فضائل السور وأهميتها في دراسة مقاصد السور
سورتا الكهف والملك نموذجًا
مقدّمة:
نزل القرآن الكريم لغاية جليلة، تُرْجِم عنها بقول الله -عز وجلّ-: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1]، وما شابهها من الآيات. ولتحقيق هذه الغاية يتقصَّد القرآن مقاصد عامَّة، مَن لم يعرفها انحرفتْ بوصلته في بحر علم القرآن؛ ولذا جعل الشاطبيُّ المعرفةَ بمقاصد القرآن الكريم قسيمة للإلمام بعلوم العربية كشرطين للتأهُّل للتوقيع عن الشارع، «فإنَّ القرآن والسُّنة لمّا كانا عربيَّيْن لم يكن لينظر فيهما إلا عربيّ، كما أنَّ مَن لم يعرف مقاصدهما لم يحلَّ له أن يتكلّم فيهما؛ إِذْ لا يصح له نظر حتى يكون عالمًا بهما، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة»[1].
وأوجب ابن عاشور على الآخذ في فنِّ التفسير أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها[2].
وإذا كان العرب قد قالوا: شعرٌ قصيدٌ؛ إذا كان منقحًا مجوّدًا، وسمَّوا الشعرَ التامَّ قصيدًا؛ لأنّ قائله جعله مِن بالِه فقصد له قصدًا، وروى فيه ذهنه، ولم يَقتضبْه اقتضابًا، فهو فعيل بمعنى مفعول من القَصْد[3] = فإنَّ المتصوَّر في سور القرآن الكريم أن تكون كلُّ واحدة منها تعالج غرضًا رئيسًا يمثّل درة العقد تكسوه -مع أخواتها- بهاءه، فتتحدَّد من خلال ذلك نفاسته، ويكون السياق العامُّ هو سلك العقد الذي يسلكها كلَّها في نظام واحدٍ.
«وإنك لتقرأ السورة الطويلة المنجَّمة يحسبها الجاهل أضغاثًا من المعاني حُشِيَت حشوًا، وأوزاعًا من المباني جمعتْ عفوًا؛ فإذا هي -لو تدبرتَ- بِنْيَةٌ متماسكة قد بُنيت من المقاصد الكلية على أُسُس وأصول، وأُقيم على كلّ أصل منها شُعَب وفصول، وامتد من كلّ شُعبة منها فروع تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها؛ كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرّة واحدة، لا تحسّ بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الأُلفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضامِّ والالتحاق. كلّ ذلك بغير كلفة ولا استعانة بأمر من خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة، ولطف التمهيد في مطلع كلّ غرض ومقطعه وأثنائه، يريك المنفصل متصلًا، والمختلف مؤتلفًا»[4].
وللباحثين في المقاصد القرآنية طرق يستدلّون بها على مقاصد كلِّ سورة، يمكن إرجاعها في الجملة إلى أمرين:
الأول: النَّظر في بعض الأمور المُحتفَّة بالسورة، وأولُّها أسماء السورة التوقيفية.
الثاني: تحليل مضمون السورة ونَظْمها، فيربطون بين مطلع السورة ومقاصدها، وكذا خاتمتها، وقصصها وأمثالها وأيمانها وتشريعاتها، ونحو ذلك.
وعلى كثرة ما كُتِب في هذا الباب فإنه -في تقدير الباحث- ما زال مجالًا رحبًا للبحث، وأرضًا خصبة للحرث.
ولدقَّة البحث في المقاصد القرآنية فإنها بحاجة إلى اعتماد كلِّ ما يمكن الارتفاق عليه في التوصُّل إلى مقاصد السّور من طريق صحيح يمكن الثقة به بعد عرضه على معيارٍ لا يتفاوت.
ومن الأمور التي يمكن أن تمثِّل إضافة إلى طرائق الاستدلال على مقاصد السور ببعض الأمور المحتفّة بها: أن يُستدلَّ على هذه المقاصد بما صحَّ من فضائلها، وعلى الرغم من كونه طريقًا لاحبًا؛ فإنه غير مطروقٍ.
ويحمل هذا المقالُ على عاتقه إبرازَ هذه الفكرة والتأطيرَ لها تنظيرًا وتطبيقًا؛ منطلقًا من نظرة تمهيدية في فضائل القرآن وتفاضله، مَادًّا منها حبل التوسُّل إلى مقاصده، مُجلِّيًا فكرته بتحليل مقاصد سورتي الكهف والملك في ضوء ما صَحَّ من فضائلهما، عارضًا ما توصَّل إليه على ما أدلى به العلماءُ في مقاصد السورتَيْن الكريمتَيْن تقويمًا وتصحيحًا.
فضائل القرآن الكريم:
يعتقد المسلم أنّ القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم المهيمن على ما بين يديه من الكتب والرسالات، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]، وأنَّه معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي لا تشبهها معجزة أخرى، إذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقِّه: (ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطي ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)[5].
ويعتقد المسلم أنّ هذا القرآن كلَّه خيرٌ وفضلٌ ورحمةٌ وبركةٌ ونورٌ وهدًى وشفاءٌ وعصمةٌ وفرقانٌ، وهو شافِعٌ مشفَّعٌ مَاحِلٌ مُصدَّقٌ... إلى غير ذلك من الأوصاف التي دلَّت عليها نصوص الوحيين.
هذا، وقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- أحاديثُ وآثارٌ في فضائل القرآن عامَّةً، وفي فضائل بعض السور والآيات خاصّةً، وقد أفرد لها المصنّفون قديمًا وحديثًا عددًا لا يُحصى من الكتابات؛ فضلًا عمَّا تناثر في أطواء المصنفات الأخرى التي لم تُفرد لهذا الأمر خصوصًا، مثل أبواب فضائل القرآن في دواوين السُّنة، وكتب علوم القرآن، وبعض مقدّمات كتب التفسير.
وعمومًا؛ فإنَّ فضائل السور والآيات تدور في عدّة أفلاك؛ أشهرها وأكثرها تواترًا أربعة:
الأول: الوصف بالأعظمية ونحوها، كما صحَّ في حقِّ سورة الفاتحة وآية الكرسي، فعن أبي سعيد بن المُعَلَّى -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (لأُعلِّمَنَّك سورةً هي أعظم السُّور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد). قال: ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلتُ له: ألم تقل لأعلِّمَنَّك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2، والمقصود السورة كلها] هي السبعُ المثاني، والقرآنُ العظيم الذي أُوتيتُه»[6].
وعن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا المُنذِر؛ أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟) قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذِر؛ أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلتُ: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري، وقال: (واللهِ لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذِر)[7].
الثاني: ذِكر أنَّها تعدل قدرًا من القرآن، كما صحَّ أنَّ سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، ووَرد بسند فيه ضعف أنَّ سورة الزلزلة تعدل نِصْفَ القرآن، وسورة الكافرون تعدل رُبُعَ القرآن.
الثالث: أنَّ مَن قرأها أو أَخَذَها أُعطي من الفضل أو العصمة شيئًا مخصوصًا منصوصًا، كما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في سورة الكهف والملك، وسيأتي.
الرابع: أَمرُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بقراءتها وِردًا موظَّفًا، أو مواظبتُه -صلى الله عليه وسلم- على ذلك؛ كالمعوّذات والأعلى والكافرون والكهف والسجدة والإنسان والجمعة والمنافقون. فهذا منطوٍ على فضيلة خاصَّة لتلك السور، وإلا ما خُصَّت ببعض المقامات والأحوال.
تفاضل القرآن الكريم[8]:
إنَّ ظاهر بعض الأحاديث المتقدّمة وغيرِها يُوحي بأنَّ بعضَ القرآن أفضلُ من بعض، كوصفه الفاتحة بأعظم سورة في القرآن، ووصفه إيَّاها بأنَّه ما أُنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلُها، وإخباره بأنَّ سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، فكلُّ هذا دالٌّ على تفاضل القرآن الكريم.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب جماعة إلى أنَّه لا فضل لبعضه على بعض؛ لأنّ الكلَّ كلامُ الله -عزّ وجلّ-، فتفضيل بعض القرآن على بعض خطأ؛ ولذا كَرِه الإمام مالك أن تعاد سورة أو تُرَدَّد دون غيرها، واحتجّوا بأنَّ التفضيل يُشعر بنقص المفضول، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقصَ فيه.
وتأوَّلوا النصوص المتقدّمة بتفاضل الأجر لا القدر، فإنّ الله لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أمِّ القرآن، فالله -عزّ وجل- فَضَّل بفضله هذه الأمة على غيرها من الأمم، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه، فقوله: «أعظم سورة»، أراد به في الأجر لا أنَّ بعض القرآن أفضلُ من بعض.
وذهب الأكثرون إلى القول بالتفضيل لظواهر الأحاديث المتقدّمة، حتى قال ابن الحصار: «العجبُ ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة بالتفضيل»[9].
ونَاطوا التفاضل بموضوع الآيات وإن كان الكلُّ كلامَ الله -عزّ وجل-، فما تضمَّنته سورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته -عزّ وجل- ليس موجودًا مَثلًا في سورة المسد، فكانت سورة الإخلاص أفضل من هذا الوجه، ويشهد له حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلًا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾. فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك). فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحبُّ أن أقرأ بها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أخبروه أنّ الله يحبه)[10].
فالتفضيل إنما هو بشرف الموضوع، وموضوعات القرآن متفاضلة، وإن كانت كلّها شريفة، فالحديث عن الخالق أشرف من الحديث عن المخلوق.
ولا يُقال مثلًا: إنَّ سورة الإخلاص أبلغ من سورة المسد، بل كلّه في غاية الفصاحة والبلاغة في موضوعه، فلا توجد عبارة أبلغ في توعُّد عدوِّ وليِّه في هذا السياق مما جاء في سورة المسد، ولا توجد عبارة تدلّ على صفة الرحمن أبلغ مما جاء في سورة الإخلاص، فالعالِم لا يقول: إحداهما أبلغ من الأخرى. وإن كان الحديث عن صفة الرحمن أعظم موضوعًا من الحديث عن توعُّد عدوِّ وليِّه، وكلٌّ إذا جاء من الله -عزّ وجل- عظيمٌ شريفٌ.
وأمّا ما ورد أنَّ الفاتحة أعظمُ سورة، وأنَّ آية الكرسيِّ أعظم آية، فلا تناقض فيه؛ فالأُولى أعظم باعتبار السور، والثانية أعظم باعتبار الآيات.
وأمَّا ما ورد بأنَّ المعوِّذتين لم يُرَ مثلهنَّ قطُّ، فيمكن توجيهه بأنَّه لم يُرَ مثلهنَّ في رُقى الناس وعوذهم التي كانوا يرقون بها ويتعوّذون، يشهد له حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعوّذ من الجانّ وعين الإنسان؛ حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتَا أخذ بهما وترك ما سواهما»[11]. والله تعالى أعلم.
تفاضل القرآن باعتبار حال تَالِيه:
وهذا يأخذنا إلى مبحث عزيز لم أقف على أحدٍ فَصَّل الحديث فيه[12]، وهو تفاضل القرآن باختلاف حال تاليه، فإن كنّا قد بَيّنّا أنَّ الراجحَ تفاضلُ القرآن الكريم، وأنَّ هذا التفاضل إنما هو باعتبار موضوع الآيات والسور، فإنَّ هناك نوعًا آخر من التفضيل باعتبار حال التالي دلَّت عليه الآثار وفعل السَّلَف. ونعطي لذلك أمثلة:
1. قراءة السورة الموظَّفة في وقتٍ معيَّن أَوْلى وأفضل من قراءة غيرها عند التدافُع؛ كسورة الكهف يوم الجمعة، وسورة الملك إذا أخذ مضجعه، ونحو ذلك. وقد تتعيَّن؛ كقراءة الفاتحة في الصلاة لا يُجزئ غيرها عنها مع القدرة على الإتيان بها، فإن قرأها كانت قراءة غيرها معها في الركعة أَوْلى من تكرارها مرة بعد مرة، بل إنَّ الصلاة قد تبطل بتكرارها في الركعة على بعض الأقوال[13].
2. أنَّ العواصم المخصّصة لفتنٍ وشرورٍ بعينها أَوْلَى أن يُعتصَم بها. يدلُّ عليه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد مَن أدركه الدَّجَّالُ أن يقرأ آياتٍ من سورة الكهف، كما سيأتي تفصيله.
ولقائلٍ أن يقول: أليس مُقتضى التيسير أن يقرأ المُعتصِمُ في هذا المقام سورة الفاتحة، فجلُّ المسلمين يحفظونها كما يحفظون أسماءهم، وفضلُها على غيرها معروف لا ينكَر ولا ينازَع فيه؟
والجواب: ما ذلك إلا لأنَّ قراءة سورة الكهف أو الآيات المخصوصة منها أَوْلى في هذا المقام من قراءة الفاتحة؛ لأنها عاصمة خاصَّة.
3. أنَّ الإنسان قد يمرُّ بحالٍ يناسبه فيها أن يتدبَّر آيةً بعينها من كتاب الله تعالى؛ كحال من أَشْفى على بابٍ من أبواب الرِّبا يحسن به تدبُّر آيات الرِّبا وشدّة الوعيد الواقع فيها، وكذا الزنا، وشهادة الزور، وغير ذلك. ومثله من يمرُّ بضائقة، أو يضيقُ بمصابٍ فيتدبَّر الآيات التي تعظِّم فضيلة الصبر، وتُوقف المبتلَى على حقيقة الدنيا وأنها دار بلاء لا دار خلود وجزاء. ونحو ذلك.
ولعلّ هذا هو ما عناه ابن القيم بقوله: «فلو عَلِم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبُّر لاشتغلوا بها عن كلّ ما سواها، فإذا قرأه بتفكّر حتى مَرَّ بآية هو محتاج إليها في شفاء قلبه كرّرها ولو مئة مرة، ولو ليلة. فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذَوْق حلاوة القرآن. وهذه كانت عادة السَّلَف، يردّد أحدهم الآية إلى الصباح»[14].
ومن هنا نفهم سرّ تكرير السَّلَف لبعض الآيات التي قد يبدو للمتعجّل أنَّ موضوعها لا يحتمل هذا التكرار. والله أعلم.
وتأسيسًا على ذلك يمكن أن نتلمَّس خصوصية المعاني التي تجعل المعوذتين -مثلًا- عاصمتين من العين والحسد والوسواس وأنهما أفضل ما تُعُوِّذ به في ذلك، وتجعل سورة الملك عاصمة من عذاب القبر، وأنها أفضل ما استُعصم به في ذلك، وسورة الكهف عاصمة من فتنة الدجّال وأنها أفضل ما استُعصم به في ذلك... وهكذا، وإن كان القرآنُ عصمةً كلُّه، وشفاءً كلُّه، ورحمةً كلّه[15].
فهل من الممكن بناءً على هذه الحقيقة الواضحة أن نحاول التماسَ المقاصد الرئيسة لبعض السُّور مما صحَّ في فضائلها؟
علاقة الفضائل بالمقاصد:
إنَّ من أعظم أبواب التدبُّر محاولة الربط بين صحيح فضائل السورة وبين ما حوته من معانٍ ومقاصدَ. ولهذا الربط مسلكان:
المسلك الأول: الاعتلال لفضائل السورة بمقاصدها:
ولم يزل هذا المسلكُ هو صنيعَ العلماء، فكثيرًا ما يعتلُّون لفضائل السورة بمقاصدها، وطبيعة معانيها. فمن ذلك توجيههم ما استفاض صحَّةً من أنَّ سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن بأنَّ الله -عزّ وجل- جعل القرآن ثلاثة أجزاء؛ أحدها: القصص والعبر والأمثال. والثاني: الأمر والنهي والثواب والعقاب. والثالث: التوحيد والإخلاص. وقد تضمنت هذه السورة صفة توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد؛ فلذا جعل لقارئها من الثواب كثواب مَن قرأ ثلث القرآن[16].
وقال ابن العربي: «وفي الفاتحة من الصفات ما ليس في غيرها، حتى قيل: إنَّ جميع القرآن فيها، وهي عشرون كلمة تضمَّنت جميع علوم القرآن... ولهذه المعاني كلِّها صارت القرآنَ العظيم كما صارت: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تعدل ثلث القرآن؛ إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ، و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فيها التوحيد كله، وبهذا المعنى وقع البيان في قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبيّ بن كعب: (أَيّ آيَةٍ في الْقُرْآنِ أعْظَمُ؟) قال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، قال: (لِيَهْنِئْكَ العلمُ يا أبا الْمُنْذِرِ). وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيدٌ كلَّها، كما صار قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلي: لَا إله إِلَّا الله...» الحديث = أفضلَ الذِّكْر؛ لأنّها كلمات حَوَت جميع علوم التوحيد، والفاتحة تضمّنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير، ولا تستبعد ذلك في قدرة الله تعالى فإنّ الله -عز وجل- جمع التوحيد كلَّه في آية الكرسي، ثم جمعه في أقلّ حروف منها وهو ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، ثم جمعه لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في كلمات يوم عرفة المتقدّمة، ثم جمع علوم القرآن في الفاتحة»[17].
وهذا المسلك يحتمل تطوير البحث فيه عن طريق ربط علم المقاصد القرآنية بعلم خواصِّ القرآن، ولكن لا بدَّ أن يسبقه نظرٌ مُحَرِّرٌ مُقوِّمٌ لعلم خواصِّ القرآن. والله أعلم.
المسلك الثاني: الاستدلال لمقاصد السورة بفضائلها:
وهو عكس المسلك الأول، فمما يُستأنس به للوصول لمقاصد السُّور ما صحَّ في فضائلها وخواصِّها، فلا شكَّ أنَّ هذه الفضائل والخواصَّ نابعةٌ مما تحمله السورة من معانٍ رئيسةٍ استوجبت لها هذه الفضيلة الخاصة؛ عَلِمَها مَن عَلِمها وجَهِلَها مَن جهلها.
ومنطلَقُ هذا المسلك أنَّ القرآن الكريم مبينٌ حكيمٌ، منزَّلٌ من حكيم حميدٍ منزَّه عن العبث سبحانه، فكانت الفضائلُ والخواصُّ منوطةً بمعانٍ أودعها الله -عزّ وجل- هذا الكتاب المعجز، وتعبَّد المؤمنين بتدبُّرها، فلا يُشَكُّ أنَّ تلك الفضائل نابعةٌ مِن مقاصدَ عليا تضمَّنتها تلك السور والآيات. ونحن نؤمن أنَّ القرآن كلّه شفاءٌ، ولكنه كالدواءِ لا يبعد أن يكون بعضه أعظم تأثيرًا في بعض الأمراض المخصوصة من بعضٍ، وإن كان الكلُّ شفاءً، وكذلك كلُّه عصمةٌ، ولا يبعد أن يكون بعضه أعصم من بعض الفتن.
وهذا -ولله المثل الأعلى- كما لو وُجِد مجموعة من المحامين الأكْفَاء الأفذاذ يتكافؤون علمًا وخبرة واقتدارًا في مجال عملهم، ويُتقنون جميع جوانب القانون ويستظهرونها، لا يُفرّق العارف بهم بينهم، ولكنَّ بعضهم متخصّص في القانون الجنائي وآخر في القانون الدوليّ، وثالث في القانون المدنيّ، ورابع في القانون الإداريّ، وهكذا. فلا شكَّ أنَّهم -وإن كانوا حقيقين بالدفاع والمرافعة عن أيّ مُتّهمٍ- فإنَّ بعضهم أحقُّ بالمرافعة في مجال تخصصه.
وعليه؛ فإنَّ التذرُّع إلى استنباط مقاصد السورة بما صحَّ من فضائلها مسلك صحيحٌ؛ بل لعلّه أجدر مسالك الاستدلال على المقاصد وأحقّه بالتقديم؛ لكونه جائيًا من طريق الوحي التوقيفيّ. ولا يخفى أنَّه لن يكون كذلك إلا إذا صحَّت الآثار الواردة في الفضائل بما تطمئن إليه النفس، فكلَّما كانت الآثار في فضائل سورةٍ ما أصحَّ وأكثرَ كان الارتفاق عليها أوفق وأقوم. وأمَّا الأحاديث الضعيفة والمراسيل الواردة في فضائل السور فلا يُعتضد بها إلا على سبيل الاستئناس، فلا تُقدَّم تأصيلًا وتأسيسًا. والله أعلم.
فإذا صحَّ في فضائل سورة عددٌ من الآثار؛ فمن الجدير تصنيفها على الأفلاك الأربعة التي ذكرناها قبلُ، وأوشاها بمقصد السورة ما ارتبط بعصمةٍ من أمرٍ معيَّن، فيُنظر في فحوى هذا الأمر، ويُنظر في موضوع السورة ويصل بينهما، ويلي ذلك: ما وُظِّف قراءته في حالٍ أو مقامٍ معيّن، فينظر في خصوصية هذا الحال والمقام، محاولًا الوصل بينه وبين موضوع السورة دون تعسُّف أو تكلُّفٍ، فما بدا له أخذه، وما خفي عنه كَرَّر النَّظر فيه مليًّا.
نموذج تطبيقي:
وتطبيقًا لهذا التأصيل نقف مع مثالين لسورتين صحَّت بخصوصهما بعض الأحاديث والآثار، وهما سورة الكهف وسورة الملك، نستعرض بعض ما صحَّ في فضائلهما محاولين الربط بين هذه الفضائل، وبين مقاصد السورتين الكريمتين.
المثال الأول: سورة الكهف:
تنوّعت أقوال المتكلِّمين في المقاصد بشأن مقصد سورة الكهف أو مقاصدها، فذهب الإمام البقاعي إلى أنَّ «مقصودها وصف الكتاب بأنه قيِّم، لكونه زاجرًا عن الشريك الذي هو خلاف ما قام عليه الدليل في (سبحان) من أنه لا وكيل دونه، ولا إله إلا هو، وقاصًّا بالحقّ أخبارَ قوم قد فُضِّلوا في أزمانهم وَفق ما وقع الخبر به في (سبحان) من أنه يفضل من يشاء، ويفعل ما يشاء، وأدلّ ما فيها على هذا المقصد قصة أهل الكهف؛ لأنّ خبرهم أخفى ما فيها من القصص مع أن سبب فراقهم لقومهم الشرك، وكان أمرهم موجبًا -بعد طول رقادهم- للتوحيد وإبطال الشرك»[18].
وذهب باحثو (موسوعة التفسير الموضوعي) إلى أنَّ مدار السورة الكريمة على العواصم من الفتن، فهي عصمةٌ ونجاة من الفتن عمومًا، ومن أعظم الفتن التي تتربص بالإنسانية، وقد حذَّر منها نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ التحذير: فتنة المسيح الدجّال، فكان من خواصّ هذه السورة الكريمة أنها عصمة من فتنته، ونجاة من شرّه[19].
فالسورة الكريمة تدور حول محور من المحاور الأساسية والركائز الجوهرية لهذا الدين؛ إنه الهدف الأساسي الذي نزل من أجله القرآن، إنه العصمة من أمواج الفتن المتلاطمة وحشودها المتلاحمة فتن متنوعة متباينة متزاحمة متراكمة تجعل الحليم حيران: فتنة السلطان وفتنة الشباب، وفتنة الأهل والعشيرة، وفتنة المال، والاغترار بالدنيا الفانية، وفتنة إبليس اللعين، وفتنة العِلم، وفتنة يأجوج ومأجوج، وفتنة الأهواء...، فالسورة تخطّ لنا طريق العصمة وتبرز لنا معالم النجاة، وذلك باتباع المنهج الرباني، والاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه، وتصحيح المفاهيم وتقويم الموازين، وتأصيل القيم والنظرة الصحيحة للكون والحياة، وإدراك حقيقة الدنيا الفانية والعمل لدار الخلود، إلى جانب الصحبة الصالحة، والتحصُّن بالعلم النافع، والتزود بالعبادة الصحيحة، والتذرّع بالصبر والثبات، والتحلِّي بمكارم الأخلاق، والاعتبار بقصص السابقين[20].
وقد وردتْ أحاديث كثيرة في أنَّ سورة الكهف عاصمة من فتنة الدجّال، وهذا ما تضافرت عليه معظم الأحاديث الواردة في فضائل السورة الكريمة، وغيره مما يمكن إرجاعه إليه.
ومن هذه المرويات روايات لم تحدِّد آيات معينة من السورة، كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّه قال: (مَن قرأ سورة الكهف كما أُنزلَت ثم أدرك الدجَّالَّ لم يُسلّط عليه ولم يكن له عليه سبيل، ورُفع له نور من حيث يقرؤها إلى مكة)[21].
وظاهر معنى قوله: «كما أُنزِلَت»؛ أي: مُحقّقًا لفظها، وهذا لا يحصل إلا لمن اعتنى بقراءتها، وواظب عليها، لا سيما في زمان الدجّال الذي يقلّ فيه العلم ويفشو فيه الجهل. فمَن فعل دلَّ فعلُه على شدّة اعتنائه بها، وحرصه على أخذها.
والذي نستظهره أنَّ لفظ (قرأ) يُقصد به في كثيرٍ من أحاديث القرآن وفضائله القراءةُ عن ظهر غيبٍ، فإن كان هذا هو المراد ها هنا، يكون معنى قوله: «كما أُنزلت»، أي: جامعًا لها لا يُسقط منها آيةً ولا حرفًا؛ بل يحفظها بإتقانٍ.
وعلى كلٍّ؛ فنحن نلحظُ أنَّ المرء -وإن كان مُتقنًا للقراءة بصفة عامَّة- كثيرًا ما يتعذّر عليه القراءة من المصحف ما لم يكن مُتدرّبًا على ذلك، وبالجملة؛ فتحقيق هذا القيد «كما أُنزلت» يتطلّب معالجة الأخذ والتعاهد، وهو ما قد لا يقع في زمان الدجّال إلا لأفذاذ الناس.
وهناك روايات أخرى ذكرت عشر آيات من السورة الكريمة دون تحديد، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (مَن قرأ عشر آيات من سورة الكهف عُصِمَ من فتنة الدجّال)[22].
على أنَّ الروايات المشهورة قد حدّدت العشر الأولى، وغيرها حدّدت العشر الأخيرة، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن حَفِظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِم من الدجال)[23]. وفي رواية: (من آخر سورة الكهف).
ويشهد لكون الآيات العشر المقصودة من أولها حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- في وصف الدجّال، وفيه: «مَن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف»[24]، وحديث أبي أمامة الباهليّ -رضي الله عنه-: «فمن ابتلي بناره فليستغث بالله، وليقرأ فواتح الكهف»[25].
ووقع في رواية عند الترمذي: (مَن قرأ ثلاث آيات من أوّل الكهف عُصِم من فتنة الدجّال)[26].
ومهما يكن من أمرٍ؛ فهذه الأحاديث دالَّةٌ على أنَّ سورة الكهف عاصمة من فتنة الدجّال.
وليس في سورة الكهف ذِكرٌ للدّجّال، وحتّى نتفكَّر في وجه قيامها بهذه العصمة نستعرض بعض الأحاديث التي أوضحت موقع تلك الفتنة -أعني فتنة الدجّال- من الفتن التي قد يتعرّض لها المرء. ولعلَّ التأمّل في هذا يُجلِّي لنا المقصد الذي عليه مدار السورة الكريمة.
فنجد أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في وصف فتنة الدّجّال: (إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال)[27].
ويقول: (وما صُنِعت فتنةٌ منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة، إلا [تتَّضع] لفتنة الدجال)[28].
ويقول: (ولقد أُوحي إليَّ أنكم تُفتنون في القبور مثلَ -أو قريبًا من- فتنة الدجال)، الشكّ من الراوي[29].
ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر الاستعاذة من تلك الفتنة؛ تعليمًا لأمته، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال[30].
وعنها -رضي الله عنها- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)[31].
وكذا كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكان سعد بن أبي وقَّاص يأمر بخمس، ويذكُرهنَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يأمر بهنّ: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا -يعني فتنة الدجال-، وأعوذ بك من عذاب القبر)[32].
فهذه الأحاديث وغيرها تبيّن خطورة فتنة الدجّال، وأنَّها تكاد تكون أكبر فتنة يمكن أن يتعرّض لها المرء في الدنيا والبرزخ.
فإذا تدبَّرنا سورة الكهف وجدناها من أوّل آية ترشد إلى سبيل النجاة الوحيد من البأس الشديد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ [الكهف: 1-2]، ثم تذكِّر بأنَّ كلَّ ما على الأرض هو موضوعٌ للابتلاء وإن كان في ظاهره زينةً لها، وأنَّ مصيره إلى الزوال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ﴾ [الكهف: 7- 8]. فحقيقة الأرض أنَّها مسرحٌ لهذا البلاء، منصوبٌ لغاية محددةٍ، ثم لا يلبث أن يُطوى بانتهائها.
ثم تنتقل السورة الكريمة مباشرة إلى تناول أُولى القصص الأربع الكبرى التي عليها مدارها. والجامع بينها -بالنظر والتأمُّل- هو الفتن، ففتنة فتية الكهف في الثبات على الدِّين الحقِّ في مواجهة الشِّرك، وقد استحكمت الفتنة على أشدّها بأنَّهم كانوا فتية في مقتبل عمرهم، ولو كانوا أكبر عُمُرًا لربّما كانوا أكثر خبرةً وقدرة على مواجهة الأمر، وكانوا قليلًا عددهم، ولو كانوا كثيرًا لتقوَّوا بذلك، ولم يكن قومهم ليتهاونوا معهم لو كانوا ظهروا عليهم؛ إمّا أن يرجموهم وإما أن يعيدوهم في ملّتهم، فلم يكن الأمر قابلًا للتفاوض، أو الحلول الوُسْطى.
ثم تأخذنا السورة الكريمة إلى القصة الثانية، وفيها فتنة المال والبنين، وكيف يمكن أن يغترَّ المرء بالعرَض القريب والظّل الزائل، وكيف يركن إلى هشيمٍ تذروه الرياح.
ثم فتنة العِلم كيف يؤمر المتبوع أن يصير تابعًا، وكيف يُعطى بعض العباد لمحةً من أخصّ أنواع العِلم الغيبيّ، وهو علم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فنرى فيها العجب العجاب على قِصَر مُدَّة الرحلة التي قضيناها مع موسى والخضر عليهما السلام.
ثم فتنة السلطان، وكيف يُعطى بعضُ العباد من كلّ شيء سببًا، فيجتمع لهم من أسباب القوة ما ليس عند غيره.
وبين هذه الفتن وفي أطوائها تشير السورة إلى فتنٍ أخرى، فمثالًا لا حصرًا لما يقع في طوايا القصص من الفتن: تُلمِح قصة الكهف بالافتتان بالصالحين، وفي قصة صاحب الجنتين فتنة الصاحب وما يُلجأ إليه أحيانًا من الاختيار بين نصيحة صاحبه وإن كان فيها غلظة، وبين موافقته على ما فيه ضرره وضرر صاحبه. وفي قصة موسى والخضر -عليهما السلام- إشارة أخرى إلى فتنة المُلك متمثلةً في هذا المَلِك الظالم الذي يغصب أموال الناس بدَل أن يقوم بمسئوليته في حياطة أموال رعيته، وفي قصة ذي القرنين الصبر على هؤلاء القوم حتى يفقه قولهم، ويُعلّمهم بإشراكهم معه في بناء السدّ، فلا يستأثر بمفاتيح العلم بالقوّة، ولكن يبذلها لهم.
ثم بعد نهاية أكثر القصص يتوجّه للمؤمنين بوصايا تحمل في طواياها عواصم لمواجهة الفتن، فبعد قصة أهل الكهف يدعو لتلاوة القرآن، والاعتصام بالله تعالى، والكفّ عن الجدل غير المنضبط، والصبر مع المؤمنين وإن لم يكونوا من عِلْية القوم ووجهائهم، وحسن اختيار الصحبة الصالحة، والتأكيد على أنَّ المؤمنين أولياء بعضٍ وإن لم يكونوا أنسباء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن ضجر به الناس، والتذكير بالجنة والنار.
فهذه -في الحقيقة- مفاتيح العصمة من فتنة التنكُّب للدين الحقِّ بصدِّ الصادّين عنه.
وبعد ذكر قصة صاحب الجنتين وفتنته بماله ولده، يذكّر بالعواصم من ذلك؛ بأن يذكّر بالزائل والباقي، وأن يذكّر بعداوة الشيطان وذريته وأتباعه فهم يصوّرون الفاني باقيًا، والباقي مستبعدَ الحدوث، والأجل القريب بعيدًا.
ثم يختم السورة الكريمة بأهم عاصمتين من الفتن عمومًا، وهما الإخلاص والاتّباع: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
وكلّ هذا في تساوق بديعٍ، ونظمٍ بليغٍ، فكأنَّ تدبُّرها رياضة روحية وذهنية، فكانت عصمةً من أعظم فتنة من حيث إنها أعظم تدريب على مواجهة الفتن، فمن كان مواظبًا على تلاوتها وتدبُّرها كلَّ جُمُعة كان حقيقًا بأن يُعصم من أعظم الفتن فما دونها.
ولعلَّ عِظَم فتنة الدَّجَّال يكمن في أمرين:
الأول: أنَّه يخرج حال ضعف الدين وذهاب العلم وإدباره؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يخرج الدجال في خفقة من الدِّين، وإدبار من العلم)[33].
الثاني: أنَّها فتنة مركَّبة من عدّة فتن، فالدَّجَّال يَفْتِنُ -بإذن الله وتقديره- بما معه من أسباب القوة الظاهرة، وبإنزال المطر وإنبات الأرض، وبإخراج الكنوز، وبالمخاريق التي يلبّس بها فيظنُّها العامّة من خوارق الأمور، كما صحَّ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم، أطول ما كانت ذُرًا، وأسبغه ضروعًا، وأمدّه خواصر، ثم يأتي القوم، فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون مُمحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة، فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه، يضحك)[34]، ومن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ومعه جبال من خبز، والناس في جَهْدٍ إلا مَن تبعه، ومعه نهران أنا أعلم بهما منه، نهر يقول الجنة، ونهر يقول النار، فمن أدخل الذي يسميه الجنة فهو النار، ومن أدخل الذي يسميه النار فهو الجنة. ويبعث الله معه شياطين تُكَلِّم الناس، ومعه فتنة عظيمة، يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس، ويقتل نفسًا ثم يحييها فيما يرى الناس، لا يُسَلَّط على غيرها من الناس، ويقول: أيها الناس؛ هل يفعل مثل هذا إلا الربُّ؟)[35].
ويَفْتِن بما يُشبّه على الناس من الشبهات، فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن سمع بالدجال فلْيَنأ عنه، فواللهِ إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات، أو قال: لما يبعث به من الشبهات)[36].
فاستوعبتْ فتنة الدجّال فتنًا جزئية كثيرة، مدارها -عند التحقيق- على الفتن التي أبرزتها سورة الكهف.
ومن هنا نرى وجه اختصاص سورة الكهف بهذه الفضيلة. فمَن تعاهد السورة الكريمة متدبّرًا آياتها ومعانيها، فقد أحسن التوكُّل على الله وصدق الالتجاء إليه، والارتفاق بوحيه، والاعتصام بذِكْرِه، فلم يُفتن عن دينه، ولم يُفتن بمالٍ ولا كنوزٍ، ولم يستفزّه ما يستفزُّ العامّة من المسارعة في الهرْج واتّباع كلّ ناعقٍ، وعرَف الشيطانَ بحِيَله وتلبيسه، وميّز بين صحيح العلم وبين الشُّبهة، ولم يقف عند حدود الظواهر، فلا تبهره بعض الخوارق والمخاريق، فحُقّ لمتدبِّرها أن يُعصم من أيّة فتنة مهما كانت عظيمة.
«وقد دارت السورة الكريمة حول العواصم من الفتن، فهي عصمة ونجاة من الفتن عمومًا، ومن أعظم الفتن التي تتربص بالإنسانية وقد حذَّر منها نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ التحذير؛ فتنة المسيح الدجال، فكان من خواصِّ هذه السورة الكريمة أنها عصمةٌ من فتنته ونجاةٌ من شرّه»[37].
وإلى نحو ذلك تواترت إشارات العلماء؛ قال أبو العباس القرطبي: «وقوله -صلى الله عليه وسلم-: من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال. وفي الرواية الأخرى: من آخر الكهف. واختلف المتأوِّلون في سبب ذلك؛ فقيل: لما في قصة أصحاب الكهف من العجائب والآيات، فمَن عَلِمها لم يستغرب أمر الدجال، ولم يَهُلْهُ ذلك، فلا يفتتن به. وقيل: لما في قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ﴾[الكهف: 102]؛ إلى آخر السورة - من المعاني المناسبة لحال الدجّال، وهذا على رواية من روى: من آخر الكهف. وقيل: لقوله تعالى: ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾[الكهف: 2]؛ تمسُّكًا بتخصيص البأس بالشدة واللدنِّية، وهو مناسب لما يكون من الدجال من دعوى الإلهية، واستيلائه، وعظيم فتنته؛ ولذلك عظَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره، وحذّر منه، وتعوّذ من فتنته. فيكون معنى هذا الحديث: أنَّ مَن قرأ هذه الآيات وتدبّرها، ووقف على معناها؛ حَذِرَه، فأمن من ذلك. وقيل: هذا من خصائص هذه السورة كلّها، فقد روي: من حفظ سورة الكهف، ثم أدرك الدجال لم يسلَّط عليه. وعلى هذا تجتمع رواية من روى: من أول سورة الكهف، ورواية من روى: من آخرها، ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلّها. وقيل: إنما كان ذلك لقوله: ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ [الكهف: 2]، فإنه يهوِّن بأس الدجال، وقوله: ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾[الكهف: 2]؛ فإنه يهوِّن الصبر على فتن الدجال بما يظهر من جنته وناره، وتنعيمه وتعذيبه، ثم ذمُّه تعالى لمن اعتقد الولد؛ يُفهم منه أنَّ مَن ادّعى الإلهية أولى بالذمِّ، وهو الدجال، ثم قصة أصحاب الكهف فيها عبرة تناسب العصمة من الفتن، وذلك أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 10]. فهؤلاء قوم ابتُلوا فصبروا، وسألوا إصلاح أحوالهم، فأُصلِحَتْ لهم، وهذا تعليم لكلّ مدعوٍّ إلى الشرك. ومن روى: من آخر الكهف؛ فلِما في قوله تعالى: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾ [الكهف: 100]، فإنَّ فيه ما يهوِّن ما يظهره الدجال من ناره.
وقوله: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾ [الكهف: 101] تنبيه على أحوال تابعي الدجال؛ إِذْ قد عموا عن ظهور الآيات التي تكذبه. والله أعلم»[38].
وقيل: الحكمة في اختصاص هذه الآيات بهذه الفضيلة، أنَّه اجتمع فيها من التوحيد ونفي الإلهية عن غير الله، وتكذيب مَن كفر؛ ما لم يجتمع في غيرها، وقيل: يجوز أن يكون التخصيص بذلك لما فيها من ذكر التوحيد وخلاص أصحاب الكهف من شرّ الكفرة المتجبِّرة[39].
فمَن وضع ما صَحَّ من خبر الدجّال بإزاء معاني السورة الكريمة وجد له مناسبة، واستطاع بالتدبُّر أن يربط هذه بتلك.
وعلى كلٍّ، فمن الواضح أنَّ المقصد الذي دلَّت عليه فضائل السورة الكريمة يلتقي مع ما اتَّفق عليه الباحثون في الفضائل القرآنية، وهو مما يزيد القلب طمأنينة إلى صحَّة هذا المسلك، وأحقيّته بالاعتبار والتقديم.
سورة الكهف والأمان الزمانيّ والمكاني:
هذا؛ وقد انعقدت سورة الكهف على أمانَين: أمانٍ مكانيٍّ، وأمان زمانيٍّ، وبيان ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن قرأ سورةَ (الكهف) في يومِ الجمعةِ؛ أضاء له من النور ما بين الجمعتين)[40].
وفي لفظٍ آخر؛ قال: (من قرأ سورةَ {الكهف} ليلةَ الجمعة؛ أضاء له من النور ما بينه وبين البيتِ العتيقِ)[41].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (مَن قرأ سورة الكهف كما أُنزلت أضاء له ما بينه وبين مكة، ومَن قرأ آخرها ثم أدرك الدجال لم يُسلَّط عليه)[42].
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، ثم خرج للدجال لم يسلّط عليه، ولم يكن له عليه سبيل)[43].
وبيان حدّ الأمان الزمانيّ أنَّ المواظب على قراءة سورة الكهف يوم الجمعة: إمّا أن يأتيه الموت، فيأتيه وقد أضاء له من النور بفضل قراءته سورة الكهف. والعصمةُ مقتضى النورانية السابغة عليه بقراءة السورة، فيموت معصومًا، وتكتب له العصمةُ فيما يأتي بعد الموت من سؤال القبر والسؤال والحساب والصراط وغير ذلك من أهوال القيامة، فهو في ذمّة الله تعالى.
وإمّا أن تقوم الساعة -وهي تقوم يوم الجمعة- فتقوم وهو في نطاق الأمان الزمانيّ ما دام مواظبًا على قراءتها.
وإمّا أن يُدْرِك خروجَ الدَّجَّال، فإن كان مواظبًا على قراءتها متدبِّرًا كان في نطاق العصمة.
فعلى كلِّ الاحتمالات تعطيه السورة أمانًا زمانيًّا، ويكون يوم الجمعة هو المحطة التي يتزوّد بها لمثلها، وذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أضاء له من النور ما بين الجمعتين).
وخُصَّت الجمعة بذلك لخصوصيتها في الشريعة الإسلامية، وأنَّه يومٌ مباركٌ يُستحب فيه الاستكثار من العبادة والذِّكر والدُّعاء. والله أعلم.
وأمّا الأمان المكانيّ فإنَّ الله تعالى حرّم على الدجال مكة والمدينة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليس من بلدٍ إلا سيطؤه الدجّال، إلا مكة، والمدينة، ليس له مِن نِقابها نَقْبٌ إلا عليه الملائكةُ صافِّين يحرسونها، ثم ترجُف المدينة بأهلها ثلاث رجَفات، فيُخرِج اللهُ كلَّ كافر ومنافق)[44].
فإذا كان المسلم وقت خروج الدجّال في إحداهما فهو معصومٌ بإذن الله، وإن كان خارجهما فليلتجئ إليهما إن استطاع لذلك سبيلًا، فإن أراد المسلم أن يلتجئ إلى البيت العتيق كان معه أمانٌ مكانيٌّ من الدجّال، وذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أضاء له من النور ما بينه وبين البيتِ العتيق)، فإذا قصد البيت العتيق من مكانه وصل إلى البيت العتيق سالمًا معصومًا بإذن الله تعالى، وإن مَرَّ على أرضٍ فيها الدَّجَّال. والله أعلم.
فذانكِ أمانانِ من ربِّكَ يا قارئَ سورة الكهف: أمانٌ زمانيٌّ، وأمان مكانيٌّ. والحمد لله رب العالمين.
المثال الثاني: سورة الملك:
وعلى مثال سورة الكهف تأتي سورة الملك، ولكنّها اختصّت بفتنة من نوع آخر، تطالعنا باستعراض بعض ما صحَّ في فضائلها:
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر)[45].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «مَن قرأ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: 1، والمقصود السورة كلها] كلَّ ليلة منعه الله -عزّ وجل- بها من عذاب القبر، وكنّا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نُسمّيها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة مَن قرأ بها في كلّ ليلة فقد أكثر وأطاب»[46].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (مات رجل فجاءته ملائكة العذاب فجلسوا عند رأسه، فقال: لا سبيل لكم إليه، قد كان يقرأ سورة الملك، فجلسوا عند رجليه، فقال: لا سبيل لكم إليه قد كان يقوم علينا بسورة الملك، فجلسوا عند بطنه، فقال: لا سبيل لكم إنه قد وعى في سورة الملك، فسميت المانعة)[47].
وهذه شفاعتها لقارئها، وصحّ أنَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان لا ينام حتى يقرأها[48].
وحريٌّ بالواقف على هذه الآثار أن يتساءل: لِمَ اختصت سورة الملك بهذه الفضيلة؟ والقرآن الكريم شفيعٌ لأصحابه، فما وجه اختصاص سورة الملك بذلك؟
والسبيل الوحيد للجواب أن نتأمّل معاني السورة الكريمة محاولين الوقوف على حكمة ذلك. وأوّل ما يتبدّى لنا من السورة الكريمة تقديمُ الموت على الحياة في كونه محلًّا للبلاء، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك: 2].
فالموت ركنٌ ركينٌ في مسرح البلاء؛ لأنه المعاد المضروب لنهاية وقت الامتحان لِمَن انتهت مدّته ومهلته في الدُّنيا، ولأنَّ الله تعالى قدَّر بحكمته أنّ الجزاء له دارٌ غير دار البلاء، وأنَّ الموت وما يستتبعه من دار البرزخ هو المَعْبَرُ من الأولى للآخرة، فهذا وصف الموت لمن أراد وصفه من الخارج.
وأمَّا وصفه من الداخلِ، فهو ينطوي على فتنة أخرى من أعظم ما يواجه المرء، كما أشار إليها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولقد أُوحي إليَّ أنكم تُفتنون في القبور مثل -أو قريبًا من- فتنة الدجال)، الشكّ من الراوي[49].
فإذا كان الدَّجَّال هو أعظم فتنة على ظهر الأرض، فإن فتنة القبور هي أعظم فتنة في بطنها.
ولذا جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما في الاستعاذة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)[50].
ومدار فتنة القبر على سؤال الملكين: «مَن ربُّك؟ وما دينك؟ ومَن نبيك؟» كما صحّت بذلك الآثار.
فإذا تأمّلنا السورة الكريمة وجدناها -على قِصَرها النسبيّ- تجيبُ عن الأسئلة الثلاثة إجابة وافية شافية، فتبدأ بالتعريف بالله تعالى من طريق ربوبيته: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 1- 3]، ثم تعود إلى تلك القضية مرة أخرى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 14- 15]، ومرة ثالثة: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[الملك: 23- 24]. وفي أطواء هذه الآيات وغيرها من آيات السورة الكريمة ضُمِّن ذكر الله تعالى والتعريف به وبأسمائه وصفاته وأفعاله وآثاره.
وأمَّا الإجابة عن السؤال الثاني: وما دينك؟ فمطويٌّ في مفاد قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]، فذكر الرُّتبة العالية من الإسلام وهي الإحسان، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12]، فذكر الإيمان بالله والإيمان بالغيب، وفي قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الملك: 22]، ذكر للطريق المستقيم الموصّل إليه، ولا يكون إلا باتّباع دينه، والدين عند الله الإسلام.
وأمَّا الإجابة عن السؤال الثالث: مَن نبيُّك؟ فقد حكت السورة مضمونَه في مقاولة خزنة النار والكفار: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ [الملك: 8- 9]، فهل يبقى للمتدبِّر شكٌّ في إجابته؟!
وهي تضع المتدبِّر أمام حقيقة لا سبيل لإغفالها: أنَّ كلَّ آتٍ قريبٌ، ولا حاجةَ للمُصدِّق بالموت أن ينتظر في الدنيا أبعدَ منه، فإنَّ القيامة بهذا الاعتبار قريبةٌ منه، والموت أول منازلها: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ [الملك: 25- 27]، فإذا عاينوا ملَك الموتِ سيئت وجوه المكذّبين وأيقنوا أيّ خيرٍ تركوا وراء ظهورهم، وأيّ شرٍّ هم مقبلون عليه! نسأل اللهَ العفو والعافية.
وفتنة القبر مقدّمة للفتنة الأعظم، وهي فتنة النار؛ فبيان فتنة النار تنبيه على فتنة القبر من باب أولى، و«إنَّ القبر أوّل منازل الآخرة، فإن ينجُ منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه»[51].
وأمَّا بيان فتنة النار فقد استفاض ذكرها في السورة الكريمة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك: 5- 11]، وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ [الملك: 20]، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الملك: 28]، فعُلِم أنَّه لا يرحم المؤمنين إلا هو -عزّ وجل-.
فالمتأمّل يرى أنّ السورة -على وجازتها النسبية- قد تضمّنت عدّة أمور لها تعلُّق بالعصمة من فتنة القبر:
1. ذكر الموت وأنَّه من أركان البلاء الذي قدَّره الله تعالى على الناس.
2. التذكير بقُرْب الأجل؛ بما لا يدع مجالًا للغفلة عنه.
3. الإجابة الوافية عن الأسئلة الثلاثة الكبرى التي عليها مدار فتنة القبر.
4. التذكير بما وراء فتنة القبر من فتنة النار، فيكون تذكيرًا بفتنة القبر من باب أَوْلى.
5. التذكير بانفراد الله -عزّ وجل- بنصر أوليائه ورحمته، وأنَّه مجيرُهم من العذاب الأليم، عكس الكافرين الذين لا ناصر لهم ولا مجير من دونه.
وبعد هذا التأمُّل يصحُّ أن يقال: إنَّ من أعظم مقاصد سورة الملك التوقيف على إجابات الأسئلة الكبرى التي يُعْصَم العامل بمقتضاها من عذاب النار ومن عذاب القبر، ويضع أملَه في الدُّنيا في قدرِه الطبيعيِّ فيُحسن التزوُّد للدار الآخرة.
فمن قرأها كلَّ ليلة مُتدبِّرًا متأمّلًا كان حقيقًا بالعصمة من عذاب القبر، وبذا صحّت الآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا ينام حتى يقرأ: (الم تنزيل) السجدة، و(تبارك الذي بيده الملك)[52].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «من قرأ: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الملك: 1، والمقصود السورة كلها] كلَّ ليلة؛ منعه الله -عزّ وجل- بها من عذاب القبر، وكنّا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نُسمّيها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة مَن قرأ بها في كلّ ليلة فقد أكثر وأطاب»[53].
ومن لطائف السورة الكريمة أنَّها تحقِّق التوازن والوسطية في نظرة المسلم إلى الدُّنيا، فمع اعتنائها بمعالجة المقاصد التي أوضحناها فقد أكَّدت على أنَّ الدُّنيا مزرعة الآخرة، وأنَّ الأرض جعلت ذلولًا لعمارتها بالقدر الذي يزيد من فرصة المسلم في النجاح في الابتلاء الأكبر، ولا يزيد عبء البلاء عليه: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]، فليَسْعَ في ذلك، ولا ينسَ أنَّه صائرٌ إلى موتٍ فنُشورٍ.
استشكال وإجابته:
وقد يُقال: لعلّنا نجدُ بالتأمّل في بعض السور الأخرى مثل ما احتوت عليه سورة الملك من معانٍ أو قريبًا من ذلك، فلِمَ اختصت سورة الملك بذلك؟
والجواب: بالتسليم بأنَّ في بعض السور الأخرى مثل ما في سورة الملك أو قريبًا منه مما له تعلُّقٌ بالمعاني المقصودة؛ فإنَّ سورة الملك لا هي بالطويلة فيشقّ على المسلم قراءتها كلّ ليلة، ولا هي بالقصيرة فتخلو من تأكيد هذه المعاني وتكريرها. فتأمل!
أضف إلى ذلك؛ أنَّ ترتيب هذه المعاني ومساقها في السورة الكريمة جاء على ما يناسب الغرض الرئيس منها. وهذا ما نعتقده في كلّ سورة: أنها منظومة على ما يناسب غرضها الرئيس، ولا يمنع تضمينها عدّة مقاصد فرعية أخرى. والله أعلم.
وقد يسأل سائل: فَلِمَ جاءت السُّنَّة المباركة بقراءة سورة الكهف كلَّ أسبوع، وقراءة سورة الملك كلَّ ليلة؟
والإجابة: أنَّ لخروج الدجّال مُقدماتٍ يعرفها مَن طلبها في مظانّها، فإذا خرج فبَين خروجه وأن يصل لكلّ أحدٍ وقتٌ كافٍ لقراءتها، فمَن سمع به استطاع أن يقرأها، ثم يواظب على ذلك طول فترة الفتنة من أوّل أن يسمع بها إلى أن تنقشع، ولا يقتصر على أيّام الجُمُعات، فإن عاجله الدجّال، فلم يستطع حينئذ قراءتها كلّها؛ شُرِع له الاقتصار على ما تيسّر منها. وأمَّا الموتُ فإنَّه يأتي بغتةً بغير مقدمات غالبًا، فناسب قراءة الكهف كلّ جمعة، والملك كلّ يوم. والدجّال إنما يخرج في أُناسٍ مخصوصين، وأمَّا الموت فلا يسلم منه أحدٌ، والكلُّ هالكٌ إلا وجهه -عزّ وجل-. والله أعلم.
ذلك، وإنَّ طول السورة معتبَرٌ لمن تأمَّل، فلمّا عظمت الحاجة لقراءة سورة الملك كلَّ ليلة كانت أقصر نسبيًّا؛ لتكون في مقدور الكلِّ؛ إِذْ فتنة القبر طائلة كلَّ أحدٍ إلا مَن استُثنيَ من الشهداء. وأمّا فتنة الدجّال فلا تُدْرِك إلا أهل زمان معينٍ، ويكفي مَن لم تحضره بالفعل أن يقرأ سورة الكهف كلّ أسبوع، فناسب أن تتعلّق العصمة من فتنة القبر بسورة أقصر من السورة التي تعلّقت بها العصمة من فتنة الدَّجَّال، ثم يُسِّر لمن يعاجله الدجّال بأن يقرأ عشر آياتٍ، فتأمّل. والله أعلم.
الموازنة بين المقصد المستنبط لسورة الملك وبين كلام العلماء فيها:
إذا كان المقصد الذي دلَّت عليه فضائل سورة الكهف قد التقى مع ما اتَّفق عليه علماء المقاصد، فإنّ شأن سورة الملك قد يختلف؛ إِذْ نجد أن علماء المقاصد لم يتّفقوا على مقصد جليٍّ لها.
فكلام البقاعي فيها عامٌّ وفضفاضٌ، إذ يقول: «ومقصودها: الخضوع للهِ، لاتصافه بكمال الملك، الدالّ عليه تمام القدرة، الدالّ عليه قطعًا إحكام المكونات، الدالّ عليه تمام العلم، الدالّ عليه مع إحكام المصنوعات، وعِلْم ما في الصدور، لينتج ذلك العلم بتحتم البعث لدينونة العباد على ما هم عليه من الصلاح والفساد كما هي عادة الملوك، لتكمل الحكمة، وتتم النعمة»[54]، ولكنَّه جعل الدلالة على البعث والدينونة هي الغرض الأخير لذلك العرض، وهو يلتقي بعض الالتقاء مع ما ألمحَت به الفضائل.
وأمَّا باحثو (موسوعة التفسير الموضوعي) فقد جعلوها تُعنى بأصول العقيدة الأساسية؛ وهي إثبات وجود الله تعالى وعظمته وقدرته على كلّ شيء، وتعالج إنشاء تصوُّر جديد للوجود وعلاقته بخالق الوجود[55].
وهذا لا يلتقي إلا مع موضوع واحد مما دلَّت عليه الفضائل: وهو إجابة سؤال: مَن ربُّك؟
وقد دار كلام الباحثين في هذا الفلك، فمَسُّوا أطراف المقصد الكلي للسورة الكريمة الذي دلَّت عليه فضائلها، واتَّضح من تحليل مضمونها، دون أن يحيطوا به إحاطتهم بمقصد سورة الكهف.
قيمة الفضائل في الدلالة على مقاصد السور:
ومما سبق يمكننا القول بأنَّ هذه الأداة التي تتذرَّع بالفضائل إلى معرفة المقاصد هي أداة جيّدة، فهي إمَّا تُحَسِّن الثقة بما استنبط من تحليل مضمون السورة، وإمَّا تضيف إليه أبعادًا جديدةً، وتنقله نقلة نوعيّة واسعة.
ولكن يجب الأخذ في الحُسبان عدة أمور:
الأول: أنَّ ما صحَّ في فضائل السور في الأفلاك الأربعة قليل نسبيًّا. فعدد السور التي صحَّ بخصوصها فضيلة أقلّ بكثير من عدد السور التي لم يَرِدْ لها أو لم يصحَّ فيها فضيلة مخصوصة. ولكن هذا لا يُفقد هذه الأداة قيمتها، فكلُّ ما تذرع به لفهم مقصدٍ واحدٍ من مقاصد سور القرآن الكريم، فهو قيِّم نفيس.
الثاني: أنَّ بعض هذه الفضائل الصحيحة بحاجة إلى تأمُّل لربطها بمقاصد السور، فليس كلُّ ما صحَّ واضح الدلالة على مقاصد السور، فتبقى الدلالة على المقاصد اجتهادية.
الثالث: أنَّ ما لم يصحَّ من الفضائل يمكن أن يُستأنس به لاستنباط مقاصد السور، ومهما كان مقصد السورة واضحًا ومنسجمًا مع ما لم يصحَّ من فضائلها؛ فإنَّه لا يمكن الاعتماد على ذلك في تقوية الضعيف، ولكن نقول على طريقة المحدثين: الأثر ضعيف، وإن كان يشهد لمتنه كذا وكذا. ويمكن التمثيل لذلك بأنَّه قد رُوي أنَّ سورة (الزلزلة) تعدِل نصف القرآن، ولكن بأسانيد لا تخلو من ضعف، ولو صحَّ ذلك لكان مُنسجمًا مع كونها أَجملَتْ أمور القيامة المفصَّلة فيما يعدلُ نصفَ آيات القرآن أو يزيد[56].
الخاتمة:
بيّن هذا المقالُ أحد دلائل المقاصد القرآنية، وهو دلالة ما صحَّ في فضائل بعض السور على مقاصدها، وأنَّ المسلك الشهير بالاعتلال للفضائل بالمقاصد يمكن أن ينعكس، فيُستأنس بما صحَّ من الفضائل في تدبُّر المقاصد واستنباطها. وبعد التأصيل لهذه الفرضية دُلِّل عليها بمنارتين قرآنيتين هما سورتا الكهف والملك، فارتُفِق بما صحَّ في فضائل الأولى لتأكيد مقصد الاعتصام من الفتنِ مقصدًا رئيسًا للسورة الكريمة، وبما صحَّ من فضائل الثانية لاستنباط أنَّ من مقاصدها الرئيسة التوقيف على إجابات الأسئلة الكبرى التي يُعصَم العامل بمقتضاها من عذاب النار ومن عذاب القبر، ويضع أملَه في الدُّنيا في قدرِه الطبيعيِّ فيُحسن التزوُّد للدار الآخرة.
هذا، وعلى قِلَّة عدد السور التي صحَّ في فضائلها آثارٌ مرفوعة أو لها حكم الرفعِ؛ فإنَّها تشكِّل مادة لا ينبغي إهمالها ولا إهدارها لمن رام تشكيل دلائل المقاصد القرآنية على أسسٍ منهجية. ويوصي المقال بمواصلة هذا المسلك استقصاءً للسور التي صحَّ في فضلها أثرٌ. والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] الموافقات، للشاطبي، دار ابن عفان، ط1، 1417هـ = 1997م، (3/ 214).
[2] التحرير والتنوير، لابن عاشور (1/ 39).
[3] انظر: تهذيب اللغة، للأزهري (8/ 275).
[4] النبأ العظيم، لدراز، ص188.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه (ح 4981)، ومسلم في صحيحه (ح 152).
[6] أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه؛ أولها (ح 4474).
[7] أخرجه مسلم في صحيحه (ح 810).
[8] انظر تفصيل هذه المسألة في البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1/ 438- 446)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (4/ 136- 147).
[9] الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (4/ 137).
[10] أخرجه البخاري في صحيحه (ح 6940)، ومسلم في صحيحه (ح 813).
[11] أخرجه الترمذي في سننه (ح 2058)، وقال: «حسن غريب». وصحّحه الألباني.
[12] وهو يحتمل البسط تأصيلًا وتفصيلًا بأكثر مما ذكرتُه، وله تعلُّق بعلم خواصِّ القرآن الكريم، ولعلّنا نرجع إليه مفصِّلِين في مقالٍ آخر بإذن الله.
[13] انظر تفصيل المذاهب في هذه المسألة في كتاب: «وقف التدبر؛ معناه وأنواعه وأحكامه»، لمحمود روزن، ص100- 104.
[14] مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 535).
[15] وقد توسّعنا في بيان ذلك تأسيسًا وتطبيقًا في «حقّ الاعتصام بالقرآن» من موسوعة «حقوق القرآن» يسَّر الله إتمامها.
[16] انظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 251)، والمعلم بفوائد مسلم، للمازري (1/ 461).
[17] القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لابن العربي، ص231- 233.
[18] نظم الدرر (12/ 1- 2)، ومصاعد النظر (2/ 243- 244).
[19] موسوعة التفسير الموضوعي (4/ 283).
[20] موسوعة التفسير الموضوعي (4/ 287- 288).
[21] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (ح 730)، واللفظ له، والنسائي في السنن الكبرى (ح 10722). ودون آخره أخرجه الحاكم في المستدرك (ح 8562)، وصحّحه، ووافقه الذهبي. وهو موقوف ولكن له حكم المرفوع؛ إذ مثله لا يقال بالرأي.
[22] أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان في صحيحه (ح 785).
[23] أخرجه مسلم في صحيحه (ح 809).
[24] أخرجه مسلم في صحيحه (ح 2937).
[25] انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته، للألباني (ح 7875).
[26] أخرجه الترمذي في سننه (ح 2886)، وقال الألباني: «صحيح بلفظ من حفظ عشر آيات، وهو بلفظ الكتاب شاذٌّ».
[27] انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته، للألباني (ح 7875).
[28] أخرجه أحمد في المسند (ح 33304).
[29] أخرجه البخاري في صحيحه (ح: 184، 1053).
[30] أخرجه البخاري في صحيحه (ح 833).
[31] أخرجه البخاري في صحيحه (ح 832).
[32] أخرجه البخاري في صحيحه (ح 6365).
[33] أخرجه أحمد في مسنده (ح 14954)، وقال محققو المسند: إسناده على شرط مسلم.
[34] أخرجه مسلم في صحيحه (ح 2937).
[35] أخرجه أحمد في مسنده (ح 14954)، وقال محققو المسند: إسناده على شرط مسلم.
[36] أخرجه أبو داود في سننه (ح 4319)، وصحّحه الألباني.
[37] موسوعة التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم (4/ 283).
[38] المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (2/ 439- 440). وانظر: شرح النووي على مسلم (6/ 93). وشرح سنن أبي داود، لابن رسلان (17/ 158، 159)، ومرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (3/ 1088- 1089).
[39] انظر: مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (3/ 1089).
[40] الحاكم في المستدرك (ح 3392)، وقال صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى (ح 6063). وصحّحه الألباني: انظر صحيح الترغيب والترهيب (ح 736)، وصحيح الجامع الصغير (ح 6470).
[41] أخرجه أبو عبيد في الفضائل (2/ 52 برقم 458). والدارمي في سننه (ح 3450)، وابن الضريس في فضائل القرآن (ح 211)، وابن نصر في الفوائد (ح 123)، والمستغفري في فضائل القرآن (ح 817). وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (ح 5996)، وشعب الإيمان له (ح: 2220، 2777). وإسناده صحيح موقوف على أبي سعيد، ومثله لا يقال بالرأي. انظر: صحيح الترغيب والترهيب (ح 736)، وصحيح الجامع الصغير (ح 6471).
[42] الفتن لنعيم بن حماد (1579). وقال محققه: موقوف صحيح، قلت: ومثله لا يقال بالرأي. وهو مرفوع في عمل اليوم والليلة، للنسائي (ح 952)، والسنن الكبرى له (ح 10722).
[43] الفتن لنعيم بن حماد (ح 1582). وقال محققه: موقوف صحيح. قلتُ: ومثله لا يقال بالرأي.
[44] أخرجه البخاري في صحيحه (ح 1881)، ومسلم في صحيحه (ح 2943).
[45] أخرجه ابن مردويه كما في صحيح الجامع للألباني (ح 3643).
[46] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (ح 10479)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ح 1475).
[47] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (ح 6024)، والطبراني في الكبير (ح 8650)، وهو موقوف على ابن مسعود -رضي الله عنه-، ولكن مثله لا يقال بالرأي، فله حكم المرفوع.
[48] أخرج الإمام أحمد في المسند (ح 14659)، والإمام البخاري في الأدب المفرد (ح 1207)، وغيرهما من حديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا ينام حتى يقرأ (الم تنزيل) السجدة، و(تبارك الذي بيده الملك). وصحّحه الألباني ومحقّقو المسند.
[49] أخرجه البخاري في صحيحه (ح: 184، 1053)، ومسلم في صحيحه (ح 905).
[50] أخرجه البخاري في صحيحه (ح 1377)، ومسلم في صحيحه (ح 588).
[51] أخرجه أحمد في مسنده (ح 454)، والترمذي في سننه (ح 2308)، وابن ماجه في سننه (ح 4267)، وحسّنه الألباني.
[52] أخرجه أحمد في مسنده (ح 14659)، والبخاري في الأدب المفرد (ح 1207)، والترمذي في سننه (ح 3404)، وصحّحه الألباني.
[53] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (ح 10479).
[54] مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، للبقاعي (3/ 103).
[55] موسوعة التفسير الموضوعي (8/ 264).
[56] وقد عالجتُ هذه الفكرة بتوسُّع في حقّ الاعتصام بالقرآن الكريم من موسوعة حقوق القرآن يسَّر اللهُ إتمامها.