توظيف السياق في التفسير عند الصحابة
أنواع التوظيف وأساليبه ووجوهه

يُعَدّ السياق أحد المصادر شديدة الأهمية في تفسير القرآن الكريم، وهذه المقالة تتناول توظيف السياق في التفسير عند الصحابة من خلال بيان أنواع هذا التوظيف وأساليبه ووجوهه، بعد تمهيد في إبراز فكرة توظيف السياق في التفسير.

مدخل:

   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

 فيعدّ السياق أحد المصادر شديدة الأهمية في تفسير القرآن الكريم؛ إِذْ ما من آية إلا ويكون هذا المصدر حاضرًا ومؤثّرًا عند تفسيرها وبيانها، قال مسلم بن يسار: «إذا حَدَّثْتَ عن الله حديثًا فقِف حتى تنظر ما قبله وما بعده»[1]، وقال ابن تيمية: «فمَن تدبَّر القرآن وتدبَّر ما قبل الآية وما بعدها وعَرَف مقصود القرآن؛ تبيَّن له المراد وعرَف الهدى والرسالة وعرَف السداد من الانحراف والاعوجاج»[2].

وعلى الرغم من أهمية السياق في تفسير القرآن، إلّا أنّ هذا المصدر -كغيره من مصادر التفسير- لم يلقَ عناية بدراسته من خلال تطبيقاته في كتب التفسير ومن ثمَّ بناء القواعد والأحكام النظرية المتعلقة به انطلاقًا من تطبيقات المفسِّرين.

ولذا أردنا في هذه المقالة أن نتناول مسألة من أبرز المسائل المركزية التي تتعلّق بهذا المصدر من مصادر التفسير، وهي مسألة أوجه توظيف السياق في التفسير، من خلال تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- نظرًا لمركزية تفسير السلف وأهميته.

وتأتي مقالتنا مقسومة إلى قسمين؛ نتناول في القسم الأول منها: أنواع المرويات التي وظّف الصحابةُ فيها السياق في التفسير وأساليبهم في ذلك، وأمّا في القسم الثاني فنبيّن أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير، وذلك بعد تمهيد نُبرِز فيه فكرة توظيف السياق في التفسير وحدود تناوُلِنا للمسألة في المقالة وطريقتنا في ذلك. 

تمهيد:

اعتمد الصحابة -رضي الله عنهم- في تفسيرهم للقرآن على عدد من المصادر؛ كالنظائر القرآنية والسنّة النبوية واللغة العربية والأخبار وغيرها، وتأتي فكرة المقالة في تسليط الضوء على إحدى المسائل المركزية المتعلّقة بمصدر السياق وهي مسألة أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير.

وقد سلَكْنَا في جمعِ المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير منهجًا استقرائيًّا دقيقًا، اعتمدنا فيه على أكثر من مائتي مصدر، وفصَّلنا منهجنا وطريقتنا في الاستقراء والجمع في دراستنا (المفسِّرون من الصحابة -جمعًا ودراسة وصفية-)[3]، وعلى الرغم من اشتمال المصادر التي استقرَأْنَاها على تفسير الطبري إلا أننا خصصنا قضية توظيف القرآن في التفسير عند الصحابة رضي الله عنهم -والتي من ضمنها السياق- باستقراء خاصّ بها، يعتبر الاستقراء الثاني لنا لتفسير الطبري لحصر تلك المرويات طلبًا للدّقة.

والمراد بالسياق بصورة عامة: «كلّ ما يحيط بالنصّ القرآني من أمور تُعِين على فهمه؛ كحال المخاطَب والغرض الذي سيق له الكلام، والبيئة التي نزل فيها، ومعرفة تفاصيل القضايا التي تعرَّض لها، وسابق الكلام ولاحقه.

وينقسم السياق إلى قسمين رئيسين؛ القسم الأول: السياق الداخلي، ويشمل سابق الآية محلّ التفسير ولاحقها من آيات القرآن، وسياق السورة التي ترِد فيها الآية وسياق القرآن نفسه الذي تنتمي إليه السورة.

وأمّا السياق الخارجي فيشمل مرويات النزول وأحوال العرب والسِّيَر والمغازي والإسرائيليات ومرويات التاريخ العام مما يتصل بما طرَقَه النصّ القرآني من أحداث ووقائع»[4].

وقد خصصنا مقالتنا هذه بالنظر في المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق الداخلي للنصّ القرآني.

ويجدر بنا أن ننبّه على أنّ التفسير عملية مركّبة من عدّة عوامل تسهم في إنتاج ثمرته النهائية[5]، ونعني بذلك أنّ الصحابي مثلًا عندما يوظّف السياق في التفسير فيما يظهر لنا من خلال فهمنا لكلامه فإنه في الحقيقة لم يقتصر على توظيف السياق فقط، وإنما هناك موارد كامنة أسهمتْ كذلك في إنتاج الصحابي لهذا المعنى أو غيره؛ كاستخدامه للّغة فهو حتمًا قد وظَّف اللغة في إنتاجه لذلكم المعنى، بالإضافة إلى ما يظهر لنا من توظيفه للسياق، فهي عملية مركّبة، ولكن لا سبيل لنا إلى دراسة تلك الموارد سوى عن طريق إفراد كلّ موردٍ وحده من خلال جمع مروياته والنظر فيها.

وقبل أن نشرع في بيان أقسام المقالة نلمح إلى واقع دراسة تلك المسألة في الدراسات المعاصرة، ثم نبيّن أهمية سلوك الطريقة التي انتهجناها في دراستها من خلال ما يأتي:

أولًا: واقع دراسة مسألة أوجه توظيف السياق في التفسير:

لم نقف -فيما طالعناه- على دراسات خصّت هذه المسألة بالدراسة بصورة تطبيقية وَفق منهج اسقرائي منضبط، وجُلّ ما وقفنا عليه في الدراسات التي تناولَتْ هذه المسألة هي دراسات تناولَتْ دراسة السياق عند بعض المفسِّرين، معتمدِين في ذلك نظرة مجتزَأة للتفسير المعنيّ بالدراسة دون استقرائه كاملًا، بالإضافة إلى استحضار أُطُرٍ وتنظيراتٍ مُسبَقة عن السياق وقضاياه دون السماح للدراسة باستخراج منهج المفسِّر في تلك المسألة بصورة حقيقية[6]، وقد بينَّا أبرز إشكالات هذه الطريقة عند دراسة مناهج المفسِّرين بصورة عامة في مقالة مستقلّة[7].

إنّنا ومن خلال ما سبق يمكن لنا القول بأن دراسة أوجه توظيف السياق في التفسير في الدراسات المعاصرة قد جاءت بصورة مشكلة ومجافية عن التفسير، ما يجعلها لا تحقّق شيئًا كبيرًا، ولا تنظر أصلًا إلى التطبيقات الواقعية في كتب التفسير، وبالطبع تأتي نتائجها غير دقيقة، ولا تفتح آفاقًا يمكن مباحثتها والمراكمة عليها في التفسير نفسه أو الاستفادة منها في معرفة منهج المفسِّر وبناء أصول التفسير. وفيما يأتي نبيِّن أهمية دراسة أوجه توظيف السياق في التفسير وَفق الطريقة التي انتهجناها، والله الموفِّق.

ثانيًا: أهمية دراسة أوجه توظيف السياق في التفسير:

تعدّ مسألة أوجه توظيف السياق في التفسير من المسائل شديدة الأهمية، وتَبرُز أهميتها على عدّة أصعدة، أبرزها ما يأتي:

1- تحديد أوجه توظيف المفسِّر للسياق في التفسير بصورة دقيقة:

إنّ الاستقراء التامّ لكافة الروايات والمواضع التي وظَّف فيها المفسِّر السياق في التفسير يتيح لنا الوقوف بدقّة على هذه الأوجه، وتحديد أيّ هذه الأوجه أكثر حضورًا عند المفسِّر، ما ينعكس على اكتشاف وبيان كثير من المسائل المركزية في التفسير كمفهوم التفسير والحيثيات المكوّنة له في الكتب على اختلاف الأزمنة والمناهج والمقاصد.

2- معرفة منهج المفسِّر في توظيف السياق في التفسير:

إنّ من أبرز الانعكاسات على دراسة أوجه توظيف السياق في التفسير بصورة دقيقة عند المفسِّر أنها توقفنا على منهج المفسِّر وطريقته في هذا التوظيف بصورة واقعية من خلال تفسيره، بعيدًا عن تحكيم أيّ تنظيرات مسبقة لم تخرج من رحم كتابه، وبذلك نقف على المنهج الحقيقي للمفسِّر.

3- بناء أصول التفسير وقواعده:

يعدّ بناء أصول التفسير وقواعده مشغلًا من أهم المشاغل في حقل الدراسات القرآنية، وقد أبانَت بعض الدراسات عن وقوع إشكالات مركزية في بنائه المعاصر[8]، وإنّ دراسة أوجه توظيف المفسِّر للمصادر في تفسيره بصورة منهجية دقيقة لَمِن أهم الخطوات وأبرزها في الخطو إلى التأصيل الجيد والبناء الدقيق لأصول التفسير وقواعده حال القيام بها عند كافة المفسِّرين، وبخاصة المؤسِّسين والروّاد منهم في صناعة التفسير.

القسم الأول: أنوع المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير، وأساليبهم في ذلك:

بلغَت المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير (24) رواية[9]، وفيما يأتي نبيِّن أنواع تلك المرويات وأساليب الصحابة في توظيفهم للسياق فيها:

- أولًا: أنوع المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير:

تنوّعت المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير فبلغَت ثلاثة أنواع، وهي:

النوع الأول: سياق المقطع: والمقصود بهذا النوع توظيف الصحابي لسياق الآية في الجزئية التي وقعت فيها، وهو أكثر الأنواع مجيئًا في تفسير الصحابة، وقد بلغَت مروياته (12) رواية، أي ما تمثِّل نسبته (50%) من المرويات التي وظَّف الصحابة فيها السياق في التفسير.

ومن أمثلة هذا النوع ما جاء عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: «أعمى البصر أعمى القلب، يزعم أن قومًا يخرجون من النار، وقد قال الله -عزّ وجلّ-: ﴿‌وَمَا ‌هُمْ ‌بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾؟ فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها! هذه للكفار»[10].

النوع الثاني: سياق الآية نفسها: والمقصود بهذا النوع توظيف الصحابي لسياق الآية نفسها في التفسير، وبلغَت مروياته (6) روايات أي ما تمثِّل نسبته (25%) من المرويات التي وظَّف الصحابة فيها السياق في التفسير.

ومن أمثلة هذا النوع ما جاء عن أبي نضرة، عن جابرِ بن عبد الله رضي الله عنه، أو أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أو رجلٍ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: «في قوله -عزّ وجلّ-: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ ‌فَعَّالٌ ‌لِمَا ‌يُرِيدُ﴾ [هود: 107]، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله. يقول: حيث كان في القرآن: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ تأتي عليه»[11].

النوع الثالث: سياق الكلام المتصل بالآية: والمقصود بهذا النوع توظيف الصحابي لسياق الكلام الذي يأتي بعد الآية منفصلًا في آية مستقلّة لكنه متّصل بها من حيث المعنى، وقد بلغَت مروياته (6) روايات، أي ما تمثِّل نسبته (25%) من المرويات التي وظَّف الصحابة فيها السياق في التفسير.

ومن أمثلة هذا النوع ما جاء عن ابن عباس: «قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ‌هَلُوعًا﴾ [المعارج: 19]، قال: هو الذي قال الله: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 20- 21]، ويقال: الهلوع: هو الجزوع الحريص، وهذا في أهل الشرك»[12].

- ثانيًا: أساليب الصحابة في توظيف السياق في التفسير:

أشرنا إلى أن المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير بلغَت إجمالًا (24) رواية، وقد استخدم الصحابةُ في توظيف السياق في هذه المرويات أسلوبين رئيسين، هما:

الأسلوب الأول: التفسير باللحاق: والمقصود به المرويات التي وظّف الصحابة فيها ما يلحق الآية ويتلوها من آيات أخرى في التفسير، وهو أكثر الأساليب التي استخدمها الصحابة، وبلغت مروياته (21) رواية، أي ما تمثِّل نسبته (87,5%) من المرويات التي وظَّف الصحابة فيها السياق في التفسير.

ومن الأمثلة على هذا الأسلوب ما جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «﴿وَإِبْرَاهِيمَ ‌الَّذِي ‌وَفَّى﴾ [النجم: 37]، يقول: الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا. والذي في صحف موسى -عليه السلام-: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ ‌وِزْرَ ‌أُخْرَى﴾ [النجم: 38] إلى آخر الآية»[13].

الأسلوب الثاني: التفسير بالسباق: والمقصود به المرويات التي وظّف الصحابة فيها ما يسبق الآية من آيات أخرى في التفسير، وهو أقل الأساليب التي استخدمها الصحابة، وبلغت مروياته (3) روايات، أي ما تمثِّل نسبته (12,5%) من المرويات التي وظَّف الصحابة فيها السياق في التفسير.

ومن الأمثلة على هذا الأسلوب ما جاء عن يُسَيْعٍ الحضرمي قال: «كنت عند عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله -عز وجل-: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ ‌لِلْكَافِرِينَ ‌عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]، وهم يقاتلوننا فيَظهرون ويَقتلون؟ قال له عليٌّ رضي الله عنه: ادنُه، ادنُه! ثم قال: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ ‌لِلْكَافِرِينَ ‌عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]، يوم القيامة»[14].

القسم الثاني: أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير:

 أشرنا في القسم الأول إلى أنواع المرويات التي وظّف الصحابةُ فيها السياق في التفسير، وأساليبهم في ذلك، وفي هذا القسم نبيِّن ما ظهر لنا من أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير، وسنكتفي بالتمثيل لكلّ وجه من وجوه التوظيف بمثال واحد.

لقد تعدّدت أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير، ويمكننا أن نُرجِع هذه الأوجه إلى أربعة أوجه رئيسة، يمكن تشقيقها إلى أوجه أخرى أكثر دقة عند دراستها التحليلية، وبيان الأوجه الرئيسة -مرتّبة حسَب الأكثر- كما يأتي: 

الوجه الأول: بيان النسخوعدد المرويات الواردة فيه (13) رواية، ومن أمثلته ما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: «في قوله -عز وجلّ: ﴿‌وَعَلَى ‌الَّذِينَ ‌يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184] صائمًا، ثم إن شاء أفطر وأطعم لذلك مسكينًا، فنسختها هذه الآية: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]»[15].

الوجه الثاني: تحديد المرادوعدد المرويات الواردة فيه (7) روايات، ومن أمثلته ما جاء عن عكرمة قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل: أرأيت قوله تعالى: ﴿‌وَمَنْ ‌كَانَ ‌فِي ‌هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 72]، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لم تُصِب المسألة؛ اقرأ ما قبلها: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ﴾ [الإسراء: 66]،حتى بلغ: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فمَن كان أعمى عن هذا النعيم الذي قد رَأى وعَايَن، فهو في أمر الآخرة التي لم تُرَ ولم تُعايَن ﴿أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 72]»[16]، فقد وظَّف ابن عباس السياق هنا في تحديد المراد بالعمى الأول، وهو أنّ مَن عَمِيَ عن شُكر تلك النعم الواضحة للعيان والتي تقدَّم ذكرها في الآيات قبلها، فالذي لم يشكر المنعِم بهذه النعم سبحانه فإنه في أمور الآخرة وشأنها أعمى.

الوجه الثالث: رفع الإشكالوعدد المرويات الواردة فيه (3) روايات، ومن أمثلته ما جاء «عن ابن سيرين، أنّ ابن عباس شرِبَ لبنًا، ثم قام إلى الصلاة، فقال له مُطَـرِّف: ألَا تُمَضْمِضُ؟ قال: (لا أباليه، اسمَحْ يُسمَحْ لكم)، فقال رجل: إن الله يقول: ﴿مِنْ بَيْنِ ‌فَرْثٍ ‌وَدَمٍ﴾ [النحل: 66]، قال ابن عباس: وقد قال: ﴿لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ [النحل: 66]»[17]، وقد رفع ابن عباس هنا الإشكال الذي أورده مطرِّف مستدلًّا بالآية في أنّ شُرب اللبن يوجِب الوضوء لخروجه من بين فرثٍ ودم، فأجابه ابن عباس رافعًا هذا الإشكال بأنه وإن كان كذلك فإنّ الله أخبر أنه يخرج لبنًا خالصًا نقيًّا سائغًا سهلًا لذيذًا في شُربه، وبذلك يرتفع الإشكال الذي أورده مطرِّف بالنظر لسياق الآية.

الوجه الرابع: تأكيد المعنى: وجاء فيه رواية واحدة، فعن عبد الله بن عباس: «قوله: ﴿‌إِلَّا ‌مَنِ ‌ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: 27]، قال: هي معقِّبات من الملائكة يحفظون النبيَّ من الشيطان حتى يتبيّن الذي أُرسِل به إليهم، وذلك حين يقول: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾ [الجن: 28]»[18]، فهنا يُلحظ أن ابن عباس قد بيَّن معنى الآية الأُولى بأنّ الله سبحانه يُظهِر مَن ارتضَى وشاء من الرسل على ما يشاؤه سبحانه من الغيب، ثم يرسل حول ذلك الملَك الرسول حفظة رصدًا للشيطان وحزبه ليحفظوه حتى يتبيّن الذي أُرسِل به إليهم، ثم أكَّد ابن عباس هذا المعنى بسياق الآية التي تليها.

ويلحظ أنّ أكثر الأوجه ورودًا في توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير هو بيانُ النّسخ وبلغَت مروياته (13) رواية، ويليه تحديدُ المراد وبلغت مروياته (7) روايات، ثم رفعُ الإشكال وبلغت مروياته (3) روايات، ثم تأكيدُ المعنى وجاءت فيه رواية واحدة.

والرسم الآتي يوضح مقدار أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير: 

 

وقد جاء توظيف السياق في التفسير عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، والجدول الآتي يبيِّن مقدار الوارد عن كلّ واحد منهم، مرتبةً حسَب الأكثر:

م

اسم الصحابي

عدد المرويات

1

عبد الله بن عباس

22

2

عليّ بن أبي طالب

1

3

جابر بن عبد الله أو أبو سعيد الخدري أو غيرهما من الصحابة

1

المجموع الإجمالي

24


خاتمة:

سلّطنا الضوء في هذه المقالة على مسألة مركزية في مصادر التفسير، ألا وهي مسألة أوجه توظيف السياق في التفسير عند الصحابة رضي الله عنهم، وبينَّا أنواع المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير وأساليبهم في ذلك.

وقد بلغَت المرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير (24) رواية، وجاءت هذه المرويات على ثلاثة أنواع وهي: سياق المقطع، وسياق الآية نفسها، وسياق الكلام المتصل بالآية، وقد استخدم الصحابةُ في توظيف السياق في تلك المرويات أسلوبين، وهما: التفسير باللحاق، والتفسير بالسباق.

وبلغَت أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير أربعة أوجه رئيسة، وهي: بيان النّسخ، وتحديد المراد، ورفع الإشكال، وتأكيد المعنى.

وننبّه على أنّ ما ذكرناه في هذه المقالة إنما هو لَبِنة في دراسة أوجه توظيف الصحابة -رضي الله عنهم- للسياق في التفسير، وأن هذا الموضوع بحاجة إلى تكثيف للدراسات التحليلية حوله وتدقيق النظر في الأوجه التي ذكرناها، والتي يمكن تفريع بعضها إلى عدّة أوجه أكثر دقة، وكذا إعادة النظر فيها بصورة عامة من خلال الدراسة التحليلية المعمَّقة.

ومن خلال مقالتنا هذه ندعو المؤسّسات العلمية والبحثية والجامعات إلى العناية بدراسة أوجه توظيف السَّلَف بصورة عامة لمصادر التفسير دراسة تحليلية، وكذلك دراسة أوجه توظيف المفسِّرين لمصادر التفسير في تفاسيرهم، فهذه من المشاريع الرائدة شديدة الأهمية والتي تسهم بصورة كبيرة في تأسيس أصول التفسير ومعرفة مناهج المفسِّرين.

كما نرجو أن تكون هذه المقالات التي نسطرها حول أوجه توظيف مصادر التفسير عند الصحابة فاتحة خير لمزيد من البحوث والدراسات حول تفسير السَّلَف.

وصلى اللهُ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

 

[1] فضائل القرآن، للقاسم بن سلام، ص377.

[2] مجموع الفتاوى (15/ 94).

[3] ينظر: المفسرون من الصحابة جمعًا ودراسة وصفية، د/ عبد الرحمن المشدّ، إصدار مركز تفسير للدراسات القرآنية، عام 1437هـ= 2016م، (1/ 11- 34).

[4] اطلعت على مادة للباحث/ خليل محمود اليماني، لم تنشر بعد، ومنها نقلتُ هذه التقسيمات بتصرّف.

[5] وللتوسّع في معرفة هذه الفكرة يمكن الرجوع إلى: (منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ رصد لمرتكزات المنهج وجذوره، وتقويم لمنطلقاته وغاياته -محمد عناية الله أسَد سُبحاني أنموذجًا-) للباحث/ خليل محمود اليماني، وهو بحث منشور على موقع مرصد تفسير للدراسات القرآنية تحت الرابط الآتي: tafsiroqs.com/article?article_id=3871

[6] ومن هذه الدراسات ما يأتي:
- السياق القرآني وأثره في التفسير؛ دراسة نظرية وتطبيقية من خلال تفسير ابن كثير، للباحث/ عبد الرحمن عبد الله المطيري، وهي رسالة ماجستير غير مطبوعة، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، 1429هـ= 2008م.
- السياق القرآني في تفسير أبي السعود العمادي، للباحثة/ روان فوزان مفضي الحديد، وهي رسالة ماجستير غير مطبوعة، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، 2010م.
- السياق القرآني وأثره في التفسير؛ دراسة نظرية تطبيقية من خلال تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، للدكتور/ محمد عبد الوهاب الراسخ، وهو بحث منشور بحولية كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بطنطا بجامعة الأزهر، العدد الثامن، سنة 2016م، ص127- 196.

[7] وذلك من خلال مقالة بعنوان: (الطريقة الشائعة في دراسة مناهج المفسّرين؛ عرض وتقويم -كتاب منهج ابن عطية في تفسير القرآن الكريم للدكتور/ عبد الوهاب فايد أنموذجًا-)، وهي منشورة على موقع تفسير تحت الرابط الآتي: tafsir.net/article/5357

[8] ينظر: (تأسيس علم أصول التفسير قديمًا وحديثًا؛ قراءة في منهجية التأسيس، مع طرح مقاربة منهجية لتأسيس العلم) للباحث/ خليل اليماني، وهو بحث منشور على موقع تفسير تحت الرابط الآتي: tafsir.net/research/67
- (أصول التفسير في المؤلفات؛ دراسة وصفية موازنة)، إصدار: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- (التأليف المعاصر في قواعد التفسير؛ دراسة نقديّة لمنهجية الحكم بالقاعدية)، إصدار: مركز تفسير للدراسات القرآنية.
- ويمكن متابعة السجال الحاصل في قضية أصول التفسير ومناقشتها من خلال مطالعة المواد التي اشتمل عليها ملف أصول التفسير وقواعده من خلال الرابط الآتي: tafsir.net/article/5356

[9] ننبه هاهنا على أنّ العدد الكلي لما ورد في كتابنا (المفسِّرون من الصحابة) تحت عنوان تفسير القرآن بالقرآن قد جاء (268) رواية، ونظرًا لطبيعة الكتاب وتوسعه في أمور كثيرة من تفسير الصحابة فقد اشتملت الإحصائية المشار إليها فيه على كافة الروايات المشتملة على توظيف لآيتين أو أكثر عند الصحابة -رضي الله عنهم- بغضّ النظر عن نوع ذلكم التوظيف؛ ولذا جاءت متضمنة لأنواع عديدة منها النظائر القرآنية، والسياق، ومرويات الناسخ والمنسوخ وغيرها، وأمّا في مقالتنا هذه فقد خصصناها -كما هو واضح- بالمرويات التي وظّف الصحابة فيها السياق في التفسير فحَسْب؛ ولذا جاء عددها (24) رواية، ولا شك أن هذا الحصر يزداد دقة ووضوحًا في الدراسات التحليلية والتي نأمل عناية المختصين بها.

[10] أخرجه الطبري في جامع البيان (10/ 294) (11906).

[11] أخرجه عبد الرزاق في التفسير (2/ 198) (1251)، والطبري في جامع البيان (15/ 483) (18579).

[12] أخرجه الطبري في جامع البيان (23/ 611).

[13] أخرجه الطبري في جامع البيان (22/ 544).

[14] أخرجه الطبري في جامع البيان (9/ 327) (10714).

[15] أخرجه القاسم بن سلام في الناسخ، ص43 (59)، وابن أبي حاتم في التفسير (1/ 307) (1637)، والنحاس في الناسخ، ص95.

[16] أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2339) (13348)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى الفريابي (5/ 317).

[17] أخرجه عبد الرزاق في المصنّف (1/ 177) (686)، وابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2288) (12558).

[18] أخرجه الطبري في جامع البيان (23/ 672)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى: ابن أبي حاتم، وابن مردويه (8/ 309).

الكاتب

الدكتور عبد الرحمن المشدّ

حاصل على دكتوراه التفسير وعلوم القرآن من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وله عدد من المشاركات العلمية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))