نقد التفسير بالإسرائيليات عند ابن جرير الطبري
في تفسيره (جامع البيان)

نقد التفسير بالإسرائيليات عند ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان)[1]
عُنِي ابن جرير بذِكْر المرويات المتعلقة بأخبار بني إسرائيل التي ورَدَت بها الآثار عن الصحابة والتابعين، مع إبانته عن المنهج النقدي في إيرادها، وسنحاول تجلية منهجه عن طريق بعض نماذجه النقدية في التعامل مع أخبار بني إسرائيل.
وقد أبان ذلك عند إيراده ما جاء في قصة آدم في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٣٦].
فقد رَوى أخبارًا عن جماعة من السَّلَف في كيفية استزلال إبليس آدم وزوجته التي بسببها أُخرجَا من الجنة، المذكور في قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٣٦]، وهي من قصص بني إسرائيل التي تبيِّن ما وقع لآدم وزوجته مع إبليس، وكيف أغواهما، وأنه دخل الجنة بعدما طُرد منها في بطن الحَيّة -أو فمها- وكانت ذات قوائم كالبخت ونحو ذلك. وما اختلفت الأخبار فيه في طريقة إغوائه لهما، هل باشر خطابهما بنفسه، أو أنه خلص إليهما، كما يخلص إلى ذريتهما بالوسوسة في أنفسهم، من حيث لا يريانه؟ على قولين:
القول الأول: أنه باشر خطابهما بنفسه، إمّا ظاهرًا لأعينهما، أو مستجنًّا في غيره، وزيّن لهما الأكل من الشجرة التي نُهيَا عنها، وقاسمهما إنه لهما من الناصحين، حتى أوقعهما في المعصية، وكان ذلك سبب إخراجهما. وهذا القول جاء من رواية السدي عن ابن عباس وابن مسعود، وفي أخبار عن وهب بن منبِّه، والربيع بن أنس وغيرهما.
والقول الآخر: أنه تولّى إغواءهما بوسوسته لهما من حيث لا يريانه، كما هو يوسوس لذريتهما، ويأتيهم في كلّ حال من أحوالهم حتى يخلص إلى ما أراد منهم، وهم لا يرونه، وكلّمهما؛ كما قصّ اللهُ من خبرهما، قال الله: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: ١٢٠]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)[2].
وقد أشار ابنُ جرير إلى قاعدته النقدية في التعامل مع أخبار بني إسرائيل، فقال -رحمه الله- بعد أن ساق الأخبار في ذلك: «وقد رويت هذه الأخبار -عمن رُوِّينَاها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم- في صفة استزلال إبليس -عدو الله- آدم وزوجته حتى أخرجهما من الجنة. وأَوْلَى ذلك بالحقّ عندنا ما كان لكتاب الله موافقًا. وقد أخبر الله -تعالى ذِكْره- عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبدي لهما ما وُوري عنهما من سوآتهما، وأنه قال لهما: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: ۲۰]، وأنه ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ۲۱]، مدلِّيًا لهما بغرور. ففي إخباره -جل ثناؤه- عن عدو الله أنه قاسَم آدم وزوجته بقيله لهما: إني لكما من الناصحين -الدليل الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه: إمّا ظاهرًا لأعينهما، وإمّا مستجنًّا في غيره. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يُقال: قاسَم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا، إذا سبب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحَلِف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾ [طه: ١٢٠]، لو كان ذلك كان منه إلى آدم -على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزلّه به من القول والحِيَل- لما قال جلّ ثناؤه: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾. كما غير جائز أن يقول اليوم قائل ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصح فيما زين لي من المعصية التي أتيتها، فكذلك الذي كان من آدم وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليوم وذرية آدم - لما قال جلّ ثناؤه: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾، ولكن ذلك كان -إن شاء الله- على نحو ما قال ابن عباس ومَن قال بقوله»[3].
فأشار ابن جرير بقوله: «لكن ذلك كان -إن شاء الله- على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله»؛ إلى أن الواجب هو الأخذ بما وافق ظاهر القرآن في كون إبليس باشر كلام آدم وزوجته بنفسه؛ وقبول المعنى الذي دلّت عليه هذه الأخبار لأجل موافقتها ظاهر كتاب الله تعالى.
وبه يظهر ضعف قول ابن إسحاق: «إنّ استزلال إبليس آدم كان بالوسوسة كوسوسته لذرّيتهما»[4]؛ وذلك لمخالفته ظاهر القرآن، وما استفاض عند أهل العلم بتأويل القرآن.
وقد وافق جماعة من المفسِّرين -منهم الماوردي، وابن عطية، وابن الجوزي، وأبو حيان وغيرهم- الإمام ابن جرير على أنّ ظاهر القرآن دالّ على أنّ إبليس كلَّم آدم وزوجته بنفسه مشافهة[5].
ثم عرض ابن جرير للأخبار والروايات الواردة في وصول إبليس إلى الجنة وتكليمهما، فنقل عن بعضهم: أنه دخل بواسطة الحية، في قصة مشهورة رواها الإمام ابن جرير عن وهب بن منبه، ومن طريق السدي عن ابن عباس وابن مسعود وعن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم.
وقال بعضهم: دخل إبليسُ الجنة على صورة دابة ذات قوائم فكان يُرى أنه البعير. وهذا القول عن الربيع بن أنس[6].
ثم قال -رحمه الله-: «فأمّا سبب وصوله إلى الجنة حتى كلّم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما روى عن ابن عباس ووهب بن منبِّه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته، إِذْ كان ذلك قولًا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حُجّة بخلافه، وهو من الأمور الممكنة. فالقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله عَزَّ وَجَلّ، وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأوِّلون؛ بل ذلك -إن شاء الله- كذلك؛ لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك»[7].
فقد تضمّن كلام ابن جرير معياره النقدي فيما يتعلّق بأخبار بني إسرائيل، وفيه مقدمات:
أولها: الأخذ بظاهر القرآن، وما تقتضيه دلالته وما يبين معناه من حجة نقلية أو عقلية.
ثانيها: جواز الأخذ بأخبار بني إسرائيل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حدِّثُوا عن بني إسرائيل، ولا حرج)[8]، وفي حديث أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصدِّقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦])[9]، وذلك إذا كان لا يدفعه وينقضه نقل ولا عقل، لكن يقوَى الأخذ به إذا تتابعت الرواة من السلف على نقله كما ذَكَر الإمام ابن جرير.
وكما تتابع أهل التأويل على ذِكْر هذه الروايات والأخبار، فقد أسندها مفسرو السلف في كتبهم، وتتابعوا على ذلك ومنهم عبد الرزاق[10]، وابن أبي حاتم[11]، ثم مَن بعدهم كمكّي بن أبي طالب، والماوردي، والواحدي، وابن عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، وأبي حيان، وغيرهم[12].
ولا يعكر عليه ما أشار إليه ابن كثير بقوله: «وقد ذكر المفسِّرون من السلف كالسدّي بأسانيده، وأبي العالية، ووهب بن منبه وغيرهم هَهُنا أخبارًا إسرائيلية عن قصة الحية، وكيف جرى من دخول إبليس الجنة ووسوسته»[13].
كما لا تصح مؤاخذات الدكتور محمد أبو شهبة فيما ذكره في كتابه: (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير)[14]؛ بما ذكرنا من المقدمات والمعايير النقدية التي أعملها ابن جرير في كتابه، وتتابع عليه علماء التفسير.
وهكذا يقرّر ابن جرير -أيضًا- الوقوف على ظاهر القرآن دون الجزم بهذه المرويات، فقد حكى خلاف أهل العلم في البرهان الذي رآه يوسف والمذكور في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف: ٢٤]، ونقل فيه آثارًا عن السلف، ثم عقّب بقوله: «وأَوْلى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إنّ الله -جلّ ثناؤه- أخبر عن هَمّ يوسف وامرأة العزيز، كلّ واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من آيات الله، زجَرَتْه عن ركوب ما هَمّ به يوسف من الفاحشة، وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها اللهُ في القرآن على الزنا، ولا حُجّة للعذر قاطعة بأيّ ذلك من أيٍّ.
والصواب أن يُقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمه»[15].
ومن معايير ابن جرير النقلية في نقد الإسرائيليات ما يتعلق بالقراءات، ففي تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ [المائدة: ٢٣]، ذكر أنهما: (يوشع بن نون) و(كالب بن يوفنا)، من قوم موسى؛ ونقل ابن جرير ذلك عن ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والربيع، ثم نقل عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ﴾ -بضم الياء- ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾[16].
قال ابن جرير: «وكأنّ سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أنّ الرجلَيْن اللذَيْن أخبر الله عنهما أنهما قالَا لبني إسرائيل: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ كانَا من رهط الجبابرة، وكانا أسلمَا واتّبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافُهم بنو إسرائيل، وإن كانا لهم في الدين مخالفين.
وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس»[17].
ثم رَوى أثرًا عن ابن عباس في تأييد ذلك وبيانه بقوله: «فعلى هذه القراءة وهذا التأويل، لم يكتم من الاثني عشر نقيبًا أحدٌ ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل، مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة، وشدة بطشهم، وعجيب أمورهم، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾: رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم، ويرهبون الدخول عليهم من الجبابرة، كانا أسلمَا واتّبعَا نبيّ الله».
ثم عقّب ناقدًا باعتماد القراءة المتواترة، وظاهر التلاوة، بما وُصِفَ به الرجلان من الإيمان والطاعة، فقال: «وأَوْلَى القراءتين بالصواب عندنا قراءة من قرأ: ﴿مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا﴾؛ لإجماع قرأة الأمصار عليها، وأنّ ما استفاضَت به القراءة عنهم؛ فحجة لا يجوز خلافها، وما انفرد به الواحد، فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجة في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل، وأنهما يوشع وكالب، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح الياء في ذلك، وفساد غيره، وهو التأويل الصحيح عندنا؛ لما ذكرنا من إجماعها عليه»[18].
وابن جرير يستعمل الصناعة الحديثية في نقد الإسرائيليات، ففي تأويل قوله تعالى: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، قال: «لا تأخذه سِنة ولا نوم، لا يُغيّره ما يغيّر غيره، ولا يزيله عمّا لم يزل عليه تنقّل الأحوال، وتصرّف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام لكان مغلوبًا مقهورًا؛ لأنّ النوم غالب النائم قاهره، ولو وسنَ لكانت السماوات والأرض وما فيهما دكًّا؛ لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوَسَنه»[19].
ثم روى أثرًا لتفسيرها عن عكرمة، فقال: «كما حدثنا الحسن بن يحيى عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾: إنّ موسى سأل الملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى اللهُ إلى الملائكة، وأمرهم أن يُؤَرِّقوه ثلاثًا، فلا يتركوه ينام، ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما، ثم تركوه وحذّروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يديه؛ في كلّ يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة، فضرب إحداهما بالأخرى، فكسرهما. قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله -تعالى ذِكْره- يقول: فكذلك السماوات والأرض في يديه»[20].
ثم رواه مرة أخرى مرفوعًا عن أبي هريرة من طريق عكرمة نفسه إشارة إلى تعليله مرفوعًا[21].
ومن نقده الصريح فيما يتعلق بالصناعة الحديثية للإسرائيليات ما أورده في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ [طه: ١٢]، فقد ردّ ما جاء عن كعب، وعن قتادة وعكرمة وغيرهم، وذلك بظاهر القرآن، وبدليل السياق؛ لأن السياق يدل على أن الآية بعدها هي تعليل للأمر، ولأنه لا حجة لمن قال بأنه أُمر بخلعهما لنجاستهما، أو لأنهما من جلد حمار، وأن الخبر بذلك لا يصح، فقال: «وأَوْلى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أمره -تعالى ذِكْره- بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي؛ إذ كان واديًا مقدسًا.
وإنما قلنا: ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأنه لا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه أُمر بخلعهما من أجل أنهما من جلدِ حمار، ولا لنجاستهما، ولا خبر بذلك عمن تلزم بقوله الحُجّة، وأنّ في قوله: ﴿إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾ بعقبه، دليلًا واضحًا على أنه إنما أمره بخلعهما لِما ذكرنا.
ولو كان الخبر الذي حدّثنا به بشر قال: ثنا خلف بن خليفة، عن حميد، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود، عن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يوم كلّم الله موسى، كانت عليه جُبّة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي)[22]؛ صحيحًا لم نَعْدُهُ إلى غيره، ولكنّ في إسناده نظرًا يجب التثبّت فيه»[23].
ومن أهم مصادر ابن جرير في المرويات عن بني إسرائيل مرويات الإمام محمد بن إسحاق صاحب السيرة، وقد نقل عنه كثيرًا، خاصّة ما يتعلق بقصص الأنبياء، وأحداث السيرة النبوية، وقد نقل عنه ووافقه في منهجية نقل أخبار بني إسرائيل، وذلك بالتفريق بين ما يُروى في تأويل كلام الله، وما هو محض أخبار لا أثر لها في التفسير، ففي تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣]، فسّر الآية بأنه قد استخلف موسى هارونَ على بني إسرائيل، وقال: إني متعجِّل إلى ربي، فاخلُفْني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلًا لِلُقِيِّه شوقًا إليه، وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به، فلما كلّم الله موسى طمع في رؤيته، فسأل ربّه أن ينظر إليه، فقال الله له: إنك ﴿لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾.
ثم نقل عن ابن إسحاق -موافقًا له- أنه قال: «فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر موسى لمّا طلب النظر إلى ربه، وأهل الكتاب يزعمون وأهل التوراة أن قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله، والله أعلم»[24].
ثم نقل ابن جرير عن ابن إسحاق شيئًا من روايات بني إسرائيل، قد استبق نقدها بوصفها مزاعم، ولذلك قال ابن كثير عن هذا الأثر: «فيه غرائب وعجائب، وكأنّه تلقّاه من الإسرائيليات!»[25].
ومن عميق نظر ابن جرير، ومحاكمته العقلية لأخبار بني إسرائيل، ما ذكره في صفة الشبيه الذي شُبِّه لليهود في أمر عيسى، فقد أورد ابن جرير روايات مختلفة في ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧]، ثم قال: «وأَوْلى هذه الأقوال بالصواب أحد القولين اللذَيْن ذكرناهما عن وهب بن منبه، من أنّ شبه عيسى أُلقي على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أُحيط به وبهم، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك، ولكن ليخزي اللهُ بذلك اليهود، وينقذ به نبيّه من مكروه ما أرادوا به من القتل، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من عباده في قيله في عيسى، وصدق الخبر عن أمره، أو القول الذي رواه عبد العزيز عنه.
وإنما قلنا: ذلك أَوْلى القولين بالصواب؛ لأنّ الذين شهدوا عيسى من الحواريين لو كانوا في حال ما رفع عيسى، وأُلقي شبهه على من أُلقي عليه شبهه، كانوا قد عاينوا عيسى وهو يرفع من بينهم، وأثبتوا الذي أُلقي عليه شبهه، وعاينوه متحولًا في صورته، بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضر منهم، لم يخف ذلك من أمرِ عيسى، وأمرِ مَن أُلقي عليه شبهه عليهم، مع معاينتهم ذلك كلّه، ولم يلتبس عليهم ولم يشكل عليهم، وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى... فاتفق جميعهم -أعني اليهود والنصارى من أجل ذلك- على أن المقتول كان عيسى، ولم يكن، ولكن شُبِّه لهم، كما قال الله جلّ ثناؤه: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧]، أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما رَوى عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود، وبقي عيسى، وأُلقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت، بعدما تفرّق القوم عنه -وبقي عيسى- غير الذي أُلقي عليه شبهه، ورُفع عيسى، فقُتل الذي تحوّل في صورة عيسى من أصحابه، وظنّ أصحابه واليهود أن الذي قُتل وصُلب هو عيسى...»[26].
وينبه ابن جرير على قاعدة نقدية مهمّة في قبول الإسرائيليات وهي أن الأصل هو عدم الجزم بقبول هذه الأخبار إلا بحجة من نقل أو نظر، ففي تأويل قوله تعالى -في قصة سليمان والهدهد-: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ [النمل: ٢٠]، حكى خلاف عبد الله بن سلام ووهب بن منبه في سبب تفقّد سليمان الهدهد، وسؤاله عنه، قال -رحمه الله-: «فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله، ووهب بن منبِّه، فقال عبد الله: كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه، ليستخبره عن بُعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره. وقال وهب بن منبه: كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها. والله أعلم بأيّ ذلك كان؛ إِذْ لم يأتنا بأيّ ذلك كان تنزيلٌ ولا خبرٌ عن رسول الله صحيح. فالصواب من القول في ذلك أن يُقال: إنّ الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير؛ إمّا للنوبة التي كانت عليها وأخلّت بها، وإمّا لحاجة كانت إليها عن بُعد الماء».[27]
ومن مسالك ابن جرير في نقد الإسرائيليات اعتماد المعيار اللغوي والتاريخ في النقد، ففي بيان معنى (الرقيم) في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩]، ذكر خلاف السلف في معناه، فنقل عن بعضهم أنه اسم القرية، وقيل: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف، وقيل: بل هو الكتاب، وصوّبه فقال: «وأَولى هذه الأقوال بالصواب في (الرقيم) أن يكون معنيًّا به: لوح أو حجر أو شيء كُتب فيه كتاب.
وقد قال أهل الأخبار: إنّ ذلك لوح كُتب فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أَووا إلى الكهف. ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح في خزانة الملك. وقال بعضهم: بل جُعل على باب كهفهم. وقال بعضهم: بل كان ذلك محفوظًا عند بعض أهل بلدهم.
وإنما الرقيم فَعيل أصله مرقوم، ثم صُرِف إلى فعيل، كما قيل للمجروح: جريح، وللمقتول: قتيل. يقال منه: رقمت كذا وكذا. إذا كتبته، ومنه قيل للرقم في الثوب: رقم؛ لأنه الخط الذي يعرف به ثمنه»[28].
وابن جرير ينبّه على العناية بما يحصل بالعلم به فائدة، فيبيّن معناه، فأمّا ما لم يحصل بالعلم به فائدة، فلا عائدة تعود في بيانه، فمِن نقدِه لِما رُوي من أخبار بني إسرائيل بمراعاة ذلك، ما ذكره من مرويات في تعيين المبهم في قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩]، فقال -رحمه الله-: «وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله -تعالى ذِكْره- عجَّب نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- ممن قال: إذ رأى قرية خاوية على عروشها: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾. مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها، حتى قال: أنّى يحييها الله بعد موتها؟! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان عن اسم قائل ذلك، وجائز أن يكون عُزيرًا، وجائز أن يكون إرميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إِذْ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادته إياهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت، من قريش ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب، وتثبيت الحُجّة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله له من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيَّه محمدًا على ما يزيل شكّهم في نبوّته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها اللهُ إلى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد -صلى الله عليه وسلم- وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد وقومه منهم، بل كان أُمِّيًّا، وقومُه أُمِّيُّون، فكان معلومًا بذلك -عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره- أنّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله -تعالى ذِكْره- إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبًا يقطع العذر، ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذمّ قيله، فأبان ذلك -جلّ ثناؤه- لخلقه»[29].
ونختم بنماذج من نقده للإسرائيليات التي انتقدت من قِبَل بعض أهل العلم، فمن ذلك ما ذكره في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢]، فقد فسّرها بقوله: «قالوا: إنّ في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها قومًا جبارين لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم، وسموهم: (جبارين) لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم -فيما ذُكر لنا- قد قهروا سائر الأمم غيرهم، وأصل الجبار: المصلح أمر نفسه وأمر غيره».
ثم أورد آثارًا عن ابن عباس والسدي وقتادة وعكرمة والربيع ومجاهد في عِظَم خلقهم، ولم يعلّق عليها اكتفاء بما فسّر به في صدر كلامه، وإن كانت هذه الآثار محل نقد من العلماء من جهة الإسناد والمتن، فقد ضعَّف ابنُ كثير إسناد أثر ابن عباس، وذكر أنها مخالفة لما وردَ في الصحيح من خلق آدم وأن الله خلقه وطوله ستون ذراعًا[30]، بل ذكر أن هذه الأخبار لا يسوّغها شرع ولا عقل، بل شكّك في وجود رجل يقال له: عوج بن عنق، قال ابن كثير: و«كلّ هذا من وضعِ جهّال بني إسرائيل، ثم لو كان هذا صحيحًا، لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم، وقد ذمّهم الله تعالى على نكولهم»[31]، ومأخذ ابن كثير في هذا صحيح؛ لأن هذه يدفعها النقل والعقل معًا.
كما أوردَ ابن جرير الخلاف في السبب الذي من أجله كاد بنو إسرائيل أن لا يذبحوا البقرة التي وُصِفَت لهم في تأويل قوله تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١].
فرَوى عن محمد بن كعب القرظي أن السبب في ذلك غلاء ثمنها.
ورَوى عن الضحاك عن ابن عباس قوله: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا؛ لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها[32].
ورَوى عن وهب بن منبه: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوفَ الفضيحة إِنْ أطلعَ الله على قاتل القتيل[33].
وقد ذهب ابن جرير إلى اختيار حمل الآية على القولين معًا.
فقال -رحمه الله-: «والصواب من التأويل عندنا: أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلّتين كلتيهما؛ إحداهما: غلاء ثمنها، مع ما ذُكر لنا من صِغَرِ خطرها وقلّة قيمتها. والأخرى: خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيّه موسى -صلوات الله عليه- وأتباعه على قاتله»[34].
فعقّب الحافظ ابن كثير بقوله: «واختار ابن جرير أنّ الصواب في ذلك، أنهم لم يكادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها، وللفضيحة، وفي هذا نظر، بل الصواب -والله أعلم- ما تقدّم من رواية الضحاك عن ابن عباس، على ما وجّهناه، وبالله التوفيق»[35].
وقال -أيضًا- معلقًا على القول بغلاء ثمنها: «وفي هذا نظر؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل»[36].
وقال أبو حيان عن الأخبار التي رُويت في شأن البقرة: «وهذا الذي تضافرت أقاويل أكثر المفسِّرين، وذكروا في ذلك اختلافًا وقصصًا كثيرًا مضطربًا؛ أضربنا عن نقله صفحًا كعادتنا في أكثر القصص الذي ينقلونه؛ إذ لا ينبغي أن ينقل من ذلك إلا ما صحّ عن الله تعالى أو عن رسوله في قرآن أو سُنّة»[37].
وما ذكره ابن كثير هو الأظهر؛ لأنه الموافق للسياق وظاهر التلاوة، بيدَ أنّ ما نقل في تفسير الآية عن القرظي ووهب محتمل أيضًا، فلا شيء يدفع روايته من نقل أو نظر؛ والله أعلم.
وبعد هذا العرض لعدد من النماذج النقدية فيما يتعلق بالإسرائيليات، يتبيّن لنا معالم في منهجه النقدي:
١. أنّ ابن جرير جارٍ في كتابه على قاعدته في نقل ورواية المأثور عن الصحابة والتابعين فيما يتعلق بأخبار بني إسرائيل، عملًا بالقاعدة النبوية: (حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، مما لا يدفعه نقل أو عقل.
۲. ابن جرير لم ينقل مرويات بني إسرائيل من كتبهم، مع اطّلاعه عليها، بدليل نقله -نادرًا- عنها في تاريخه[38]، مما يدلّ على تبايُن موقفه من إيرادها بين التفسير والتاريخ، خلافًا لِما ذكره بعض الباحثين من نقل ابن جرير عن أهل الكتاب في تفسيره[39]، بل مصدره -كما سبق- الرواية المنقولة عن الصحابة والتابعين، أو ما ينقله ابن إسحاق عن مصادرهم.
٣. أنّ ابن جرير أعمل معاييره النقدية المتنوعة في نقد أخبار بني إسرائيل من الأخذ بظاهر القرآن، ومراعاة القراءات القرآنية، والأحاديث النبوية، والقواعد الحديثية، والقواعد اللغوية، والقواعد التاريخية، والمحاكمة العقلية والنظرية للأخبار المروية، خاصة في مقدمة كتابه تأصيلًا وتطبيقًا، كما أنه استعمل النقد الضمني بالتفسير الجملي للآيات وقوفًا على ظاهرها ثم عرض المرويات.
٤. ووفقًا لما سبق، يتبين الموقف من النقد الذي لحق ابن جرير في روايته للإسرائيليات، خاصة من مثل د. محمد أبو شهبة الذي ذكر من المآخذ على تفسيره كثرة إيراد الإسرائيليات والأخبار الواهية والباطلة دون نقد[40]. أو الدراسة الموسّعة التي أعدتها د. آمال ربيع، بعنوان: (الإسرائيليات في تفسير الطبري، دراسة في اللغة والمصادر العبرية)[41]، حيث وسمت منهج ابن جرير بالنقل دون تمحيص، أو التردد والاضطراب، ومن ثم وجوب تنقية الكتاب من هذه الأخبار، مع إشادتها بنقد ابن جرير لبعض الأخبار المحدودة من الإسرائيليات[42].
وهذا الرأي فيه إجحاف ومجازفة؛ كما أسلفنا في النماذج التي أوردناها وغيرها مما لم نذكره، مع النقد الضمني الذي تميز به ابن جرير -كما سبق-، وهذا الرأي تابع ومتأثر بالمدرسة البيانية والاتجاه العقلي في التفسير، الذي كان له مواقف رافضة لإيراد الإسرائيليات بشكل عام، بل تجاوز إلى ردِّ كثير من الأخبار الصحيحة بل المتواترة المتعلقة بالتفسير[43].
وقد توسّط آخرون وامتدحوا منهج ابن جرير في نقده لكثير من الإسرائيليات مع المؤاخذة على إيراد كثير من الإسرائيليات دون نقد؛ لكنه قد خرج من العهدة بنقد كثير من الأخبار، وإسناد هذه الآراء، وهذا فيه عدل وإنصاف، كما قال بذلك الشيخ الدكتور محمد بن حسين الذهبي في كتابه: (التفسير والمفسرون)[44].
وذهب الأستاذ محمود شاكر إلى أنّ ابن جرير فيما يورده من الآثار والأسانيد لا يكون قصده التفسير والتأويل بها، بل تحقيق معنى لفظ أو سياق حادثة، فقال: «تبيّن لي -مما راجعته من كلام الطبري- أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها لا يُراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة، فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى (الخليفة) و(الخلافة)[45]، وكيف اختلف المفسرون من الأوّلين في معنى (الخليفة)، وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشِّعْر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بيِّن... إذ ذكر ما رُوي عن ابن مسعود وابن عباس، وما رُوي عن الحسن في بيان معنى (الخليفة)، واستظهر ما يدلّ عليه كلام كلّ منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبالِ بما في الإسناد من وَهَن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر عن ابن مسعود وابن عباس: فإن كان ذلك صحيحًا ولستُ أعلمه صحيحًا إذ كنتُ بإسناده مرتابًا... فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه، وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضًا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق الأثر الطويل[46]، لبيان معنى لفظ أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين ولا في التفسير التام لآي كتاب الله.
فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدلّ عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشِّعر على معانيها، فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا.
ولمّا لم يكن مستنكرًا أن يُستدل بالشِّعْر الذي كُذِّب قائله، ما صحّت لغته، فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحُجة في الدين للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن الكريم، كما فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو مَن دونهم»[47].
وهذا إعذار حَسَن من أستاذ محقق، وخبير متمرس بالإمام ابن جرير وكتبه، لكن يبدو أن الأمر أبعد من ذلك، بل هو منهج نقدي متكامل في آلياته وأدواته وأغراضه، بل بيانه للنص القرآني، كما سبق في النماذج التطبيقية.
[1] هذه المقالة من كتاب (الصناعة النقدية في تفسير ابن جرير الطبري)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1443هـ، تحت عنوان: (صيغ نقد التفسير عند ابن جرير)، (1/ 202) وما بعدها. (موقع تفسير)
[2] رواه البخاري (۳۲۸۱)، ومسلم (٢١٧٥).
[3] جامع البيان (١/ ٥٣١- ٥٣٢).
[4] جامع البيان (١/ ٥٣٣).
[5] انظر: النكت والعيون (۱/ ۱۰۷)، والمحرر الوجيز (۱/ ۱۲۸)، وزاد المسير (١/ ٦٧- ٦٨)، والبحر المحيط (١/ ٢٦٠).
[6] انظر: جامع البيان (١/ ٥٢٥- ٥٣٠).
[7] انظر: جامع البيان (١/ ٥٢٥- ٥٣٠).
[8] رواه البخاري (٣٢٧٤).
[9] رواه البخاري (٤٤٨٥).
[10] ينظر: الدر المنثور (۱/ ۲۸۷)، ولم أجده في التفسير المطبوع.
[11] ينظر: الدر المنثور (١/ ٢٨٦)، ولم أجده في التفسير المطبوع.
[12] الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي (۱/ ۲۳۷)، والنكت والعيون (۱/ ۱۰۷)، والوسيط (۱/ ۱۲۳)، ومعالم التنزيل (۱/ ۸۳)، والمحرر الوجيز (١/ ١٨٥)، وزاد المسير (١/ ٦٧)، والجامع لأحكام القرآن (١/ ٤٦٤)، والبحر المحيط (١/ ٣١٣).
[13] تفسير القرآن العظيم (١/ ١١٤).
[14] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، ص١٢٣، ١٧٨.
[15] جامع البيان (١٣/ ٩٩- ١٠٠).
[16] قرأ بها بالإضافة إلى سعيد: ابن عباس ومجاهد، كما في المحتسب (١/ ٢٠٨)، والبحر المحيط (١/ ٤٥٥)، وهي قراءة شاذة لم يقرأ بها أحد من العشرة.
[17] جامع البيان (۸/ ۲۹۸).
[18] جامع البيان (٨/ ٢٩٧- ٢٩٩).
[19] جامع البيان (٤/ ٥٣٣).
[20] جامع البيان (٤/ ٥٣٤)، وانظر: تفسير عبد الرزاق (۱/ ١٠۲)، وتفسير ابن أبي حاتم (٢/ ٤٨٨) (٢٥٨٤).
[21] الحديث مرفوعًا رواه ابن جرير في جامع البيان (٤/ ٥٣٤)، ورواه أبو يعلى في المسند (٦٦٦)، والدارقطني في الغرائب -كما في أطرافه (٥٢٢٩)-، والبيهقي في الأسماء والصفات (۷۹)، والخطيب في تاريخ بغداد (١/ ٢٦٨)، وابن الجوزي في العلل المتناهية، ص٢٢، ٢٣.
قال الذهبي في ترجمة أمية بن شبل (أحد رجال الإسناد): «له حديث منكر (ثم ذكر الحديث...)، رواه هشام بن يوسف، وخالفه معمر عن الحكم، عن عكرمة قوله وهو أقرب. ولا يسوغ أن يكون هذا وقع في نفس موسى، وإنما رُوي أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك، ميزان الاعتدال». (١/ ٢٧٦). وما أشار إليه الذهبي هو ما رواه ابن أبي حاتم (٢٥٨٠) من حديث ابن عباس موقوفًا، وفيه أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله... ففيه أن بني إسرائيل هم الذين سألوا موسى، وهو ما رجّحه ابن كثير، فقد أعلّ حديث أبي هريرة بقوله: «هذا حديث غريب جدًّا، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع، ثم رَوی حديث ابن عباس». تفسير ابن كثير (١/ ٤٧٩).
وقد رواه ابن مردويه في تفسيره -ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة (١٠/ ١١٣- ١١٤)، وأبو نعيم في الحلية (٤/ ٢٧٦- ٢٧٧)- مرفوعًا إلى ابن عباس، وفيه جعفر ابن أبي مغيرة الخزاعي، وقد قال الذهبي في ميزان الاعتدال (١/ ٣٤٤) في ترجمة جعفر: قال ابن منده: ليس هو بالقوي في سعيد بن جبير، وأشار أبو حاتم وأبو زرعة فيما نقله ابن أبي حاتم في العلل (١/ ٨٣) إلى أنّ جعفرًا يرفع المرسلات عن سعيد، وهو ما وقع هنا؛ فقد جاء بإسناد أصح من قول سعيد بن جبير، رواه عبد الله بن أحمد في السنّة (١٠٢٨)، وأبو نعيم في الحلية (٤/ ٢٢٦- ٢٢٧).
كما جاء بإسناد صحيح عن عبد الله بن سلام، رواه الآجري في الشريعة (٧٦٤)، وفيه أنه قال: والله لا أحدّث بشيء إلا وهو في كتاب الله عَزّ وَجَلَّ: إن موسى دنا من ربه -عزّ وجل- حتى سمع صريف الأقلام، فقال: يا جبريل، هل ينام ربك؟ قال: يا جبريل، أعطه قارورتين... الحديث. وهو يدل على أن هذا الأثر من خبر بني إسرائيل، ولعله أخذه عنه ابن عباس -كما رجح وقف الحديث عليه: ابن أبي حاتم وابن كثير، أو عكرمة- كما هو ظاهر صنيع ابن جرير، أو سعيد بن جبير، وبه يتبين دقة صناعة ابن جرير الحديثية، وحسن نقده للإسرائيليات، وأن الحديث مما تجوز روايته؛ لحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج) رواه البخاري (٣٤٦١).
[22] الحديث رواه الترمذي (١٧٣٤)، والحاكم (۲/ ۳۷۹) من طريق خلف بن خليفة به قال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج، ونقل عن البخاري أنه منكر الحديث. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. قال الذهبي معقبًا عليه: بل ليس على شرط البخاري، وإنما غرّه أن في الإسناد حميد بن قيس؛ كذا وهو خطأ، إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمار أحد المتروكين، فظنه المكي الصادق. وقال أحمد بن حنبل -وسئل عن هذا الحديث-: منكر ليس بصحيح، أحاديث حميد عن عبد الله بن الحارث منكرة، منتخب ابن قدامة (٢/ ٢٠٩)، والحديث أعله عامة العلماء، منهم ابن عدي في الكامل (۲/ ۷۹)، وابن حبان في المجروحين (١/ ٢٦٢)، وابن الجوزي في الموضوعات (١/ ١٩٢)، وغيرهم.
[23] جامع البيان (١٦/ ٢٥).
[24] جامع البيان (١٠/ ٤١٨- ٤٢٠).
[25] تفسير القرآن العظيم (٣/ ٤٧٢).
[26] جامع البيان (٧/ ٦٥٨- ٦٦٠).
[27] جامع البيان (۸/ ۳۲)، وينظر -أيضًا-: (٤/ ٢٧٧)، وغيرهما.
[28] جامع البيان (١٥/ ١٦١).
[29] جامع البيان (٤/ ٥٨١- ٥٨٢).
[30] الحديث رواه البخاري (٦٢٢٧)، ومسلم (٢٨٤١)، عن أبي هريرة.
[31] تفسير القرآن العظيم (٢/ ٧٦)، وينظر: البداية والنهاية (٢/ ١٢٦).
[32] انظر جامع البيان (۲/ ۲۱۹)، وتفسير ابن أبي حاتم (١/ ٢٢٧).
[33] جامع البيان (٢/ ٢١٩- ٢٢١).
[34] جامع البيان (۱/ ۲۲۰).
[35] تفسير القرآن العظيم (١/ ١٦٠).
[36] تفسير القرآن العظيم (١/ ١٦٠).
[37] البحر المحيط (١/ ٤٢٢- ٤٢٣).
[38] ينظر -مثلًا- تاريخ الطبري: (۱/ ۱۸، ۲۱۰)، بل نقل -مرة- الخلاف بين نقلة التوراة (١/ ١٦٦).
[39] الإسرائيليات في تفسير الطبري، د. آمال ربيع، ص١٤٢.
[40] الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، ص١٢٣.
[41] من مطبوعات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، ١٤٢٥.
[42] ينظر: الإسرائيليات في تفسير الطبري ص١٤٢، ١٤٧، ٣٧٩، وغيرها.
[43] ينظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، ص٣٤٤.
[44] (۱/۲۱۱). تفسير الطبري (١/ ٤٥٣ شاكر).
[45] في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠].
[46] المحرر في علوم القرآن، ص١٠١.
[47] جامع البيان (١/ ٤٥٣) ط شاكر، حاشية (١).