الأساليب العربية المتعلقة بعلم المعاني
وأثرها في التفسير (1- 2)

الأساليب العربية المتعلقة بعلم المعاني
وأثرها في التفسير (1- 2)[1]
تمهيد:
قبل أن أشرع في ذِكْر الأساليب المتعلّقة بعلم المعاني، وبيان أثرها في التفسير، لا بدّ لي أوّلًا أن أُعرِّف بهذا العلم، فأقول وباللهِ التوفيق.
علم المعاني:
عرَّفه السكاكي فقال: «اعلم أنّ علم المعاني هو: تتبُّع خواصّ تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذِكْره»[2].
وعرَّفه الخطيب القزويني بقوله: «وهو عِلْمٌ يُعْرَف به أحوالُ اللفظ العربي التي بها يُطابق مُقْتَضَى الحال»[3].
وعند النظر في تعريف هذين الإمامين يُلاحظ أنّ مفهوم عِلم المعاني عندهما يتلخص في أمرين:
أحدهما: معرفة أحوال اللفظ العربي، أو ما يُسَمَّى بخواصّ تراكيب الكلام كالفصل والوصل، والإيجاز والإطناب، وغيرها[4]، ويدخل في ذلك معرفة المعنى الجديد للّفظ، وذلك أنّ الكلام يفيد بأصل وضعه معنًى حقيقيًّا أصليًّا؛ ولكنه قد يخرج أحيانًا عن المعنى الذي وُضع له أصلًا إلى معنى جديدٍ يُفْهَم من السياق، فمثلًا أسلوب الأمر قد يخرج عن أصل وَضْعه إلى التهديد والوعيد، وأسلوب النهي إلى الدعاء، وأسلوب الاستفهام إلى التعجب، وما شابه ذلك[5].
الثاني: مطابقة الكلام لمقتضَى حال المخاطب وقدراته العقلية والعِلمية.
وبعد معرفة حدود عِلْم المعاني آتِي إلى ذِكْر الأساليب العربية المتعلقة بهذا العلم، وبيان أثرها في التفسير، أسألُ الله التوفيق والسداد.
الأسلوب الأول: (إخراجُ الكلام بلفظِ الأمر والمرادُ منه النهي أو التهديد والوعيد)[6]:
أولًا: توضيح الأسلوب:
الأمر عند العرب ما إذا لم يفعله المأمور به سُمِّي عاصيًا[7]، بمعنى أنه يَستدعي الفعل وجوبًا؛ ولكنه قد يخرج عن معناه الأصلي في لغة العرب إلى معانٍ أخرى كثيرة -تُعرَف هذه المعاني من خلال السياق أو من دليلٍ آخر- كالندب، والتأديب، والإباحة، والدعاء، وغير ذلك[8]، ومن تلك المعاني: النهي أو التهديد والوعيد؛ مبالغةً في الزجر، وتحذيرًا مِن فعل المأمور به.
ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ فَلْيَتْرُكْهَا)[9].
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فلْيَأْخُذْهَا أو فلْيَترُكْهَا)، مبالغة في التهديد والزجر، والنهي عن أخذِ حقوق الناس، وليس معناه التخيير[10].
ثانيًا: صِيَغ الأسلوب:
وردت صيغة واحدة لهذا الأسلوب عند الطبري، وهي:
«العرب تُخرِج الكلام بلفظ الأمر، ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد»[11].
ثالثًا: دراسة الأسلوب:
لقد عمل أهل اللغة والتفسير بهذا الأسلوب وأشاروا إليه، ومن هؤلاء:
1- أبو عبيدة (ت: 210هـ):
قال عند قوله تعالى: ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 34]: «مجازه مجاز التّوعُّد والتهدد، وليس بأمر طاعة ولا فريضة»[12].
2- ابن قتيبة (ت: 276هـ):
قال في (باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه): «...ومنه أن يأتي الكلام على لفظ الأمر وهو تهديد، كقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: 40]»[13].
3- الزجّاج (ت: 311هـ):
قال: «الأمر على ضربين: أحدهما: متبع لا غير[14]، والثاني: إذا تقدّمه نهي عمّا يؤمر به فالمعنى في الأمر الوعيد والتهديد؛ لأنك قد تقول: لا تدخُلنَّ هذه الدار، فإذا حاول أن يدخلها قلت: ادخلها وأنْتَ رَجُلٌ، فَلَسْتَ تَأمُرُه بدخولها، ولكنك تُوعِدُه وتُهَدِّدُه، وهذا في اللغة والاستعمال كثير موجود، ومثله في القرآن: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: 40]، وقد نُهوا أنْ يَتَّبِعُوا أهْوَاءَهُم وأن يَعملوا بالمعاصي»[15].
رابعًا: الأمثلة التطبيقية:
وردَت أمثلة لهذا الأسلوب عند الطبري، منها:
1- قوله جلّ ثناؤه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3].
قال الطبري: «وإنْ خِفتم ألا تقسطوا في أموال اليتامى فتَعدِلوا فيها، فكذلك فخافوا ألّا تُقسِطوا في حقوق النساء اللاتي أوجبها اللهُ عليكم، فلا تتزوّجوا منهنّ إلا ما أَمِنْتُم معه الجَوْر، مثنى وثلاث ورباع... فإنْ قال قائل: فإنّ مِن قولك: إنّ أمْرَ الله ونهيَه على الإيجاب والإلزام حتى تقوم حُجّة بأنّ ذلك على الندب والإرشاد أو الإعلام، وقد قال تعالى ذِكْره: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، وذلك أمرٌ، فهل من دليل على أنه من الأمر الذي هو على غير وجه الإلزام والإيجاب؟ قيل: نعم، والدليل على ذلك قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾، فكان معلومًا بذلك أنّ قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾، وإِن كان مَخْرَجُه مخرج الأمر، فإنه بمعنى الدَّلالة على النهي عن نكاح ما خاف الناكحُ الجَوْر فيه من عدد النساء، لا بمعنى الأمر بالنكاح، وأن المعنيَّ به: وإنْ خِفتم ألا تقسطوا في اليتامى فتَحرَّجتم فيهم، فكذلك فتَحرَّجُوا في النساء، فلا تَنكحوا إلا ما أمِنتُم الجَوْر فيه منهنّ، ما أحْلَلْتُه لكم من الواحدة إلى الأربع، وقد بينّا في غير هذا الموضع بأنّ العرب تُخْرِجُ الكلام بلفظ الأمر، ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جلّ ثناؤه: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، وكما قال: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 55]، فخرج ذلك مخرج الأمر، والمقصود به التهديد والوعيد، والزجر والنهي»[16].
2- قوله جلّ ذِكْره: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180].
ذكر الطبري معنى الآية، ثم ذكر قول ابن زيد في قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾: إنها منسوخة بآية القتال[17]، وردّه الطبري بقوله: «ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ؛ لأنّ قوله: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾، ليس بأمر من الله لنبيّه بترك المشركين أن يقولوا ذلك، حتى يَأْذَنَ له في قتالهم، وإنما هو تهديد من الله للملحدين في أسمائه، ووعيد منه لهم، كما قال في موضع آخر: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾ الآية [الحجر: 3]، وكقوله: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 66]، وهو كلامٌ خَرَجَ مَخْرَج الأمر بمعنى الوعيد والتهديد، ومعناه: إن نُمهِل الذين يلحدون يا محمد في أسماء الله إلى أجلٍ هم بالغوه، فسوف يُجزَون -إذا جاءهم أجلُ الله الذي أجلهم إليه- جزاء أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر بالله، والإلحاد في أسمائه، وتكذيب رسوله»[18].
3- قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ [الكهف: 29].
قال الطبري: «يقول تعالى ذِكْره لنبيّه محمد -صلى الله عليه وسلم-: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا واتَّبعوا أهواءَهم: الحق أيها الناسُ من عند ربكم، وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء منكم للرَّشاد فيُؤمِن، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيَكْفُر، ليس إليَّ من ذلك شيء، ولستُ بطاردٍ لهواكم مَن كان للحقّ مُتَّبِعًا، وبالله وبما أُنزل عليَّ مؤمنًا، فإن شئتم فآمِنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعدَّ لكم ربُّكم على كفركم به نارًا أحاط بكم سُرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته، فإنّ لكم ما وصف اللهُ لأهل طاعته... وليس هذا بإطلاق من الله الكفرَ لمن شاء، والإيمان لمن أراد، وإنما هو تهديد ووعيد، وقد بَيَّن أنّ ذلك كذلك قوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾، والآيات بعدها»[19].
خامسًا: أثره في التفسير:
يتجلَّى أثر هذا الأسلوب في الخلاف بين أهل العلم، وفي ردّ دعوى النَّسْخ لبعض الآيات، وفي الردّ على بعض الفِرَق المنحرفة عن مذهب السلف، وإليك بيان ذلك:
ففي المثال الأول: يتّضح أثر هذا الأسلوب في اختلاف أهل العلم في حكم النكاح الذي في قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 3]، وما شابه ذلك من النصوص الدالّة على الأمر.
فمَن تمسّك بظواهر هذه النصوص، قال إنّ النكاح واجب؛ لأنّ الأمر يدلّ على الوجوب، وبه قال أهل الظاهر[20].
ومن رأى أن الأمر خرج عن معناه الأصلي إلى معنى آخر -كما تفعله العرب عند وجود القرائن الدالة على ذلك- لم يقل بوجوب النكاح، وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسِّرين؛ ولكنهم اختلفوا في معنى الأمر الذي في الآية.
فيرى الطبري أنّ معناه النهي والزجر والتهديد، فيكون المعنى: فلا تنكحوا إلا ما أمِنتُم الجَوْر فيه منهنّ، ما أحْلَلْتُه لكم من الواحدة إلى الأربع[21].
ومنهم من قال: إنّ الأمر للإباحة، وهذا ما ذهب إليه الرازي[22].
ومنهم من قال: إنه نَدْبٌ لقوم، وإباحةٌ لقوم آخرين، بحسب قرائن المرء، وهذا ما ذهب إليه ابن عطية[23].
ومنهم من قال: إنه للإرشاد، وهذا ما ذهب إليه الطاهر بن عاشور[24].
وفي المثال الثاني: يتبيَّن أثر هذا الأسلوب في ردّ دعوى النسخ لقوله عزّ ذِكْره: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، وذلك أنّ ابن زيد ادّعى أن الآية منسوخة بآية القتال، ووافقه على ذلك ابن أبي زمنين[25] وابن حزم[26].
فيُقال: إنّ الآية محكمة غير منسوخة، وإنما خرجت مخرج التهديد والوعيد، جريًا في ذلك على سنن العرب وأساليبهم من إيراد الأمر والمقصود به التهديد والزجر، وهذا ما ذهب إليه الطبري، وهو مذهب الجمهور[27].
ومما يؤيّد هذا القول -أعني القول بعدم النَّسْخ- أنّ أهل العلم يذكرون من شروط النَّسْخ المعتبرة عدم إمكان الجمع بين الدليلَيْن؛ لأنّ إعمالهما أَوْلَى من القول بالنَّسْخ، ومتى كان الجمع ممكنًا لم يكن أحدهما ناسخًا للآخر[28]، وهنا أمكن الجمع بينهما من خلال إعمال هذا الأسلوب العربي، والله أعلم.
وفي المثال الثالث: يظهر أثر هذا الأسلوب في الردّ على طائفة منحرفة عن مذهب السلف، وهي المعتزلة القدرية[29]، وذلك أنها استدلّت بقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، على تخيير العبد بين الإيمان والكفر، وأنه يختار منهما ما يشاء[30]. فيقال: إنّ صيغة الأمر في الآية ليست للتخيير، وإنما خرجت مخرج التهديد والوعيد كما تفعله العرب عند إرادة المبالغة في التهديد والزجر.
يقول يحيى العمراني ردًّا على استدلالهم: «وأمّا قولهم إنّ الله خيَّرهم بين الإيمان والكفر، فهذا جهل منهم بصيغة الأمر وحِكمته، فيُقال لهم: لو كان هذا تخييرًا من الله لهم لم يُعذِّبهم على الكفر ولم يُذَمُّوا عليه، كما لا يُعَذَّبون ولا يُذَمُّون على التكفير بالإطعام أو الكسوة أو العتق لما خيرهم الله بذلك[31]، ويقال لهم: المراد بهذا الأمر التهديد لا التخيير»[32].
وكذا يظهر أثر هذا الأسلوب في الردّ على من ادّعى أنّ الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30]؛ لأنها دالّة على التخيير في زعمه، وهذا ما ذهب إليه السدّي[33].
فيُقال: إنّ هذه الآية مُحْكمة غير منسوخة؛ لكونها جرت على سنن العرب في الكلام، وليست للتخيير[34]، فالقول بهذا أَوْلَى من الحكم بالنسخ؛ لأن فيه إعمالًا للدليلَيْن، وإعمالهما أَوْلَى من طرح أحدهما، والله الموفق.
الأسلوب الثاني: (إدخالُ أدواتِ الاستفهام في الكلام بمعنى الاستثبات أو النفي، ولا تُدخل بمعنى الإثبات)[35]:
أولًا: توضيح الأسلوب:
المعروف في كلام العرب أنّ أدوات الاستفهام، وهي: (الهمزة، وهل، وما، ومن، وأي، وكم، وأين، وأنّى، ومتى، وأيّان)، إنما تأتي للاستثبات، وهو بمعنى الاستعلام والاستخبار، أي: طلب خبر ما ليس عندك، فتقول مثلًا: (ما عندك؟) و(مَن رأيت؟)، فأنت تستفهم وتستخبر عمّا لا تعلمه[36].
هذا هو حقيقة الاستفهام في كلام العرب، إلا أنهم قد يتوسّعون في كلامهم فيخرجون الاستفهام عن حقيقته إلى معانٍ أخرى، كالتعجّب والتوبيخ والتقرير وغيرها، تُفهم من سياق الكلام[37]، ومن هذه المعاني النفي، وهو بمعنى الجحد. ومن أمثلة ذلك ما قاله الكسائي: «سمعت العرب تقول: أينَ كنتَ لتنجو مِنّي! لأنّ المعنى: ما كنت لتنجو منّي، فأُدخل اللام في (أين)؛ لأن معناها جحدٌ»[38].
وعلى هذا فإنّ الاستفهام لا يأتي في الأكثر من كلام العرب بمعنى الإثبات الذي هو الخبر[39]؛ لأنّ حقيقة الاستفهام -كما تقدّم- استعلام واستخبار، وهو طلب من المخاطَب أن يُخبرك ويُعلمك بأمرٍ لا تعلمه، وحقيقة الخبر إعلام، وهو إعلام المخاطب أمرًا تعلمه في ماضٍ من زمان، أو مستقبل، أو دائم[40]، فبينهما تباين في أصل الاستعمال، وما وردَ من كونهما يتواردان على معنى واحد فهو على خلاف الأصل، والله أعلم.
ثانيًا: صِيغ الأسلوب:
وردَت صيغة واحدة لهذا الأسلوب عند الطبري، وهي:
«وحروف الاستفهام إنما تَدْخُل في الكلام؛ إمّا بمعنى الاستثبات، وإمّا بمعنى النفي، فأمّا بمعنى الإثبات، فذلك غير معروف في كلام العرب»[41].
ومن خلال النظر في هذا الأسلوب يتّضح أن الإمام الطبري يرى أن مجيء الاستفهام بمعنى الإثبات الذي هو الخبر، غير معروف في كلام العرب، أي: في الأكثر من كلامهم، ولا يمنع وروده أحيانًا على معنى الخبر خلافًا للأصل، ومما يؤيّد ذلك أنه في مواضع من تفسيره وجَّه الاستفهام فيها بمعنى الخبر، ومن أمثلة ذلك قوله:
«وأمّا قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]، فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبر؛ لأنه وقع موقع (أي)، كما تقول: لا نبالي أقُمتَ أم قعدتَ، وأنت مخبرٌ لا مُستفهِم»[42].
ثالثًا: دراسة الأسلوب:
لقد قرّر اللغويون والنحويون أن أصل الاستفهام -الذي هو بمعنى الاستخبار- طلب الفهم من المخاطب، وأن هناك فرقًا بينه وبين الخبر في أصل الاستعمال، ومن أولئك:
1- سيبويه (ت: 180هـ):
قال: «قولك: أزيد أخوك؟ إنما رفعته على ما رفعت عليه: زيد أخوك، غير أن ذلك استخبار، وهذا خبر»[43].
2- ابن السراج (ت: 316هـ):
قال: «وأصل الاستفهام بحروف المعاني؛ لأنها آلة، إذا دخلت في الكلام أعلمت أنّ الخبر استخبارٌ»[44].
3- ابن فارس (ت: 395هـ):
قال: «الاستخبارُ: طلب خُبْر ما ليس عن المستخبِر، وهو الاستفهام»[45].
وأمّا مجيء الاستفهام بمعنى النفي أو الجحد فقد قرّره كثير من النحويين واللغويين، وأكتفِي بذِكْر اثنين منهم:
1- الكسائي (ت: 189هـ):
قال: سمعت العرب تقول: «أين كنتَ لتنجو مِنّي! لأنّ المعنى: ما كنت لتنجو مِنّي، فأُدخل اللام في (أين)؛ لأنّ معناها جحدٌ»[46].
2- الفرّاء (ت: 207هـ):
قال: «وإذا استفهمتَ بشيء من حروف الاستفهام، فلك أن تدعه استفهامًا، ولك أن تنوى به الجحد، من ذلك قولك: هل أنت إلا كواحدٍ مِنّا؟ ومعناه: ما أنت إلا واحد منّا»[47].
رابعًا: الأمثلة التطبيقية:
وردَ مثالٌ واحدٌ لهذا الأسلوب عند الطبري، وهو:
قوله جلّ ذِكْره: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 106، 107].
قال الطبري بعد ذِكْره معنى الآية: «إنْ قال لنا قائل: أَوَلَمْ يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنه له ملك السماوات والأرض حتى قيل له ذلك؟
قيل: بلى، فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله -جلّ ثناؤه- خبر عن أنّ محمدًا قد علم ذلك؛ ولكنه أخرج الكلام مَخْرَج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضًا، فيقول أحدهم لصاحبه: ألم أُكرمْك؟ ألم أُفْضِل عليك؟ بمعنى إخباره أنه قد أكرمَهُ وأفضَل عليه، يريد أليس قد أكرمتُك؟ أليس قد أفضلتُ عليك؟ بمعنى: قد علمتَ ذلك.
قال: وهذا قول لا وجه له عندنا؛ وذلك أنّ قوله -جلّ ثناؤه-: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾، إنما معناه: أمَا علمتَ، وهو حرف جحد أُدخل عليه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنما تَدْخُل في الكلام؛ إمّا بمعنى الاستثبات وإمّا بمعنى النفي، فأمّا بمعنى الإثبات فذلك غير معروف في كلام العرب، ولا سيما إذا أُدخلت على حروف الجحد؛ ولكن ذلك عندي وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي، فإنما هو معنيٌّ به أصحابه الذين قال لهم الله -جلّ ثناؤه-: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ [البقرة: 104]، والذي يَدُلّ على أن ذلك كذلك قوله -جلّ ثناؤه-: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 107]، فعادَ بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم وقد ابتدأ أوّلها بخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ لأنَّ المراد بذلك الذين وصفتُ أمْرَهم من أصحابه»[48].
خامسًا: أثره في التفسير:
يتبيّن أثر هذا الأسلوب في الترجيح بين الأقوال، وذلك أن الإمام الطبري رجَّح أن يكون المعنيُّ بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 106، 107]، هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ظاهر الخطاب له ولكن المراد به أصحابه، ووافقه على ذلك القرطبي والبيضاوي[49].
وردّ الطبري قول من قال: إنّ ذلك خبرٌ من الله تعالى عن أن محمدًا قد علم ذلك، وكان استناده في ردِّه هذا القول هو ما عُرف عن العرب في كلامهم، وذلك أن الأكثر عندهم إدخال حروف الاستفهام بمعنى الاستثبات والاستخبار، ولا يدخلونها بمعنى الإثبات الذي هو الخبر.
الأسلوب الثالث: (إخراج الكلام على وجه الاستفهام أحيانًا، وعلى وجه الخَبَر أحيانًا، إذا كان بمعنى التَّعَجُّبِ والتَّوْبِيخ)[50]:
أولًا: توضيح الأسلوب:
تقدّم أنّ الاستفهام قد يخرجُ عن معناه الأصلي الذي هو طلب الفهم إلى معانٍ أخرى تُعرف من سياق الكلام، ومن هذه المعاني التعجُّب والتوبيخ، فإذا كان الكلام بمعنى التعجُّب والتوبيخ فإن العرب يتفنّنون في إخراج الخطاب؛ فتارةً يُخرجونه على وجه الاستفهام، فيقولون: أذَهَبْتَ ففعلتَ كذا وكذا؟
وتارة أخرى على وجه الخبر بطرح الاستفهام، فيقولون: ذهبتَ ففعلتَ وفعلتَ!
وكِلا الاستعمالين صواب وفصيح، ومعناهما جميعًا واحد، وهو التعجُّب والتوبيخ[51].
ثانيًا: صيغ الأسلوب:
وردَت ثلاث صيغ لهذا الأسلوب عند الطبري، وهي:
الصيغة الأولى: «والعربُ إذا وجَّهوا الاستفهام إلى التوبيخ أثبتوا ألِفَ الاستفهام أحيانًا، وطرحوها أحيانًا»[52].
الصيغة الثانية: «كلّ استفهام كان بمعنى التعجُّب والتوبيخ، فإنّ العرب تَستفهِمُ فيه أحيانًا، وتُخرجه على وجه الخبر أحيانًا»[53].
الصيغة الثالثة: «والعرب تَستفهِمُ بالتوبيخ، وتتركُ الاستفهام فيه»[54].
ثالثًا: دراسة الأسلوب:
قرّر علماء اللغة والتفسير هذا الأسلوب وأشاروا إليه، ومن هؤلاء:
1- الفرّاء (ت: 207هـ):
قال: «والعرب تَستفهم بالتوبيخ ولا تستفهم، فيقولون: ذهبتَ ففعلتَ وفعلتَ، ويقولون: أذَهَبتَ ففعلتَ وفعلتَ، وكلٌّ صواب»[55].
2- الزجّاج (ت: 311هـ):
قال: «التوبيخ إن شئتَ أثبتَّ فيه الألِف، وإن شئتَ حذفتها، كما تقول: يا فلان أحدثتَ مَا لا يَحِلّ لك جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، إِذا وَبَّخْتَهُ، وإن شئت: أأخذتَ مَا لَا يَحِلّ لَكَ، أَجَنَيْتَ على نفسِك؟»[56].
3- الثعلبي (ت: 427هـ):
قال: «العرب تستفهم بالتوبيخ، وتترك الاستفهام فيه»[57].
رابعًا: الأمثلة التطبيقية:
وردَت أمثلة لهذا الأسلوب عند الطبري، ومنها:
1- قوله عز وجل: ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات: 153، 154].
قال الطبري: «يقول تعالى ذِكْره، موبِّخًا هؤلاء القائلين لله البنات، من مشركي قريش: ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ﴾؟ والعرب إذا وجَّهوا الاستفهام إلى التوبيخ أَثْبَتوا ألِف الاستفهام أحيانًا، وطرحوها أحيانًا، كما قيل: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ [الأحقاف: 20]، يُستفهَم بها، ولا يُستفهَم بها، والمعنى في الحالين واحد، وإذا لم يُستفهم في قوله: ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ﴾، ذَهبَتْ ألفُ (اصْطَفَى) في الوصل، ويُبتدَأ بها بالكسر، وإذا استُفهم فُتحت وقُطعت.
وقد ذُكِرَ عن بعض أهل المدينة أنه قرأ ذلك بترك الاستفهام، والوصل[58]. فأمّا قرّاء الكوفة والبصرة، فإنهم في ذلك على قراءته بالاستفهام، وفتحِ أَلِفِه في الأحوال كلِّها[59]، وهي القراءة التي نختار؛ لإجماع الحُجّة من القرَأة عليها»[60].
2- قوله تعالى ذِكره: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ [ص: 62، 63].
ذكر الطبري خلاف القرّاء في قراءة قوله تعالى: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا﴾، وذَكر قراءتين، وهما:
الأولى: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾، بفتح الألِف وقطعها على وجه الاستفهام[61].
الثانية: ﴿اتَّخَذْنَاهُمْ﴾ بوصل الألف على وجهِ الخبر[62].
ثم قال: «وقد بينّا فيما مضى قبلُ أنّ كلّ استفهام كان بمعنى التعجُّب والتوبيخ، فإنّ العرب تَستفهم فيه أحيانًا، وتُخرِجُه على وجه الخبر أحيانًا.
وأَوْلى القراءتين في ذلك بالصواب[63] قراءة من قرَأه بالوصل على غير وجه الاستفهام؛ لِتقدُّم الاستفهام قبلَ ذلك في قوله: ﴿مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا﴾، فيصير قوله: ﴿اتَّخَذْنَاهُمْ﴾ بالخبر أَوْلى، وإن كان للاستفهام وجهٌ مفهومٌ لِما وصفتُ قبلُ من أنه بمعنى التعجُّب»[64].
3- قوله جلّ جلاله: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾[الأحقاف: 20].
قال الطبري بعد ذِكْره لمعنى الآية: «واختلفَت القرَأة في قراءة قوله: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾ بغير استفهام، سوى أبي جعفر القارئ، فإنه قرَأه بالاستفهام[65]، والعرب تَستفهم بالتوبيخ، وتتركُ الاستفهام فيه، فتقول: أذَهبْتَ ففعلتَ كذا وكذا؟ وذَهبْتَ ففعلتَ وفعلتَ. وأعجبُ القراءتين إليَّ تركُ الاستفهام فيه؛ لإجماع الحُجّة من القرّاء عليه، ولأنه أفصح اللغتين»[66].
خامسًا: أثره في التفسير:
يتبيَّن أثر هذا الأسلوب في الردّ على مَن ضعَّف أو أنكَر قراءةً متواترة، وفي توجيه القراءات، وإليك التفصيل:
ففي المثال الأول: يظهر أثر هذا الأسلوب في الردّ على من ضعَّف أو أنكَر قراءة قوله تعالى: ﴿أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ﴾ [الصافات: 153]، بوصل الألف على الخبر بغير استفهام؛ لكون الإنكار قد اكتنفها من جانبيها، وذلك في قوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[الصافات: 152]، وقوله: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات: 154][67].
فيُقال في الردّ عليهم: إنّ هذه القراءة جاءت على سَنن كلام العرب، وذلك أنهم إذا أرادوا التعجُّب والتوبيخ استفهموا أحيانًا، وتركوا الاستفهام أحيانًا، والقرآن عربي نزل بلغة العرب، إضافةً إلى أنها قراءة صحيحة ومتواترة[68].
وفي المثال الثاني: يتجلى أثر هذا الأسلوب في توجيه القراءات، وذلك أنه وردَت في قوله تعالى ذِكْره: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا﴾ [ص: 63]، قراءتان؛ إحداهما على وجه الخبر، بمعنى: أنهم يخبرون عن أنفسهم أنهم كانوا يسخرون منهم، والأخرى على وجه الاستفهام، وقيل: إنّ فيها بعضَ البُعد؛ لأنهم قد علموا أنهم اتخذوهم سخريًّا -كما في القراءة الأولى- فكيف يستفهمون![69].
فيُقال: إنّ كلتا القراءتين صواب ومعناهما التعجُّب والتوبيخ، كما تفعله العرب في كلامها فتَستفهم بالتوبيخ، وتطرح الاستفهام فيه.
وفي المثال الثالث: يتّضح أثر هذا الأسلوب كذلك في توجيه القراءات، وذلك أنه وردَت قراءتان في قراءة قوله تعالى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾ [الأحقاف: 20]؛ إحداهما بهمزة واحدة على الخبر، والأخرى بهمزتين على الاستفهام، ومعناهما واحد وهو التقريع والتوبيخ؛ لأن العرب تُوَبِّخ بالاستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين[70].
الأسلوب الرابع: (إخراجُ الفِعلِ -إذا أُريد به الوَعْد أو الوَعِيد- بِذِكْر الجميع أو الواحِدِ، ولا يُخرَج بذِكْر الاثنين إلا إذا كان الفعلُ لا يقع إلا من اثنين مختلفَيْن)[71]:
أولًا: توضيح الأسلوب:
الأصل في كلام العرب في اللفظ المجموع أن يُخرَج بلفظ الجمع[72]، وإذا أُريد بيان الوعد أو الوعيد على فعل، فإنه يجوز لك أن تُخرِج الفعل على الأصل بلفظ الجمع، ويجوز إخراجه بلفظ الواحد؛ لأنه يدلّ على جميع جنسه، فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا[73].
وأمّا إخراج الجميع بلفظ الاثنين فغير معروف في كلام العرب، فلا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، وقصدُك بذلك الجمع، ويجوز إِنْ كان قصدُك تثنيةَ فعلٍ لا يكون إلا من شخصين مختلفَين.
وكذا خطأٌ في الكلام أن تقول: ما أكثرَ الدرهمين في أيدي الناس! وقصدك: ما أكثر الدراهم في أيديهم، والعلة في منع ذلك أن الاسم إذا ثُنِّي لا يدل على الجمع، ولا على الجنس، وإنما على فعلٍ لا يقع إلا من اشتراك اثنين مختلفَين[74].
ثانيًا: صيغ الأسلوب:
وردَت ثلاث صِيغ لهذا الأسلوب عند الطبري، وهي:
الصيغة الأولى: «وكذلك تفعلُ العرب إذا أرادَت البيان على الوعيد على فعلٍ، أو الوعد عليه أخرجَت أسماء أهله بذِكْر الجميع أو الواحد -وذلك أن الواحد يدلّ على جنسه- ولا تُخرجها بذِكْر اثنين... إلا أن يكون فعلًا لا يكون إلا من شخصين مختلفَين»[75].
الصيغة الثانية: «العرب قد تُخْرِجُ الجميع بلفظ الواحد؛ لأداء الواحد عن جميع جنسه... فأمّا إذا ثُنِّي الاسم، فلا يُؤَدِّي عن الجنس، ولا يُؤَدِّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما»[76].
الصيغة الثالثة: «غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع»[77].
ثالثًا: دراسة الأسلوب:
أشار علماء اللغة والتفسير إلى أن معنى الجمع قد يُؤدَّى بلفظ الواحد، ومن هؤلاء:
1- سيبويه (ت: 180هـ):
قال: «وليس بمستنكَر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدًا والمعنى جميع، حتى قال بعضُهم في الشعر من ذلك ما لا يُسْتَعْمَلُ في الكلام»[78].
2- الفراء (ت: 207هـ):
قال عند قوله تعالى: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التحريم: 4]: «فإنه مُوحَّد في مذهب الجميع، كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا سياسة للحرب فقد أُمِر بالمجيء، واحدًا كان أو أكثر منه، ومثله: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38]، هذا عامّ وليس بواحد ولا اثنين، وكذلك قوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ [النساء: 16]، وكذلك: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: 2]، و﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [المعارج: 19]، في كثير من القرآن يُؤدِّي معنى الواحد عن الجمع»[79].
3- أبو عبيدة (ت: 210هـ):
قال: «والعرب تضع لفظ الواحد في معنى الجميع، قال[80]: فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شُجِينَا»[81].
يريد: في حلوقكم عظام، فأفرد لفظ (الحَلْق) و(العَظْم)، وأراد بهما الجمع.
وأمّا مجيء الجميع بلفظ الاثنين فيرى الإمام الطبري أن ذلك غيرُ معروف في كلام العرب، بينما يرى بعضهم أن ذلك واردٌ، وممن قال بذلك:
1- ابن قتيبة (ت: 276هـ):
قال في (باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه): «...ومنه أن تأمر الواحد والاثنين والثلاثة فما فوق أمْرَك الاثنين فتقول: افعلَا، قال الله تعالى: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [ق: 24]، والخطاب لخزنة جهنم، أو زبانيتها»[82].
2- أبو نصر الحدادي (ت: بعد 400هـ):
قال: «سائغ في كلام العرب ذِكْر الواحد بلفظ الجمع، وذِكْر الجمع بلفظ الواحد، والتثنية بلفظ الجمع، والجمع بلفظ التثنية»[83].
3- أبو الحسن الباقولي (ت: 543هـ):
قال: «واعلم أنه قد جاءت التثنية يُراد بها الكثرة والجمع، كما جاء الجمع يُراد به التثنية، قال الله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64][84]، وقال: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: 4]، أي: كرّتين اثنتين، وإنما ذاك بكرَّات، وكأنه قال: كرّة بعد كرّة»[85].
4- الزركشي (ت: 794هـ):
قال: «القسم الثالث عشر: إطلاق لفظ التثنية والمراد الجمع، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ [المُلك: 4]، فإنه وإن كان لفظه لفظ التثنية فهو جمع، والمعنى (كرّات)؛ لأنّ البصر لا يحشر إلا بالجمع»[86].
رابعًا: الأمثلة التطبيقية:
ورَدَ مثالان لهذا الأسلوب عند الطبري، وهما:
1- قوله عزّ ذِكره: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾[النساء: 16].
ذكرَ الطبري خلاف أهل التأويل في المَعْنِي بقوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾، أي: الفاحشة، وذكر عدّة أقوال خلاصتها ما يأتي:
الأول: هما البِكْران اللذان لم يُحصنا.
الثاني: هما الرجلان الزانيان.
الثالث: بل عُني بذلك الرجل والمرأة إلا أنه لم يُقصد به بِكْر دون ثيِّب[87].
ثم قال: «وأَوْلى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ قول من قال: عُني به البِكران غيرُ المُحصنَين إذا زنيَا، وكان أحدهما رجلًا والآخر امرأة؛ لأنه لو كان مقصودًا بذلك قَصْدُ البيان عن حُكم الزناة من الرجال كما كان مقصودًا بقوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ [النساء: 15]، قصدُ البيان عن حُكم الزواني، لقيل: والذين يأتونها منكم فآذوهم، أو قيل: والذي يأتيها منكم، كما قيل في التي قبلها: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾، فأخرج ذِكْرَهنَّ على الجميع، ولم يَقُل: واللتان يأتيان الفاحشة. وكذلك تفعلُ العرب إذا أرادَت البيان على الوعيد على فعلٍ، أو الوعدِ عليه، أَخرَجَت أسماءَ أهله بذِكْر الجميع أو الواحد -وذلك أن الواحد يدلّ على جنسه- ولا تُخرِجها بذِكْر اثنين، فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، إلا أن يكون فعلًا لا يكون إلا من شخصين مختلفين؛ كالزنا لا يكون إلا من زانٍ وزانية، فإذا كان ذلك كذلك، قيل بذِكْر الاثنين، يُراد بذلك الفاعلُ والمفعولُ به، فأمّا أن يُذكر بذِكْر الاثنين، والمرادُ بذلك شخصان في فعلٍ قد يَنْفرِدُ كلُّ واحدٍ منهما به، أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين، فذلك ما لا يُعرف في كلامها، وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فساد قول مَن قال: عُني بقوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ الرجلان، وصحّة قول مَن قال: عُني به الرجل والمرأة»[88].
2- قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[المائدة: 64].
ذكر الطبري خلاف من سمّاهم أهل الجدل في تأويل قوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، وخلاصة أقوالهم ما يأتي:
الأول: عُني بذلك نعمتاه.
الثاني: عُني بذلك القوةُ.
الثالث: بل يدُه مُلْكُه.
الرابع: بل يد الله صفة من صفاته، هي يدٌ، غير أنها ليست بجارحة کجوارح بني آدم، ولو كان المراد باليدين النعمة، لقيل: بل يده مبسوطة، ولم يقل: بل يداه؛ لأنّ نعمة الله لا تُحصى كثرة، ولو كانت نعمتين كانتا مُحصاتَيْن[89].
ثم قالوا -أي: أصحاب القول الرابع-: «فإنْ ظنّ ظانٌّ أنّ النعمتين بمعنى النِّعَم الكثيرة، فذلك منه خطأ؛ وذلك أنّ العرب قد تُخرِج الجميع بلفظ الواحد؛ لأداء الواحد عن جميع جنسه... كما تقول العرب: ما أكثرَ الدرهمَ في أيدي الناس، وكذلك قوله: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾ [الفرقان: 55]، معناه: وكان الذين كفروا.
قالوا: فأمّا إذا ثُنِّي الاسم، فلا يؤدِّي عن الجنس، ولا يُؤَدِّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال: ما أكثرَ الدرهمين في أيدي الناس! بمعنى ما أكثرَ الدراهم في أيديهم!... قالوا: ففي قول الله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾، مع إعلامِه عبادَه أنّ نعمه لا تُحصى، ومع ما وصفناه من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع، ما يُنبئ عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع: النعمة، وصحة قول مَن قال: إنّ يد الله هي له صفة، قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله، وقال به العلماء وأهل التأويل»[90].
خامسًا: أثره في التفسير:
يتبيَّن أثر هذا الأسلوب في الترجيح بين الأقوال، وفي الردّ على مَن أوّلَ صفةً من صفاتِ الله عزّ وجلّ، وإليك التفصيل:
ففي المثال الأول: كان لهذا الأسلوب أثر واضح في الترجيح بين الأقوال، وذلك أن الإمام الطبري استند عليه في ترجيحه قولَ مَن قال: إن المعنيَّ بقوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ [النساء: 16]، هما البِكران اللذان لم يُحصنا، وكان أحدهما رجلًا والآخر امرأة، وردَّ قول مَن قال: إنّ المعنيَّ بها الرجلان الزانيان؛ وذلك أنّ المعروف في كلام العرب أنّ لفظ المثنى إذا أُطلق فالمرادُ به شخصان مختلفان يشتركان في فعلٍ لا ينفرد كلّ واحد منهما به، وعلى هذا فيكون المعنيَّ في الآية هما الرجل والمرأة؛ لأنّ الزنى لا يكون إلا بهما، ولو قيل: إنّ المعنيَّ بذلك الرجلان الزانيان لَما حصل اشتراك في الفعل، ولزم أن ينفرد كلُّ واحدٍ منهما به، وهذا مخالف لمعنى المثنى.
وفي المثال الثاني: يتجلّى أثر هذا الأسلوب في الردّ على مَن أوَّل صفة اليدين لله تعالى في قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]، وذلك أنّ جماعة من المفسّرين أوَّلوا هذه الصِّفَة بعدّة تأويلات؛ فمنهم من أوَّلها بمعنى نعمتيه، أي: نِعَمه الكثيرة على خَلْقِه[91]، ومنهم من أوَّلها بمعنى القوّة[92].
فيُقال في الردّ عليهم: لو كان معنى اليدين في الآية نِعَمَه الكثيرة، لجُمِعَت اليدُ أو أُفرِدَت؛ لأنّ صيغة الجمع تدلُّ في أصل وَضْعها على الجمع، وصيغة المفرد تدل على الجنس، وأمّا صيغة المثنى فلا تدلّ في كلام العرب على الجنس ولا على الجمع، وإنما على اثنين بأعيانهما، فلا يصح حينئذ تفسير اليدين بالنِّعَم، وكذا لا يصح تأويلهما بالقوة؛ لأن القوة لا تُثنَّى، ولو قيل: إنها نعمتان لله تعالى للزم أن تكونا محصاتَيْن، ونِعَمُ الله لا تُحصى كثرة[93].
فإذا كان الأمر كذلك في لغة العرب، والقرآن عربي نزل بلغتهم، فيدلّ حينئذٍ على أنهما يدان حقيقيتان لله تعالى تليقان بجلاله وعظيم سُلطانه، من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تعطيل، على حدّ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وهذا مذهب أهلِ السنّة والجماعة[94].
هذا من جهة اللغة، وأمّا من جهة الشرع فقد وردَت أدلة من الكتاب والسنّة تُثبت هذه الصفة لله تعالى، ليس هذا مجال بسطها[95]، وما ذكرتُه يوفي بالمقصود، والله الهادي سبحانه.
الأسلوب الخامس: (الإيجازُ والاختصار إذا كان فيما نُطِقَ به الدَّلالةُ الكافيةُ على ما حُذِفَ وتُرِك)[96]:
أولًا: توضيح الأسلوب:
مِن تفنُّن العرب في الكلام الاقتصادُ فيه، وعدمُ الإطناب لغير حاجة، والاكتفاءُ بما ذُكِر عمّا حُذف، ولا يُصار إليه إلا إذا وُجدت قرينة في الكلام تدلّ على المحذوف مع معرفة موضع الحذف، والثقة بفهم السامع، وإلا صار الكلام من باب التعمية على المخاطب، وضربًا من تكليف علم الغيب، وهذا مخالف للفصاحة والبلاغة، ومن أجلِ هذا عدَّه ابن جنّي في باب شجاعة العربية[97].
ومع هذا فهو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، ترى به تَرْكَ الذِّكْر أفصحَ من الذِّكر، والصمتَ عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطِق، وأتمَّ بيانًا إذا لم تُبِنْ[98].
ثانيًا: صيغ الأسلوب:
ورَدَ هذا الأسلوب عند الطبري بعدّة صِيغ مختلفة ومتقاربة في المعنى، أذكرُ بعضَها:
الصيغة الأولى: «العرب من شأنها -إذا عَرفت مكان الكلمة، ولم تَشَكَّكْ أنّ سامعها يَعرفُ بما أظهَرَت من منطقها ما حَذَفَت- حذفُ ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيّما إن كانت تلك الكلمة التي حُذِفَت قولًا أو بتأويلِ قولٍ»[99].
الصيغة الثانية: «قد قدَّمنا البيان فيما مضى من كتابنا هذا عن اجتزاء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض، إذا كان البعضُ الظاهر دالًّا على البعضِ الباطن، وكافيًا منه»[100].
الصيغة الثالثة: «ومن شأنِ العرب أن تَحذف الشيءَ من حشو الكلام إذا عُرِف موضعه، وكان فيما أظهرت دلالة على ما حَذَفَت»[101].
الصيغة الرابعة: «العرب تفعلُ ذلك [أي الحذف] فيما كان مفهومًا مراد المتكلم منهم به من الكلام، فأمّا فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره، ولا يُوصَلُ إلى معرفة مراد المتكلم إلا ببيانه، فإنها لا تَحذفُ ذلك»[102].
ومن خلال النظر في هذه الصِّيَغ يمكن معرفة القيود التي وضعها الإمام الطبري لإمكانية القيام بالحذف والاختصار في الكلام، وتتلخص في ما يأتي:
الأول: وجود قرينة تدلّ على المحذوف، بحيث يكون المذكور يدلّ دلالة واضحة وكافية على المحذوف.
الثاني: حصول الفهم من السامع لمراد المتكلِّم، وعلى هذا فكلّ عملية للحذف يتعطل معها حصول الفهم من السامع فهي عملية باطلة من أساسها[103].
الثالث: معرفة موضع العنصر التركيبي المحذوف -مفردًا كان أو مركّبًا- فإذا لم يُعرف موضعه كان القول بالحذف غير مُسَلَّم به[104].
ثالثًا: دراسة الأسلوب:
لقد قرّر علماء اللغة والتفسير هذا الأسلوب وأشاروا إليه في كتبهم، ومن هؤلاء:
1- الفراء (ت: 207هـ):
قال: «مِن شأنِ العرب الإيجازُ وتقليلُ الكثير إذا عُرِف معناه»[105].
2- أبو عبيدة (ت: 210هـ):
قال: «العرب تَختصرُ الكلامَ ليُخَفِّفُوه؛ لِعِلْم المستمِع بتمامه»[106].
3- ابن قتيبة (ت: 276هـ):
قال في باب الحذف والاختصار: «العرب إنما تَحذِف من الكلام ما يَدُلّ عليه ما يظهر»[107].
رابعًا: الأمثلة التطبيقية:
لقد طبّق الإمام الطبري هذا الأسلوب في مواضع كثيرة من تفسيره يَشُقُّ إحصاؤها[108]، ومن هذه المواضع:
1- قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة: 2].
قال الطبري: «فإِنْ قال لنا قائل: وما معنى قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؟ أَحَمِدَ اللهُ نفسَه -جلّ ثناؤه- فأثنى عليها، ثم عَلَّمَناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذِكره إذن: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، وهو -عزّ ذِكْره- معبودٌ لا عابدٌ؟
أم ذلك من قِيل جبريل، أو محمد رسول الله؟ فقد بَطَل أن يكون ذلك لله كلامًا.
قيل: بل ذلك كلُّه کلامُ الله جلّ ثناؤه؛ ولكنه -جلّ ذِكره- حمدَ نفسَه وأثنى عليها بما هو له أهل، ثم علَّم ذلك عبادَه وفرض عليهم تلاوته؛ اختبارًا منه لهم وابتلاءً، فقال لهم: قولوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وقولوا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؛ فقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، مما علَّمَهم -جلّ ذِكره- أن يقولوه ويَدِينوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وكأنّه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: قولوا، فيكون تأويل ذلك ما ادَّعَيت؟
قيل: قد دللنا فيما مضى على أن العرب من شأنها -إذا عَرَفت مكان الكلمة، ولم تَشَكَّك أنّ سامعها يعرفُ بما أظهرت من منطقها ما حذَفَت- حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيّما إن كانت تلك الكلمة التي حُذِفَت قولًا أو بتأويلِ قول... فكذلك ما حُذف من قول الله تعالى ذِكره: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، لمَّا عُلِم بقوله جلّ وعز: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ما أراد بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ من معنى أمرِه عبادَه، أغنت دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف»[109].
2- قوله جلّ ذِكره: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾[الإسراء: 1].
ذكر الطبري خلاف أهل العلم في صفة إسراء الله -تبارك وتعالى- بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ونسب كلّ قول إلى قائله، ومن هذه الأقوال:
الأول: أُسرِيَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه وجسمه[110].
الثاني: بل أُسري بروحه، ولم يُسْرَ بجسده.
ثم رجّح أن يكون الإسراء بجسده الشريف، وردَّ قول من قال بروحه دون جسده، وساق أدلة على ذلك[111]، ثم قال: «وبعدُ، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أَسرى بعبده ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره.
فإن ظنّ ظانٌّ أن ذلك جائز؛ إذ كانت العرب تفعل ذلك في كلامها، كما قال قائلهم[112]:
حَسِبْتَ بُغَامَ راحلَتِي عَنَاقًا[113] ** وَمَا هِي وَيْبَ غَيْرِكَ بِالْعَنَاقِ
يعني: حسبتَ بغام راحلتي صوت عَناق فحذف (الصوت) واكتفى منه بالعَناق، فإنّ العرب تفعل ذلك فيما كان مفهومًا مراد المتكلم منهم به من الكلام، فأمّا فيما لا دلالة عليه إلا بظهوره، ولا يُوصل إلى معرفة مرادِ المتكلم إلا ببيانه فإنها لا تحذف ذلك، ولا دلالة تدلّ على أنّ مراد الله من قوله: ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، أسرى بروح عبده، بل الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ الله أسرى به على دابة يُقال لها البراق...»[114].
3- قوله جل جلاله: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾[الأنبياء: 87].
ذكر الطبري خلاف أهل التأويل في معنى قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾، وخلاصة هذه الأقوال ما يأتي:
الأول: معناه فظنّ أَنْ لن نعاقبه بالتضييق عليه، من قولهم: قدَرتُ على فلان: إذا ضَيَّقْت عليه.
الثاني: بل معنى ذلك: فظنّ أنه يُعجِز ربَّه فلا يَقدِرُ عليه[115].
الثالث: بل ذلك بمعنى الاستفهام، وإنما تأويله: أفظنَّ أَنْ لن نقدر عليه؟ ونسبه إلى ابن زيد[116].
ثم قال: «وأَولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عُني به: فظن يونس أَنْ لن نحبسه ونضيّق عليه، عقوبةً له على مغاضبته ربَّه... وأمّا ما قاله ابن زيد فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسنٌ؛ ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك، والعرب لا تحذف من الكلام شيئًا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلًا على أنه مرادٌ في الكلام، فإذا لم يكن في قوله: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ دلالة على أنّ المراد به الاستفهام -كما قال ابن زيد- كان معلومًا أنه ليس به؛ وإذ فسَد هذان الوجهان، صح الثالث، وهو ما قلنا»[117].
خامسًا: أثره في التفسير:
ومن خلال التأمل في الأمثلة السابقة يظهر أثر هذا الأسلوب في إزالة إشكال قد يرِد في معنى الآية، وفي ردّ الأقوال المرجوحة، وإليك البيان:
ففي المثال الأول: يتبين أثر هذا الأسلوب في دفع إشكال قد يرِد في معنى قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، وهو أنّ الله تعالى حَمِد نفسَه وأثنى عليها بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، فإن كان الأمر كذلك، فما وجه قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؟ إن قيل: إنه من كلام الله تعالى فالله معبودٌ لا عابد، وإن قيل إنه من كلام جبريل أو محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد بَطَل أن يكون ذلك كلامًا لله تعالى.
فيُقال: كلُّ ذلك من كلام الله تعالى، وإنما التقدير: قولوا: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وقولوا: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، وهذا من باب الإيجاز والاختصار كما هو معروف في أفانين كلام العرب، إذا كان المذكور يدلّ على المتروك، والقرآن عربي نزل بلغتهم، فلمّا كان قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لا يليق إلا بالعبد، والله تعالى وتقدّس هو المعبود، دلّ ذلك على افتقار إضمار يتناسب مع معنى الآية، وهو كلمة (قولوا)، فيزول حينئذ الإشكال[118].
وفي المثال الثاني: يتّضح أثر هذا الأسلوب في الردّ على مَن زعَم أنّ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إنما أُسرِي بروحه دون جسده، وذلك في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: 1]، والتقدير في زعمهم: أَسرَى بروح عبده، كما تفعل العرب ذلك في كلامها فتحذف اختصارًا.
فيقال: إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار بشرط أن تُوجد دلالة تدل على المحذوف، ويكون ذلك مفهومًا لدى السامع، فأمّا إذا لم توجد دلالة تدل عليه، ولم يحصل فهمٌ للسامع، فإنها لا تحذف ذلك، وهنا لا توجد في الآية دلالة تدلّ على أنّ مراد الله بقوله: ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، أي: بروح عبده، فلا يجوز حينئذ حمل الآية على ذلك.
هذا من جهة اللغة، وهناك أدلة أخرى تُثبت أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما أُسري بروحه وجسده ليس هذا مجال ذكرها[119]، وما ذكرته يوفي بالمقصود، والله أعلم.
وفي المثال الثالث: يظهر أثر هذا الأسلوب في ردّ قول مَن قال: إنّ معنى قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: 87]، من القُدْرَة، والتقدير: أفَظنّ أن لن نقدر عليه؟ بحذف همزة الاستفهام، كما تفعله العرب اختصارًا في الكلام[120].
فيُقال: إن العرب لا تحذف شيئًا إلا وقد أبقت دليلًا يدلّ على المحذوف، ويعرفه السامع، وليس في الآية دليل يدلّ على أن المراد به الاستفهام، فحينئذ لا يصح حمل الآية على ذلك.
الأسلوب السادس: (جَوازُ حَذْفِ الفعلِ إِذا أُعِيدَ الحرفُ بعد مُضِيّ مَعناه)[121]:
أولًا: توضيح الأسلوب:
تقدَّم أن العرب يتفنّنون في الكلام فيحذفون شيئًا منه اختصارًا، ويبقون دليلًا يدل عليه، ومن ذلك أنهم يستجيزون حذف الفعل بعد الحرف، بشرط أن يتقدّم معنى يدلّ على المحذوف، وقد جاء ذلك في الشعر كثيرًا، ومنه قول الشاعر[122]:
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ فِي الْقُرَى ** فَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وَكَثيِبُ
فحُذف الفعلُ بعد (كيف)؛ لِتَقدُّم معنى ما بعدَها قبلَها، ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القُرَى، وهذي هضبة وكثيب لا ينجو فيهما منه أحد[123].
ثانيًا: صيغ الأسلوب:
وردَت صيغة واحدة لهذا الأسلوب عند الطبري، وهي:
«العرب إذا أعادَت الحرف بعد مُضِيّ معناه، استجازوا حذف الفعل»[124].
ثالثًا: دراسة الأسلوب:
أشار علماء اللغة والتفسير إلى هذا الأسلوب، واستعملوه في كتبهم، ومن هؤلاء:
1- الفرّاء (ت: 207هـ):
قال: «وإذا أُعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل»[125].
ثم ذكر البيت السابق ذِكْره وشواهد أخرى من أشعار العرب.
2- الزجّاج (ت: 311هـ):
ذكرَ شواهد من كلام العرب على جواز حذف الفعل بعد الحرف إذا تقدّم ما يدلّ عليه، وذكرَ من ذلك قول الشاعر[126]:
وكَيْفَ وَلَمْ أَعْلَمْهُمُ خَذَلُوكُمُ ** عَلَى مُعْظَمٍ وَلَا أَدِيمَكُمُ قَدُّوا
فقال: «أي: فكيف تلومونني على مدح قوم، وتَذْمُّونَهُمْ، واستُغني عن ذِكْر ذلك مع ذِكْر (كيف)؛ لأنه قد جرى في القصيدة ما يدلّ على ما أُضمِر»[127].
3- أبو حيان (ت: 745هـ):
قال: «وقد جاء حذف الفعل بعد (كيف)؛ لدلالة المعنى عليه، كقوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: 41]»[128].
ثم ذكر شواهد على ذلك من شعر العرب.
ومن خلال النظر في أقوال مَن تقدَّم ذِكْرهم يتبين أن العرب لا يستجيزون حذف الفعل بعد الحرف إلا بعد أن يتقدم ما يدلّ عليه.
رابعًا: الأمثلة التطبيقية:
ورَدَ مثال واحد لهذا الأسلوب عند الطبري، وهو:
قوله تعالى ذكره: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 8].
قال الطبري في تفسير الآية: «يعني -جلَّ ثناؤه- بقوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم، منكم أيها المؤمنون عهد وذمّةٌ وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم، لا يرقبوا فيكم إلًّا ولا ذمّة.
واكتفي بـ(كيف) دليلًا على معنى الكلام؛ لِتَقدُّم ما يُراد من المعنى بها قبلها، وكذلك تفعلُ العربُ إذا أعادت الحرف بعد مضيّ معناه استجازوا حذف الفعل، كما قال الشاعر:
وخَبَّرْتُماني أنما الموتُ في القُرَى ** فكيف وهذي هَـضـبةٌ وكثيبُ
فحذف الفعل بعد (كيف) لِتَقدُّم ما يُراد بعدَها قبلَها، ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القُرَى، وهذي هضبة وكثيب لا يَنجُو فيهما منه أحد؟»[129].
خامسًا: أثره في التفسير:
يتبيَّن أثر هذا الأسلوب في توضيح معنى الآية، وذلك أن في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: 8]، إضمار فعل بعد (كيف)، وهو كما قدّره الطبري والزجاج، يكون المعنى: كيف يكون لهؤلاء المشركين عهدٌ وذمّة، وهم إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلًّا ولا ذمّة[130].
وقيل في تقديره: كيف تطمئنّون لهم، أو كيف لا تقاتلونهم؟[131].
ولكن التقدير الأول أَوْلَى؛ لأنه من جنس ما تقدَّم في الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ [التوبة: 7]، فالدلالة عليه أقوى[132].
وتوجد لطيفة في حذف الفعل بعد (كيف)، وهي للإيذان بأنّ النفس مستحضِرة له، ومترقِّبة لورود ما يُوجب استنكارَه[133].
الأسلوب السابع: (حَذفُ الجَوابِ إِذا عَرَفَ السَّامِعُ ذلك، وكان في الكلام ما يَدُلّ عليه)[134]:
أولًا: توضيح الأسلوب:
مِن تفنُّن العرب في الكلام الإيجاز فيه والاختصار -كما تقدّم- ومن ذلك أنهم يحذفون الجواب من الشرط والاستفهام والقَسَم والسؤال[135]، ويتركون في الكلام ما يدلّ عليه ثقةً بفهمِ السامع لذلك، وأمّا إذا لم يعرف السامع والمخاطَب ذلك فإنهم يُظهِرون الجواب ولا يحذفونه.
ومن أمثلة ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة الكرام: (أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ)[136].
فقوله: (أَرَأَيْتَكُمْ) الجواب محذوف، والتقدير: أرأيتكم ليلتكم هذه فاضبطوها، واحفظوا تاريخها[137].
ثانيًا: صيغ الأسلوب:
وردَت صيغتان لهذا الأسلوب عند الطبري، وهما:
الصيغة الأولى: «وقد تفعل العربُ ذلك [أي حذف الجواب] إذا طال الكلام، فتأتي بأشياء لها أجوبةٌ فتَحذف أجوبتها لاستغناء سامعيها بمعرفتهم بمعناها عن ذِكْر الأجوبة»[138].
الصيغة الثانية: «وقد تفعل العرب ذلك [أي حذف الجواب] فيما كان يُفهم معناه عند المخاطَبِين به... فأمّا إذا لم يعرف المخاطَب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب لم يحذفوه»[139].
ثالثًا: دراسة الأسلوب:
لقد قرّر النحويون واللغويون هذا الأسلوب وأشاروا إليه، ومن هؤلاء:
1- الخليل (ت: 170هـ):
يقول سيبويه: «وسألتُ الخليل عن قوله جلَّ ذِكْره: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزُّمَر: 73]، أين جوابها؟ وعن قوله جلّ وعلا: ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ [البقرة: 165]، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: 27]، فقال: إنّ العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجوابَ في كلامهم؛ لعلمِ المخبَر لأيّ شيءٍ وُضِع هذا الكلام»[140].
2- الفراء (ت: 207هـ):
قال: «والعرب تحذف جوابَ الشيء إذا كان معلومًا؛ إرادةَ الإيجاز، كما قال الشاعر[141]:
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ** سِوَاكِ، وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكِ مَدْفَعَا»[142].
والمعنى: «لو أتانا رسولٌ سواكِ لدفعناه»[143].
3- ابن قتيبة (ت: 276هـ):
قال في باب الحذف والاختصار: «ومن ذلك: أن يأتي بالكلام مبنيًّا على أنّ له جوابًا، فيحذف الجواب اختصارًا؛ لعلم المخاطَب به، كقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31]، أرادَ: لكانَ هذا القرآن، فحُذف»[144].
رابعًا: الأمثلة التطبيقية:
وردَت أمثلة لهذا الأسلوب عند الطبري، منها:
1- قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: 35].
ذكر الطبري معنى الآية وأنها نزلَت في إعراض المشركين عن محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كان يشقّ عليه فيقول الله له: فإن استطعت أن تتّخذ سَرَبًا في الأرض، أو سُلَّمًا في السماء فتأتيهم بآية على صحّة قولك فافعل[145].
ثم قال: «وتُرِك جوابُ الجزاء فلم يُذْكر؛ لدلالة الكلام عليه، ومعرفة السامعين بمعناه، وقد تفعل العربُ ذلك فيما كان يُفهم معناه عند المخاطَبين به، فيقول الرجلُ منهم للرجل: إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا إن قدرت على معونتنا، ويحذف الجواب، وهو يريد: إن قدرتَ على معونتنا فافعل، فأمّا إذا لم يعرف المخاطَب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب لم يحذفوه، لا يقال: إن تقم، فتسكت وتحذف الجواب؛ لأن المَقُولَ ذلك له لا يعرف جوابَه إلا بإظهاره، حتى يُقال: إن تَقُمْ تُصِبْ خيرًا، أو: إن تَقُم فحسنٌ، وما أشبه ذلك»[146].
2- قوله عزّ وجل: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾[الرعد: 31].
قال الطبري: «اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنًا سُيِّرَت به الجبال، أي: يكفرون بالله ولو سَيَّر لهم الجبال بهذا القرآن، وقالوا: هو من المؤخَّر الذي معناه التقديم، وجعلوا جواب (لو) مقدَّمًا قبلها، وذلك أن الكلام على معنى قيلهم: ولو أنّ هذا القرآن سُيِّرت به الجبالُ أو قُطِّعت به الأرض، لكفروا بـالـرحـمـن... وقال آخرون: بل قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾، كلامٌ مبتدأٌ منقطعٌ عن قوله: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: 30]، قال: وجواب (لو) محذوفٌ، استُغني بمعرفة السامعين المرادَ من الكلام عن ذكر جوابها، قالوا والعرب تفعل ذلك كثيرًا، ومنه قول امرئ القيس[147]:
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ سَرِيحَةً ** وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَقَطَّعُ أَنْفُسَا
وهو آخر بيتٍ في القصيدة[148]، فتُرك الجواب اكتفاءً بمعرفة سامِعه مرادَه»[149].
3- قوله عزّ ذِكْره: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾[النازعات: 1].
قال الطبري: واختلف أهل العربية في موضع جواب قوله: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾، فقال بعض نحويي البصرة: قوله: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ قَسَمٌ -والله أعلم- على: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26]، وإن شئتَ جعلتها على: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾، ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ [النازعات: 6، 8]، وهو كما قال الله وشاء أن يكون في كل هذا، وفي كل الأمور.
وقال بعض نحويي الكوفة: جواب القَسَم في (النَّازِعَات) مما تُرك لمعرفة السامعين بالمعنى، كأنه لو ظَهَر كان: لتُبْعَثُنَّ ولتُحاسَبُنَّ، قال: ويدلّ على ذلك: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً﴾ [النازعات: 11]، ألا ترى أنه كالجواب لقوله: لتُبْعَثُنَّ، إذ قال: أَئِذا كنّا عظامًا نخرةً نُبْعَث؟!... والصواب من القول في ذلك عندنا: أنّ جواب القَسَم في هذا الموضع مما استُغني عنه بدلالة الكلام، فتُرك ذِكْره»[150].
خامسًا: أثره في التفسير:
يتجلّى أثر هذا الأسلوب في توضيح معنى الآية، وفي اختلاف المفسِّرين، إضافة إلى ما فيه من بلاغة الإيجاز والاختصار، وإليك التفصيل:
ففي المثال الأول: يظهر أثر هذا الأسلوب في توضيح معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: 35]، وذلك أنّ جواب الشرط في قوله: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ﴾ محذوفٌ ومسكوتٌ عنه؛ لعلم المخاطب بذلك، فلكَ أن تُقدِّره: بـ(أتيتَ) على صيغة الخبر، وفيه تعليق إسلامهم بالمُحال، أي: بلغتَ من حرصِكَ على إيمانهم بحيث لو قدرتَ أن تأتي بالمُحال أتيتَ به، والمرادُ المبالغةُ فيه، ولك أن تُقدِّره: بـ(فافعَلْ) على صيغة الإنشاء الطلبي، وفيه نوعُ توبيخ، وحاصله بيان حرصه على تأتِّي مطلوبهم واقتراحهم على أبلغ وجه؛ لأنه إذا وبَّخَهُ على طلب ما اقترحوه تعريضًا، كان توبيخهم أجْدَرَ وأنسَب[151].
وفي المثال الثاني: يتبين أثر هذا الأسلوب في اختلاف المفسِّرين في جواب (لو) التي في قوله تعالى ذكره: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31]، على قولين:
أحدهما: أنّ جوابها مُقدَّم، والمعنى: وهم يكفرون بالرحمن ولو أنزلنا عليهم ما سألوا، وهذا ما ذكره الفراء والطبري[152].
الثاني: أنّ جوابها محذوف، وهو قول أكثر المفسرين، واختلفوا في تقديره على قولين:
التقدير الأول: (لكان هذا القرآن)، وهذا ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، منهم أبو حيان وابن كثير[153]، وعلى هذا التقدير تتضمّن الآية تعظيم القرآن؛ لكونه غايةً في التذكير ونهايةً في الإنذار والتخويف[154].
التقدير الثاني: (لَمَا آمنوا) وهذا ما ذهب إليه الزجاج[155]، وعلى هذا التقدير تتضمّن الآية صفة المكابرة والعناد في الكفار، وتماديهم في الضلال والفساد[156].
وليس هناك مانع من حمل الآية على كِلا التقديرَين، فلكَ أن تحمله على هذا التقدير أو ذاك، والمعنى في كليهما صحيح، وهذا من بلاغة القرآن في الحذف والإيجاز؛ ليكون أبلغ في العبارة، وأعمّ في الفائدة، والله أعلم.
وفي المثال الثالث: يتضح أثر هذا الأسلوب في اختلاف المفسِّرين في جواب القسم الذي في قوله تعالى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ [النازعات: 1]، على قولين:
أحدهما: أنه مذكور، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [النازعات: 26]، أو قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾، ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ [النازعات: 6، 8]، وهذا ما ذهب إليه الأخفش[157].
الثاني: أنه محذوف، وهو ما ذهب إليه أكثر المفسِّرين، واختلفوا في تقديره على أقوال، منها:
الأول: (لتُبْعَثُنَّ، ولتُحاسَبُنَّ)، وهو اختيار الفرّاء والنحاس[158].
الثاني: (لننفُخنَّ في الصور نفختين)، ذكره الرازي[159].
الثالث: (أنّ القيامة واقعة)، وهو ما قاله الكسائي[160].
وقيل غير ذلك مما يطول البحث بإيراده، وما ذكرت يوفي بالغرض، والله الموفِّق.
[1] هذه المقالة من كتاب (الأساليب العربية الواردة في القرآن الكريم وأثرها في التفسير، من خلال جامع البيان للطبري)، الصادر عن مركز تفسير سنة 1436هـ، ص479 وما بعدها، وقد قسمنا مادة هذا الفصل على مقالتين؛ تناولت الأولى منهما سبعة أساليب من مجموع خمسة عشر أسلوبًا متعلقًا بعِلْم المعاني. (موقع تفسير)
[2] مفتاح العلوم، للسكاكي، ص161.
[3] الإيضاح في علوم البلاغة، ص15.
[4] انظر: بغية الإيضاح، لعبد المتعال الصعيدي (1/ 27).
[5] انظر: کتاب (علم المعاني)، لعبد العزيز عتيق، ص40، 41.
[6] انظر: جامع البيان (6/ 374).
[7] انظر الصاحبي في فقه اللغة، ص190.
[8] لمعرفة هذه المعاني، انظر: الصاحبي في فقه اللغة، ص190- 192، والمدخل لعلم تفسير کتاب الله، ص458- 461، والبحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (2/ 357- 363)، وقد أورد الزركشي أكثر من ثلاثين معنى للأمر.
[9] أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 194)، في كتاب المظالم والغصب، باب إثم مَن خاصم في باطل وهو يعلمه، برقم: (2458)، واللفظ له؛ ومسلم في صحيحه، ص711، في كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، برقم: (1713).
[10] انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم، للنووي (12/ 6).
[11] جامع البيان (6/ 374).
[12] مجاز القرآن (2/ 122).
[13] تأويل مشكل القرآن، ص216.
[14] لعل مراده الأمر الذي يُطلب به الفعل، والله أعلم.
[15] معاني القرآن وإعرابه، للزجّاج (3/ 250، 251)، وانظر: الصاحبي في فقه اللغة، ص190، 191.
[16] جامع البيان (6/ 368- 374).
[17] انظر: جامع البيان (10/ 599)؛ والناسخ والمنسوخ، للنحاس، ص570.
[18] جامع البيان (10/ 599).
[19] جامع البيان (15/ 244)، وانظر أمثلة أخرى: (11/ 541)، (13/ 679)، (14/ 252)، (16/ 57)، (18/ 368، 441، 442)، (20/ 442)، (23/ 612).
[20] انظر: المحلى، لابن حزم (9/ 440، 441)، تحقيق: أحمد شاكر وآخرين؛ ومفاتيح الغيب (9/ 178)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (1/ 339)، تصحيح: محمد عليّ شاهين.
[21] انظر: جامع البيان (6/ 374).
[22] انظر: مفاتيح الغيب (9/ 179).
[23] انظر: المحرر الوجيز (2/ 7).
[24] انظر: التحرير والتنوير (4/ 224).
[25] انظر: تفسير القرآن العزيز، لابن أبي زمنين (2/ 155).
[26] انظر: الناسخ والمنسوخ، لابن حزم، ص38.
[27] انظر: زاد المسير، لابن الجوزي (3/ 293، 294).
[28] انظر: نواسخ القرآن، لابن الجوزي، ص95، وإعلام الموقعين، لابن القيم (1/ 298، 299).
[29] المعتزلة: هي فرقة ضالة مبتدعة يُسمَّون أصحاب العدل والتوحيد، ويلقَّبون بالقدرية والعدلية، يجمعها من المعتقدات إنكار صفات الله تعالى، والقول بخلقِ القرآن، والقول بالقَدر، وهو إنكار خلق الله لأفعال عباده وأنهم يستقلّون بخلق أفعالهم، وأنّ صاحب الكبيرة في منزلةٍ بين المنزلتين، إلى غير ذلك من الضلالات. انظر: الملل والنحل (1/ 56- 59).
[30] انظر: الانتصار في الردّ على المعتزلة القدرية الأشرار، ليحيى العمراني (2/ 528)؛ والكشاف، للزمخشري (3/ 583)، ووافقهم في هذه المسألة محمد عليّ الصابوني في كتابه: صفوة التفاسير (1/ 395)، (3/ 467، 468)، وانظر: التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير، لمحمد جميل زينو، ص29، 30.
[31] عنى بذلك التكفير في كفارة اليمين التي في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة: 89].
[32] الانتصار في الردّ على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 528، 529).
[33] انظر: الناسخ والمنسوخ، للمقري، ص117، ونواسخ القرآن، لابن الجوزي، ص395.
[34] انظر: نواسخ القرآن، لابن الجوزي، ص395.
[35] انظر: جامع البيان (2/ 404).
[36] انظر: الصاحبي في فقه اللغة، ص186، والبرهان في علوم القرآن (2/ 326)، والإتقان في علوم القرآن (5/ 1701).
[37] لمعرفة معاني الاستفهام، انظر: الصاحبي في فقه اللغة، ص186- 189، والبرهان في علوم القرآن (2/ 328- 338)، والإتقان في علوم القرآن (5/ 1702- 1709)، وقد ذكر السيوطي أكثر من ثلاثين معنى للاستفهام.
[38] انظر: معاني القرآن، للفراء (1/ 119)، والمراد بقوله: «فأُدخل اللام في (أين)»، أي: في جواب (أين).
[39] الإثبات بمعنى الخبر من مصطلحات الإمام الطبري، ذكر ذلك الدكتور أمان الدين محمد حتحات في كتابه القيم: (الجهود النحوية في تفسير الطبري)، حيث أفرد فصلًا مستقلًّا للمصطلحات النحوية عند ابن جرير الطبري، وليس المراد بالإثبات الإقرار الذي هو مقابل النفي عند البصريين. انظر: المصطلح النحوي؛ نشأته وتطوره، لعوض القوزي، ص171.
[40] انظر: الصاحبي في فقه اللغة، ص183.
[41] جامع البيان (2/ 404).
[42] جامع البيان (1/ 264)، وانظر مثالًا آخر (10/ 65، 66).
[43] الكتاب، لسيبويه (2/ 129).
[44] الأصول في النحو (2/ 135).
[45] الصاحبي في فقه اللغة، ص186.
[46] انظر: معاني القرآن، للفراء (1/ 119).
[47] معاني القرآن، للفراء (1/ 284)، وانظر: الصاحبي في فقه اللغة، ص188.
[48] جامع البيان (2/ 404).
[49] انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/ 311)، وأنوار التنزيل (1/ 99).
[50] انظر: جامع البيان (20/ 137).
[51] انظر: معاني القرآن، للفراء (2/ 276، 343).
[52] جامع البيان (19/ 642).
[53] جامع البيان (20/ 137).
[54] جامع البيان (21/ 149).
[55] معاني القرآن، للفراء (2/ 343).
[56] معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (4/ 444).
[57] الكشف والبيان (9/ 13).
[58] وهي قراءة أبي جعفر ونافع في رواية ابن جماز وإسماعيل عنه، وورش في رواية الأصبهاني عنه. انظر: السبعة في القراءات، ص549، والنشر في القراءات العشر (2/ 360).
[59] وهي قراءة أبي عمرو، ونافع في رواية المُسيَّبي وقالون عنه، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وابن عامر، وابن كثير. انظر: السبعة في القراءات، ص549، والنشر في القراءات العشر (2/ 360).
[60] جامع البيان (19/ 642)، وكِلتا القراءتين صواب.
[61] وهي قراءة ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وعاصم. انظر: السبعة في القراءات، ص556، والنشر في القراءات العشر (2/ 362).
[62] وهي قراءة أبي عمرو، وحمزة، والكسائي. انظر: السبعة في القراءات، ص556، والنشر في القراءات العشر (2/ 362).
[63] كِلتا القراءتين صواب.
[64] جامع البيان (20/ 137).
[65] قرأه بغير استفهام -بهمزة واحدة على الخبر-: نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، وقرأه بالاستفهام -بهمزتين-: ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب. انظر: السبعة في القراءات، ص598، والنشر في القراءات العشر (1/ 366)، ولعل الطبري لم تصله قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام.
[66] جامع البيان (21/ 149).
[67] أنكَر هذه القراءة أبو حاتم، حكى ذلك النحاس في معاني القرآن (6/ 64)، وضعَّفها الزمخشري. انظر: الكشاف (5/ 232) للتعليل السابق ذِكره.
[68] انظر: السبعة في القراءات، ص549، والنشر في القراءات العشر (2/ 360).
[69] انظر: حجة القراءات، لابن زنجلة، ص617.
[70] انظر: فتح القدير (5/ 28).
[71] انظر: جامع البيان (6/ 501).
[72] انظر: ارتشاف الضرب (2/ 582).
[73] انظر: جامع البيان (2/ 501).
[74] انظر: جامع البيان (6/ 501)، (8/ 556، 557).
[75] جامع البيان (6/ 501).
[76] جامع البيان (8/ 556، 557).
[77] جامع البيان (8/ 557).
[78] الكتاب، لسيبويه (1/ 209).
[79] معاني القرآن، للفراء (3/ 67).
[80] وهو المسيب بن زيد مناة، كما في لسان العرب (4/ 2203)، مادة (ش ج ا)، وبلا نسبة في الكتاب لسيبويه (1/ 209)؛ والمقتضب (2/ 170)، والمذكور من البيت العَجُز، وتكملته:
لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقد سُبِينا ** في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شَجِينا
[81] مجاز القرآن (2/ 44).
[82] تأويل مشكل القرآن، ص224.
[83] المدخل لعلم تفسير كتاب الله، ص283.
[84] هذا الكلام غير صحيح، وفيه تأويل لصفة اليدين لله تعالى، بل لله يدان حقيقيتان تليقان بجلاله سبحانه وتعالى. كما سيأتي بيانه.
[85] إعراب القرآن المنسوب خطأ للزجاج (وهو للباقولي) (3/ 688، 689).
[86] البرهان في علوم القرآن (3/ 8).
[87] انظر: جامع البيان (6/ 499، 500).
[88] جامع البيان (6/ 501).
[89] انظر: جامع البيان (8/ 555، 556).
[90] جامع البيان (8/ 556، 557).
[91] انظر: معاني القرآن، للأخفش (1/ 284)، والكشاف، للزمخشري (2/ 267)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (8/ 84)، والبحر المحيط (3/ 534، 535).
[92] انظر: تفسير العز بن عبد السلام (1/ 396).
[93] انظر: جامع البيان (8/ 556، 557)، ونكت القرآن الدالة على البيان، للقصاب (1/ 316، 317).
[94] انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية (3/ 1801)، ومعالم التنزيل، للبغوي (3/ 76، 77).
[95] لمعرفة هذه الأدلة، انظر: الإبانة، لابن بطة (3/ 295- 318)، ومختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيّم اختصار محمد بن محمد الموصلي، ص491- 407.
[96] انظر: جامع البيان (1/ 344).
[97] انظر: الخصائص (2/ 360).
[98] انظر: دلائل الإعجاز، ص146.
[99] جامع البيان (1/ 139، 140).
[100] جامع البيان (1/ 178، 179).
[101] جامع البيان (10/ 474).
[102] جامع البيان (14/ 447)، وانظر إلى الصيغ الأخرى (2/ 51)، (12/ 362)، (16/ 381)، (18/ 362)
[103] انظر: دراسة الطبري للمعنى، ص142، 336، 337.
[104] انظر: دراسة الطبري للمعنى، ص142.
[105] معاني القرآن (1/ 13).
[106] مجاز القرآن (1/ 111).
[107] تأويل مشكل القرآن، ص169، 170، وانظر: الخصائص (2/ 360).
[108] يعتبر هذا الأسلوب أكثر الأساليب تطبيقًا عند الطبري، وقد بلغت هذه المواضع أكثر من مائتي موضع، وستأتي الإحالة إليها قريبًا بإذن الله تعالى.
[109] جامع البيان (1/ 139- 141).
[110] انظر: جامع البيان (14/ 420، 443- 446).
[111] انظر: جامع البيان (14/ 446، 447).
[112] وهو ذو الخِرَق الطَّهَوي، كما في لسان العرب (1/ 320)، مادة (بغم)، وتاج العروس (4/ 371)، مادة (ويب).
[113] البُغام صوتُ الناقة تُردِّدُه. انظر: مقاييس اللغة (1/ 271)، مادة (بغم)، والعَناق الأنثى من المَعز. انظر: لسان العرب (4/ 3135)، مادة (عنق).
[114] جامع البيان (14/ 447).
[115] وهذا القول لا يجوز نسبته إلى يونس -عليه السلام- ولا يُتصوَّر صدور ذلك من رجل صالح فضلًا أن يكون نبيًّا من المرسلين.
[116] انظر: جامع البيان (16/ 378- 381).
[117] جامع البيان (16/ 381، 382)، وانظر أمثلة أخرى (1/ 112، 286، 287، 334، 356، 501، 631، 687، 710، 711)، (2/ 5، 9، 21، 38، 51، 97، 127، 189، 191، 265، 266، 328، 402، 426، 638، 639، 713)، (3/ 66، 67، 73، 104، 570، 706)، (4/ 12، 43، 134، 399، 447، 481، 498، 635)، (5/ 150، 233، 303، 418، 526، 554، 600، 664، 704)، (6/ 5، 86، 111، 267، 268، 311، 368، 480. 489، 526، 553، 695)، (7/ 83، 101، 249، 295، 424، 530، 648، 726)، (8/ 30، 95، 100، 226، 242، 248، 326، 332، 345، 423، 483)، (9/ 74، 75، 98، 109، 188، 242، 243، 332، 338، 362، 449، 555، 562، 656، 665، 673)، (10/ 84، 107، 147، 162، 352، 504، 505، 590، 618)، (11/ 73، 231، 437)، (12/ 113، 231، 239، 241، 242، 274، 362، 413، 456، 489)، (13/ 29، 42، 130، 151، 187، 203، 292، 300، 315، 316، 381، 412، 512، 634، 703)، (14/ 209، 324، 525)، (15/ 145، 181، 220، 224، 283، 490)، (16/ 52، 60، 71، 79، 107، 109، 113، 146، 226، 227، 278، 306، 410)، (17/ 116، 178، 297، 451، 552، 555، 559، 560، 590)، (18/ 14، 19، 21، 73، 111، 145، 458، 551، 571)، (19/ 235، 283، 333، 470، 496، 504، 419، 528، 546، 570)، (20/ 54، 83، 174، 283، 293، 299، 369، 563، 641، 645)، (21/ 22، 33، 133، 161، 178، 372، 437، 499، 527، 530، 547، 576، 578)، (22/ 138، 141، 232، 352، 395)، (23/ 542)، (24/ 16، 96، 421).
[118] انظر: مفاتيح الغيب (12/ 156).
[119] لمعرفة هذه الأدلة، انظر: جامع البيان (14/ 446، 447)، والهداية إلى بلوغ النهاية (6/ 4131)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (13/ 10- 12).
[120] انظر: رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز، للرسعني (4/ 656، 657).
[121] انظر: جامع البيان (11/ 354).
[122] هو كعب بن سعد الغنوي كما في الكتاب لسيبويه (3/ 487)، ولفظه: (وهاتا هضبة وكثيب)؛ وجمهرة أشعار العرب، ص252، ولفظه: (وهذا روضة وقليب)، قال الشيخ محمود شاكر في تعليقه على هذا البيت: «وكان لكعب بن سعد أخ يقال له (أبو المغوار)، فأخذ المدينةَ وباءٌ فنصحوه بأن يفرّ بأخيه من الأرض الوبيئة؛ لينجو من طوارق الموت، فلمّا خرج به إلى البادية هلك أخوه، فتفجَّع عليه تفجُّع العربي النبيل». انظر: جامع البيان (14/ 145)، هامش رقم (2)، ط: شاكر.
[123] انظر: جامع البيان (11/ 354).
[124] جامع البيان (11/ 354).
[125] معاني القرآن، للفراء (1/ 284، 285).
[126] وهو الحطيئة، والبيت في ديوانه، ص41، اعتنى به وشرحه: حمدو طماس، ومعنى: على معظم، أي: لم يخذلوكم في أمر حصل، ولا أديمكم قدُّوا: أي: لم يقعوا في حسَبكم. انظر المصدر السابق.
[127] معاني القرآن، للزجاج (2/ 433).
[128] البحر المحيط (5/ 15).
[129] جامع البيان (11/ 354).
[130] انظر: جامع البيان (11/ 354)، ومعاني القرآن، للزجاج (2/ 433).
[131] وهو تقدير أبي البقاء وغيره. انظر: الدر المصون (6/ 16، 17)، والبحر المحيط (5/ 15).
[132] انظر: الدر المصون (6/ 16)، والبحر المحيط (5/ 15).
[133] انظر: إرشاد العقل السليم (3/ 126)، وروح المعاني (10/ 55).
[134] انظر: جامع البيان (9/ 227)، (20/ 212).
[135] انظر: المدخل لعلم تفسير كتاب الله، ص239- 244، وحذف جواب الشرط كحذف جواب (لو)، و(لولا)، و(لمّا)، و(أمّا)، و(إذا)، انظر: المثل السائر، لابن الأثير (2/ 307- 313).
[136] أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 58)، في كتاب العلم، باب السمر في العلم، برقم: (116)؛ ومسلم في صحيحه، ص1025، في كتاب فضائل الصحابة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم)، برقم: (2537).
[137] انظر: فتح الباري (1/ 280)، وعمدة القاري (2/ 266).
[138] جامع البيان (2/ 242).
[139] جامع البيان (9/ 227).
[140] الكتاب، لسيبويه (3/ 103).
[141] هو امرؤ القيس، والبيت في ديوانه، ص242، بلفظ: (أجِدَّك لو شيء أتانا رسوله...).
[142] معاني القرآن، للفراء (1/ 371، 372).
[143] فقه اللغة، ص581.
[144] تأويل مشكل القرآن، ص165، 166، وفقه اللغة، ص581.
[145] انظر: جامع البيان (9/ 225، 226).
[146] جامع البيان (9/ 227).
[147] البيت في ديوانه، ص107، وجاء بدل سريحةً: جميعة، وبدل تقطع: تساقط.
[148] ليس هو آخر بيت في القصيدة في الديوان المطبوع بين أيدينا بل بعده ثلاثة أبيات، ولعلّ هناك خطأ في ترتيب أبيات الديوان، والله أعلم.
[149] جامع البيان (13/ 531- 533).
[150] جامع البيان (24/ 68)، وانظر أمثلة أخرى (3/ 19، 22)، (12/ 508)، (13/ 545)،
(14/ 479)، (15/ 264، 265)، (17/ 189، 221)، (18/ 135)، (19/ 334، 418)، (20/ 175، 189، 194، 212، 269، 452، 453)، (16/ 306)، (22/ 423)، (24/ 234، 235، 277).
[151] انظر: حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (4/ 53).
[152] انظر: معاني القرآن، للفراء (1/ 371)، وجامع البيان (13/ 531).
[153] انظر: البحر المحيط (5/ 381، 382)، وتفسير القرآن العظيم (8/ 150).
[154] انظر: المحرر الوجيز (3/ 313)، والبحر المحيط (5/ 382).
[155] انظر: معاني القرآن، للزجاج (3/ 148).
[156] انظر: إرشاد العقل السليم (3/ 458).
[157] انظر: معاني القرآن (2/ 565).
[158] انظر: معاني القرآن، للفراء (3/ 120، 121)، وإعراب القرآن، للنحاس (5/ 141).
[159] انظر: مفاتيح الغيب (31/ 34).
[160] انظر: مفاتيح الغيب (31/ 34).