عناية المفسرين بتوجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم

اعتنى العلماءُ بتوجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وغالبًا ما تتوجّه الأنظار في الرصد والتحليل إلى ما أُلّف استقلالًا في هذا الباب دون غيره، وهذه المقالة تسلِّط الضوء على عناية المفسِّرين خصوصًا في تفاسيرهم بتوجيه المتشابه، بعد التعريف بالمتشابه اللفظي وطرق التصنيف فيه.

مقدمة:

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإنّ من أجلّ العلوم التي عُنيت بالقرآن وإظهار كنوزه ودفع الشبهات عنه (علم المتشابه اللفظي)، الذي اهتم علماؤه بتوضيح سبب اختلاف التعبير القرآني من موضع لآخر، وإبطال مزاعم التكرار في النصّ القرآني، وإبراز بلاغة التعبير القرآني في كلّ موضع من المواضع.

وقد تصدَّى كثيرٌ من العلماء لتوجيه آيات المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وتعليل هذا التشابه وكتبوا في ذلك الكثير من المصنفات، وقد شارك المفسّرون في هذا الباب، بل وأكثر بعضُهم في توجيه مسائله، إلا أن جهودهم لم تحظَ بالرصد والتحليل كما سأبيّن؛ ولهذا فإنني سأحاول تسليط الضوء على جانب من عناية المفسِّرين بتوجيه المتشابه اللفظي عسى أن يكون ذلك داعية للتعريف بها وسبيلًا لفتح الباب لدراستها بشكلٍ موسّع، وهو ما ينعكس بالثراء على مسألة توجيه المتشابه ذاتها وكيفية التعامل معها.

وقبل الحديث عن هذا سألقي الضوء سريعًا على تعريف المتشابه اللفظي، وتوجيهه، وأبرز مَنْ صنّف فيه.

أولًا: تعريف المتشابه اللفظي:

يعدُّ الإمام (الزركشي) أول من عرَّف المتشابه اللفظي تعريفًا محددًا في كتابه (البرهان) حيث عرّفه بأنه: «إيراد القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء، وحكمته التصرّف في الكلام، وإتيانه على ضروب ليعلمهم عجزهم عن جميع ذلك مبتدأ به ومكررًا»[1].

وتناوله الإمام (السيوطي) في الوجه السادس في كتابه (معترك الأقران) وعرَّفه بأنه: «القصة الواحدة تَرِد في سورٍ شتى وفواصل مختلفة بأن يأتي في موضع واحد مقدّمًا وفي آخر مؤخّرًا، كقوله في سورة البقرة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}[البقرة: 58]، وفي سورة الأعراف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}[الأعراف: 161]»، ثم ذكر أمثلة متعدّدة على الآيات المتشابهات[2].

ومن الأقوال التي ذكرها ابن جرير الطبري في معنى المتشابه اللفظي: «هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرار في السور، بقصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني»[3].

قال د/ صالح الشثري: «المراد بالمتشابه اللفظي في القرآن: الآيات التي تكرّرت في القرآن الكريم في القصة الواحدة من قصص القرآن أو موضوعاته في ألفاظ متشابهة وصور متعددة، وفواصل شتى، وأساليب متنوعة، تقديمًا وتأخيرًا، وذكرًا وحذفًا، وتعريفًا وتنكيرًا، وإفرادًا وجمعًا، وإيجازًا وإطنابًا، وإبدال حرف بحرف آخر، أو كلمة بكلمة أخرى، ونحو ذلك. مع اتفاق المعنى العام؛ لغرض بلاغي، أو لمعنى دقيق يراد تقريره لا يدركه إلّا من آتاه الله علمًا وفهمًا لأسرار كتابه، وهي بحق كنزٌ ثمين من كنوز إعجازه وسرٌّ من أسرار بيانه»[4].

ثانيًا: التصنيف في علم المتشابه اللفظي:

انقسم التصنيف في علم المتشابه اللفظي إلى اتجاهين:

الأول: جمع آيات المتشابه اللفظي دون توجيه:

بدأ التصنيف في علم المتشابه اللفظي بجمع الآيات المتشابهات دون التوجيه، وبيان سبب الاختلاف بين الموضعين، وكان من أوائل ما صُنّف في هذا الشأن كتاب (متشابه القرآن) لعليّ بن حمزة الكسائي في القرن الثاني الهجري، وقد صرح فيه بهدفه من تأليفه قائلًا: «ليكون كتابنا هذا عونًا للقارئ على قراءته، وتقوية على حفظه»[5].

ولكن مع ظهور الطاعنين والقائلين بالتكرار في النصّ القرآني ظهر الاتجاه الثاني من التصنيف في علم المتشابه اللفظي، وهو:

الثاني: توجيه آيات المتشابه اللفظي:

فقد ذكر الإمام الإسكافي -أوّلُ مَن صنّف كتابًا مستقلًّا في توجيه المتشابه اللفظي- أنّ من أسباب تأليفه لدرة التنزيل: «ولطعن الجاحدين ردًّا، ولمسلك الملحدين سدًّا»، وفي نهاية الكتاب يقول: «هذا آخر ما تكلّمنا عليه من الآيات التي يقصد الملحدون التطرّق منها إلى عيبها»[6].

وقد وضح الإمام الكرماني في مقدمة كتابه: (البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان) =معنى توجيه المتشابه اللفظي، حيث قال: «ولكني أفردتُ هذا الكتاب لبيان المتشابه؛ فإنّ الأئمة -رحمهم الله تعالى- قد شرعوا في تصنيفه واقتصروا على ذكر الآية ونظيرتها، ولم يشتغلوا بذكر وجوهها وعللها والفرق بين الآية ومثلها»[7].

وقد وضع آيدين -محقِّق درة التنزيل- تصورًا لمراحل نشأة علم المتشابه اللفظي وتطورها، ولخّصها في أربع مراحل، وها هي بإيجاز شديد:

1. النشأة والتأليف؛ وذكر فيها كتاب الكسائي: (متشابه القرآن)، وكتاب ابن المنادي: (متشابه القرآن العظيم).

2. التوسّع في هذا الباب والتأليف.

3. حصر المتشابهات على أساس كلّ سورة سورة، بحسب ترتيب المصحف.

4. توجيه الآيات وبيان السبب[8].

وهذا المقال يدور حول علم توجيه المتشابه اللفظي؛ لذا لم نتطرق إلى الكتب التي عُنيت بجمعه دون توجيهه.

ومن هاهنا يمكننا أن نقسم المؤلفات التي اهتمت بتوجيه آيات المتشابه اللفظي إلى قسمين:

القسم الأول: كتب ركّزت على توجيه آيات المتشابه اللفظي في كتب مستقلّة أُلّفت في توجيه المتشابه اللفظي، ومن أشهر تلك الكتب:

- كتاب (درة التنزيل وغرة التأويل) لـلخطيب الإسكافي، وهو أهم كتاب في هذا الباب، وأول كتاب صُنّف في توجيه آيات المتشابه اللفظي.

- كتاب (البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان) لمحمود بن حمزة الكرماني.

- كتاب (ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل) لابن الزبير الغرناطي، وهو من أوسع الكتب التي تناولت الكثير من المواضع.

كتاب (كشف المعاني في المتشابه من المثاني) لبدر الدين بن جماعة.

- كتاب (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس من القرآن) للشيخ زكريا الأنصاري، وهو اختصار لكتاب (البرهان).

وقد قام د/ صالح الشثري بتناول هذه الكتب، والحديث عن أصحابها ومناهجهم، في رسالته: (المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية)[9].

القسم الثاني: توجيه آيات المتشابه اللفظي في كتب التفسير وعلوم القرآن التي اهتمت بهذا الأمر.

وقد اهتمت أغلب الدراسات الحديثة بالبحث في القسم الأول (كتب المتشابه اللفظي التي صُنّفت خصيصًا في توجيهه)، ولم تتطرق كثيرًا لجهود المفسرين ومناهجهم في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وهو أمر منطقي؛ إذ البحث في القضايا يتجه للتصانيف التي استقلّت بالكتابة فيه رأسًا، وأمّا جهود المفسرين فهي تأتي مفرقة في ثنايا كتبهم، ولكن هذا لا يمنع أبدًا من أن يكون لهم عناية وإضافات وتحريرات في تناول الموضوع تستحق أن تكون محل بحث، وهو ما سنشير إلى طرف منه في هذا المقال ومقالات أخرى لاحقة -بإذن الله- سأُبين فيها دور المفسرين في تلكم القضية بتوسّع وتفصيل.

المفسرون والعناية بتوجيه المتشابه اللفظي في القرآن:

للمفسرين دورٌ بارزٌ في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم. وقد تطرق محقِّق درة التنزيل د/ مصطفى آيدين إلى كتب التفسير التي تناولت بعض مسائل المتشابه اللفظي بالتوجيه.

يقول د/ مصطفى آيدين: «ويلحق بهذا النوع كتبٌ تعرَّض أصحابها -في بعض المواضع- للحديث عن توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، أثناء تفسير القرآن الكريم، أو ردّ شبهات الطاعنين، ولكنهم تناولوا هذا النوع من التوجيه بمنهج آخر، غير الذي لجأ إليه أصحاب الكتب المتخصصة في هذا الفنّ، من طرح سؤال وجواب.
ولا ننسى في هذا المقام التنبيه إلى أن هؤلاء قد يفوقون -وإن كان في قليل من المواضع- على تعليلات وتوجيهات أصحاب هذا الشأن، وقد أشرت إليها في هوامش الكتاب في كثير من الأحيان».

ومن تلك الكتب:

(تأويل مشكل القرآن) لابن قتيبة ت276هـ، و(جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري ت310هـ، و(معاني القرآن) لأبي جعفر النحاس ت338هـ، و(تنزيه القرآن عن المطاعن) للقاضي عبد الجبار بن أحمد ت415هـ، و(الكشاف) للزمخشري ت538هـ، و(المحرر الوجيز) لابن عطية ت542هـ، و(زاد المسير) لابن الجوزي ت597هـ، و(التفسير الكبير) للفخر الرازي ت606هـ، و(الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي ت671هـ، و(أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل) لمحمد بن أبي بكر الرازي صاحب مختار الصحاح توفي بعد سنة 691هـ، و(غرائب القرآن ورغائب الفرقان) للحسين بن محمد النيسابوري ت728هـ، و(لباب التأويل في معاني التنزيل) للخازن ت741هـ، و(البحر المحيط) لأبي حيان ت745هـ، و(الدر المصون في علوم الكتاب المكنون) للسمين الحلبي ت756هـ، و(تفسير القرآن العظيم) لابن كثير ت774هـ، و(بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي ت817هـ، و(الفتوحات الإلهية) المعروف بحاشية الجمل للشيخ سليمان بن عمر ت1204هـ، و(روح المعاني) للآلوسي ت1270هـ، و(تفسير التحرير والتنوير) لابن عاشور ت1393هـ[10].

كما قال محقّق كتاب البرهان للكرماني: «لقد وجدتُ أن بعض المفسرين -كأبي السعود وأبي حيان- تعرّضوا في قليل من المواضع للحديث عن المكرّر، ولكنهم عالجوه بمنهج آخر غير الذي لجأ إليه الكرماني. وإن كان قليل منها تفوّق على تعليلات الكرماني»[11].

«فإن كان هناك علماء اهتموا بتوجيه آيات المتشابه اللفظي في كتب مستقلة، مثل الإسكافي صاحب درة التنزيل الذي كان أول من قدّم كتابًا مستقلًّا في توجيه الآيات المتشابهات، وابن الزبير الثقفي الأندلسي فارس هذا الميدان صاحب ملاك التأويل الذي يُعتبر أوسع الكتب التي توسّعت في توجيه آيات المتشابه اللفظي، وكذلك الكرماني صاحب كتاب البرهان في متشابهات القرآن، وابن جماعة في كشف المعاني، والأنصاري في فتح الرحمن، فإن هناك من المفسرين مَن حرصَ على توجيه آيات المتشابه اللفظي أثناء تفسيرهم للآيات المتشابهات، أمثال: الزمخشري، والرازي، وأبي حيان، وأبي السعود، والآلوسي، وابن عاشور، وبعض المفسرين قد يفوقون في تعليلاتهم وتوجيهاتهم أصحاب الكتب التي استقلّت بالتأليف في المتشابه، بل نجد تأثر علماء المتشابه اللفظي بهم في كتبهم؛ كما تأثر الإمام ابن الزبير الثقفي الأندلسي بعدد من المفسرين في ملاك التأويل، ونقل رأي الرازي والزمخشري وغيرهم في بعض المواضع»[12].

ويمكننا القول أنه لا يكاد يخلو كتاب من كتب التفسير إلا وقد تطرق لتوجيه بعض آيات المتشابه اللفظي، بل حتى كتب التفسير بالمأثور لم تخلُ من توجيه بعض آيات المتشابه اللفظي؛ فنجد مثلًا ابن كثير يقول عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة: 150].

«هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض، وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات، فقيل: تأكيد؛ لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نصّ عليه ابن عباس وغيره، وقيل: بل هو منزل على أحوال، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة، والثاني لمن هو في مكة غائبًا عنها، والثالث لمن هو في بقية البلدان، هكذا وجّهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار، ورجح هذا الجواب القرطبي، وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق، فقال: أولًا: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة: 144]إلى قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 144]، فذكر أنه الحقّ من الله وارتقى عن المقام الأول، حيث كان موافقًا لرضا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فبيّن أنه الحقّ أيضًا من الله يحبه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتُبهم أنه سيُصرف إلى قبلة إبراهيم -عليه السلام- إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لمّا صُرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظِّمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها فخر الدين الرازي وغيره، والله -سبحان الله- أعلم»[13].

بل حتى التفاسير التي تنحو للاختصار وعدم التطويل يوجد بها توجيه بعض مسائل المتشابه اللفظي:

- فقد قال السعدي عند تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141]: «تقدّم تفسيرها، وكرّرها؛ لقطع التعلق بالمخلوقين، وأن المعول عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال»[14].

- أيضًا قال عند تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام: 1]: «وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها، وتنوع طرقها. ووحّد النور؛ لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة، لا تعدد فيها، وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام: 153]»[15]. فنوع المتشابه هنا متشابه بالجمع والإفراد، جمع (الظلمات) وإفراد (النور).

وفي ضوء عنايتي بالنظر في كتب التفسير ودورها في توجيه المتشابه اللفظي يمكنني القول: إن المفسرين ليسوا على درجة واحدة؛ فمنهم المكثر ومنهم المقلّ.

فمن المكثرين:

فخر الدين الرازي: يُعَدّ تفسيره (مفاتيح الغيب) من أوسع التفاسير التي تعرضت لتعليل أوجه المتشابه اللفظي، وربما أطال في بعض المواضع، وقد أخذ فريق من المفسرين بعده نصّ كلامه في ذلك وضمَّنوه في تفاسيرهم، كالآلوسي (أخذ منه الكثير من المسائل، وتعقّبه في بعضها)، وابن كثير وابن عاشور وغيرهم، وأخذ منه بعض علماء المتشابه اللفظي كابن الزبير وابن جماعة.

يقول صاحب (الاعتماد في الحروف المشكلة في القرآن الكريم): «وممن سلكوا هذا السبيل أيضًا الإمام الرازي في التفسير الكبير؛ إذ نلحظ حرصه الواضح على توجيه بعض المتشابهات، وخاصة ما جاء في الجزء الأول من سورة البقرة، فلا يكاد يترك موضعًا من مواضع التشابه في أول جزء إلّا ويبدي فيه رأيًا، وإن لم يجد فيه رأيًا تجده يفوّض علمه إلى الله تعالى»[16].

- الإمام الطاهر بن عاشور: يُعدّ تفسيره (التحرير والتنوير) من أنفسِ تفاسير المتأخرين التي تُعنى بالدقائق اللفظية والمباحث اللغوية والنحوية والبلاغية، وفيه ما لا يوجد في غيره من التفاسير على كثرتها.

ومن المقلِّين:

- الزمخشري: يُعدّ تفسيره (الكشّاف) من أهم التفاسير التي تعرّضت لبيان المتشابه وتوجيهه، وهو من المقلّين المقتصدين في التعليل، ولكن مع قلّة مسائل المتشابه اللفظي التي تناولها إلا أنها اتسمت بقوّة التوجيه حتى استمد منه كثير من المفسرين؛ كالرازي والبيضاوي والنسفي وأبي السعود والآلوسي وابن عاشور، وأخذ منه بعض علماء المتشابه اللفظي كابن الزبير توجيه العديد من المسائل.

الخاتمة:

سلّطنا الضوء في هذا المقال على عناية المفسرين بتوجيه المتشابه اللفظي، وقد تبيّن أن للمفسرين جهودًا واضحةً في إثراء علم المتشابه اللفظي وتوجيهه، فتوجيه المتشابه اللفظي ليس مقصورًا فقط على كتب المتشابه اللفظي التي صُنّفت خصيصًا فيه كما يعتقد بعضهم، بل هناك اهتمام به في كتب التفسير أيضًا، وهناك توجيهات قوية ذكرها المفسرون لبعض مسائل المتشابه اللفظي.

وفي ضوء ضعف العناية بجهود المفسّرين في توجيه المتشابه اللفظي وقلّة الدراسات التي اعتنت بها؛ فإنني سأحاول في المقالات التالية الحديث عن منهج بعض المفسّرين في توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وموقفهم من علماء المتشابه اللفظي، وما انفردوا به عنهم، وما أضافوه لعلم المتشابه اللفظي من توجيهات قوية تأثر بها مَن بعدَهم.

 

 

[1] البرهان في علوم القرآن، للزركشي، (1/ 112).

[2] ينظر: معترك الأقران في إعجاز القرآن، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، (1/ 68)، ترجمة رقم: (73).

[3] تفسير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، للطبري، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، (3/ 174).

[4] المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، لصالح الشثري، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة، (ص13).

[5] يُنظر: متشابه القرآن، للكسائي، تحقيق: د/ محمد محمد داود، دار المنار للنشر والتوزيع، (ص40).

[6] يُنظر: درة التنزيل وغرة التأويل، تحقيق ودراسة: مصطفى آيدين، (1/ 138)، ط1، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.

[7] البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان، للكرماني، تحقيق: السيد الجميلي، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، (ص12).

[8] يُنظر: درة التنزيل وغرة التأويل، تحقيق ودراسة: مصطفى آيدين، (1/ 64-68)، ط1.

[9] المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية، ص13-108.

[10] درة التنزيل وغرة التأويل، (1/ 82-85) باختصار.

[11] البرهان في توجيه متشابه القرآن، للكرماني، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، (مقدمة/ 14).

[12] توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم بين تفسير الرازي وتفسير الآلوسي؛ دراسة مقارنة، ص22، رسالة ماجستير، الباحثة: ريم عبد الفتاح، كلية الآداب- جامعة المنوفية، 1441هـ.

[13] تفسير ابن كثير، (1/ 463)، تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة، الطبعة الثالثة.

[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار العقيدة، الطبعة الثانية، (ص71).

[15] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، (ص347).

[16] الاعتماد في الحروف المشكلة في القرآن الكريم، للشريف أبي إسماعيل موسى بن الحسين المعروف بالمَعدَّل، تحقيق: عبد الله عبد القادر، دار الكتب العلمية، بيروت، ص44، 45.

الكاتب

ريم عبد الفتاح

حاصلة على ماجستير اللغة العربية تخصص الدراسات الإسلامية.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))