قراءة في كتاب
(تلوين الخطاب؛ دراسة في أسلوب القرآن الكريم)
تأليف: أحمد تيجان أحمد صلاح

اعتنى كتاب (تلوين الخطاب؛ دراسة في أسلوب القرآن الكريم) بدراسة "تلوين الخطاب" في القرآن الكريم، وفكّ التداخل بينه وبين الأساليب البلاغية الأخرى، وهذه المقالة تعرِّف بهذا الكتاب، وتسلِّط الضوء على منهجه ومحتوياته، كما تعرض لأبرز مزاياه والملاحظات حوله.

تمهيد:

  يُعَدُّ مصطلح «تلوين الخطاب» مِن أبرز وجوه الإعجاز القرآني، بل هو أحد ألباب الإعجاز البلاغي والأسلوبي في القرآن الكريم، والمقصود به: أوجُه تبدّل الخطاب في الضمائر والبنية التركيبية واللغوية في الآيات القرآنية، وذلك في سياقاتها المختلفة، في السور القرآنية، وفي الموضوعات المتعدّدة التي تناولتها الآيات القرآنية؛ وفيها ما هو قصصي، وما هو عقدي أو فقهي، وما هو تشريعي وتوجيهي، أو في الردّ على أهل الكتاب والمشركين والكافرين. فتعدّدت مواضعه، وكثرتْ دلالاته، وتنوّعتْ تراكيبه.

ومصطلح تلوين الخطاب من أهم المصطلحات البلاغية، وللأسف لم يجد عناية كبيرة من الباحثين وأهل العلم؛ نظرًا لتداخل مفهومه مع مصطلحات بلاغية أخرى، فلا يوجد تصوّر واضح يستوعب جميع مجالاته وتجلّياته، أمّا ما اشتملت عليه كتب التفاسير والبلاغة العربية -القديمة والحديثة- فلا يخرج عن كونه إشارات إليه، غير كافية من أجلِ إيضاح كنهه، ولا الكشف عن حقيقة مفهومه، ولا رسومه، وإن كانت نبّهت إلى أهميته. فمِن المهمّ السعي إلى تقديم رؤية علمية شاملة، تمثّل إستراتيجية في الوقوف على الإعجاز القرآني، وأوجُه تباين الخطاب وأبعاده وأبرز دلالاته.

وتبدو الإشكالية التي تواجه هذا المصطلح في اختلاف آراء البلاغيين والمفسِّرين حول تعريف الأساليب العربية، التي يحدث فيها تحوّل أو انحراف عن الأنماط العادية، مما أدّى إلى اختلافهم في الفهم والتعريف، والتسمية والوصف والتحديد.

فمِنهم مَن جعل تلوين الخطاب مقتصرًا على الالتفات؛ والذي يُقْصَدُ به تحويل الخطاب من ضمير إلى آخر في الآية الواحدة؛ كأنْ يكون الخطاب بضمير الغائب، ثم يتحوّل إلى ضمير المتكلّم أو المخاطَب. ولكن قد يَـحْدُث -عند التطبيق- عدمُ تمييز للالتفات عن مصطلح الاعتراض[1]، على نحو ما نجد عند ابن المعتز (ت: 296هـ) في كتابه (البديع). أو تداخُلٌ مع مصطلح الاستدراك، وهو ما ألحقه المتأخِّر على كلام السابقين لوجود خطأ فيه أو نقص أو توسّع؛ قاصدًا تصويبه أو إكماله أو اختصاره أو تهذيبه، وقد أشار إليه ابن قدامة (ت: 337هـ) في كتابه (نقد الشعر). أو تعالقٌ مع مصطلح التذييل، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها للتوكيد[2]، كما نبّه إليه ابن رشيق (ت: 456) في كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه). أمّا بقية البلاغيين فقد جعلوا تلوين الخطاب قريبًا من الالتفات، فذكروا أنه نقلُ الكلام من خطاب الواحد والاثنين أو الجمع إلى خطابٍ آخر. لتصبح المشكلة فيما ينسبه البلاغيون في اقتصار تباين الخطاب على الالتفات بوصفه مصطلحًا بلاغيًّا، وما يقرّب إليه وما ليس منه. فغياب التحديد الاصطلاحي ألقى بظلاله على مفهوم تباين الخطاب، وأيضًا أدخل في الالتفات ما ليس منه؛ مما أدى إلى التباسٍ في الفهم والتنظير، وأزمةٍ في الأمثلة والتطبيق.

ومن هنا، تتحدّد الإضافة العلمية في الكتاب موضع دراستنا، وعنوانه: (تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم)، للباحث/ أحمد تيجان أحمد صلاح[3]، من خلال السعي إلى الإجابة عن عدة أسئلة، أبرزها: كيف يمكن فكّ الاشتباك والتداخُل بين تلوين الخطاب والمصطلحات البلاغية الأخرى ذات الصِّلَة به؟ وما سُبُل التصدي لعدم الانضباط المصطلحي في البلاغة العربية؛ في سبيل الكشف عن وجوه الإعجاز ومواطنه في القرآن الكريم بشكل ميسّر وواضح دون إخلال في التنظير والتطبيق؟ وهل بالإمكانية تقديم مفتاح يكشف عن بعض مواطن الإعجاز في القرآن الكريم؛ وعن كثير من الغوامض التي تكتنف المصطلح البلاغي؟ وكيف يمكن قراءة جهود البلاغيين القدامى والمحدَثين في قضية تلوين الخطاب القرآني والبناء عليها، والإضافة إليها، ضمن رؤية شاملة، تفضّ الإشكالات، وتعمِّق الطرح وتبيّنه؟ وتلك هي غاية الغايات؛ لأنه من المهمّ إيضاح جوانب الإعجاز البلاغي والأسلوبي في القرآن بسبل واضحة، يستطيع القارئ فهمها والبناء عليها في دراسات أخرى.

محتويات الكتاب:

تبنّى الباحثُ في هذا الكتاب مفهومًا استقاه من خلال بحثه المعمَّق والمطوّل في مظانّ كتب التفاسير والبلاغة؛ أملًا في فضّ مختلف الإشكاليات التي تواجه هذا المفهوم، وحرصًا على تقديم قراءة واعية وعميقة لتباين الخطاب في الأسلوب القرآني. أي أنه سعى إلى تحديدٍ واضح جامعٍ ومانع للمفهوم؛ ليكون بمثابة تأسيس مفهومي واصطلاحي يسير عليه في كتابه. فتبايُن الخطاب عنده هو: تغيير جهة الخطاب والعدول عن المقتضى الظاهر أو عن أصل لغوي أو عرفي[4]. وهذا من توفيق الله للباحث، حيث استطاع الإتيان بمفهوم يشمل مختلف صيغ تلوين الخطاب بشكلٍ عام، وفي النصّ القرآني بشكلٍ خاصّ، وهو الأساس الذي ارتكز عليه في سائر كتابه، وسعى إلى تعميقه وبسط القول فيه بالشرح والمثال.

وقد جاءت الدراسة بعد المقدمة في ثلاثة فصول؛ تركّز النقاش في الفصل الأول على قضية تلوين الخطاب المتصلة بتغيير جهة الخطاب. وهي تنظر في أشكال التغير الذي يصيب بنية الخطاب، على مستوى التركيب أو الضمير، أو الكلمة المفردة. وذلك في ستة مباحث؛ تناول المبحث الأول العدول عن الخطاب من الخاص إلى العام، وعكسه. وتفرّد المبحث الثاني بدراسة التلوين في صرف الخطاب عن مخاطب إلى آخر. واختص المبحث الثالث بدراسة العدول عن صيغة من الصيغ الثلاث (التكلّم، الخطاب، الغيبة)، إلى أخرى دون اتحاد الجهة. ليأتي المبحث الرابع مناقشًا العدول عن صيغة من الصيغ الثلاث إلى إحداها مع اتحاد الجهة، وتعني تحديدًا مصطلح الالتفات. وتناول المبحث الخامس تغيير الأسلوب مع النقل، مثل نقل الكلام من صيغة الجمع الدال على التعظيم إلى صيغة الإفراد، أو تفكيك الضمائر. وانتقل في المبحث السادس إلى تغيير الأسلوب دون النقل، وذلك في الاسم أو وضع فعل موضع فعل، أو في الحرف.

وتطرّق في الفصل الثاني إلى التلوين بالعدول عن مقتضى الظاهر، ساعيًا إلى فضّ الإشكالية بين اصطلاحي مقتضى الظاهر ومقتضى الحال.

وقد اشتمل الفصل الثاني على مبحثين؛ الأول: ناقش التعريفات والأنواع والفروق لمقتضى الظاهر، عن غيره مما يشتبك معه من اصطلاحات، وتركّز النقاش على المنظور النحوي، مثل الصيغ الخبرية (الخبر الابتدائي والطلبي والإنكاري)، وكذلك ما يتعلّق بالفعل وأساليب القصر وأشهر طرق القصر، وكذلك أساليب الإنشاء الطلبي وأنواعه، مثل التمني والاستفهام والأمر والنهي. وكذلك مواضع الفصل والوصل والإيجاز والإطناب، ومناقشة مقتضى الحال للمتكلم والمخاطَب والمقام. وفي المبحث الثاني تناول العدول عن مقتضى الظاهر وأنواعه، في الإسناد الخبري، وفي الفعل، وفي الحذف والإضمار، وفي التقييد والتقديم والتأخير. وكذلك في مواضع القصر والإنشاء والإطناب وغيرها.

وانتقل الباحث في الفصل الثالث إلى قضية العدول عن الأصل، ويتعلق بما يحدث في الخطاب مِن تحول. وقد عمّق الباحث هذا المنحى في مبحثين؛ الأول: تناول أوجه العدول من جوانب أربعة؛ صوتية، وصرفية، ونحوية، ودلالية. وفي المبحث الثاني: تناول العدول عن أصل عرفي، مع أمثلة لها.

وأنهى الباحث دراسته بخاتمة، تضمّنت خلاصة نتائج البحث، ثم المصادر والمراجع، وملحقات (جداول)، تحوي شواهد لتلوين الخطاب في بعض الآيات القرآنية، حيث تُذْكَرُ الآية، وسورتها ورقمها، وموضع التلوين فيها، وصورته، والغرض البلاغي منه؛ لتكون عونًا للقارئ على مزيد من الفهم لقضية تلوين الخطاب بأمثلة تطبيقية مباشرة، وبالطبع ذكَرَ الباحث بعضًا منها إرشادًا للقارئ.

هدف الكتاب:

حدّد الباحثُ غايته بوضوح في هذه الدراسة، ألَا وهي: «تتبّع تلوين الخطاب في النصّ القرآني، والوقوف على صوره وعلاقته بموضوعات ذات شأن في البلاغة العربية؛ مثل الالتفات والتذييل والاعتراض، وأيضًا الاكتفاء والاحتباك»[5]. فالباحث يبدأ من حيث انتهى الآخرون قديمًا وحديثًا، ومِن ثَمّ يحاول النظر إلى قضية تلوين الخطاب برؤية تجمع ما بين عمق النظرة، وشموليتها.

الإشكالات المعرفية للكتاب:

تتحدّد الإشكالية الرئيسة في الكتاب -كما أشار إليها الباحث- في تقديم: مقاربة مصطلح تلوين الخطاب، من جوانب متعدّدة، تتوخّى أبعاد الإعجاز القرآني، ودلالاته، وتسعى إلى رصد الأبعاد التركيبية على مستوى اللغة[6].

وقد اتّبع المؤلِّف منهجية علمية واضحة الإجراءات والخطوات؛ أملًا في تحقيق هذا الهدف، وذلك من خلال: الجمع المستقصي على وجه الاستيعاب الممكن لمختلف مواضع تلوين الخطاب وصوره والمصطلحات البلاغية ذات العلاقة به. والرجوع إلى مصادر الفكر البلاغي المعتمدة لاستقصاء المفاهيم والتصوّرات. والموازنة بين أقوال أهل العلم من قُدامى ومحدَثين فيما عرضوا من أنظار وآراء، مع استخدام الترجيح أو التعديل أو العدول أو اقتراح البديل في مناقشات الباحث لهم. والخطوة الأهمّ: كشف الغموض والالتباس المصطلحي، وإعادة نسق المفاهيم المصطلحية في علاقات أخرى مستحدثة، برؤية جديدة، تكشف عمّا بينها من تمازج وتداخل. وسدّ الفجوات التي اشتملت عليها آراء المتقدِّمين أو المتأخِّرين، واستكمال المفاهيم والتصوّرات ذات الصِّلَة، لتكون المحصلة هي الخروج بتصوّر منهجي متكامل لمصطلح تلوين الخطاب وما يتّصل به من مفاهيم ومصطلحات. ومن أجلِ ذلك، عمد الباحث إلى مناقشة مفصّلة للمصطلحات الآتية، ذات الصِّلة المباشرة بمفهوم «تلوين الخطاب»، وهي:

1) مصطلح العدول: ويعني العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوعِ خصوصية اقتضت ذلك، كما يذكر ابن الأثير. ومن ذلك أننا لا نملك أن نعبّر عمّا لم يقع بعد بصيغة الماضي لأمرين؛ أحدهما: احتمال عدم وقوع الحدث. والآخر: احتمال عدم وجودنا حين وقوعه؛ لأننا لا نتحكم على الزمان فيدخل هذا في باب التنبؤ. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]. فإنّ النفخ في الصور أمرٌ لم يحدث بعد، لكن وقوعه ثابت، لا ريب فيه؛ لأنّ المخبِر هو الخالق العليم، وتم التعبير بصيغة الماضي عن المستقبل[7].

2) تغيير الأسلوب مع النقل: ويعني أن يكون الكلام في جملتين؛ تخالف الثانية ما يقتضيه ظاهر الأولى، مع النقل فيه دون مراعاة اتحاد الجهة. وهو يأتي على صور عديدة، منها، أن يحلّ خطاب الواحد محلّ خطاب الاثنين أو الجمع، ويراد به الاثنان أو الجمع. كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾ [طه: 117]، فلفظة ﴿فَتَشْقَى﴾ حلّت محل خطاب الاثنين (فتشقيا)، وأراد به الاثنين: آدم وحواء. ومنها أن في المواطن الدالة على قدرة الله ونعمائه يأتي الخطاب بضمائر الجمع، مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: 11]، فيلاحظ أنّ الضمائر جاءت على صيغة الجمع، وهي دالة على قدرة الله سبحانه وعلى نعمه الكثيرة، وهذه نِعَم لا ينازعه فيها -سبحانه- أحد، ولا يدّعي أحد من أهل الإلحاد أنه بمقدوره فعلها. ومنها أن يحلّ خطاب الجمع محلّ خطاب الواحد، ويراد به الواحد، كما في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [هود: 59]، فلفظة ﴿رُسُلَهُ﴾ ذكرت جمعًا، والمقصود بها خطاب الواحد وهو رسوله[8].

3) مقتضى الظاهر: فالظاهر هو مقتضى ظاهر الحال، وأنّ ثمة توافقًا في معنى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر بمقتضى الكلام لمقتضى الحال[9]. بمعنى أن إنتاج الخطاب يأتي موافقًا للحال الذي يخبر عنه، مثل قوله تعالى: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الشعراء: 47- 48]، فإسناد فعل الإيمان إلى المؤمن هو إسناد حقيقي يطابق الواقع والاعتقاد، وتم إخراج الكلام بناء على مقتضى الظاهر من حديث المؤمنين. ومنها ما يطابق الاعتقاد دون الواقع، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24]، فإسناد فعل الهلاك إلى الدّهر إسناد حقيقي عند من يعتقد ذلك، وهذا دليل على فساد عقيدة الكفار والمشركين، وإخراج الكلام مطابقًا لعقائدهم دون الواقع فهو إخراج على مقتضى ظاهر حالهم. ومنها ما لا يطابق الاعتقاد والواقع معًا، كما في قوله تعالى: ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [النحل: 28]، فالكافرون تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب، وهذا مِن أشدِّ الاختلاط وأبْيَنِ الفساد، في الدهر والنظر[10].

6) العدول عن مقتضى الظاهر: وذلك بإخراج الكلام حسب مقتضى الحال، مما يعني العدول عن الظاهر، وتلوين الخطاب حسب الحال. وهذا اللون -كما يقول السكاكي- متى وقع عند النظّار موقعه؛ استهشَّ الأنْفُسَ، وأنَّقَ الأسماعَ، وهَزّ القرائحَ، ونشّط الأذهان. والوسائل إليه أساسها التركيب اللغوي، كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ [المؤمنون: 15]، حيث أكّد سبحانه الموت بتأكيدَيْن، وهو أمر لا يمكن إنكاره للمؤمن والكافر، لكن الكافرين كانوا معرضين، ناكرين لما بعد الموت، ويسمى هذا النوع تنزيل غير المنكر تنزيل المنكر؛ فقد أنكروا الموت، وهو ظاهر أمامهم، فأكّده الله بإنّ المؤكدة، ولام التوكيد[11]. ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، فالإنفاق يقي صاحبَه الشحَّ المنهيَّ عنه، فإذا يُسِّر على المرء الإنفاق فيما أمَرَ الله به فقد وُقِيَ شُحّ نفسه، وذلك من الفلاح؛ ولذا جاء بصيغة الحصر، حيث قصر جنس المفلحين على جنس الذين وُقوا شحّ أنفسهم، وهو أسلوب قصر دعائي؛ للمبالغة في تحقيق وصف المفلحين الذي وُقوا شحّ أنفسهم[12]، وبعبارة أخرى، فإنّ المفلحين في الآخرة هم الذين يحمون أنفسهم من الشح، ويبذلون الصدقات والنفقة على الفقراء.

5) العدول عن أصل عُرفي: ويعني كيفية عدول الخطاب عمّا ألِفَه الناس في أفهامهم، فيأتي بعكس المتوقع. كما في قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 7]. فليس في عرفِ الناس أن يُقال للأم الخائفة على ولدها أن تلقيه في البحر، بل العُرف أن تطلب له من يحميه، والعدول هنا جاء لحكمة تتمثّل في الربط على قلبها من الله تعالى، وتأييده لها[13].

مزايا الكتاب:

لا شك أن هذا الكتاب هو دراسة جادة، ذات منهجية واضحة، ولها إضافتها العلمية، والتي يمكن أن نبلورها في النقاط الآتية:

1- استطاع الباحثُ وضع لبنة أساسية في مفهوم تلوين الخطاب على مستوى البنية وجِهة الخطاب وأشكاله، وأيضًا على مستوى علوم عدّة؛ فمما يُحسب للباحث أنه جمع ما بين البلاغة والنحو، والتفسير والتأويل، وأيضًا استفاد من الدراسات الأسلوبية اللسانية، والتي تنظر إلى اللغة بوصفها بناء متكاملًا: نحويًّا وصرفيًّا وصوتيًّا ودلاليًّا، مما أعطى الباحث طرائق للتطواف في علوم العربية؛ اللغوية والبلاغية، وهذا كلّه أكسب الدراسة عمقًا وشمولًا، وجعلها تتجاوز الطروحات السابقة.

2- أبانت الدراسة أنّ تلوين الخطاب بوصفه مصطلحًا يشمل كلّ مظاهر العدول والنقل في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية؛ فما أسماه البلاغيون بالرجوع أو المخالفة أو الانصراف هو عين ما يقصده الأسلوبيون المعاصرون في: الانزياح والاستبدال والاختيار، مما يدعم نقاط التلاقي بين التراث البلاغي والأسلوبية المعاصرة.

3- اقترحَت الدراسة ضوابط يُعرف بها الفرق بين العدول عن الخطاب الخاصّ إلى الخطاب العام والعكس، وكذلك بين صرف الخطاب عن مخاطَب إلى آخر؛ فضابط الأول الاشتراك في الجنس أو في النوع أو في العقيدة، وضابط الثاني عدم الاشتراك فيها.

4- أثبتت الدراسة أن ضمائر العظمة التي تأتي على صورة الجمع لم ترِد في التنزيل في معرض الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده؛ فالقرآن حين يدعو إلى عبادة الله في سياق مبدوء بضمير العظمة فإنّه يتحوّل إلى الإفراد ليناسب التوحيد. وتلك فائدة جليلة من فوائد الالتفات من التكلّم إلى المواجهة، أو إلى الغَيبة في القرآن.

5- أظهرت الدراسة العلاقة الشابكة بين نظرية النَّظْم عند عبد القاهر الجرجاني وبين مفهوم مقتضى الحال، فالنَّظْم بما هو توخِّي معاني النحو؛ يقتضي معرفة أحوال اللفظ ليُجاء بكلّ لفظ كما ينبغي له. وهذا هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

6- أوضحت الدراسة أهمية الدراسات الصوتية وأثرها في بيان مقاصد القرآن الكريم، وطالب الباحثُ أهلَ الاختصاص بمزيد من الدراسات الصوتية المتخصّصة[14].

7- بالنسبة للوضع المنهجي في الكتاب فقد استطاع الباحثُ تعميق مفهوم تلوين الخطاب، وتتبّعه في كتب البلاغة القديمة، مع ربطه بنظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني، مع ربطه بمنظور علم الأسلوب الحديث، الذي يتعامل مع النصّ بوصفه وحدة شاملة الأبعاد؛ في البنية، والكلمة، والصوت، والدلالة، فطرح القديم برؤية حديثة.

أهم الملحوظات:

نرى أنّ خطة البحث جاءت متكاملة واضحة مرتبة في منهجيتها، ولكن ثمة ملحوظات من المهم ذكرها إتمامًا للفائدة:

أولها: حبّذا لو أنّ الباحث وضع تأسيسًا نظريًّا في بداية كلّ فصل، يشرح فيه المفاهيم المرادة، وكذلك أيضًا في المباحث الخاصّة بكلّ فصل، حيث درج الباحث على الولوج مباشرة بالنقل من المراجع البلاغية أو النحوية أو كتب التفسير، دون تنظير يوضح المراد والمستهدف، وأيضًا يقدّم رؤية عن القضية التي تتمّ مناقشتها. والمثال على ذلك: في الفصل الثالث، وعنوانه: العدول عن الأصل. لم يشرح لنا مفهوم العدول عن الأصل، خاصّة أنّ فيه جانبًا لفظيًّا وآخر معنويًّا، وإنما انتقل مباشرة إلى المبحث الأول المتمثّل في العدول عن أصل لغوي، وفي هذا المبحث ناقشَ -دون تمهيد أو تنظير أو رؤية مبدئية- الجوانب الصوتية، والنحوية، والصرفية، والدلالية. وحتى التمهيد الذي استهلّ به بعض المباحث، تحت عنوان: (مهاد)، فإنه احتوى تلخيصًا لما تمّت مناقشته مِن قبل، وليس تأسيسًا نظريًّا واضحًا لِمَا سيتمّ التطرق إليه، على نحو ما نجد في المبحث الثاني من الفصل الثاني[15].

ثانيها: أسرفَ الباحثُ في الرجوع إلى المصادر النحوية أكثر من كتب البلاغة والتفسير، مما جعل الدراسة أقرب إلى البحث النحوي اللغوي منها إلى البحث البلاغي الدلالي والتأويلي، علمًا بأنّ القضية المتناوَلَة هي قضية بلاغية في الأساس، فصحيح أن تلوين الخطاب له جوانبه اللغوية بأبعادها المختلفة، ولكن التناول اللغوي لا بد أن يكون مصحوبًا بتحليل بلاغي وتأويلي مفصَّل، يسهم في إضاءة المزيد من جوانب الإعجاز القرآني. كما أن بعض المفاهيم التي كان يتوصّل إليها لم تخرج عن اجترار المعلوم والمثبت في المراجع، ومن ذلك قوله: «نستخلص مما تقدّم، أن الإيجاز هو زيادة المعنى على اللفظ الموضوع له، وأن الإطناب هو زيادة اللفظ على المعنى المراد، دون حشو أو تطويل»[16]. فما الجديد الذي أضافه بأسلوبه في خلاصته عن الشائع في كتب البلاغة عن مفهومي الإيجاز والإطناب؟

ثالثها: أطنب الباحثُ كثيرًا في النقل عن المصادر والمراجع، وكان جهده منصبًّا بشكلٍ كبيرٍ على ترتيب المادة العلمية وتنسيقها، وقلّ في المقابل تحليله وشرحه، أي: اكتفَى بإيراد المعلومة، دون مزيد من التبسيط والإيضاح والربط، من أجل التدليل على النتائج التي ساقها في خاتمة البحث. ولكن هذا لا يقلّل من الجهد الكبير الذي بذله الباحث، ومهارته في الغوص في المصادر والمراجع، قديمها وحديثها، والتزامه الدقيق بالخطة الموضوعة، وصولًا إلى تحقيق الأهداف المتوخّاة.

رابعها: ثمة بعض القضايا كانت بحاجة إلى مزيد من التعميق والشرح؛ والمثالُ على ذلك المبحثُ الثاني من الفصل الثالث، عن العدول عن أصل عرفي، فقد جاء في صفحتين لا أكثر، واشتمل على عدّةِ أمثلة، وشرحٍ مقتضب مأخوذٍ من كتاب النكت والعيون. ولم يوضح علاقة المثَل الدارج بتلوين الخطاب، وإنما أورد المثَل والآية الكريمة دون شرح. ومن ذلك: هم يقولون مثلًا: «مَنْ جَهِلَ شيئًا عَادَاه»، وقال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ [يونس: 39]»[17]، فلم نجد مسوّغًا لإقناعنا أن هذا من صيغِ تلوين الخطاب أو أنّ الخطاب مخالف للمثل، وإنما هو موافق له.

أيضًا، فإنّ كلّ اقتباساته السابقة مأخوذة من كتاب (الإتقان في علوم القرآن)، دون تحليل أو ربط. والمبحث برمّته كان في حاجة إلى تفصيل وتعميق.

خاتمة:

هذه قراءة لكتاب (تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم)، حاولنا فيها تسليط الضوء على الجهد العلمي المبذول فيه، وقد تناول أبعاد تلوين الخطاب والضمائر في الخطاب القرآني، مناقشًا طروحات البلاغيين القُدامى بمنظور الأسلوبية الحديثة.

وإذا كانت من توصية عامّة، فإنّنا ندعو الباحثين والمهتمّين بالدراسات القرآنية إلى المزيد من البحث العميق في دراسة تلوين الخطاب في القرآن الكريم، فهو ميدان بِكْر وجديد، ويمكن الاستفادة من منهجيات التحليل الألسني والأسلوبي الحديثة، والتي تدمج الأبعاد اللغوية والتركيبية مع الجوانب البلاغية والتأويلية والسياقية.

وأخيرًا، نسأل اللهَ تعالى الهداية والرشاد، وأن يُنعم علينا بالعلم والفهم والسداد.

 

[1] الاعتراض هو ما يعرض بين شيئين، وهذا المصطلح يدرسه علماء النحو في تراكيب الجمل بوصفه تركيبًا يعرض بين كلامَيْن متّصلَيْن معنى، وتكون جملة الاعتراض لا محلّ لها من الإعراب، والدرس البلاغي يُعنى بأغراض جملة الاعتراض وهي كثيرة. راجع: كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري، نشر مطبعة الحلبي، القاهرة، 1951م، ص312، 313.

[2] لأن المعنى يزداد به انشراحًا والمقصد اتضاحًا، والتذييل هو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه، حتى يظهر لمن لا يفهمه، ويتوكّد عند مَن فهمه. وينبغي أن يُستعمل في المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة؛ لأن تلك المواطن تجمع البطيء الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكّد عنه الذَّهِن اللَّقِن، وصح للكليل البليد. كتاب الصناعتين، ص373.

[3] (تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم)، أحمد تيجان أحمد صلاح، أطروحة ماجستير، بكلية الدراسات العليا، جامعة الكويت، إشراف أ.د. سعد عبد العزيز مصلوح، وقد نُوقشت الرسالة وأجيزت في العام 2012م، وتم نشرها ضمن سلسلة إصدارات مجلة الوعي الإسلامي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، الإصدار (86)، 1435هـ= 2014م، (عدد الصفحات: 344).

[4] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص26.

[5] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص27.

[6] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص28.

[7] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص32- 35.

[8] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص100- 103.

[9] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص130.

[10] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص133.

[11] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص205، 206.

[12] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص212.

[13] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص289.

[14] انظر: تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص291- 297.

[15] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص204، 205.

[16] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص170.

[17] تلوين الخطاب: دراسة في أسلوب القرآن الكريم، ص290.

الكاتب

الدكتور مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والبلاغة، وباحث في الإسلاميات والحضارة، وله عدد من المؤلفات.‏

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))