قراءة أبي جعفر: {بما حفظ اللهَ}
نظرات في توجيه القراءة، مع طرح توجيه جديد

قرأ الإمامُ أبو جعفر: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهَ} بنصب اسم الجلالة، يستعرض هذا المقالُ توجيهات العلماء لهذه القراءة ويناقشها، ويقترحُ توجيهًا جديدًا لها.

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:

  فإنَّ إزالةَ الالتباس ورفع الإشكالات الواردة على بعض القراءات القرآنية العشرية ودفع إيهام التعارض بينها؛ واجبٌ على المفسّرين، وهو ثَغْرٌ عظيم الخطر إن لم يُقَمْ عليه بحقِّه نفذ منه المشكِّكون والطاعنون في وثاقة نقل القرآن الكريم وصحّته.

ومعلوم أنَّ للقراءة الصحيحة المقبولة ثلاثة أركان: الأول: صحة السند. والثاني: موافقة الرسم ولو تقديرًا. والثالث: موافقة العربية ولو بوجهٍ من الوجوه الفصيحة المقبولة.

ومن مشكل القراءات الواردة في قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[النساء: 34].

فقد قرأ الجمهور اسم الجلالة بالرفع على أنه فاعل، وقرأ أبو جعفر بالنصب[1]. وهي قراءة مُستشكلة ردَّها أئمة كبارٌ كالطبريّ[2]، وصنَّفها ابن جنّي في الشواذّ[3].

وفي هذه المقالة نحاولُ إلقاء الضوء على هذه القراءة الـمُستشكَلة، والانتصار لها بما يرفع الالتباس، ويدفع الاعتراض بإذن الله.

وقبل أن نَلِجَ إلى صلب المقالة نمهِّدُ باستعراضٍ مختصرٍ لتفسير الآية مع توجيه قراءة الجمهور، ثُم ننتقل إلى ما قيل في توجيه قراءة أبي جعفر، ومن ثَمّ نعرض التوجيه الذي تقترحه هذه المقالة.

أولًا: المعنى الإجماليُّ للآية وتوجيه قراءة الجمهور:

قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[النساء: 34]. يقول تعالى: الرجال يقومون على رعاية النساء وتوجيههنَّ وتأديبهنّ بما خصَّهم اللهُ وفضَّلهم به من خصائص القوامة، وبما أوجب عليهم لهنَّ من المهور والنفقات. فالصالحات من النساء مطيعاتٌ لله تعالى ولأزواجهنَّ، حافظاتٌ لأنفسهن عند غَيْبة أزواجهن عنهنَّ في فروجهنَّ وأموالهم، وللواجب عليهنَّ من حقّ الله في ذلك. وأمَّا اللاتي يترفّعن عن الامتثال لأمر الله في حقّ الزوج من الطاعة وحسن العشرة فعظوهنَّ وذكِّروهنّ بالله، فإن لم يستجبْنَ فاهجروهنَّ في الفراش بترك جماعهنَّ، فإن لم ينزجرنَ بذلك فاضربوهنَّ ضرب تأديبٍ بشروطه. فإن آتى أيٌّ من ذلك ثمرته ورَجعْنَ إلى طاعتكُم؛ فاحذروا ظلمهنَّ، فإنَّ الله تعالى هو العليُّ الكبير، وهو منتقم لمن ظلمهنَّ وبغى عليهنّ[4].

وقوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}[النساء: 34]، إمّا أن تكون (ما) مصدرية، ويكون المعنى: أنَّ الصالحات حافظاتٌ للغيبِ بحِفْظِ اللهِ إيّاهنَّ، أيْ: بأنْ حفِظَهُنَّ اللهُ، ووفَّقَهُنَّ أن يكنَّ حافظاتٍ، ولا يتيسّر لهنَّ الحفظ إلّا بتوفيق الله، ولو خذَلَهُنَّ لم يكنَّ كذلك[5]. والحفظ -على هذا المعنى- هو الحفظ الكونيُّ.

وإمَّا أن تكون (ما) موصولة، والمعنى: بالذي حَفِظَهُ اللهُ لهنَّ، والعائد ضمير المفعول، أيْ: يجب أن يكنَّ كذلك؛ قيامًا بحقِّ ما أوجبه الله لهنَّ على الرجال من المهر والنفقة وحسن العشرة. ومعنى هذا أنَّ الله راعاهُنَّ في حقوقهنّ، وأوصى بهن إلى الأزواج، فعليهن في مقابله الحفظُ للغيب وطاعةُ اللهِ والزوج[6]. فقوله: {بِمَا حَفِظَ اللهُ} يجري مجرى ما يقال: هذا بذاك، أيْ: هذا في مقابلة ذاك[7]. والباء فيه للعِوَض. ويجوز أن تكون للسببية.

فهذا مما حفظه -سبحانه وتعالى- لهنَّ، وهو من جملة الأسباب الشرعية والكونية التي قدّرها اللهُ سبحانه لحفظهنَّ.

ويصح أن يكون المعنى: بما حفظهنَّ حين وعدهنَّ الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهنَّ بالعذاب الشديد على الخيانة[8].

ويصحُّ أن يكون: بما حفظ اللهُ عليهنَّ للأزواج من رعاية الغَيْبة، فالمرأة مستحفظة على عِرضها ومال زوجها وولده، فهو من الاستحفاظ الشرعي التكليفيّ. ويكون المعنى: أنهنَّ حافظات للغيبِ بالشرع الذي استحفظهنَّ الله عليه. وتكون الباء فيه للاستعانة والواسطة. وذهب ابن عاشور أنها للملابسة؛ أي: أنهن يحفظن أزواجهنّ حفظًا مطابقًا لأمرِ الله تعالى[9]، والمعنى قريب.

ثانيًا: التوجيهات المذكورة لقراءة أبي جعفر؛ عرضٌ وتحليلٌ:

استُشكلت قراءة أبي جعفر بخفاء الفاعل، وبما يؤول إليه المعنى من أنَّ الله -عز وجل- يُنسبُ حفظه إلى أحد، وإنما هو على كلّ شيء حفيظٌ[10].

قال الطبري: «الصواب من القراءة في ذلك ما جاءت به قراءة المسلمين من القراءة مجيئًا يقطع عُذر مَن بلغه، ويثبت عليه حجته؛ دون ما انفرد به أبو جعفر فشذَّ عنهم. وتلك القراءة ترفع اسم الله -تبارك وتعالى-: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}[النساء: 34]، مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب، وقبح نصبه في العربية؛ لخروجه عن المعروف من منطق العرب؛ وذلك أنَّ العرب لا تحذف الفاعل مع المصادر من أجل أنَّ الفاعل إذا حُذف معها لم يكن للفعل صاحبٌ معروف»[11].

أمَّا إشكال المعنى، وهو أنَّ الله -عز وجل- لا يُنسب حفظه إلى أحد؛ فأُجيب عنه بتقدير محذوف؛ قال ابن جني: «هو على حذف المضاف؛ أي: بما حَفِظَ دينَ الله وشريعة الله وعهود الله... وحَذْفُ المضاف في القرآن والشعر وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة»[12].

وللعلماء في تقدير الفاعل قولان:

الأول: أن يكون تقدير {بما حفظَ اللهَ}؛ أي: بالأمر الذي يحفظُ حقَّ الله، وحقُّ الزوج تبعٌ له، فيكون العائد هو ضمير الفاعل.

قال أبو جعفر النحّاس: «والنصب بمعنى: [حافظات] بالشيء الذي حفظَ اللهَ، أي: بالدين أو العقل الذي حفِظَ أمرَ الله»[13].

قال الزمخشري: «وقرئ {بِما حَفِظَ اللَّهَ} بالنصب على أنّ (ما) موصولة، أي: حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حقَّ اللَّه وأمانة اللَّه، وهو التعفُّف والتحصّن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم»[14].

وقال ابن عطية: «وفي {حَفِظَ} ضمير مرفوع، والمعنى: حافظات للغيب بطاعةٍ وخوفٍ وبرٍّ ودين، حَفِظْنَ اللهَ في أوامره حين امتثلْنَها»[15].

ولم يرتضِ الفرّاءُ هذا القول، قال: «فنَصْبُه على أن يُجعل الفعلُ واقعًا، كأنك قلت: حافظات للغيب بالذي يحفظُ اللهَ، كما تقول: بما أرضى اللهَ، فتجعل الفعل لـ(ما)، فيكون في مذهب مصدر، ولست أشتهيه؛ لأنه ليس بفعلٍ لفاعلٍ معروف، وإنما هو كالمصدر»[16].

وبه قـبّح الطبريّ قراءة النصب؛ قال: «وقبح نصبه في العربية؛ لخروجه عن المعروف من منطق العرب؛ وذلك أنَّ العرب لا تحذف الفاعل مع المصادر من أجل أنَّ الفاعل إذا حذف معها لم يكن للفعل صاحبٌ معروف»[17].

ويزيد إبهام الفاعل الذي أومأ إليه أنَّ الأمرَ أو الشيء المقدّر لا يَحفظُ حدودَ الله، فليس فاعلًا في الحقيقة، ولكن إنْ فعَلَه الـمُكلَّف صار بفعله حافظًا لحقِّ الله وحدوده.

وفكُّ إبهام الفاعل مع وجوب تقدير المضاف في {حَفِظَ اللهَ} يجعل المحذوف منه أكبر من مجرّد المضاف، فلا بدَّ فيه من التقدير الكثير، ولذلك لم يرتضِه مَن ضعّفه.

فكأنَّه قيل: حافظاتٌ بخُلقٍ إذا تخلَّقن به يكنَّ حافظاتٍ، أو: حافظاتٌ بأمر أوجبه الله عليهنَّ إذا فعلْنَه حُفِظَ حقُّ الله وأمانةُ الله، أو: حافظات بتخلُّقهنَّ بالخُلُق الذي إذا تخلَّق به صاحبه صار حافظًا لحقِّ الله. أو نحو ذلك من التقدير.

الثاني: أن يُقدَّر ضمير فاعل محذوف: أي: بما حفظْنَ اللهَ، قال النحّاس: «وقيل: التقدير بما حفظنَ الله ثم وحّد الفعل»[18].

وهو وجهٌ ضعيف؛ فإنَّ حَذْف الضمير من مثل هذا قبيح؛ لا يجوز إلّا في ضرورة الشعر؛ كما قال الأعشى:

فإِمَّا تَرَيْنِي ولِي لِـمَّةٌ .. فإنَّ الحوادثَ أودَى بها

يريد أَوْدَيْنَ بها[19].

وقال أبو حيان: «والأحسن في هذا ألّا يقال: إنه حذف الضمير، بل يقال: إنه عاد الضمير عليهنّ مفردًا، كأنه لوحظ الجنس، وكأنّ الصالحات في معنى مَن صلح، وهذا كلّه توجيه شذوذ أدَّى إليه قول من قال في هذه القراءة: أن (ما) مصدرية. ولا حاجة إلى هذا القول، بل يُنزَّه القرآن عنه»[20].

ثالثًا: القول الذي تقترحه هذه المقالة:

والذي أذهب إليه في هذه المقالة قولٌ ثالث لم أقف على أحدٍ نوّه به. وذلك أن يكون الضمير في {حَفِظَ} عائدًا إلى الزوج، أي: حافظات للغيب بما حفظ الزوجُ حقَّ الله -عز وجل-.

فإن قيل: لم يسبق ذكرٌ للزوج؛ قلتُ: في التعبير بـ(الغيب) ما يشبه الذِّكرَ للزوج؛ فإنَّ معنى {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} أي: حافظات للزوج فيما غاب عنها فيه، فالغَيبة المقصودة هي غَيبة الزوج، وهو حاصل قول عامة السلف والمفسرين، وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}؟ قال: «حافظات للزوج»[21]، وعن مجاهد: للأزواج[22]، وعن السدي: حافظات لأزواجهنَّ في أنفسهنَّ[23].

وإذا كان عَوْد الضمير على غير مذكورٍ سائغًا وكثيرًا في القرآن واللغة، وشواهده أكثر من أن تُحصى؛ فإنَّ عَوْده على ما يُشبه المذكور أسوغُ وأجوزُ.

ويعضّده في هذا الموضع بخصوصه ما تلاه من قوله تعالى في السياق نفسه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}[النساء: 35]، قال الزمخشري: «والضمير للزوجين. ولم يجرِ ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء»[24].

وقال ابن عاشور: «وضمير {بينهما} عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداءً من قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}[النساء: 34]»[25]. فتعيُّن هذا التقدير هنا يسوّغه هناك. والله أعلم.

ومن أمثلة عود الضمير على غير مذكور؛ قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}[الواقعة: 83]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[القيامة: 26]، الضمير في (بلَغَت) لنَفْس الإنسان، والمعنى يقتضيها، وإن لم يتقدّم لها ذِكْر، لظهور أنَّ التي تبلغ الحلقوم أو التراقي هي الروح[26].

ومنه قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن: 26]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}[فاطر: 45]، الضمير للأرض؛ لقوة الدلالة عليه[27].

وقوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}[هود: 82]، فالضمير في (عاليها)، (وسافلها)، (وعليها) يعود على قرى قوم لوطٍ المفهومة من السياق، وإن لم يتقدَّم لها ذِكر[28]. وهذا في القرآن كثيرٌ جدًّا.

ويكون المقصود بحفظ الزوج للهِ مراعاته لحدود الله في زوجه، وتقدير المضاف في مثله وارد في فصيح الكلام من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «احفظ اللهَ يحفظك»[29].

وبهذا ينحلُّ الإشكالان: سواء ما عاد منهما للمعنى، أو ما عاد للإعراب، فلا حاجة للتقدير الكثير الذي يأتي على التوجيه الأول، ولا حاجةَ لتقدير المضمَر بما هو ضعيفٌ في العربية على التوجيه الثاني.

فإذا استقام هذا آلَ المعنى إلى تأويلين:

الأول: أنَّ على الزوجة الصالحة أن تُقابل حفظَ زوجها حقَّ الله فيها، ورعايته لها، بأن تحفظ حقَّ الله فيه. فكأنه يقول لهنَّ: احفظنَ الله في أزواجكُنَّ كما استحفظهم الله عليكنَّ. فهو إنشاء خرج مخرج الخبر.

وهذا التوجيه راجعٌ لمعنى أحد التوجيهات المذكورة لقراءة الجمهور، أي: يجب أن يكنَّ كذلك؛ قيامًا بحقِّ ما أوجب الله على الرجال حِفْظَه لهنَّ من المهر والنفقة وحسن العشرة. ومعنى هذا أنَّ الله راعاهنَّ في حقوقهنَّ، وأوصى بهنَّ إلى الأزواج فحفظوهنَّ، فعليهن في مقابله الحفظُ للغيب وطاعةُ الله والزوج. وتكون الباء فيه للعِوَض. ويجوز أن تكون للسببية.

 وليس له مفهوم مخالفة؛ لأنَّ السياق بيان ما للأزواج وما للزوجات، تدلُّ عليه الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النساء: 34]، ثم فَصَّل الله -عز وجل-، فَذكر ما أوجب عليهنَّ في مقابل ما أوجب عليهم، وهو مُلمِّحٌ ببعض حكمة التشريع، وهذا أدعى للمسارعة بالأداء. ولا يُفهم منه أن يتركَ أحدٌ بخصوصه ما عليه؛ لتقصير الطرف الآخر فيما عليه، وحقُّ أحدهما على الآخر هو حقٌّ لله تعالى بالمقام الأول؛ لأنَّه من شرعه، وصيانة حقّ الله واجبة على كلِّ حالٍ. فإذا كان الزوج قائمًا بما يجب عليه كان أدعى لأن تُبالِغ في القيام بما عليها.

الثاني: أنَّ الله -عز وجل- يخبر أنَّه يُيسِّر للمرأة الصالحة حِفْظَ زوجها بصلاحه، فهو من الحفظ الكوني. والباء فيه للسببية، أي: لأنَّ زوجها راعَى حقَّ الله وحدوده واتّقاه؛ يسَّر الله عليها أن تكون حافظةً كذلك، كما في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}[الكهف: 82]، فحَفظَ الله مالَهما بصلاح أبيهما؛ والإحسان جزاء الإحسان. ففيه إدماجٌ، بالتنبيه على أنَّ مما يتيسَّر به الحفظ على كلٍّ منهما =مراعاته حقَّ الله تعالى في زوجه.

فتكون قراءة الجمهور قد أومأت إلى أنَّ القيام بحقِّ الحفظِ منوطٌ بتوفيق الله، وتكون قراءة أبي جعفر قد أومأت إلى أنَّ أحد الأسباب الشرعية التي قد يجعلها الله سببًا لنيل هذا التوفيق هو الحفظ المتبادل منهما، ورعاية حدود الله عمومًا. والله أعلم.

ولا يمنع أن يكون الكلُّ مرادًا، فالنكات لا تتزاحم، والوجهان لا يتدافعان، كما استبان بهما التئام القراءتين وتكاملهما.

الخاتمة:

استهدفت هذه المقالة رفع الاستشكال ودفع الاعتراض على قراءة الإمام أبي جعفر: {بِمَا حَفِظَ اللهَ}[النساء: 34]، من خلال سبر أقوال العلماء في توجيه قراءة الجمهور وقراءة أبي جعفر، ومحاولة البناء على ذلك لاقتراحِ توجيهٍ جديد.

وإننا نرى أنَّ التوجيه المقترح في هذه المقالة بعَوْد الضمير على الزوج المفهوم من السياق قد تجاوز الإشكال الوارد على توجيه قراءة أبي جعفر بتقدير: حافظات بالشيء الذي حفظَ الله، وذلك لوضوح تقدير الفاعل في التوجيه المقترح، وعدم الحاجة للتقدير الكثير لرفع الإبهام الذي لا بدَّ منه هنالك.

كما تجاوز افتراض تقدير ضمير الإناث في {حَفِظَ}، وهو ما استقبحه أئمة المفسرين واللغويين؛ كابن عطية وأبي حيّان.

ومع تجنُّب التوجيه المقترح للإشكالات الواردة على التوجيهين القائمين لقراءة أبي جعفر، ومع جوابه على ما قد يردُ عليه من استشكالات؛ فلعلَّ المقالة تكون قد وُفّقت للانتصار لقراءة الإمام أبي جعفر، والردّ على المعترضين عليها. واللهُ الموفِّق.

وبعدُ؛ فهذه المعاني الكامنة في القراءتين مما يستبينُ به للمُنصِفِ إعجازُ القرآن الكريم في قراءاته. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كبيرًا.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

[1] انظر: النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، بتحقيق الدكتور الجكني (5/ 1669).

[2] تفسير الطبري، تحقيق التركي (6/ 694-695).

[3] انظر: المحتسب في تبيين وجوه شواذّ القراءات، لابن جني (1/ 188)، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

[4] انظر: تفسير الطبري (6/ 692)، والمختصر في التفسير (ص84)، والتفسير الميسَّر (ص84).

[5] انظر: تفسير الطبري (6/ 694)، والتفسير البسيط، للواحدي (6/ 489)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (2/ 47).

[6] انظر: معاني القرآن، للفراء (1/ 265)، والتفسير البسيط، للواحدي (6/ 488).

[7] التفسير الكبير، للرازي (10/ 71).

[8] انظر: الكشاف، للزمخشري (1/ 506).

[9] انظر: المحتسب في تبيين وجوه شواذّ القراءات، لابن جني (1/ 188)، والبحر المحيط، لأبي حيان (3/ 625)، والنشر في القراءات العشر (5/ 1669).

[10] التحرير والتنوير، لابن عاشور (5/ 41).

[11] تفسير الطبري (6/ 694-695).

[12] المحتسب في تبيين وجوه شواذّ القراءات، لابن جني (1/ 188)، وانظر: البحر المحيط، لأبي حيان (3/ 625).

[13] إعراب القرآن، للنحاس (1/ 212)

[14] تفسير الزمخشري (1/ 506)، وانظر: البحر المحيط، لأبي حيان (3/ 625)، والنشر في القراءات العشر، لابن الجزري (5/ 1669).

[15] المحرر الوجيز، لابن عطية (2/ 47).

[16] معاني القرآن، للفراء (1/ 265).

[17] تفسير الطبري (6/ 694-695).

[18] إعراب القرآن، للنحاس (1/ 212).

[19] انظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (2/ 47)، والبحر المحيط، لأبي حيان (3/ 625). وانظر: شرح أبيات سيبويه للسيرافي (1/ 325)، وللبيت روايات متقاربة، والضرورة فيه ضرورة قافية لا ضرورة وزن.

[20] البحر المحيط، لأبي حيان (3/ 625).

[21] تفسير الطبري (6/ 693).

[22] تفسير ابن المنذر (2/ 687).

[23] تفسير ابن أبي حاتم (3/ 941).

[24] تفسير الزمخشري (1/ 508)، وانظر: تفسير الرازي (10/ 75)، وأنوار التنزيل، للبيضاوي (2/ 73)، وتفسير النسفي (1/ 356)، والبحر المحيط (3/ 629).

[25] التحرير والتنوير، لابن عاشور (5/ 45).

[26] انظر: المحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 253)، التحرير والتنوير، لابن عاشور (27/ 343-344)، (29/ 357).

[27] انظر: الأمالي، لابن الشجري (ص59)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 251).

[28] انظر: روح المعاني، للآلوسي (12/ 118)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (12/ 134).

[29] جزء من حديث أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما. وصحّحه الترمذي والألباني.

الكاتب

الدكتور محمود عبد الجليل روزن

الأستاذ المساعد بقسم علوم وتقنية الأغذية بجامعة دمنهور - مصر، وحاصل على عالية القراءات، وله عدد من المؤلفات والبحوث العلمية المنشورة.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))