجتهادي آخر؛ لكونه رجوعًا مباشرًا إلى القرآن والسنّة[36].
3- مجال قصص القرآن:
يشكّل القصص في نسيج القرآن الكريم مساحة واسعة يعرض من خلاله مختلف الأحداث التاريخية والمفصلية والنماذج البشرية، سواءٌ التي نجحت في السير على هدى الله ومنهجه أو التي تنكّبت عن الطريق المستقيم فطوّحت في ضروب التيه والانحراف.
وهناك ملحظ مهم وهو أن القصص القرآني يرِد بشكلٍ كبيرٍ في السور المكية التي تتناول الأبنية التصورية والقناعات الفكرية وإصلاح القصد والوجهة والقيم الناظمة والمؤطرة.
ومن القضايا التي نجد القصص القرآني يركز عليها والتي لها ارتباط بالجانب التصوري ما يتعلّق بالفكر السنني الذي يروم حفز المسلم ودفعه إلى تعقّل السنن الكونية والاجتماعية، وإدراك النواميس التي ينبغي ركوبها وتوظيفها ليتحقق الإعمار والشهود الحضاريين.
وفي ضوء ذلك يتم تصحيح مجموعة من الفهوم الخاطئة وتأطير فكر المسلم وتسديد نظره وإنهاج وجهته، عبر مجموعة من القواعد التي يمكن استخلاصها من القصص المتنوع حسَب سياقات إيراده.
يقول فضل حسن عباس: «مصدر القصة القرآنية هو مصدر القرآن الكريم نفسه، فهي من وحي الله تبارك وتعالى؛ لذا نجدها قصة هادفة، فهي ذات هدف ديني أخلاقي لا ينفصل عن أهداف العقيدة والشريعة، غير أنها تجمع سموّ الهدف ورقيّ الشكل الفني.
المصدر الذي تستقي منه أحداث وشخصيات القصة القرآنية هو الكون والتاريخ، غير أن القصة القرآنية حقّ لا زيف فيه، ولا مدخل في أحداثها للخيال الفني ولا للخرافات والأساطير التي ادّعى بعض المستشرقين والمستغربين دخولها فيها. ولا للرمزية التي حاول بعضهم -ظلمًا وعدوانًا- حمل قصص القرآن عليها»[37].
فالحقائق التي ترِد في القصة القرآنية عن الكون وعن طبائع النفس البشرية عمومًا، وعن قصص أقوام وأشخاص بأعيانهم هي كلّها حقائق ثابتة علميًّا وتاريخيًّا، وإن لم تقصد القصة القرآنية إلى التأريخ المجرد، بل اتخذت من حقائق التاريخ مجالًا للموعظة والاعتبار والتأسّي، ودروسًا واقعية يتأمّلها المتلقي ويتعلم منها.
القصة القرآنية ليست عرضًا مجردًا لحقائق التاريخ، بل هي انتقاء لجوانب من التاريخ إيجابية أو سلبية لتحقيق أهداف القصة المرجوة؛ ولذا نجدها تركّز على الرقي المادي، وأسباب القوة؛ لأنّ هذه المادة عنصر أساسي في مقومات هذا الإنسان، ونجدها تركز على ما هو أهم، وهو أن التدين الحقّ لا ينفصل عن الحياة العملية ولا ينفصل عن واقع هذا الإنسان وإنما هو مرتبط به ارتباطًا وثيقًا، بل هو جزء منه[38].
وتكمن أهمية القصص في: كون موضوعها هو الإنسان المستخلف في الأرض، بما يدور حوله في الكون وما يحدث له، وما ينبغي أن يكون عليه حاله، وما ينبغي أن يعرفه من أمور العالم المنظور والغيب غير المنظور وحقائق الدين والإيمان والتوحيد والبعث، وما ينبغي أن يلتزمه من معتقدات وفضائل، وما ينبغي أن يتجنبه من معتقدات ورذائل، فالإنسان هو قطب الرحى في القصة القرآنية مثلما هو قطب الرحى في الكون الذي استُخلف فيه.
وعليه، وباستحضار أهداف القصص في القرآن وخصائصه وسماته نتمكّن من استخراج الأصول الممكنة من الإفادة منه واستخراج الهدايات والحِكم التربوية وبعض قوانين الإصلاح والتغيير. ولذلك يمكن معايرة مجموعة من التفاسير الحُبلى بالإسرائيليات وبيان بُعدها عن منهج القرآن؛ لأنها بذلك غطّت أنواره وحجبت بصائره في هذا الميدان. ولقد أحسن ابن عاشور لما ذكر أن من مقاصد القرآن القصص؛ لأنه يعرض تجارب الأمم في الإصلاح وفي النهوض أو النكوص.
4- إعجاز القرآن والآيات الكونية:
يعدّ موضوع إعجاز القرآن واشتماله على الآيات الكونية من الموضوعات التي وقف الناس إزاءها على طرفي نقيض؛ فمنهم من حجّر واسعًا وقزّم موضوع الإعجاز في الزاوية اللغوية، خوفًا على القرآن بدعوى تغيّر النظريات العلمية، ومنهم من تمحّل وتعسّف في التأويل إلى درجة ليّ أعناق النصوص في مجانفةٍ للضوابط اللغوية؛ لذا وجب ردّ الأمور إلى نصابها، وذلك ما تضطلع به أصول التفسير.
ويعدّ ابن عاشور على سبيل المثال ممن وسعوا موضوع الإعجاز في القرآن، ولم يضيّق معناه في جانب من الجوانب، بل تفنن مستعينًا بثقافته الموسوعية، وبراعته اللغوية والمقاصدية في تقصّي أوجه الإعجاز البيانية والعلمية والتشريعية والتاريخية. بل يرى أنّ حصر وجوه الإعجاز متعذّر، فاتحًا بذلك أمام المفسِّرين آفاقًا واسعة للبحث والاكتشاف، ولعَمري إنّ هذا الموقف من ابن عاشور ينضاف إلى تميزه وفرادته، لا سيما إذا استحضرنا الجلبة التي يصطنعها بعضهم لتقليص موضوع الإعجاز في القرآن وتقزيم مساحته إلى أضيق الحدود، بدءًا بإنكار المصطلح، إلى ادّعاء انتفاء وجود علاقة بين القرآن والقضايا العلمية.
وفي هذا الصدد يقول ابن عاشور: «وإذ قد كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يَحصُره المتأمّل، كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها، فنرى ملاك وجوه الإعجاز راجعًا إلى ثلاث جهات:
الجهة الأولى: بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتًا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة، بحيث يكثر فيه ذلك كثرة لا يدانيها شيء من كلام البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.
الجهة الثانية: ما أبدعه القرآن من أفانين التصرّف في نظم الكلام مما لم يكن معهودًا في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.
الجهة الثالثة: ما أودع فيه من المعاني الحِكَمِية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية، مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة»[39].
وإذا أمعنّا النظر في الجهة الثالثة أدركنا أن المناهج القديمة على أهميتها لا تفي بحقّ القرآن في كشف ما ينطوي عليه من أسرار وحقائق لم تكن الظروف والعقول قادرة على استيعابها، وهي متروكة لمسيرة العقل الإنساني ومواكبة المستجدات.
ولقد حدث هناك سوء فهم لقضية معهود العرب، واتخذت مطية من طرف أصحاب القراءات المعاصرة لمحاصرة النصّ القرآني، وتحجيم حضوره إلى أبعد الحدود، ولكن ابن عاشور يرى: «أن من أعظم الأساليب التي خالَف بها القرآن أساليب العرب، أنه جاء في نَظْمه بأسلوب جامع بين مقصدَين، وهما: مقصد الموعظة ومقصد التشريع، فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه، وهو في هذا النوع يشبه خطبهم، وكان في مطاوِي معانيه ما يَستخرِج منه العالم الخبير أحكامًا كثيرة في التشريع والآداب وغيرها، وقد قال في الكلام على بعضه: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7]، هذا من حيث ما لمعانيه من العموم والإيماء إلى العلل والمقاصد وغيرها»[40].
ويستند ابن عاشور إلى القول بإعجاز القرآن إلى ما يأتي:
- «إنّ العلوم التي تعرّض لها القرآن هي من العلوم العليا: وهي علوم فيما بَعد الطبيعة، وعلوم مراتب النفوس، وعلوم النظام العمراني، والحكمة، وعلوم الحقوق. وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها، ما أوجب تشابهًا في مدلولات الآيات الدالة عليها. وإعجاز القرآن: منه إعجاز نَظْمي ومنه إعجاز علمي... فلما تعرّض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها، فيما تعرّض إليه، جاء به محكيًّا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر، وربما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولًا لأقوام، فيَعُدُّون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه، فإذا جاء مَن بعدَهم علموا أنّ ما عدّه الذين قبلَهم متشابهًا ما هو إلا محكَم»[41].
- ويعتمد أيضًا على تصريح القرآن بالتحدي في سياقات مختلفة منها؛ وذكر الجنّ مع الإنس لقصد التعميم، كما يقال: (لو اجتمع أهل السماوات والأرض). وأيضًا لأنّ المتحدين بإعجاز القرآن كانوا يزعمون أن الجنّ يقدرون على الأعمال العظيمة.
والمراد بالمماثلة للقرآن: «المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع. وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي»[42].
- وأيضًا يستند إلى معنى الآيات في القرآن ومواقع ورودها يقول: «والمراد بالآيات: الدلائل التي تضمّنها القرآن، ومنها إعجاز القرآن»[43].
ومنه وجب استحضار مقاصد القرآن وكلياته أيضًا لاستخراج الأصول والقواعد التي تسعف في فهم الآيات الكونية دون إفراط أو تفريط.
خاتمة:
كان الهدف مما تم بيانه آنفًا الإسهام في التنبيه إلى أهمية العناية باستمداد أصول التفسير من مظانّ التفسير باعتبارها مصدرًا أساسيًّا ومجالًا خصًبا وثريًّا ينطوي على مادة أولية مهمة للاشتغال، ولكن ذلك يكتنفه إشكال أساسي، هو تباين هذه المظان واختلاف اتجاهاتها وألوانها والأسلوب المتبع، مما يجعل عملية استخراج الأصول منها ليس بالأمر الهين، آية ذلك عدم وجود نموذج مرجعي ينطلق منه الباحثون لاستخراج منهج هذا المفسِّر أو الأصول المعتبرة عنده.
ويرتبط بذلك إشكال آخر هو التباين الحاصل في أصول التفسير من خلال المؤلّفات في هذا الشأن، وهو أمر له انعكاسات وآثار في تحقيق علمية هذا المجال.
وقد أفضى التحليل إلى استبانة بعض مخارج الحل في اللجوء إلى مقاصد القرآن وكلياته كمنطلق مرجعي يمكن البناء عليه من أجل ترشيد منهجية استخراج الأصول من مظان التفسير، ومعايرة ذلك بمدى القرب من تلك المقاصد والانضباط إلى تلك الكليات.
كما تمّ التوصّل إلى مسيس الحاجة إلى بذل مزيد من الجهد في ميدان مقاصد القرآن وكلياته تنظيرًا وتفعيلًا، وهو أمر فوق الجهود المنفردة وإنما بحاجة إلى عمل مؤسّساتي منظّم.
[1] من البحوث العميقة في هذا الصدد والحقيقة بالانطلاق من رؤيتها واستشراف آفاقها، بحث الدكتور/ خليل محمود اليماني الموسوم بـ(تأسيس علم التفسير، أسبابه، وأهميته، مع طرح مقاربة تأسيسية)منشور بموقع تفسير. ومما جاء فيه -أثناء حديثه عن الحاجة إلى علم التفسير- قوله: نحن أمام تفسير تطبيقي هائل ومتراكم نحتاج لفهمه والإحاطة به وبقاء حالة المراكمة عليه، وهو أمر لا يتم إلا بإقامة علم التفسير الذي يتيح ترتيب النظر للتفسير التطبيقي وحسن الاقتراب منه على صعد كثيرة، من معرفة تاريخه ومؤلّفاته، وميز مدارسه ومصنفاته، وترتيب مقولاته وحصاده، وغير ذلك مما يُعين على فهم التفسير وتعميق الاتصال بقضاياه وتيسير مباحثة هذه القضايا ومتابعة القول فيها، وكذا حسن إنتاج التفسير وممارسته.
[2] أبجديات البحث في العلوم الشرعية، فريد الأنصاري، ص157.
[3] يقول الدكتور/ خليل محمود اليماني: «وصحيح أن لدينا مسارًا بحثيًّا يُعنى بمناهج المفسرين، إلا أن هذا المسار يعاني قصورًا هائلًا في العمل، ولم يتمكن من تحقيق غاياته من بيان أصول المفسِّرين وقواعدهم ومفاهيمهم التي انطلقوا منها في العمل التفسيري، حيث يدور في فلك رصد بعض الأطر الوصفية العامة عند المفسِّرين، مما يبرز استعمالهم لموارد تفسيرية معينة كاللغة والحديث وغيرها، دون التغلغل في استكشاف البنى المنهجية التي صدروا عنها في إنتاج التفسير من خلال توظيف هذه الموارد، مما يجعل مناهج المفسِّرين وأصولهم وقواعدهم في إنتاج التفسير لا تزال بحاجة لاستكشاف واستقراء منهجي مدقّق». تأسيس علم التفسير، أسبابه وأهميته، بحث منشور على موقع مركز تفسير.
[4] دراسة جماعية من إنجاز مركز تفسير للدراسات القرآنية، حيث قام المشاركون بمسح علمي لأغلب المؤلَّفات في قواعد التفسير ودراسة منهجها في الحكم بالقاعدية.
[5] أصول التفسير في المؤلفات المعاصرة، ص245.
[6] أصول التفسير في المؤلفات المعاصرة، ص248.
[7] أصول التفسير في المؤلفات المعاصرة، ص250.
[8] أصول التفسير في المؤلفات المعاصرة، ص252.
[9] أصول التفسير في المؤلفات المعاصرة، ص252.
[10] أصول التفسير في المؤلفات المعاصرة، ص113.
[11] أصول التفسير في المؤلفات المعاصرة، ص113.
[12] تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثًا: قراءة في منهجية التأسيس، مع طرح منهجية لتأسيس العلم، خليل اليماني، ص51.
[13] أصول التفسير؛ محاولة في البناء، مولاي عمر بن حماد، ص27.
[14] التحرير في أصول التفسير، مساعد الطيار، ص17.
[15] بحوث في أصول التفسير ومناهجه، فهد الرومي، ص12.
[16] أصول التفسير وقواعده، خالد العك، ص11.
[17] أصول التفسير وقواعده، ص31.
[18] التيسير في أصول التفسير، مجاهد محمد هريدي، ص14.
[19] أصول التفسير ومقاصد القرآن، مولاي عمر بن حماد. نُشرت هذه المقالة بملتقى أهل التفسير بتاريخ 4/ 7/ 1438هـ= 31/ 3/ 2017م، وأصلها بحث مقدّم في دورة علمية متخصصة في (مقاصد القرآن الكريم)، الرباط: 10- 12 شعبان 1436هـ، الموافق: 28- 30 مايو 2015م.
[20] من التعليل إلى المقاصد العليا، العلواني، ص18.
[21] من التعليل إلى المقاصد العليا، العلواني، ص19.
[22] الاجتهاد المقاصدي من التصور الأصولي إلى التنزيل العملي، جاسر عودة، ص34.
[23] الاعتصام للشاطبي، ت: الشقير والحميد والصيني (2/ 53).
[24] الموافقات، (4/ 209).
[25] النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر، قطب الريسوني، ص474.
[26] مقاصد القرآن، بدوخة، ص27.
[27] التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، ص37.
[28] عبد المجيد النجار، فقه التدين، فهمًا وتنزيلًا، كتاب الأمة، فقه التدين، ص110.
[29] وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، دار الفكر، ط2، 2002م، ص55.
[30] التجديد الأصولي، تحرير: أحمد الريسوني، ص164.
[31] التجديد الأصولي، تحرير: أحمد الريسوني، ص102
[32] الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، أحمد الريسوني، ص: 125. وقد ذكر المؤلف أنها ثمانية أسس تشريعية لكن الوارد في الكتاب سبعة فقط.
[33] التجديد الأصولي، ص169.
[34] التجديد الأصولي، ص170
[35] التجديد الأصولي، ص170.
[36] التجديد الأصولي، ص170.
[37] قصص القرآن، فضل عباس، 2010، ص45.
[38] قصص القرآن، فضل عباس، ص46.
[39] التحرير والتنوير، (1/ 104).
[40] التحرير والتنوير، (1/ 107).
[41] التحرير والتنوير، (3/ 157).
[42] التحرير والتنوير، (1/ 128).
[43] التحرير والتنوير، (19/ 77).